مقدمة
يشكل هذا المقال محاولة لفهم أحد أوجه الاغتراب في الفكر الفلسفي المعاصر، وتحديدًا عند جاك دريدا، من خلال التركيز على ما يسميه بـ« الاغتراب اللغوي ». يستند هذا المفهوم إلى تجربة شخصية وفكرية معقدة يعيشها دريدا، حيث يجد نفسه مضطرًا إلى التفكير والكتابة بلغة الآخر التي فرضت عليه، دون أن تكون لغته الأم أو تعبيرًا حقيقيًا عن هويته الثقافية والوجودية.
وتكمن مساهمة هذا البحث في تقديم قراءة تحليلية جديدة لمفهوم الاغتراب اللغوي، وذلك من خلال استحضار تجربة جاك دريدا في ضوء مقارنته مع مفكرين آخرين ممن عالجوا مسألة اللغة والهوية في سياق الاستعمار، مثل عبد الكبير الخطيبي ونغوغي واثيونغو. فإذا كان دريدا قد ركّز على التمزق الناتج عن فرض لغة الآخر، فإن الخطيبي دعا إلى « ازدواجية لغوية » خلاقة، في حين اختار واثيونغو العودة إلى اللغة الأم باعتبارها شرطًا للتحرر الثقافي. ومن خلال إبراز أوجه التشابه والاختلاف بين هذه المواقف تسعى هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على خصوصية الطرح الدريدي، باعتباره تعبيرًا عن حالة اغتراب لغوي مركبة تتجاوز الثنائية التقليدية بين القمع والمقاومة، وتفتح أفقًا لفهم جديد للهوية في ظل الأحادية اللغوية.
يتساءل دريدا عن السبيل نحو التخلص من هذا الاغتراب وتجاوزه، والحل حسبه باعتباره كاتبا، يكمن أساسا في اختراع لغته الخاصة (son propre idiome) أو ما يسميه بالكتابة الموعودة، التي عليها أن تتخلص من أوهام التملك والسيادة، وفي هذه الحال لن يبقى يتحدث بلغة الآخر الأحادية، حيث أنه لن يستخدمها كعلامة على الانتماء المنغلق داخل ثقافة وهوية محددة، بل هي لغة تخضع لغة الآخر لتحولات تجعلها منفتحة على تعدد الدلالات.
1. مفهوم الاغتراب وتجلياته
يدل الاغتراب على نقل الملكية والتخلي عن الحقوق والحرية، ويدل كذلك على الجنون والاضطرابات الذهنية، كما أنه يشير إلى الشعور بالغربة نتيجة الهجرة والمنفى والابتعاد عن الموطن الأصلي. يعرفه لالاند في موسوعته : ‘‘في المعنى الحقوقي : بيع أو تنازل عن حق إلى شخص آخر وهو مجازا : حال المنتسب إلى آخر ( مملوك، ولاء).و في المعنى السيكولوجي فهو عبارة عن استلاب عقلاني أي المعاناة من اضطرابات في الذهن ( أندريه لالاند.2011. ص 43-44). لكن اصطلاحا ليس من السهل ضبط مفهوم الاغتراب بشكل دقيق ذلك لأنه يعاني -حسب ما ورد في الموسوعة الفلسفية الشاملة- مما يسميه بعض علماء اللغة « الحمل الدلالي الزائد » : حيث يدل على معان كثيرة ولهذا السبب، فإنه يخاطر بأن لا يعني شيئًا على الإطلاق’’لم يحقق الاغتراب بعد وضعا مفاهيميا متجانسا’’(Daniel Vidal,1969,63)..
لقد امتد استخدام هذا المفهوم إلى عدة مجالات سياسية اقتصادية وثقافية ودينية، ولكن عادة ما يعني العجز على الانسجام مع المحيط بما فيه من أفكار وقيم، الدخول في تناقض وصراع مع الآخرين، الشعور بعدم الانتماء، اغتراب الإنسان عن ذاته، شعور بالغربة والضياع، شعور بالعزلة، نوع من التبعية، وفقدان السيادة، ابتعاد الذات عن طبيعتها الجوهرية أي ماهيتها، معاناة في تحقيق الذات والحرية، إشارة إلى التمزق والتشيؤ الذي خلقته الثورة الصناعية، حيث يتحول كل ما ينتجه الإنسان إلى قوى غريبة تقف ضده حين يفقد السيطرة عليها. لقد عرف هذا المفهوم توسعا وأصبح مصطلح الاغتراب يدل على أوضاع جديدة تتمثل في اغتراب الشعوب المستعمرة.
يعد كارل ماركسKarl Marx (1818-1883) من الفلاسفة الذين أولوا أهمية بالغة لموضوع الاغتراب، وهو يدل حسبه على استغلال العامل من طرف رب العمل وتحوله بذلك إلى سلعة، حيث يصبح غريبا عما ينتجه، ويتجرد من إنسانيته، ولا يستفيد من عمله حيث يشعر بأنه وجد من أجل خدمة غيره الذي يملك وسائل الإنتاج، يعمل ويكد مقابل أجر زهيد يخضع لقانون السوق وهذا ما يفقده قيمته أمام السلع التي ينتجها هو. في ظل هذه الوضعية يتحدث ماركس عن اغتراب العمل أين يضطر العامل المنتج إلى بيع جهده، وعليه لن تتحقق قيم العمل الساعية نحو تطوير وتحقيق الذات، كيف لا والعامل محروم من المشاركة في أخذ القرارات ومن الملكية ’’والإنسان مغترب عند ماركس في كل مستويات الحياة : في الدين، في الفلسفة، في السياسة، في الحياة الاقتصادية، وهو يرجع مختلف أشكال الاغتراب التي يلاحظها في المجتمع إلى استلاب أساسي : هو استلاب الطبقة العاملة في نمط الإنتاج الرأسمالي’’(وليام العوطة،2009).
و لقد تم تحديد معنى مصطلح الاغتراب في الموسوعة الفلسفية الشاملة : بأنه يدل على علاقات العامل بما ينتجه بعمله وبالمؤسسات والقوى والرجال الذين يتحكمون فيه. وإلى حرمانه من حيازة جزء من عمله والتمتع به، والضرر الذي يلحق به جراء ما يتعرض له من استغلال، حيث يصل به الحد إلى الشعور بأنه فقد ذاته، وأصبح شخصًا آخر، بعد أن تنازل عن حقوقه لصالح شخص آخر ( https://www.universalis.fr/encyclopedie).
ومن جهته أشار الفيلسوف الألماني فيورباخ Ludwig Andreas Feuerbach (1804-1872) إلى الاغتراب الديني في كتابه« جوهر المسيحية ». وهو يرى أن الدين ظاهرة انتربولوجية، وإن الله هو مجرد قوة وهمية أنتجها الإنسان نتيجة خوفه من مخاطر الطبيعة التي تفوق قدراته. ولقد تم منح الله صفة الكمال في حين هو في الحقيقة ليس إلا ذات الإنسان المغتربة، حيث حدث تحول الإنسان إلى الله. يعتبر فيورباخ أن الإنسان هو المبدأ الأول لوجود الله ولكن حدث تصور العكس، ونتيجة ذلك يغترب الإنسان عن ذاته بواسطة الدين حيث يلغي عقله ويغترب عن ماهيته ويصبح مستلبا، فالدين في جوهره اغتراب، وصفات الله هي صفات إنسانية. ونتيجة جهل الإنسان لذاته أفرغ الدين والله من كل معنى إنساني. وفي هذه الحالة يتخذ الإنسان موقف سلبي من ذاته وقدراته، ويشعر بالعجز ولا يدرك أنه هو مصدر كل تلك الصفات التي بداخله والتي ينسبها إلى الله. ينقد فيورباخ الدين حيث يعتبره الوعي الللامتناهي القائم على أنسنة الله، فالدين ليس إلا وعي الانسان بذاته، وبذلك يكون محتواه بشري، يتمثل في الصفات الجوهرية التي يسقطها الانسان خارجه ويحولها إلى كائن أعلى يسميه الله. يتضمن الدين كل الموضوعات التي يضعها الانسان موضع تبجيل، بينما هو في الحقيقة موجود في جوهر الانسان ووعيه بنفسه وبما يحيط به من موضوعات وهذا ما يجعل الدين فارغا من أي محتوى خاص به، ومنه فإن الهدف من وراء نقده، هو العمل على استعادة جوهر الانسان’’ يتمثل الدين وبالأخص الديانة المسيحية في علاقة الانسان بذاته، إلا أنها علاقة مع كينونته التي تقدم نفسها على أنها كينونة مغايرة لذاتها. ليس الله إلا الكائن البشري، أو كينونة الانسان الذي تخلى عن حدود الكائن الفردي أي الواقعي والجسدي’’ (.1960.73 Ludwig Feuerbach).
كما قام الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوزHerbert Marcuse(1898-1979م) بتحليل المجتمع الرأسمالي الحديث - وهو من أعلام النظرية النقدية التابعة لمدرسة فرنكفورت– الذي يجعل الإنسان يقع في السلوك النمطي، التكراري الخاضع لسيطرة العقل الأداتي والعقلانية التقنية، التي خلفت الحروب والدمار، والتي عملت على توحيد الحاجات والتفكير وهنا يصبح الإنسان ذو بعد واحد، ويصبح الكل عبيدا تحت سيادة الطابع التكنولوجي حيث يتحكم التلفزيون في حاجات الأفراد المختلفة من خلال الإشهار. وهو يؤكد أننا نعيش في عصر الهيمنة التكنولوجية والتقنية، يميزه تفاقم سلطة الآلة، التي جعلت الإنسان مجرد دمية سوقية تسيره أهداف مرسومة تمليها مؤسسات، جعلته يلهث وراء سلع كمالية ( حمشومجد. 2022 . 53-54). وهذا ما يعبر عنه ماركيوز بقوله : ‘‘لقد أشرت لتوي إلى أن مفهوم الاستلاب يصبح اشكاليا عندما يتوحد الأفراد مع الوجود المفروض عليهم ويجدون فيه تحقيقا وتلبية. وهذا التوحد ليس وهما، وإنما هو واقع. بيد أن هذا الواقع لا يعدو هو نفسه أن يكون سوى مرحلة أكثر تقدما من الاستلاب’’ (هربرت ماركيوز. 1988.ص 47). أصبحت الذات في ظل التقدم التكنولوجي مستلبة ومبتلعة ومشروطة بالمنتجات، حيث لم يعد هناك إلا بعد واحد ماثل في كل مكان وبأشكال مختلفة، مما أدى إلى انتشار الوعي الزائف واعتباره وعيا صحيحا، يترجم من خلال مواقف وعادات وردود أفعال مفروضة ومدروسة، تعكس طبيعة العلاقة التي تربط المستهلكين والمنتجين.
أما فيما يتعلق بالاغتراب اللغوي فهو عادة ما يرتبط باللغة الأم أي لغة الطفولة، واللغة التي ينطق بها الطفل كلماته الأولى، واللغة التي يتحدث بها المحيط الذي ننشأ فيه. وهي اللغة الأصلية التي تقف في تعارض مع اللغة الأجنبية . عادة ما نطرح موضوع اللغة الأم ونربطه بفكرة المنفى، الذي يصاحبه فقدان هذه اللغة ونسيانها وحتى قمعها أحيانا، والحرمان منها حين نتحدث باللغة الأجنبية ونجبر على استخدامها. ومن هذا المنطلق يصبح الأفراد الذين يعيشون في الغربة أو المنفى هي العينة المناسبة لإجراء دراسات حول هذا الموضوع، وملاحظة تداعيات هذا الفقدان على التوازن النفسي، التحصيل الدراسي والاندماج الاجتماعي.
2. اللغة والهوية واضطرابات الانتماء
لقد أولى جاك دريدا (Jacques Derrida, 1930–2004) اهتمامًا بالغًا لموضوع اللغة، لما لها من تأثير عميق في تشكّل الهوية الفردية والجماعية، خاصة في سياقات الاستعمار والمنفى. فقد تساءل في عدد من كتاباته عن مصير الاختلافات اللسانية المرتبطة بالآخر الضيف، أو الغريب، أو المنفي، في ظل التوحيد الثقافي والعولمة المتسارعة، لا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر (دريدا، 2013، ص. 289).
يتناول دريدا في كتابه « أحادية الآخر اللغوية » (Monolinguisme de l’autre) مسألة اللغة الأم من زاوية شخصية وفلسفية، قائلاً : « Je n’ai qu’une seule langue, et celle-ci n’est pas la mienne » – « أنا لا أملك إلا لغة واحدة، ومع ذلك فهي ليست لغتي » (دريدا، 2008، ص. 23). هذا الاعتراف يلخص مفارقة الوجود اللغوي عند دريدا : فهو يتحدث لغة واحدة هي الفرنسية، لكنها مفروضة عليه، لا تنتمي إليه، ولا تُمثل انتماءه الأصلي.
تجربة دريدا ليست مجرد مفارقة لغوية، بل هي مأساة هوية مغتربة : فقد مُنح المواطنة الفرنسية ثم سُحبت منه، دون أن يُمنح بديلاً. « نعم، لقد عايشت وضعا يشبه هذا الوضع، فقد فقدت مع آخرين المواطنة الفرنسية ثم استرجعتها فيما بعد، علما أنني خلال السنوات التي فقدت فيها هذه المواطنة، لم أحصل على أخرى بديلة » (دريدا، 2008، ص. 42).
يرى دريدا أن اللغة ليست مجرد وسيلة تعبير، بل أداة سلطة وإقصاء. فهي تُمنح وتُمنع، وتُستخدم لتحديد من ينتمي ومن يُقصى. وفي السياق الاستعماري، تحولت اللغة الفرنسية إلى جهاز سلطوي يُقصي اللغات الأصلية مثل العربية والبربرية، ويُعلي من شأن ذاته بوصفها لغة الثقافة والمواطنة والحداثة.
ويُقارن دريدا تجربته مع تجربة أدورنو في الحنين إلى اللغة الأم، معتبرًا أن هذا الحنين فطري، لكنه محكوم بظروف النفي والاستعمار والمنع. فهو يشعر، كما أدورنو، بأن فقدان اللغة الأصلية يوازي فقدان الذات، ويؤدي إلى اضطراب في الهوية.
من هذا المنظور، لا تُمارَس اللغة داخل فضاء حر، بل داخل بنية من السيطرة الرمزية والتاريخية. فحين تُفرض على الفرد لغة واحدة لا تعبّر عنه، وتُقصى لغاته الأصلية، يشعر كما يقول دريدا، أنه يتكلم بلغة لا يملكها، بل تملكه. ويشرح كيف أن التملك اللغوي يصبح وهمًا عندما تكون اللغة المفروضة أداة استبعاد ثقافي، لا وسيلة انتماء.
في هذا السياق، تتخذ الأحادية اللغوية شكل قمع، وتؤدي إلى اغتراب لغوي حاد، حيث تصبح اللغة نفسها فضاء للمنع، ولا يمكن حتى الحديث عنها إلا بها. يقول : « لا يمكننا أن نتحدث عن لغة ما إلا بلغة هذه اللغة ذاتها، حتى عندما نرغب في التخلص منها » (دريدا، 2008، ص. 50).
من هنا، فإن هوية دريدا اللغوية لا تتأسس على الانتماء إلى لغة بعينها، بل على مفارقة مزدوجة : لغة واحدة لا يمكن التخلص منها، ولا امتلاكها. وهي مفارقة تعكس تجربة الاغتراب اللغوي في أقصى تجلياتها.
إن هذه التجربة ليست ذاتية فحسب، بل تعبّر عن واقع كثير من المنفيين والمستعمَرين، الذين يجدون أنفسهم محكومين بلغة الآخر، دون القدرة على استعادة لغتهم الأم. فاللغة، بهذا المعنى، ليست فقط أداة تعبير، بل أداة نفوذ وصراع على الهوية والانتماء.
3. الأحادية اللغوية والاغتراب
يتحدث دريدا عن علاقته بالأحادية اللغوية ويحاول وصف ما تعرض له والكشف عن هذا الجرح القديم وعن هذه الواقعة الفردية الخاصة بالفرانكو- مغاربي الذي لم يختر شيئا ولم يفهم ما يدور حوله مما سبب له معاناة مستديمة والعزلة، فوضعه يتميز بالتفرد والخصوصية وهو يتساءل كيف ينقل هذه الخصوصية باستخدام تعابير عامة تتجاوز وضعه وتنطبق على الجميع وهنا تتحقق الأنابة أين نقول نفس الشيء عن الذات والآخر رغم اختلاف التجارب، وهنا يصبح رهينة كوني. فكيف يصل إلى وصف هذا الجرح القديم ؟
و يتجلى الاغتراب اللغوي في غياب تجربة الأنانة – الأنا- لدى من يتكلم هذه اللغة ومن يكتبها أي غياب أي انتماء أو تملك أو سلطة اخضاع لهذه اللغة الأحادية لا بمعنى الضيافة ولا بمعنى العدوانية. فهذه الخصوصية متعلقة بحالات الاضطهاد اللغوي أو الاستملاك الكولونيالي الفظيعة حسبه وما تتضمنه من عبودية وهيمنة. لكن دريدا يرى أن حتى السيد لا يملك اللغة التي يعتقد أنها لغته ‘‘مهما فكر أو فعل، فإنه لن يكون في مقدوره أن يقيم معها علاقات ملكية أو احتياز، أو علاقات تخص الهوية الطبيعية : كالعلاقات القومية الوراثية، الأنطولوجية، لسبب بسيط هو أنه لا يستطيع تأكيد أو ذكر هذا الذي تملكه إلا داخل إطار مسار غير طبيعي يضم هياكل سياسية استبهامية عجيبة : فاللغة ليست ملكا طبيعيا له’’ (دريدا. 2008. 52). كل ما يحدث تاريخيا هو أنه هناك اغتصاب لهوية ثقافية بفعل الاستعمار ثم يعمد إلى فرضها كشيء يخصه وهذا ما يعتقده ويسعى إلى جعل الناس يؤمنون بذلك. لا توجد ملكية طبيعية للغة وحتى وإن وجدت فإنها تكون مجالا خصبا للغيرة وحب التملك. ينتقد دريدا الخطاب السياسي الذي يجعل من ممارسة لغة خاصة، وبالأخص اللغة الأم ملكية مجتمع ورمزا لثقافته وأساس هويته، وبهذا الاعتبار يتم تسخير كل الامكانيات لتطويرها والدفاع عنها ضد هيمنة لغة أجنبية. وفي ظل هذا الوضع تظهر الآليات في مدح وتشجيع ومكافأة من ينخرط في هذا العمل ومعاداة كل من يفعل عكس ذلك ممن يعتمدون على اللغات الأجنبية. فهذا الخطاب حسبه يستند إلى مسلمة اعتبار اللغة الأم ملكية خاصة بالأفراد الذين يتحدثون بها، ملكية يجب الدفاع من طرف كل من ينتمي إليها ـ هذا ما يخلق الشعور بالانتماء إلى نفس الجماعة. هذه الملكية المشتركة للغة يشكل أساس خلق هوية مشتركة والتي تحدد من نكون، وهي تمثل دعامة الثقافة. ( Marc Crépon،2001، p,28.).
يتساءل دريدا من يملك اللغة ومن تمتلكه؟ وهل اللغة قابلة للتملك؟ هل هي ممتلًكة أو ممتلًكة؟ ويتوقف عند عبارة التملك ويبين أنه يصعب عليه فهمها وبالأخص أنه بحوزة لغة ليست لغته حيث يصبح ضمير الدال على التملك محظورا لدى هذه اللغة ذاتها. يتحدث عن الأنانة أحادية اللغة ويجد أنها لا تبين أي انتماء أو تملك، بينما لغته هو – العبرية- لم ترق بعد الى مستوى اللغة التي يمكن تمثلها بينما لغته الوحيدة التي يتحدث بها هي لغة الآخر.
يركز دريدا على اللغة الفرنسية التي فرضت عليه من جهة في حين منع من اعتبارها لغته الأم من جهة أخرى، وتكمن هذه المفارقة في كونه لا يمكنه تملكها ولا حتى أن يتحدد داخل أي جماعة، ولا أن يتعرف على نفسه من خلالها، ولا حتى الشعور بالانتماء إليها إلى حد يصعب فيه القول بوجود ‘‘النحن’’، فهي تشير إلى’’ الهم’’ الموجودين هناك في الضفة الأخرى للمتوسط . فاللغة الفرنسية هي اللغة الأم الخاصة بالآخر، وهو لم يعتبر يوما اللغة الفرنسية، لغته الأم، وإنما هي ثمرة التربية وصراعات وقيود اجتماعية، وهي تبقى ذات طابع أحادي واستعماري تؤدي لا محالة إلى الاغتراب اللغوي . وهو يرى أن الحقبة المعاصرة مطالبة بأن تحدد فضاءها الاشكالي كلغة، لأن اللغة تجد نفسها مهددة في حياتها وضائعة وغير مطمئنة على مصيرها أكثر من أي وقت مضى(دريدا.2002. 103).
بناء على ذلك يتساءل دريدا :كيف ننقذ لغة معينة من الانقراض؟ وكيف ننقذ أناس ضائعين وسط لغاتهم؟ وهل يكون خلاصهم دون لغاتهم ؟ أليس من الأحسن العدول عن محاولة بلوغ شروط مثلى للإبقاء على لسان معين بأي ثمن كان ؟ ويطرح سؤالا مقلقا مفاده ماذا لو رجحت الكفة لصالح انقاذ الناس على حساب ألسنتهم ؟ مثل هذه الأسئلة تفرضها ظروف هذا العصر، أين يضطر الناس للخضوع للغات المهيمنة وتعلم لغة الأسياد، التي هي لغة المال والآلات، بل هم أكثر من ذلك مطالبون بفقدان لغاتهم من أجل حياة أفضل، حيث لا يأتي ا الخلاص من اقتصاد مأساوي. وفي هذا السياق، يبين أنه منع من إيجاد منفذ آخر الى اللغة في الجزائر غير اللغة الفرنسية كالعربية والامازيغية وفي الوقت ذاته منع من العثور على منفذ إلى اللغة الفرنسية بطريقة مغايرة ملتوية ومضللة’’ هذا الممنوع تم بموجبه منع الوصول إلى تلك التطابقات التي تسمح بظهور سير ذاتية مطلقة، وكذا ظهور مذكرات بالمعنى الكلاسيكي’’(دريدا. 2008. ص 64). كيف نكتب مذكرات في غياب اللغة الأصل، كيف يقول تذكرت كذا؟ في الوقت الذي يكون فيه مطالب باختراع لغته وأناه في آن واحد. هذا المنع يشمل القول أو الكلام لكنه هو المنع الأساس وهو ليس مجرد ممنوع من بين ممنوعات أخرى. وهو هنا يشير إلى النكبات التي يعانيها البشر في بحثهم عن اللغة الأصلية، ولغته الأصلية هي ما يقوله الآخرون، أما هو فهو يذكر ما يذكرون ويسجل مساءلاته حول ذلك. مورس المنع على اللغتين العربية والبربرية وهذا يمثل شكلا ثقافيا واجتماعيا ومسألة مدرسية، فالممنوع في الواقع، ينبثق عن نسق تربوي. ولقد كانت هناك أنواع من الرقابة وأنواع من الكبت والعنصرية مما أدي إلى تفشي ظاهرة كره الأجانب والاستسلام لهذا المنع الذي تمت برمجته وفق مقتضيات السياسة الكولونيالية التي فرضت ثقافة أحادية الجانب ‘‘ إن الأحادية اللغوية هي، أولا وقبل كل شيء، تلك السيادة، ذلك القانون القادم من مكان آخر، ما في ذلك شك، لكنها أيضا هي، قبل هذا وذاك، لغة القانون ذاته، والقانون بما هو لغة.’’ (دريدا.2008. 76.) وتجربة القانون لا تخلو من التبعية. تسعى الأحادية اللغوية وعبر سيادة الماهية الكولونيالية إلى اختصار اللغات إلى بعد واحد وهذا ما يظهر على شكل هيمنة متجانسة ز تتلخص هذه الغريزة الاستعمارية في العلاقة مع الآخر ‘‘ فإن الأحادية اللغوية، تعني أيضا شيئا آخر سيبدأ بالانبلاج رويدا ومفاده : إننا بكل الأحوال لا نتكلم إلا لغة واحدة-و مع ذلك فنحن لا نملكها، أي أننا لا نتكلم أبدا إلا لغة واحدة- ولكنها غير متساوقة ومرجعيتها دائما الآخر، الآخر المحروس من قبل الآخر. إذن فهي آتية من الآخر، متموضعة عند الآخر وعائدة إلى الآخر في نهاية المطاف’’ (دريدا.2008. 77). ولقد كان لهذا الوضع آثاره، حيث يحدث نوع من الانبهار من اللغة الفرنسية وتتحول اللغة المغلوبة إلى اللغة الأكثر غربة. وهو يتساءل ألا يمكن أن تكون هذه اللغة المجهولة هي لغته المفضلة، أما الفرنسية فهي ممنوعة بطريقة أخرى، فقوانينها وقواعدها توجد في مكان آخر وتؤخذ كنموذج للكتابة الراقية، هي لغة السيد الذي يتمظهر في معلم المدرسة.
و يتجلى هذا الاغتراب اللغوي في قوله بأنه تعب من التدرب على الكلام بصوت خافت أثناء تدريسه بباريس، والذي هو أمر صعب للغاية بالنسبة إليه باعتباره ينتمي إلى الأقدام السوداء وإلى عائلة ذات أصول يهودية وما يصاحب ذلك من غضب وتحفظ يمكن أن ينحرف إلى كارثة. فقد كان يراوده الخوف من نبرة صوته المختلفة كما لو أنه لم يكن صوته فقد كان من الأوائل الذين احتجوا عليه وحتى كرهوه ‘‘و إذا ما كنت، ومازلت أصاب بقشعريرة تهز كياني كلما فكرت فيما سأقوله، فإن ذلك يرجع بالأساس إلى نبرة صوتي وليس إلى شيء أساس آخر بالمرة.’’ (ديريدا.2008. 89-90). ذلك لان الحديث بفرنسية جيدة ونقية وخالصة أفضل بكثير من التحالف معها حيث كانت تسود في المدارس نزعة شمولية فيها الكثير من الميل نحو اللغة الصافية. وهو طبعا ضد هذه النزعة المتطرفة التي صادفها في المدارس الفرنسية، التي أدت إلى اختلال على مستوى ذاته اكثر مما هو موجود في المدرسة عانى منه منذ المرحلة التحضيرية، إذ هناك آخر موجود داخله حتى قبل هذه المرحلة كان ينظر الى الأشياء بهذا المنظار.
4. الكتابة الموعودة والملاذ الغريب
يتساءل دريدا عن السبيل نحو التخلص من هذا الاغتراب وتجاوزه، والحل حسبه باعتباره كاتبا، يكمن أساسا في اختراع لغته الخاصة (son propre idiome) أو ما يسميه بالكتابة الموعودة، التي عليها أن تتخلص من أوهام التملك والسيادة، وفي هذه الحال لن يبقى يتحدث بلغة الآخر الأحادية، حيث أنه لن يستخدمها كعلامة على الانتماء المنغلق داخل ثقافة وهوية محددة، بل هي لغة تخضع لغة الآخر لتحولات تجعلها منفتحة على تعدد الدلالات.
فهو يقوم بتلقيحها وتخصيبها وتوليد المعاني فيها باشتقاقات جديدة، وبذلك ستحمل بصمة صاحبها، وتصبح لغة متمردة على قواعد وتراكيب لغة الآخر، وتعمل على تحطيم الأصنام الميتافيزيقية المتمثلة في المركز والوحدة.
وفي هذا الخلاص أمر غريب ذلك لأن هذا الوعد أو هذا الخلاص الغريب يحصل باللغة التي يتكلمها ويقدمه بلغة الآخر، وذلك يعتبره اختبارًا صعبًا للغاية، حيث يقوم الخلاص على تفكيك اللغة وتشتيتها ثم لم شملها وتجميعها.
يبرر لجوءه إلى اللغة الفرنسية لتحقيق هذا الوعد، بقوله أنه حتى الأشخاص الذين يتقنون عدة لغات يميلون دائما إلى التحدث بلغة واحدة، كما أنه لا يمكن التحدث عن هذه اللغة التي تلقاها ضمن إطار الأحادية اللغوية إلا بهذه اللغة ذاتها، وبذلك تتحدث اللغة ذاتها عن ذاتها : « إذ لا يمكننا أن نتحدث عن لغة ما إلا بلغة هذه اللغة ذاتها، حتى عندما نود التخلص منها » (دريدا، 2008، ص. 50).
وبذلك تتحقق الأنانة في التواصل مع الآخر، والتي تقدم الكلمة الوعد أو تحمل إمكانية تقديمها. وما دامت الهوية ليست شيئًا معطى ولا تمنح وتؤخذ كيفما اتفق، فإن من يمارس الكتابة عليه أن يعرف كيف يقول « أنا »، ويعبر عن هويته ويسترجعها : « هذا هو الاختبار الصعب الذي يواجهني أنا ذاتي هنا في هذا اللقاء، أنا المتكلم باللغة الفرنسية، خاصة وإن الإشكال سيكون أقل حدة لو تحدثنا نحن الأغراب باللغة الإنجليزية » (دريدا، 2008، ص. 49).
يرى دريدا أن اللغة الفرنسية هي اللغة الواعدة والمهددة في ذات الوقت، إذ لا يمكن التحدث عن لغة إلا بهذه اللغة ذاتها، حيث يقوم بتقديم كلمة العهد إلى الآخر لكنه هو وعد مهدد، لأنه لا يجد الضمير الخاص بالتملك أي « أنا » المحظور ويقول : « إن ما أجد صعوبة بالغة في فهمه لحد الساعة، هو ذلك الجهاز المفاهيمي الكبير الخاص بالتملك، وبالعادة، وبحيازة لغة ليست هي لغتك أو لغتي على سبيل المثال، كما لو أن الضمير والنعت الدال على التملك على مستوى اللغة يصبحان من المحظورات لدى هذه اللغة ذاتها » (دريدا، 2008، ص. 51).
تعتبر الكتابة في نظر دريدا مجالاً للحديث عن الاختلاف بكل أشكاله وأنواعه، والذي كان مهمشًا ومقصيًا من طرف الميتافيزيقا، وسبيلاً نحو تجاوز المركزية العرقية والصوتية، مما يسمح بفتح المجال أمام الإمكانيات التي تحملها الكتابة، التي كان يتخوف منها كونها تنشر الوعي.
تتمثل هذه الإمكانيات في القوة الكامنة في اللغة، وما تتوفر عليه من عناصر تعمل مع بعضها البعض، ومن الآثار التي تتركها، وقدرة على الإحالات والتعامل مع التعارضات وتدمير الدلالات وتفكيكها، والكشف عن رواسبها الميتافيزيقية المتوارثة المرتبطة باللوغوس، وبذلك تكون الكتابة عبارة عن لعبة من الاختلافات والإحالات والآثار (دريدا، 2002، ص. 109).
يرى دريدا أنه يمكن تجاوز ذلك المنع من تملك اللغة والهوية وحتى المواطنة، الذي كان يُمارس بطرق ماكرة وصامتة وليبرالية، والذي لا يترك أية فرصة للطعن، عن طريق الكتابة : « نعم إنها الكتابة، هكذا تسمى من بين مسميات كثيرة موجودة، فهي بمثابة طريقة ودودة ويائسة لتملك اللغة، ومن خلالها كل كلمة مانعة بمقدار ما هي ممنوعة (كانت الفرنسية بالنسبة لي هذين الأمرين معًا)... » (دريدا، 2008، ص. 67).
ويتم ذلك من خلال المسخ والتشويه وإدخال تغييرات عليها وتحويلها، ما يجعلها تدفع ضريبة ذلك المنع. لكن كيف سيوجه هذه الكتابة؟ وكيف سيواجه هذا التملك الممنوع والمستحيل للغة المانعة والممتنعة أي المحرمة عليه؟ يتساءل كيف سيمارس كل ذلك وهو لا يملك لغة أصلية غير اللغة الفرنسية التي يعتبرها لغة الحداد الحزينة؟ كيف يعبر عن التظلم ويقدم شكوى دون الدخول في اتهام هذه اللغة التي لا يعتبرها لغته الأم؟ « فكلماتها لا تحضرني، بل إنني أجد صعوبة كبيرة في نطقها، في الوقت الذي يعتقد فيه البعض بأنها لغتي الأم (الأصلية) » (دريدا، 2008، ص. 69).
وهو يرى في لجوئه إلى لغة الآخر الملاذ حتى يعيد ذاته إلى ذاته الغائبة وبطريقة مغايرة، أي بإجراء تعديلات كما يفعل مع مفردة الاختلاف Différance التي غيّر من شكل كتابتها حتى تنفتح على دلالات أخرى.
يعترف بأنه ينتمي إلى جماعة اليهود الأهالي الذين لم يحققوا هويتهم، ولم يتطابقوا مع محيطهم بشكل مرض سواء تعلق الأمر بالتطابق مع الذات أو مع الآخر، أي مع قيم البيئة الفرنسية المسيحية الغريبة عنهم. ولا حتى مع العرب والبربر، ولا يتكلمون حتى لغتهم الأصلية، فهم غرباء عن الثقافة الوحيدة التي اكتسبوها، وغرباء حتى عن الثقافة اليهودية، وهذا يمثل تجسيدًا حقيقيًا للاغتراب عن الذات، حيث كان يعيش هو وجماعته هذه فيما يسميه بـ« اللاثقافة الراديكالية » (دريدا، 2008، ص. 97).
وحين مُنح حق المواطنة لليهود بدأت عملية الإدماج والتثاقف، مما أدى إلى فرنسة الثقافة اليهودية، فأفقدها القدرة على الإلهام وأدى إلى اختناقها وإفراغ ذاكرتها وتحويلها.
يؤكد دريدا بأنه هو ذاته فقد ذلك الإرث، وأنه يحمل ذاكرة معاقة عنه يريد أن يقدم شكوى وتظلمًا بشأنها. ولقد شعر بذلك في مرحلة المراهقة، حين بدأ يدرك ما حوله، حيث أصبحت الديانة اليهودية مجرد علامات ومظاهر خارجية. وحتى على مستوى اللغة لا يجد بدائل خاصة بهذه الطائفة لتكون ملجأ آمنا ضد الثقافة الرسمية، وهذا ما يجعلها طائفة مفككة ومبعثرة : « إن تعلقي بالفرنسية يأخذ أشكالاً أقدّر في بعض الأحيان أنا ذاتي بأنها أشكال عصابية. فأنا أشعر بالضياع خارج اللغة الفرنسية... » (دريدا، 2008، ص. 107).
ويدل معنى « مقر السكنى » على إمكانية القول في هذه اللغة التي يشعر بأنه تائه وخائر القوة خارجها، فهو لا يمكنه أن يسكن لغة أخرى، إذ أنه يكتب بفرنسية مقاومة للترجمة. لكن كيف يمكن أن تكون الفرنسية لغته؟ كيف تبقى بكماء مع أنه يسكنها ولكنها تسكن من هو أقرب منها أي الفرنسيين الأصليين؟ لذلك فهي تبدو بعيدة عنه ومقفرة، تتطلب منه بذل جهود كبيرة، وهو يتساءل كيف يمكن إتقان هذه اللغة والإبداع فيها دون بيان خارطة طريق؟ وهو هنا يتحدث عن تجربته والصعوبات التي اعترضته، ذلك لأن السكنى لها علاقة بالمنفى والحنين إلى الزمن الذي انقضى. وغياب كل ذلك يجسد حقيقة الاغتراب في لغة الآخر التي تمتد حتى إلى الثقافة : « كل هذه الكلمات مجتمعة : الحقيقة، الاغتراب، الحيازة، السكنى، التواجد داخل المسكن الخاص، الهوية الذاتية، epseité، مكانة الذات، القانون... تبقى كلمات إشكالية » (دريدا، 2008، ص. 122).
لذلك يشرع في تفكيكها، ويجعل من هذه الأحادية وماهية هذه اللغة وميراثها ومفاهيمها موضوعًا للتفكيك. وهو يشير إلى أن فقدان الإرث الثقافي وصعوبة الوصول إلى التواريخ الحقيقية وفقدان الذاكرة يؤدي إلى إيقاظ الغريزة الجينيالوجية وتهييجها وظهور الرغبة اللسانية والرجوع إلى الجرح والمرض.
يرى أن غياب كل أنموذج ثابت لهذه الفئة في كل أبعادها اللغوية والثقافية ينذر بالخطر والانهيار، وقد يؤدي إلى فوضى باتولوجية اسمها الجنون، يترجم من خلال سلوكات نمطية مطابقة للنموذج الفرنسي.
إلا أنه يرى من جهة أخرى أنه يمكن توجيه هذه الشحنة العاطفية المؤلمة نحو توظيفها في الكتابة وعبر اللغة، من أجل إعادة تشكيل هذا الميراث وإخراجه من الماضي نحو إمكانية الاعتراف به : « إن أحادي اللغة الذي أتحدث عنه هنا يتحدث لغة معينة هو في الحقيقة محروم منها، إنها ليست لغته وهي الفرنسية... » (دريدا، 2008، ص. 124).
ويقصد بالترجمة المطلقة ترجمة ذلك الإرث الضائع، ترجمة بلا مرجعية، لا لغة أصلية لها ولا نقطة انطلاق، كل ما لديها هي لغة الوصول. وهو يعترف بأن هذا العمل هو عبارة عن مغامرة فردية يصعب تحديد هدفها ومسارها ومحور حديثها، فهي تعبر عن رغبة في الانبثاق من أجل الترميم وإعادة البناء، واختراع لغة أخرى موجهة نحو ترجمة هذه الذاكرة المنسية والضائعة.
يسعى دريدا من خلال الكتابة وعبر لغة الآخر إلى قراءة وترجمة ذلك الإرث الذي لا أصل له، والذي كان ممنوعًا، انطلاقًا من الآثار التي تركها. إن اللغة التي يخترعها ويكتب بها تمثل لغة محطة الوصول ولغة المستقبل ولغة موعودة. وهي لغة الآخر مرة أخرى، لكنها تختلف عنها بما هي لغة السيد المستعمر، دون أن يمنع ذلك من التواصل بين هذين الطرفين.
وبذلك نقول إن تجاوز الاغتراب يكون من خلال السعي إلى تأسيس اللغة كما لو أنها لغة الآخر، بعيدًا عن رغبة تملكها، لأن الاستملاك يؤدي إلى تهييج الاعتداءات القومية. هذه الكتابة تترك أثرها في مستوى اللغة الأحادية من خلال تطعيمها، وإجراء تشوهات وتحولات عليها.
**و هنا يحدث نوع من التلاحم بين الفرنسية – اللغة الأحادية – والفرنسية التي يكتب بها، وهذا لن يحصل إلا باختراع لغة أخرى وإعادة تكييف المعايير والقوانين الخاصة بهذه اللغة المعطاة، من الناحية النحوية والمعجمية والسيميوطيقية، وحتى في الصور النمطية الثقافية، من خلال استخدام تعابير مستحيلة، غير مقروءة وغير مقبولة، وإحداث ترجمة لا يمكن ترجمتها، كلِسان جديد يُنتج أحداثًا تخص اللغة المعطاة، ذلك هو الوعد الذي لم يتجسد بعد : « لذا فأنا أعدكم بلغة » (دريدا، 2008، ص. 133).
وبناءً على ما سبق، وإذا كنا قد استعرضنا الكيفية التي حاول بها دريدا تجاوز الاغتراب اللغوي من خلال الكتابة، فإنه من المفيد في هذا السياق أن نقارن هذه الرؤية بتصورات أخرى تناولت نفس الإشكالية. من أبرزها تصور عبد الكبير الخطيبي، الذي طوّر مفهوم « الازدواجية اللغوية الجريحة »، حيث يرى أن الذات ما بعد الاستعمار لا يمكنها استرجاع هويتها إلا من خلال الكتابة بلغة مزدوجة تتقاطع فيها لغة الآخر مع لغة الذات. ويمكن اعتبار مواقفه هذه صرخة في وجه الادعاء بضرورة ايجاد لغة عالمية وشفافة تعمل على تسوية الاختلافات، وهي دعوة كذلك إلى اختراع "المصطلح’’ أو اللغة الخاصة من أجل مقاومة ومعارضة فخ الأحادية اللغوية (2011. (Cécile Gauthier
فبينما يعيش دريدا تجربة لغوية تقوم على النفي والمنع والتمزق نتيجة حرمانه من اللغة الأم ورفضه امتلاك اللغة الفرنسية المفروضة، يرى الخطيبي أن الكتابة لا تُمارَس من موقع الاستسلام للهيمنة، بل من موقع الإبداع داخل التعدد. وبهذا، تتحول اللغة لدى الخطيبي من أداة قهر إلى فضاء ممكن للتعبير المتعدد والانفلات من المركزيات اللغوية والثقافية. أما دريدا، فتبقى لغته « غير المملوكة » مصدر قلق دائم، رغم محاولته إعادة تشكيلها عبر التفكيك والكتابة، دون أن يتمكن من التوفيق بين ذاته واللغة. هذه المقارنة تُظهر أن تجربة دريدا تحمل طابعًا مأساويًا فريدًا، يرتبط بفقدان الانتماء الكامل لأي لغة، بينما يقدم الخطيبي نموذجًا لهوية لغوية هجينة قائمة على الترجمة الداخلية والتعدد الرمزي. ومن هذا المنظور، تفتح هذه الدراسة إمكانًا لفهم مركّب لموضوع الاغتراب اللغوي في الفكر ما بعد الاستعماري، عبر تسليط الضوء على التوتر بين فقدان اللغة الأم (عند دريدا) وتحوّلها إلى إمكان إبداعي جديد (عند الخطيبي).
الخاتمة
يظهر من خلال هذا التحليل أن دريدا قد قام بمقاربة موضوع اللغة انطلاقًا من تجربته الخاصة والمعقدة مع الأحادية اللغوية، ومع اللغة الفرنسية التي تعلمها خلال الحقبة الاستعمارية بوصفها لغة الآخر. فهذه اللغة لم تكن اختياره، بل فرضت عليه، في الوقت الذي مُنع فيه من تعلم لغات أخرى تُعد أقرب إلى إرثه الثقافي والهوياتي، كالعربية، والأمازيغية، والعبرية.
يلخص دريدا هذه الوضعية الفريدة بالعبارة الشهيرة : « Je n’ai qu’une seule langue, et ce n’est pas la mienne » – « أنا لا أملك إلا لغة واحدة، ومع ذلك فهي ليست لغتي » – وهي عبارة تُكثف مأزقًا وجوديًا لغويًا يشكل نواة اغترابه وهويته المنقسمة.
ومن خلال هذا التحليل، يمكن استخلاص النتائج التالية :
-
يرى دريدا أن العلاقة مع لغة المستعمِر هي علاقة غير متوازنة قوامها الهيمنة والقوة، وتؤدي إلى ما يسميه بـ« الاغتراب اللغوي »، حيث تفقد الذات صلتها بلغاتها الأصلية ولا تشعر بالانتماء إلى اللغة المفروضة.
-
هذا الاغتراب يدفع دريدا إلى التفكيك، ليس فقط كمقاربة فلسفية، بل كمحاولة لإعادة امتلاك القول داخل اللغة الممنوعة، والبحث عن الـ« أنا » الغائب داخل فضاء لساني مأزوم.
-
تصبح الكتابة عنده وسيلة للنجاة والتجاوز، وعدًا بلغة مستقبلية، لا تقوم على الملكية أو الهوية الثابتة، بل على الانفتاح والتعدد والاختلاف.
-
إن هذه التجربة الفردية، رغم خصوصيتها، تطرح إشكالات ذات بعد عالمي، تتعلق بالهوية، والسيادة اللغوية، وحق الشعوب في قول ذواتها بلغاتها الخاصة.
وبذلك، تُسهم هذه الدراسة في تسليط الضوء على أحد أبرز أوجه الإشكال اللغوي في الفكر ما بعد الكولونيالي، من خلال قراءة بين تجربة دريدا وتأملات مفكرين آخرين كعبد الكبير الخطيبي، الذي قدّم تصورًا مغايرًا حول الكتابة والتعدد اللغوي. وبينما تتسم تجربة دريدا بالمفارقة والألم، فإن الخطيبي يدعو إلى لغة هجينة خلاقة تتجاوز ثنائية السيد والتابع. ويمكن أن تفتح هذه المقارنة آفاقًا جديدة للبحث في سبل المقاومة الرمزية، وإعادة تصور العلاقة بين اللغة والهوية في عالم متعدد ومتغير.