.شعرانيات وسياسات المقاومة في عصر الاضطراب
عصرنا، الذي تميّز بالانفجار المتزامن للأزمات البيئية، وإعادة تشكيل التحالفات الجيوسياسية، والعنف الرمزي، والتقلبات الثقافية، يدعو إلى ممارسة فكرية وإبداعية تكون في آنٍ واحد فطنةً وسعةً. إذا تحوّل كلُّ دلالة إلى رسالة، فإنّ ليس كل رسالة تبلغ فورًا منزلة الإرث؛ إذ يتعيّن على المثقف أن يسعى إلى انتصار حقيقة واعية بنسبيتها العادلة، مدركةً لأصولها وقبل ذلك لما تولِّده, كما يحذّر ديبري (219 : 45-6). يُدعى الباحث، والمثقف، والفنان لتحمّل وظيفة « واجب المقاومة » الحقيقية، ليس بمعناه البطولي أو الاستعراضي، بل في استمرارية أخلاق المسؤولية التي يعرّفها بول ريكور بـ« العلاقة مع الآخر باعتباره متساويًا » وسرد الذات شرطًا للعدالة.
تبيّن هذه التفاعلاتُ هشاشةَ الإرث الثقافي، وتدعو إلى إعادة مفهوم الوطني ليس كحارس للتقاليد الثابتة فحسب، بل كمساهم نقدي يفحص باستمرار أساطيرنا ورموزنا ليحتفظَ بما يستحق، ويحوّله، أو يرفضه. كما يؤكد جمال زناتي، تكمن السعي الحقيقي للمعنى في إعادة تعريف معالم هويتنا بقدر ما يكمن في الإبداع الديناميكي للسرديات المتعددة.
في صميم هذه المسؤولية، تبرز الشعرانية بوصفها قوة نقدية لا بديل عنها : تحبط تحديد الهوية عبر فتح فسحة من التنافر، والآخرين، والاحتمالات. عبر ابتكار الاستعارات مجدّدًا وربط الخيط بين الخصوصي والجمعي، تجدد الميثاق السردي الذي يقيم أساس إنسانيتنا المشتركة. يعلمنا ريكور أن السردانية تمنح الحياة البشرية تماسكًا تأمليًا، وتسمح هذه القدرة على نسج السرديات المتعددة—الفردية والاجتماعية—بدفع سيطرة الخطابات الأُمرية و« الحقائق الرسمية ».
تتجاوب هذه المنهجية الشعرانية مع مقالات هذا العدد، حيث يستحضر بعض النصوص ضمنيًا إزالة استعمار الذات والتساؤل الفانوني : إحياء الصور الذهنية الثائرة والحرية عبر الكتابة، كأفعال مقاومة صامتة لكنها نافذة. من دون ذكر الأسماء، يجسّد الشعر في النصوص دعوة لاستحضار السرديات المنسية، وإعادة تعبئة ذاكرة النضالات، واستشراف عوالم محتملة.
على الصعيد السياسي، تتجلّى المقاومة في ممارسة نقدية واعية : استجواب القواعد، وكشف الاستبعادات، وتقويض منطق السلطة عبر إظهار المستبعدين. يذكّرنا إدغار موران بأهمية الفكر المعقّد القادر على ربط المقاييس—من المحلي إلى العالمي، ومن الجزئي إلى الكلي—ومزج الصرامة العلمية برؤية شمولية للمجتمعات. في هذه التوتّر المنتج بين التحليل الدقيق والخيال الشعراني، ينفتح فضاء للحرية حيث يتجاوز المثقف والباحث مجرد تجميع المعارف : ينخرطان تأمليًا لكشف بذور المستقبل وفقَ تأويل ريكور، ومواجهة ظلّ إرثنا.
ثمَّ، تقوم وظيفة الباحث والمثقف على المزج بين التأويل والانخراط، وتحمل المسؤولية الأخلاقية تجاه الآخر باعتباره متساويًا وتجاه الأجيال القادمة، وتشكيل وطنية نقدية : ولاء متجدد لعالم مشترك في إعادة تركيب دائمة، يُبنى بالتبادل والمسؤولية المتبادلة وعدم اليقين الإبداعي.
تقديم الأقسام والمقالات : تأويل المقاومة
لدعم التأمل العام في أشكال المقاومة، تبرز هذه القسم بنية العدد من خلال أَربعة محاور رئيسية—البحوث، والأساليب، والوقائع، والقراءات—، حيث يمثّل كل محور زاوية شعرانية وسياسية خاصة. تشكّل هذه المقالات متعددة اللغات والتخصصات رحلة تأويلية يلتقي فيها الذاكرة والآخر، وجماليات السرد، والانخراط النقدي.
-
البحوث : الأدب ما بعد الاستعماري، والذاكرة، والآخر
-
تستكشف هذه المحور العلاقة بين الذاكرة التاريخية والسردية ما بعد الاستعمارية، وتبيّن كيف يصبح الكتابة فعلَ عدالة ومقاومة.
-
حسّين عرب — بين العدالة الذاكرية والمقاومة الأدبية : قراءة ما بعد كولونيالية لرواية « عن إخوتنا الجرحى » لجوزيف أندراس
-
سعيد غادة — « الطابع الوطني » في كتاب بين سكان التلال في الجزائر (1921) لهيلتون-سيمبسون
-
ثريا حمادنة وسعاد خليوياتي — الكتابة المهجنة : التعدد اللغوي والثقافي في رواية صراع الحضارات حول مصعد في ساحة فيتّوريو للكاتب عمارة لخوص
-
فريضة حاجّيد ورابح طبتي — شعرية الكتابة التحويلية وتأكيد الهوية في أعمال محيا : قراءة في مسرحية منتّف أكا ولا سدّاو أوزكا ضمن المسرح القبائلي المعاصر
-
رشا لاغروم — آسيا جبار وإعادة كتابة الأنثوي : الأدب، الأداء والمقاومة
-
يسرى ماهي سرير — الفولكلور والموتيفات الأدبية في رواية « ريح الجنوب » لبن هدوقة
-
زكريا خنوش وعبد الله معصوم — التهجير الاسترياني بعد الحرب العالمية الثانية كما رواه صحيفة « لا ستامبا »
تمهّد هذه البحوث أساسًا لتأمل عميق في الأثر والآخرية، فاتحةً طريقًا لذاكرة نقدية تستجوب الحاضر.
-
الأساليب : التمثيلات، الأنماط، والهويات
-
تقدّم هذه المحور المنهجي بروتوكولات وتحليلات أسلوبية تكشف آليات إنتاج المعنى، من النص الأدبي إلى الأشكال السردية التجريبية.
-
سفيان معافة — إطلاق العنان للوحش : تشويه الجسد الأنثوي كمصدر للصدمة الشريرة في رواية « كاري » لستيفن كينغ
-
نورا عقلي، فايزة رحيل وحمزة رحيل — تحليل أسلوبي لنصوص رواية « لوسي » لجامايكا كينكيد
-
نور الهدى حلب — الجماليات السردية التجريبية في الرواية العربية المعاصرة : حتى يطمئن قلبي للسيد حافظ
-
فريدة مقلاتي — التصور النقدي لبنية القصيدة العربية القديمة عند ابن السراج الأندلسي
-
سهام بروقان ومالكة بن بوزة — صورة المرأة الزنجية في الرواية النسوية : دراسة مقارنة بين « امتلاك سر البهجة » لآليس ووكر و« الزنجية » لعائشة بن نور
-
علي سخنين — النقد الاجتماعي في أعمال عمار بلحسن : نحو نقد موقعي للمفاهيم في السياق الجزائري
-
صليحة بردي — من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي : تحولات في الرؤية والمنهج
-
فريد عوف — استكشاف التمثيلات البيئية في الأدب العربي المبكر : تحليل بيئي لرواية زينب لمحمد حسين هيكل
-
ليلى بوعكاز — تاريخ غير مكتوب وهويات متحللة : قراءة تفكيكية في رواية « أنا وحايم » لحبيب السائح
تُؤكِّد هذه المحور القوة العابرة للأساليب، داعيةً إلى قراءة نقدية للنصوص وسياقاتها الثقافية.
-
الوقائع : الخطابات والممارسات الثقافية والديناميات الاجتماعية
-
تشكّل هذه الوقائع نافذةً فورية على الممارسات الاجتماعية والثقافية، كاشفةً عن الرهانات الطقسية والهوية في المجتمع المعاصر.
-
فاضلة حسّين وصافية اسّلاح رحال — التمثّلات الاجتماعية ليَنَّاير لدى الأساتذة الجامعيين الجزائريين : بين الممارسات الطقسية والذاكرة الثقافية والهوية الأمازيغية
-
عباس أمل — الصورة المور في الأدب الإسباني من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر
-
منيرة درارجا — إعادة البناء عبر السرد : الحكايات الخرافية كأدوات علاجية لتجاوز الصدمات والاضطرابات ما بعد الصدمة
-
ريم أمينة الساولي — أي مستقبل لهندسة الأرض الخام في الجزائر؟
-
حورية جيلالي — مكان الكلام المحكي في علم اللسانيات
-
تسلّط هذه الوقائع الضوء على ديناميات اجتماعية خفية، مستعمِلةً النظرة المجهرية لكشف التعقيدات الثقافية.
-
القراءات
-
تُختتم القراءات بتأملٍ مركز في شرعية العنف من منظور فانوني، مقدمةً قراءةً معمقة في فكر فريانتس فانون.
عاشور بن قويدر وإبراهيم كراش — شرعية العنف من أجل التحرر من الاستعمار في فكر فريانتس فانون
تتجاوب هذه القراءة مع المحاور الكبرى للعدد، مذكّرةً بأن الفكر النقدي يجب أن يواجه كذلك الانقطاعات الجذرية في التاريخ.
خاتمة
تشكّل هذه المساهمات متعددة اللغات استمرارية نقدية وشعرانية، حيث تتشابك المعارف والممارسات الجمالية لمقاومة أشكال الهيمنة ودعم تعددية الأصوات. قراءة هذا العدد تعني الانخراط في حوار متواصل مع الماضي والحاضر والآفاق الممكنة، في ظل تأويل دائم التجدد.