الرؤية أم القابلية للقراءة؟ إعادة تأهيل الفكر ضد الاغتراب العلمي

Visibilité ou lisibilité ? Réhabiliter la pensée contre l’aliénation scientifique

Visibility or Readability? Rehabilitating Thought Against Scientific Alienation

نادية سعدي Nadia Saadi et جمال زناتي

Citer cet article

Référence électronique

نادية سعدي Nadia Saadi et جمال زناتي, « الرؤية أم القابلية للقراءة؟ إعادة تأهيل الفكر ضد الاغتراب العلمي », Aleph [En ligne], Vol 12 (2) | 2025, mis en ligne le 03 juin 2025, consulté le 05 juin 2025. URL : https://aleph.edinum.org/14819

في هذا العدد الثاني من عام 2025 ، المكرَّس لموضوع « الأدب وديناميات الدلالة : السيميائية، الإقليم والآخرية »، رغبنا، من خلال المساهمات المتعددة المجمعة هنا، في استقصاء ليس فقط أساليب بناء واستقبال الخطاب الأدبي، بل أيضًا الطريقة التي تُنسَج بها أو تُغَزَّى بها روابط هويتنا في الحقلين الأكاديمي والاجتماعي. وأكثر من ذلك، يهدف هذا الافتتاحي إلى إلقاء الضوء على مسألة الاغتراب الكامن في ممارساتنا العلمية، وإلى معارضة الهوس المتزايد بالرؤية على حساب القابلية للقراءة—فجوهرة الجامعة، في نظرنا، تكمن أولًا في القدرة على جعل المعرفة مفهومة ومنيرة، لا في أن تتحول إلى مجرد واجهة إعلامية.

بين الرؤية والقابلية للقراءة : نحو نقد الاغتراب العلمي

تقدّم المقالات المجموعة في باب « الهياكل والمساحات الدلالية » لكل بحثٍ زاويته الخاصة لاستكشاف الآليات السيميائية التي تحكم النص السردي. فتشير دراسة شحرزاد بناني حول السيميائية السردية في رواية « بعد 00 : 00 » لهاجر حيدودي إلى التحولات الدلالية التي تدفع الرواية نحو احتمالات تأويلية جديدة. وبالمثل، تبين سرور كعال وزوليخة زيتون من خلال بحثهما في الشعر الرقمي الجزائري لسعاد عون كيف تختبئ وراء المظهر التكنولوجي الجديد بحثٌ سيميائي بقدر ما هو إبداعٌ شعريّ معاد ابتكاره ومنفصل عن الوسائط التقليدية. من جانبها، تدعونا نورة قاضي إلى إعادة التفكير في الانتقال من الكتابة إلى التفاعل في قصيدة « المساء » لإيليا أبو ماضي؛ ويتساءل عبد القادر كباس عما إذا كان الخطاب الرقمي يهّوذ النظام اللغويّ أو يغيّره. تذكّرنا هذه المساهمات، الجَميلة بقدر ما هي مُطلِبة، أن النص لا يُقدَّم للقارئ مباشرةً كأمرٍ ظاهر؛ بل يجب فكه وجعله قابلًا للقراءة في بواطنه الغامضة.

وهو الحال أن البحث في ظل سياقنا الراهن غالبًا ما يضحي بهذه المطالب العميقة على مذبح الرؤية : إذ تُقَيَّم الدراسات بمؤشرات الانتشار، وتُقاس بأعداد التنزيلات، وتنشر في مجلات مصممة خصيصًا للمنصات الشبكية، فتتحول بذلك إلى عرضٍ بصري. وفي هذا التحوّل تكمن جذور الاغتراب العلمي، حيث يُصبح هم الباحث/الباحثة أقلّ في وزن « خشونة المعنى » من رغبته في تمييز إنجازٍ علمي بمقياسٍ بيبليومتري. أليس من المؤلم أن نتساءل : ألسنا قد « ضحَّينا بكياننا على مذبح التاجر والسمسار »؟

نؤكد على أن القابلية للقراءة — ذلك الجهد الدقيق الذي يهدف إلى جعل تحليلاتٍ صعبةٍ في متناول الجميع — تشكّل صميم المشروع الجامعي. ففي زمن تغري فيه سرعةُ التواصل وعرضُه المدهش على حساب القضايا الإبستمولوجية، من الضروريّ التذكير بأن الرسالة الحقيقية للمؤسسة تكمن في تمكين الإيضاح وإحداث لقاء بين الفكر الأرقى والجمهور الأوسع. بعبارة أخرى، خيرٌ للجامعة أن تُنتج أبحاثًا أقلّ ظهورًا ولكن أكثر عُمقًا وقابليةً للفهم؛ تلك التي تبني روابط دائمة بين العلماء والمواطنين، على أن تُقدم بحوثًا وفيرةً ولكنّها زائلة، صُممت أساسًا لتتألّق في سباق الانطباعات الإعلامية.

الاغتراب والإقليم والآخرية : نقاط التقاء جوهرية

يعزز ملف « مساحات الدلالة والهوية السردية » هذه القراءة النقدية. تستكشف حاجر مدكانة في روايتي « منا – قيامة شتات الصحراء » و« أوراق شمعون المصري » سرديات المشي، موضحةً كيف يصبح الإقليم، سواء أكان جغرافيًا أم ذاكرةً جماعية، موضعًا للاقتناء الرمزي. ويحيى سعدوني، من جهته، يقوّب الفضاء الجبلي في رواية « نبوءة جبال الأنديز » لجيمس ريدفيلد، ما يضع القارئ أمام جغرافيا أدبية تأبى إلا أن تعكس التوترات المرتبطة بالهوية. وفي رواية « خليل » لياسمينة خضرا، يتساءل مسعود جوادي حول تحوّلات الهوية عبر إعادة تشييد الفضاء الروائي، بينما يبرز دياب ربّاح في مسرحية « غنائية الحب والدم » لعز الدين جلاوجي جماليات الأمثال الشعبية الجزائريّة : جميع هذه المعالم تؤكد أن الكتابة لا تنحصر في محليّتها، بل تظل غائرة بالتفاعل مع الحركات الرمزية ومتطلّبات الآخر.

إنّ الاغتراب الثقافي يستقرّ بالتحديد في هذه التوتّرات بين الرؤية والقابلية للقراءة، ففي اللحظة التي تُختزل فيها الآداب إلى سلعةٍ استهلاكية، تفقد طاقتها النقدية. تسعى مساهمات هذا العدد إلى رفض هذا الاختزال؛ فهي تدعونا إلى تبنّي قراءةٍ بطيئة وصبورة، تلتفت إلى الدقائق السيميائية والانعطافات التداولية، وصوت الفاعل الناطق؛ كما يتجلّى ذلك في دراسة مديحة دبّابي عن « الكلام الذاتي » في قصيدة « تمّوز جيكور » لألبدر شاكر السيّاب. ومن خلال استكشاف الكتابة الرقمية، وتحليل مدى تأثير الأشكال الشفوية (عمار مزداد، ولد عبد الرحمن كاكي)، أو فكّ رموز التناص (عبد القادر بابكر، طارق بوعزيز)، يرفض كلّ كاتبٍ وكاتبةٍ أن يتركوا البحث يسقط في سراب العرض البصري المبهر.

النقد الاجتماعي، الإرث الثقافي وبناء الهوية

يقدّم قسم « الأبحاث : النقد الاجتماعي والإرث الثقافي » امتدادًا ضروريًا لهذه القراءة حول الدلالة والاغتراب. تُسلّط فريدة بوعدة الضوء على الاستغلال وصراع الطبقات في رواية In Dubious Battle لشتاينبك، مما يذكّرنا بأن الأدب يُمكن أن يكون إحدى أكثر أشكال النقد الاجتماعي حدةً. وتكشف رزيقة بوبزاري، من خلال تحليلها لجبهةَ الإنقاذ وخطابها حول الهجرة، عن « الدكسا الجبهوي » والآليات الأيديولوجية التي تشكّل المخيال الجمعي. أمّا ريما عايدة حسني، ففي دراستها للسخرية الرقمية في مواجهة حظر اللباس، فتبيّن كيف يمكن للفضاء الرقميّ أن يتحوّل إلى ميدانٍ للتمرد اللفظي ضدّ الأعراف القمعية. يدرس حسن بلموش argumentation الإعلام حول الغاز الصخري في الجزائر، في حين يفكّ مولود بوزيد تمثيلَ الشرّ في رواية واسيني الأعرج مي ليالي أيزيس كوبيا.

باختصار، تُظهِر هذه الدراسات أن الأدب — بكل أنماطه المتنوّعة، من الرواية إلى الصحافة، ومن القصيدة إلى المسرح — يشكّل فضاءً مفضّلًا لمقاومة الاغتراب. وتذكّرنا أيضًا بضرورة قراءة نقدية للخطابات المهيمنة، سواء كانت سياسية، أيديولوجية أم اقتصادية. فمن خلال هذه اليقظة الإبستمولوجية، يمكن للجامعة أن تستعيد دعوتها الأولى : ألا تكون مؤازرةً لسباق مؤشرات الرؤية، بل مصدر أدوات للفهم، والتحليل، والاستقلالية النقدية لدى المواطن·ة.

الطرق والمنهجيات : قضايا إبستمولوجية وتبادل الخطابات

تُذكّرنا خانة « الطرق » — التي قادها هنا زكريا غوبريني، نبيل ربيع، آسيا واعر، سعاد سحنون، نادية سعدي، مليكة بنكومار ونور الهدى عبادة — بأن الجامعة ليست مكانًا للنشر فحسب، بل فضاءً للتفكير في الأطر النظرية ذاتها التي نعتمدها. يتساءل غوبريني في دراسته المقارنة بين فكر الفقهاء وفكر التربويين عن « المعرفة للفعل » ودورها في تعزيز القدرة العلمية. تناقش آسيا واعر التجربة الصوفية، بينما تتناول سعاد سحنون مسألة الاغتراب عند إريك فروم. وهي نفسها التي تتناول نادية سعدي الاغتراب اللغوي عند جاك دريدا. وتسلّط مليكة بنكومار الضوء على نشأة وتطور المصطلح النقدي العربي، في حين تستكشف نور الهدى عبادة تحوّلات التلقي من الدراسات الأدبية إلى البحوث الإعلامية.

تجبرنا هذه المساهمات المنهجية على التفكير، عبر أطر متنوعة — فلسفية، لاهوتية، تفسيرية، لغوية — في كيفية تشكّل المعرفة. وهي تدعونا إلى الاعتراف بأن القابلية للقراءة لا تقتصر على الوضوح الفوري؛ بل تتطلّب وعيًا بالافتراضات النظرية والانتباه إلى الأسس الأيديولوجية. فـ« الطرق » الدقيقة تشكّل درعًا ضد الاغتراب : ما دمنا نتساءل في مستوى أداة النقد وحدودها، نتفادى الوقوع في فخ التواصل السطحي.

الخواطر : قراءات متعددة للأدب والآخرية

أخيرًا، يقدّم قسم « الخواطر »، الذي أعدته فاطمة بنرباعي، سارة سكيو، وهبة خياري، قراءات فريدة للروايات والروايات القصصية الموجّهة للأطفال، بالإضافة إلى دراسات إيماغولوجية ونفسية-اجتماعية. فكشفت بنرباعي، في مقارنتها بين روايتيْ Is New York Burning ? وSous le ciel de Copenhague، عن الكليشيهات وتشكّل الهويات؛ وركّزت سكيو على الأبعاد النفسية والإبداعية في قصص الأطفال، أما خياري فاستكشفت فن “لغة الزهور” كوسيلة لا لغوية تُربك أفق التلقي. تُظهر هذه القراءات المتنوّعة، الجمالية والتحليلية معًا، كيف أن الآخرية—سواء كانت جغرافية أو اجتماعية-ثقافية أو نوعية—تقف في صميم بناء الدلالة الأدبية.

إنّ مواجهة هذه الثباتية والهروب من وسوسة القراءة الأحادية تُشكّل بحد ذاتها الترياق ضدّ الاغتراب : فتمكين كل قارئ وقارئة من امتلاك النصّ وإعادة قراءته وجعله يدخل في حوار مع آفاقه الخاصة هو ما يُفكّك قيود الاختزال والإطار الإرشادي الواحد. أما البحث المحصور في مطاردة الرؤية وحدها فيميل إلى حبس العمل الأدبي داخل صياغةٍ وصفيةٍ صُنعت للعرض الإعلامي السريع، فتُعطى الأسبقية للصدمة المباشرة بدلًا من الزمن الطويل للتفكير.

للختام : القابلية للقراءة، الأمة والامتداد الزمني

إذا بدا التألّق الإعلامي مغريًا—للجامعة بقدر ما هو مغر للمجتمع—فإن الخطر يكمن في أن تنحلّ غاية البحث العلمي الحقيقية : وهي تقديم مفاتيح للفهم والدلالة. إنّ الاغتراب العلمي الذي نستنكره هنا لا ينفصل عن تحويل المعرفة إلى عرض للمشاهدين، حيث يُعطى الاهتمام للأرقام والصدمة الفورية بدلاً من العمق والمثابرة. لنتذكّر أنّ الأمة والمجتمعات لا تولد من الهتاف الإعلامي، بل من الوشائج التي تُنسَج عبر الزمن بين المواطنات والمواطنين، في تضامنهم داخل المعارك الفكرية والثقافية. فأن تكون الجامعة قابلة للقراءة، يعني أولًا تمكين كل فرد، سواء كان مطلعًا أو مبتدئًا، من استيعاب القضايا والمشاركة الفعّالة في هذا البناء الجماعي.

هكذا، ومن خلال ربط التأملات في السيميائية والإقليم والآخرية والنقد الاجتماعي والمنهجيات، تشكّل مساهمات هذا العدد دعوةً حقيقية لمناهضة الاغتراب : ليس بالتخلي عن الصرامة، بل بإعادة تأهيل القابلية للقراءة كقيمة تمكينيّة وكحصن ضدّ تحويل المعرفة إلى سلعة سوقية. لعلّها تسهم، على المدى الطويل، في تغذية “أمة الفكر” التي نبنيها معًا، في امتداد زمني طويل، بفضل بحثٍ صبورٍ ومتفشٍّّ في الفكر ومتّسعٍ لجميع الأصوات.

نادية سعدي Nadia Saadi

جامعة الجزائر 2

Articles du même auteur

جمال زناتي

جامعة مونبلييه، ومركز البحث في اللغة والثقافة الأمازيغية ببجاية

Articles du même auteur

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article