مقدمة
رغم التقدم العلمي والتقني الهائل الذي شهدته المجتمعات الغربية المعاصرة في تطويع الإنسان للطبيعة وجعلها خاضعة له ظاهريًا، يُظهر الواقع جوانب معاكسة تمامًا. فقد أخلفت الحداثة وعودها بتحقيق سعادة الإنسان والقضاء على مخاوفه وتوفير حياة أكثر استقرارًا وتقدمًا، مما أنتج “الإنسان المفكّك الشخصية” المعاصر، الذي يعاني من أمراض نفسية واجتماعية جديدة، ويجد نفسه عاجزًا عن خلق توازن بين جدليّتي الصانع والمصنوع، والمالك والمملوك.
هذا الانفصام القيمي والاجتماعي هو ما نعبر عنه في الأدبيات الفلسفية والأنتروبولوجية بـ« أزمة الاغتراب ». وقد تناولها الكثير من المفكرين المعاصرين، غير أن الفيلسوف وعالم الاجتماع إريك فروم (Eric Fromm) يقدّم لها قراءة خاصة، يرى فيها استعادة الإنسان لقدرته على التحكم بذاته والوعي بتداعيات السوق ومخاطر التقنية غير الموجهة.
تدفعنا هذه الإشكالية المعرفية الرئيسة إلى طرح أسئلة محورية :
-
ما مفهوم الاغتراب في فكر فروم؟
-
ما أهم أشكاله وآثاره على الإنسان والمجتمع؟
-
ما العلاجات والبدائل التي يقترحها فروم لتجاوز هذه الأزمة؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، اعتمدت هذه الدراسة المنهج التحليلي الذي يتيح تفكيك النصوص وتجميعها ضمن إطار نقديّ، مع توظيف عملية المقارنة بين مختلف مؤلفات فروم (منها « Anatomie de la destructivité humaine » و*« L’Homme unidimensionnel »*) لتحديد ملامح الاغتراب واشتراطاته التاريخية والثقافية. كما استعنت بأدبيات نقدية معاصرة حول « التقنية » و« رأسمالية المراقبة » لتوسيع النقاش وربطه بالسياق الرقمي الحالي.
بهذه البنية المنهجية والنقدية، نسعى إلى تقديم قراءة شاملة لأزمة الاغتراب عند فروم، توضح جذورها وأنماطها وتقنيات مواجهتها، انطلاقًا من تحليل دقيق للنصوص ومقارنتها بالتيارات الفكرية الأخرى.
1. المنهج الإنساني الاجتماعيّ النفسيّ عند فروم
تؤكد أدبيات إريك فروم (1900–1980) على الانتماء الإنساني وقيم الحرية والعدالة في بناء مفهومه للإنسان. ومن هنا تبنّى منهجًا يجمع بين علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع، مما أهّله ليكون من مؤسّسي هذا التخصّص (Slater 2004 : 36). بهذا المنهج، يتجاوز فروم :
-
النظرة الماركسية الاقتصادية التي تقدّم الإنسان كيانًا مادّيًّا محضًا،
-
والنظرة الفرويدية التي تراه كائنًا نفسيًّا داخليًّا فقط.
فبالنسبة إليه، الإنسان كائن مركّب متداخل الأبعاد—بيولوجية واجتماعية وأنثروبولوجية—لا تنفصل عن سياقها التاريخي والثقافي (Linda 2023).
انطلاقًا من هذا الإطار، يتساءل فروم :
« أين يقف الإنسان المعاصر أمام تحديات التقنية والاستهلاك وصدمات الحروب؟ هل يشارك في صنع الأمل، أم يركن إلى الهامش، أم ينزوي فريسة للخوف والانعزال؟ »
وللإجابة، يعمد فروم إلى تحليل حالات ملموسة—مثل تأثير رأسمالية المراقبة الرقمية على نفسيات الأفراد—مستندًا إلى دراسة مقارنة بين Anatomy of Human Destructiveness وThe Sane Society، ما يوضّح إحكامه لجسور بين النظرية والتطبيق النقدي.
2. تعريف الاغتراب ومجالاته المعرفية
1.2. تعريف الاغتراب ومجالاته المعرفية
يُعدّ الاغتراب عند إريك فروم إحدى المفاهيم المحورية التي تعكس حالة انقطاع الإنسان عن ذاته وبيئته الاجتماعية. فقد استعمل فروم مصطلح Alienation في عدة مواضع، معرفًا الاغتراب بأنه « لحظة تحول أفعال الإنسان إلى قوى تسيطر عليه بدل أن يكون هو المسيطر عليها » (Fromm 2009 :131). وللاغتراب جذور وتداعيات متعددة بحسب الحقول المعرفية :
-
في السياق القانوني : يشير الاغتراب إلى فقدان الفرد لملكيته وحقوقه عبر البيع أو التنازل (Compte-Sponville 2013 :43).
-
في الحقل الاجتماعي : ينطوي على استغلال البشر واستلاب سلوكهم ضمن علاقات سوقية جامدة.
-
في الدلالة اللغوية : يُشير إلى الغربة بمعناها الأصلي، أي الانفصال عن الذات.
-
في الفلسفة : تتحول أية ممارسة إنسانية إلى « قوة عليا » تتحكم بالإنسان بدل أن تكون وسيلة لخدمته (Wahba 2007 :76).
ورغم حضور المصطلح في فكر هيجل وماركس بمعنى الجنون في نسخته الأولى، فقد استُخدم لاحقًا للدلالة على الاغتراب الذاتي للإنسان عن عمله، حيث يصبح العمل سلطة عليا تهيمن عليه بدل أن يكون وسيلة لتمكينه (Fromm 2009 :132).
2.2. أشكال الاغتراب وفق Fromm
1.2.2. الاستهلاك كوجه بارز للاغتراب
ترى الرأسمالية أن الإنسان مجرد مستهلك يُحاط بشبكات سوقية متقلبة، فتسلبه وعيه وتغريه بشعاراتٍ براقة (الحرية الفردية، الاستقلالية) ليدخل في دوامة شراء لا نهائية (Fromm 2003 :12). ويصف فروم هذا الاستهلاك الأعمى بأنه استلابٌ للوجود الإنساني ذاته، إذ يقود إلى نمط امتلاك يجعل الإنسان متساويًا مع الأشياء، فيفقد جوهره وحرّيته الداخلية (Fromm 2003 :13).
يؤدي هذا النمط الاستهلاكي أيضاً إلى تكريس شعور الفراغ النفسي؛ إذ يبحث الفرد باستمرار عن شعور لحظي بالمتعة يزول بمجرد الشراء، ما يدفعه للبحث عن المزيد بشكل مفرط. ويصبح المنزل والمكتب مخزناً لأشياءٍ لا معنى لها، بينما يفقد الإنسان معنى المكان والزمان الحقيقيين.
علاوة على ذلك، يُنشط الاستهلاك ديناميات اجتماعية تساهم في تفكيك الروابط الجماعية؛ فبيئات التسوّق الافتراضية والحقيقية تحل محل اللقاءات المباشرة، مما يقلل من فرص التفاعل الإنساني ويعزز الشعور بالعزلة حتى في حضرة الآخرين.
2.2.2. فقدان السيطرة
يلاحظ فروم أن الإنسان المعاصر يسلم قراره إلى قوى خارجية—سواء كانت تقنية أم مؤسسات اجتماعية—فيفقد إحساسه بالفاعلية ويصبح متبعًا لما يُملى عليه (Fromm 2010 :14). وهذا فقد لسيطرة الذات يولّد شعورًا بالتهديد والانقراض الداخلي، رغم انتصار الإنسان الظاهري على الطبيعة.
يمتد هذا الفصل إلى المجال النفسي، حيث يُترجم إلى شعور دائم بالقلق وعدم الأمان، إذ يشعر الفرد بأنه مجرد تابعة للأنظمة الآلية التي تدير حياته اليومية؛ من أجهزة الإعلام إلى خوارزميات التواصل الاجتماعي.
كما يؤثر فقدان السيطرة على العلاقات الشخصية، فيصبح الفرد غير قادر على اتخاذ قراراته الخاصة بمهنته أو علاقاته الاجتماعية، ما يؤدي إلى توتر مستمر وانفصال تدريجي عن ذاته الحقيقية.
3.2.2. الطابع التقني
تحول التقنية عند فروم إلى قوةٍ مادية صرفة تحكم المجتمعات الغربية، فتغدو كالطيف الذي يتسلّل بلا رؤيةً واضحة إلا للنخبة النقدية (Fromm 2010 :13). وهذا ما أطلق عليه « الصنم الجديد »؛ إذ تحل سلطة الأسواق والبيروقراطية والقوانين الصارمة محل الأصنام التقليدية وتفرض طقوس طاعةٍ مستمرة (Hammad 2005 :201–203).
ينتج عن هذا التسلط التقني شعور بتقزيم الإنسان أمام الألة والمؤسسة، حيث يصبح دور الفرد مقتصرًا على متابعة التعليمات التقنية وتنفيذها دون تفكير نقدي، ما يؤدي إلى غياب الإبداع ومحو المبادرة الفردية.
فضلاً عن ذلك، تخلق التقنية بنى قوة هرمية داخل المجتمع، حيث يمنح المطلعون والخبراء التقنيون امتيازات اتخاذ القرار بينما يعمّق الآخرون شرائح من عدم المساواة الرقمية، ويعززون الشعور بالعجز لدى الطبقات الأقل قدرة على التكيّف مع التطورات المستمرة.
3. قناع التحضّر التقنيّ والاغتراب
من دون شكّ أن التقنية كنظام مستقبلي قد سهلت العبور إلى عالم معرفي أفضل، فتطورت الأسلحة إلى نووية وبيولوجية دون مراعاة احتمال تدمير البشرية وموت الإنسان (Fromm 2010 :64). لقد اجتاح التطور التقنيّ عرش الحياة، وبات في قمة الهرم القيمي.
مثال ذلك وسائل الإعلام التي توظّف أحدث التقنيات لإخراج البرامج بأبهى صورة، مستخدمة عنصر الدهشة لجذب أكبر عدد من المشاهدات وزيادة التفاعل، عبر تطبيقات ذات جودة عالية.
ومن هنا يتجلّى الجانب المزدوج للتقنية كسلاح : فهي من ناحية تطلق العنان للابتكار والمعرفة، ومن ناحية أخرى تسلب الإنسان قدرته الإبداعية، وتستبدل نسيجه الإبداعي بخيوط عنكبوتية تتحكّم بأزراره وابتكاراته وعواطفه، فتصيره كتلة جسمية تتبع ما صنعته يداه (Fromm 2010 :65).
سمحت التقنية أيضًا بأن ينقسم الذات إلى :
-
ذات أصيلة : تتميز بالإبداع والفطرة الطبيعية التي نشأ معها الإنسان.
-
ذات زائفة : مشوّهة الأصل، سيطرت عليها أدوات العصرنة التقنية، فتعيش اضطرابًا وفوضى داخلية، وتظهر عليها باثولوجيات اجتماعية كالنرجسية والضياع في عالم استهلاكي لا يرحم، عالم لا يفهم إلا لغة الرقمية والخوارزميات (Sharmat 2024).
ويساهم هذا الانقسام في جدلية امتلاك الإنسان للأشياء مقابل جوهره الحقيقي، ما يعمّق أزمة .
4. مآلات الاغتراب
4.1 من الاغتراب إلى العنف والتدمير
يرى فروم أن اغتراب الإنسان عن ذاته وقيمه يقود أولًا إلى العنف العدواني المبرمج فطريًا، والذي ينتظر الفرصة المناسبة للظهور (Fromm 2006 :36). ففي حالات الطرد النفسي أو الجسدي للآخر، تتحول العلاقات الإنسانية إلى ميادين صراع، حيث تُبرر الإقصاءات والاعتداءات باعتبار الآخر أدنى من الإنسان السوي، ولتبرير الحرب والعدوان الجماعي.
ويحدد فروم نوعين من العدوان :
-
العدوان غير الخبيث : وهو دفاعي يشترك فيه الإنسان مع الحيوان للدفاع عن بقائه، ويزول بزوال التهديد (Fromm 2006 :39).
-
العدوان الخبيث : سلوك بشري خاص يتسم برغبة مدمرة تتجاوز الدفاع عن النفس؛ هو عدوان مقصود يقود إلى القسوة المفرطة والإبادة (Fromm 2006 :39).
ينتج عن هذا العنف تصاعد دورة العنف المفرغة، حيث يستخدم القمع والفزع أدوات للحفاظ على السلطة، فتتفاقم النزعات العدوانية في النفوس وتغدو القوى الاضطهادية أكثر وطأة، مما يفتح الباب أمام حروبٍ ومجازرٍ تطلق عليها المجتمعات الذرائعُ الأيديولوجية.
4.2 التفاؤل الساذج وأزمة البانغلوسية
يشير فروم إلى مفهوم بانغلوسية (panglossien) باعتباره أقصى حدود للاغتراب : تفاؤلًا زائفًا يُسوّق للناس كدواء يؤمن سعادتهم، لكنه في الواقع وسيلة لإبقاء الشعوب خاضعة دون وعي (Fromm 2009 :37). هذا التفاؤل المشوّه يدعو إلى تجاهل المخاطر الحقيقية والتخليِّ عن النقد الموضوعي.
ينتج عن التفاؤل الساذج حالة من السكون الاجتماعي حيث يتحول الأفراد إلى جمهورٍ يلهث وراء وعودٍ وهمية، فتسقط الحماسة المتجددة أمام جمود السياسات الاستبدادية. ويرى فروم أن أنظمة القمع تستخدم هذا المخدر العاطفي لإطالة عمرها دون معارضة جدية.
كما يؤدي التفاؤل المفرط إلى تراجع قدرات الأفراد على التعاطي مع الفشل والألم، فيصبحون عاجزين عن مواجهة الأزمات الشخصية والاجتماعية، مما يهيئ الأرضية للانهيار النفسي والجماعي.
4.3 الانتحار وأفول قيمة الحب
تعتبر حالات الانتحار أحد أبرز مآلات الاغتراب؛ إذ يدفع الفراغ الوجودي الناتج عن فقدان المعايير والتشتت العقلي مع هواجس الفشل الناس إلى البحث عن مخرج أخير (Hammad 2005 :209). فالإنسان الذي يفقد الإحساس بالهدف والارتباط بداخله يجد في إنهاء حياته خيارًا لتخفيف المعاناة.
كذلك يتأثر الحب كعلاقة إنسانية عميقة بالأخلاقيات الرأسمالية السوقية، فيتحول إلى منتج يُستهلك، فتتلاشى القيمة العاطفية المرتبطة بالتضحية والتعايش (Bauman 2016 :6). يصف باومان هذا النوع من العلاقات بالحب السائل، الذي يقف عند انتهاء المصلحة، ما يدفع الأفراد نحو حالة من الكآبة وفقدان احترام الذات.
ومع غياب الحب الحقيقي وتفشي الانعزال والتشيؤ، يعيش الإنسان المعاصر في حالة انعزالية حادة، تنهي أواصر التضامن الاجتماعي وتؤدي إلى مزيد من الاغتراب عن الآخر والذات.
5. تجاوز الاغتراب
ينطلق فروم من أن تجاوز الاغتراب كأزمة راهنة يتطلب بناء وعي إنساني وانطلاقة نحو مجتمع أكثر إنسانية، عبر عدة محاور :
5.1 الاشتراكية الإنسانية وأخلاق التكنولوجيا
يقترح فروم نموذجًا إصلاحيًّا أسماه « الاشتراكية الإنسانية »، يركز على :
-
ترويض التكنولوجيا : تحويل الزحف التقني اللامحدود إلى تكنولوجيا مُؤنَّسة تُخدِم الإنسان بدلًا من إخضاعه لها (Fromm 1989 :35).
-
في هذا الإطار، يرى فروم أن ترويض التكنولوجيا يستلزم وضع ضوابط أخلاقية قائمة على قيم الحرية والكرامة الإنسانية. فبدلاً من إنتاج آلات تزيد من عزلة الفرد، يجب توجيه الابتكار نحو دعم التفاعل الاجتماعي وتعزيز الروابط المجتمعية.
علاوة على ذلك، يدعو إلى إرساء آليات تشريعية تحكم شركات التقنية وتضمن شفافية استخدام البيانات وحماية الخصوصية، ما يقطع الطريق أمام استغلال التكنولوجيا لأغراض تجارية ضيقة أو سياسية قمعية. -
أخلاق التكنولوجيا : ترسيخ معايير أخلاقية توجه الاستخدام التقني بعيدًا عن إنتاج أسلحة الدمار الشامل وتخفيض الآثار البيئية والاجتماعية السلبية.
لا يكتفي فروم بالدعوة إلى أخلاق التكنولوجيا بمعناها الشكلي، بل يشدد على ضرورة إدراج محتوى أخلاقي في مناهج التعليم والهندسة والتصميم، ليعي المنتِجون والمستهلكون مسؤولياتهم تجاه المجتمع والكوكب.
ويؤكد أن ثقافة المسؤولية التكنولوجية لن تتأتى إلا من خلال شراكات فعالة بين الحكومات والمؤسسات الأكاديمية والقطاع الخاص.
5.2 إصلاح الإنتاج والعمل
يؤكد فروم على ضرورة إعادة توازن بين العمل والإنتاج والاستهلاك، من خلال :
-
إعطاء الأولوية لقيمة العمل الذي يحقق الإشباع النفسي والمعنوي للإنسان (Fromm 1989 :166).
-
يرى فروم أن العمل لا يجب أن يكون مجرد وسيلة لكسب العيش، بل ميدانًا لتطوير الذات واكتساب الحرية الداخلية. ومن هذا المنطلق، يدعو إلى إعادة تصميم بيئات العمل بحيث تعزز من المشاركة الجماعية وتتيح فرصًا للمبادرة والابتكار، بدلًا من التحكم المركزي الصارم الذي يقتل الحافز والإبداع.
-
تصميم نمط صناعي أقل مركزية يحد من هيمنة اقتصاد السوق، مع توفير محفزات معنوية وعلمية للعمال بعيدًا عن الاستغلال.
-
كما يقترح إنشاء صناديق تعاونية يمولها العمال أنفسهم لاستثمار جزء من أرباح المنشآت في تطوير برامج تدريبية وتأهيلية، تعزز من قدراتهم المهنية وتدعم أمنهم الوظيفي.
وتعتبر منظمات النقابات العمالية لدى فروم شريكًا أساسيًا في هذا الإصلاح، حيث تلعب دورًا في تمثيل العمال والمساهمة في صياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
5.3 الإصلاح السياسي والديمقراطي
يشدد فروم على إصلاح الديمقراطية لتصبح ضمانة للأمن والأمان السياسي، دون أن تتحول إلى أداة في يد البيروقراطية والنخب الحاكمة (Fromm 1989 :160). ويقترح :
-
مشاركة أوسع للمواطنين في صنع القرار عبر آليات شفافة ومحاسبة فعالة.
-
ويؤكد فروم على أهمية اللوائح المفتوحة التي تتيح للمواطن الاطلاع على مسودات القوانين والمشاركة في مناقشتها قبل التصويت، مما يخلق شعورًا بالملكية الجماعية للعملية التشريعية.
-
توسيع نطاق منظمات المجتمع المدني لرقابة السلطات التنفيذية والتشريعية.
-
ويرى أنه يجب تعزيز استقلالية المنظمات غير الحكومية وتخفيف القيود البيروقراطية عليها، كي تتمكن من أداء دور المراقب والمبلّغ دون تخوّف من التضييق، وضمان توفر الموارد الكافية لها.
5.4 بناء الإنسان الجديد والهوية الأصيلة
يعمل فروم على إعادة هندسة إنسان يمتلك الكفايات اللازمة للعصر الحديث :
-
الاستقلالية : الثقة بالنفس والقدرة على التحكم بالقرارات بعيدًا عن أغلال التملك.
-
ويبرز فروم أهمية التعليم التشاركي الذي ينمي التفكير النقدي ويحفز الطلاب على البحث الذاتي، بدل تعليم قمعي يركز على الحفظ والتلقين. وهو يرى أن بناء استقلالية الفرد يبدأ في المراحل الأولية للتعليم، حيث تُزرع قيم المساءلة والابتكار.
-
الهوية الأصيلة : التحرر من عبادة الأصنام المعاصرة (الاستهلاك، السلطة، السوق) عبر العقل النقدي والنظرة الاستشرافية (Fromm 1989 :161–162).
-
بالإضافة إلى ذلك، يشير إلى أهمية الثقافة في إعادة بناء الهوية، عبر دعم الفنون والآداب والقيم التراثية التي تعيد ربط الإنسان بأصله الحقيقي، وتمنحه مناعة ضد السطحية والاستهلاك المفرط.
5.5 إعادة الثقة بالقيم الحقيقية
ختامًا، يدعو فروم إلى :
-
إعادة الاعتبار للسعادة الحقيقية القائمة على حب الحياة واحترام الذات بعيدًا عن النرجسية وتضخيم الأنا (Fromm 1989 :162).
-
يوضح فروم أن السعادة لا تتحقق إلا عندما يجد الإنسان معنىً يتجاوز المصلحة الشخصية الضيقة، فيرى أن العلاقات الإنسانية الأصيلية كالصداقات الحقيقية والتعاون المجتمعي ـــ تشكل سُبُلًا أقوى لتحقيق السلام الداخلي.
-
اقتلاع العنف التدميري من جذوره باعتباره علامة فشل في عملية النمو الإنساني (Fromm 1989 :162).
-
ويقترح اعتماد برامج إعادة التأهيل النفسية للضحايا والجناة على حد سواء، بحيث تعالج دوافع العنف وتعيد توجيه الطاقات الإنسانية نحو البناء والسلم الاجتماعي.
الخاتمة
إننا، من خلال استعراضنا لأفكار إريك فروم، ندرك عمق أزمة الاغتراب وتأثيرها البالغ على الإنسان المعاصر. لقد كشف فروم عن الجذور النفسية والاجتماعية للتفكك الإنساني، وأظهر كيف تتحول التكنولوجيا والاستهلاك إلى قوى تهيمن على السلطان الداخلي للفرد. كما بيّن مآلات هذا الاغتراب في صيغ العنف والتدمير، وفي زيف التفاؤل الساذج، وحتى في انهيار القيم العاطفية مثل الحب وانتحار الذات.
ومع ذلك، قدم فروم رؤيةً متفائلة قوامها إمكانية تجاوز الاغتراب عبر بناء وعي إنساني جديد، وإخضاع التكنولوجيا للأخلاق، وإصلاح بيئات العمل، وتعزيز الديمقراطية المعيارية، وإعادة هندسة الإنسان ليكون مستقلًا ومبدعًا وذو هوية أصيلة. إن الاشتراكية الإنسانية وأخلاق التكنولوجيا ليستا مجرد أفكار نظرية، بل أدوات عملية يمكن تطبيقها عبر سياسات تشريعية وتعليمية واجتماعية.
بذلك، لا يكتمل فهم أزمة الاغتراب إلا بالانتقال من التحليل إلى الفعل الجذري : تحفيز المجتمعات على إعادة تشكيل القيم، وتنمية روح النقد والمسؤولية، وإرساء علاقات مبنية على الاحترام المتبادل والتعاون. فإذا كان المطلوب اليوم هو إعادة الكينونة الإنسانية إلى مركز المسار، فإن تطبيق توصيات فروم يشكل خارطة طريق قوية نحو بناء مجتمعٍ خالٍ من أغلال الاغتراب.