تمهيد
كثيرا ما يشتكي الممتحنون في اللغة العربيّة حال مواجهتهم للأسئلة من نوع مستويات العليا للتفكير بأنهم لم يدرسوها في الصفّ ولم يجدوا في دروسهم التي تملأ كراساتهم الأجوبة عن مثل هذه الأسئلة، ذلك أنّ الممتحن قد طبع تفكيره بالأسئلة التي تختبر الاستذكار والفهم الناتج عن الحفظ والتلقين، بينما الأسئلة التي تتطلّب إمعان التفكير وتحفّز على الإدراك العام والتحليل لا يجدون مثيلاتها إلاّ في المعادلات الرياضيّة، أمّا في تعليميّة اللّغة العربيّة فهي أسئلة موجهة للحفظ والاستذكار، وكأنّ طبيعة اللّغة التي يدرسونها مجرد معلومات وقوالب لتراكيب محظور تغيير أجزائها أو الخروج عن معانيها؛ بينما اللّغة في الأصل نظام من القواعد تضمّ الحروف والكلمات والجمل، وبإمكان أيّا كان أن يعبّر بها بحسب ما تتيحه له القدرة والكفاءة في نسج الكلام.
وبينما المعاني والأفكار تبقى مجرّدة وغير مدركة إذا لم تحتويها اللّغة، لذلك تقوية الملكات اللّغوية يساعد المتعلمين على تطويع المعاني والأفكار، وهذا ما يجب على المعلمين والمتعلّمين فهمه والعمل على تحقيق كفاءته، فالكفاءة اللّغوية هي القدرة على الإفصاح، ولكن تختلف مراتب هذا الإفصاح بحسب قدرة الناطقين على الإبداع ضمن نظام اللّغة. فإذا عرف القائمون على التربية والتعليم وجهة النّظر هذه للغة أدركوا الغاية من تعليمها، وعملوا على استهداف هذا الجانب في الممارسة التعليمية.
فمن خلال تدريب الملكات اللغوية للمتعلمين وتقويم القصور الحاصل في التأدية الصحيحة للكلام ومن خلال الدفع بالمتعلم إلى التعبير عن أفكاره الخاصة وتصوّراته، يكون التّحرّر شيئا فشيئا من عقدة التبعية الحرفية لما تمليه الكتب المدرسية والمحتوى التعليمي المقرّر خلال الحصص التعليميّة، حيث بات يشكل عبئا كبيرا على المعلمين والمتعلّمين معا؛
«فبنظرة واحدة إلى تلاميذنا في المدارس الابتدائية والثانوية تدلّ على أنّهم يعتمدون على المدرسين كلّ الاعتماد، ويتّكلون عليهم في بحوثهم وتفكيرهم، وعلى أنّ بعض المدرسين لا يعطون تلاميذهم الفرصة لتعويدهم الاعتماد على النّفس في البحث والقراءة لكسب الأفكار والمعرفة. »1
لذلك يقتضي تحرير المتعلم من التبعيّة المفرطة لكل ما يقوله المعلم أو يمليه، إعادة النّظر في طبيعة المحتوى التعليمي الذي يركّز على السرد والتلقين، وتضمينه ذلك التوازن بين المعارف النّظريّة والمعارف الفعليّة التي تجعل التعلم ذو معنى، بحيث يشعر التلميذ أنّه قادر على إتمام ما هو مسطر له من أهداف تعليميّة بنفسه دون اعتماده الكلي على المعلّم، وهنا يبدأ مشروع المتعلم الذي يتعلم من خلاله الكيفية التي يتعلّم بها كيف يتعلّم.
ورغم أنّ القائمين على التربية والتعليم قد أخذوا جانب تقوية المهارات العقلية العليا للمتعلمين مأخذ الجد، واستعانوا على ذلك، بتكييف أسئلة الاختبارات التّحصيليّة للطور المتوسط لتعليميّة اللغة العربية وفق مستويات صنّافة بلوم للأهداف المعرفية سنة 2019 م، في حركة إصلاحية تسعى إلى ضبط منهجيّة تحدث التوازن في توزيع أسئلة الاختبار بين المستويات العقلية والمعارف النّظريّة، وفي هذا الصدد ينبغي تثمين هذه الخطوة والتّأكيد على أهميّة أن يشمل التكييف وفق صنّافة بلوم للأهداف المعرفيّة أسئلة التقويم الصفي التكويني.
ففي الأدبيات التعليميّة أنّ الدّرس اللّغوي يقوم في سيرورته على جانبين مهمّين يكمّل بعضهما بعضا؛ جانب تعليمي تعلّمي وآخر تقويمي، ولا يستقيم تعليم اللغة العربيّة وتعلّمها دون الاهتمام بالتّقويم، حيث يعدّ جزءا من عمليّة التعليم والتّعلّم، ومرشدا إلى تحقيق الأهداف التّعليميّة والغايات التّربويّة التي تقرّها المناهج الدّراسيّة.
1. الإطار العام للدراسة
1.1. التقويم البيداغوجي
1.1.1. التقويم البيداغوجي وأقسامه
يعد التقويم أحد البنى الأساسيّة في الممارسة التعليمية، فهو عنصر ضروري لتطويرها، فإذا كانت المؤسسات التربوية والتعليميّة تهتم بتهيئة الفرص التعليميّة المختلفة لجميع المتعلمين بما فيها من محتويات وأساليب وأنشطة، من أجل تنمية قدراتهم المعرفية وتوجيههم نحو تحقيق الأهداف التربوية المنشودة، فإنّ التقويم كذلك هو المجهر الذي يستشرف من خلاله القائمون على التربية والتعليم، مدى تحقيق أهداف المنهج ومعاينة نقاط القوّة والضعف في عناصره، ليتمّ اقتراح الحلول والإصلاحات المناسبة، ولهذا يعتبره كلّ من موري MURHY ومون MOON الوسيلة الوحيدة في إحداث التغيير في نظام التعليم، إذ يقول : « إذا كان يراد إحداث تغيّر هام ما إذا ما أريد تحقيق الأهداف فيجب البدء بتغيير طرق التقويم »2
ونظرا لموقع التقويم من العملية التعليمية انصبّت الجهود لتطويره وتكييفه مع مختلف المستجدات التربوية، وأصبح موضوع «تقويم التقويم» شائعا في البحوث والدراسات التي تروم الإصلاح التربويّ، فكان أن مرّ بتغيّرات شكلت مسارا لتطويره في مراحل زمنية مختلفة، أفرزت مفهومين لهذا المصطلح؛ مفهوم قديم وآخر حديث.
-
مفهوم التقويم: مفهوم التقويم القديم: يتعلق بما كان معمول به في المقاربات التعليميّة السّابقة للمقاربة بالكفاءات، حيث كان التقويم في نهاية كلّ حصّة تعليميّة أو فصل أو سنة دراسيّة، متوافقا مع الفكر التّسطيحي للعمليّة التعليمية فكلّ المتعلمين فيه سواسية؛ فهم مجرد شخوص يعمل المعلم على شحنهم وتعبئتهم معرفيا عن طريق التلقين أو التنبيه، ويمتحنون وتصدر الأحكام بشأنهم على أساس ذلك، حيث يعرفه بلوم على أنّه : « إصدار حكم لغرض ما على قيمة الأفكار أو الأعمال، أو الحلول أو الطرق أو المواد، وأنّه يتضمّن استخدام المحكّات والمستويات والمعايير لتقدير مدى كفاية الأشياء ودقّتها وفعاليّتها ».3
وقد ساهمت البحوث النّفسية والدراسات التربوية في بلورة بعض المفاهيم ذات الصلة بموضوع التقويم كالأهداف التعليميّة والغايات التربوية والمناهج، التي صارت تنح نحو العقلنة، والمنطق العلمي، والتنظيم، تحقيقا للفاعلية والوضوح في العملية التعليمية، فكان ينظر للتقويم على أنّه : « مسار منهجي هدفه بيان مدى بلوغ الأهداف البيداغوجيّة من قبل التّلاميذ والتّقويم شامل للوصف الكمّي والنّوعي للسّلوكات، وهو إلى جانب ذلك يحوي أحكاما تحدّد درجة استحسان تلك السّلوكات ».4
ولم يقتصر الجهد على تنظيم التعليم وعقلنته، بل تعداه إلى إعادة النّظر في طبيعة الأنشطة التعليمية وطبيعة المعرفة المتعلمة، حيث شكّل التدفّق المعرفي الهائل تراكما أصبح يثقل كاهل المعلمين والمتعلمين على سواء، وكان ينبغي إعادة النّظر في المحتويات التعليميّة بإحداث التغيير في بنية معارفه المقرّرة وتنظيمها وترتيبها، وتجزيئها لتنسجم وتتلاءم مع الأهداف التعليميّة والغايات التربوية التي ترسمها المناهج التربوية، وفي هذا الإطار يعرّفه حاجي فريد على أنّه :« مسار يتمثّل في جمع معلومات ومراقبة التّوافق بين تلك المعلومات ومجموع المعايير الملائمة للكفاءات المستهدفة، وذلك لاتّخاذ قرار مؤسّس ».5 -
مفهوم التقويم الحديث : ساهم تطوّر مفهوم الشخصيّة الإنسانيّة في العلوم النّفسيّة، في تغيير جذري لمفهوم شخصيّة المتعلّم في العلوم التّربويّة، وأصبح المتعلّم محورا تدور حوله رحى العمليّة التّعليميّة، والمحرّك الأساسي لها، وانتقل المتعلم من متعلّم سلبي إلى متعلّم نشط يسهم بفاعليّة في النشاط التعليمي التّعلّمي، ويتقاسم جزءا من أعباء التّعلّم ومسؤولياته مع المعلّم، ممّا أحدث تغييرا كبيرا في طبيعة المهام، المنوطة بالمعلّم، إذ حصرت مهام هذا الأخير في التّخطيط والتسيير، والتوجيه، والإرشاد.
وبموجب هذه الرؤية الجديدة تحوّل الجهد التربوي من التّعليم الترّاكمي الكميّ إلى التّعليم البنائي والتّعلّم الذاتي، حيث لم يعد الاهتمام بالمعرفة لذاتها محطّ أنظار المسئولين بقدر اهتمامهم بالمتعلّم وإمكان مشاركته في العملية التّعليميّة، باعتباره طرفا فاعلا متفاعلا لا متلقيا سلبيا للمعرفة، وبذلك أصبح التّعليم يعنى بتوجيه المتعلّم إلى انتقاء المعارف وتمثّل ما يسهم منها في تكوين عنصر الكفاءة لديه، واستثمار ما توافر لديه من قدرات ومهارات وموارد بهدف تنميتها وتحسينها، وبذلك توسع مفهوم التقويم وتعقّدت مهامه واهتماماته.
و«يعد التقويم خطوة أولى في عملية التقييم، وهو (التقويم) قياس تحقّق الهدف، ومن خلاله، وبه، يقف المعلم على ما تعلّمه الطلبة، واكتسبوه، ويستمد أهميته من طبيعة الهدف، وطبيعة الأسلوب المتّبع لتحقيق الهدف، ويتباين في أسلوبه، وأدواته تبعا للمستوى المطلوب تجسيده وتحقيقه في الأهداف المرسومة (المعرفية، والوجدانية، والمهاريّة) وهذا يؤشر إلى أنّ التقويم يقتضي؛ أن تتاح الفرصة للطالب حتّى يبدي السلوك المعين المنشود، في حين أنّ الطريقة المستعملة في التقويم تتوقّف على نوع العمل المطلوب أداؤه. »6
فالتقويم إذن «بمثابة خريطة الطريق في معرفة النّجاح في التّدريس وتقديره، وتلبية التّوقّعات، وتشخيص المشكلات، وتحديد نقاط الضّعف، وتبيّن مواطن القوّة، ومدى حاجة المؤسّسة إلى التعديل والتّحسين والتّطوير والتّدريب، واستشراف المستقبل. »7
-
التّقويم التّكويني : هو عمل يندرج تحته مسمّى تشخيص وبناء التّعلّمات، وهو إجراء تكويني بالدّرجة الأولى، يهتم بتقويم العمليات التعليميّة التّعلّميّة في مراحل ومواقف زمنيّة مخطّطة سلفا؛ حسب حاجات المتعلّمين وطبيعة مستوياتهم المعرفيّة، يقف عندها المعلّم ليراقب ويقيّم مقدار ما تحقّق من أهداف ويستدرك منها ما كان من نقص وصعوبات في التّعلّم، فيعالجها معالجة آنية أو في حصص استدراكيّة، فالتقويم التكويني الصّفي عامل موجّه ومرشد للمعلّم والمتعلّم على حدّ سواء إلى البناء الصحيح للتّعلّمات، والمثبّت لها في كل خطوة أو محطّة من محطّات الدّرس اللّغوي.
-
التقويم الختامي: يعدّ الأداة والوسيلة الأساسيّة لتقييم أداء المتعلّمين في نهاية كلّ مرحلة تعليميّة تعلّميّة - صفيّة متعلّقة بدرس محدّد، أو فصليّة أو سنويّة- وتعدّ هذه الوسيلة التّقويميّة أكثر الوسائل التّقويميّة شيوعا، إذ تتّخذ بواسطتها القرارات والأحكام المتعلّقة بالفشل والنّجاح بالنسبة للمتعلّمين، وهذه الأحكام لها صلة وطيدة بتحديد مستقبل المتعلّمين التّعليمي التّعلّمي والمهني، وتُمنح في مرحلتها النّهائيّة الدرجات (العلامات) والشّهادات والتّرقيات.
2.1.1. التكامل في عمليات التّقويم
إنّ التنوّع الحاصل في عمليّات التّقويم لا يعني أنّها عمليّات منفصلة عن بعضها البعض، وإنّما هي في حقيقة الأمر تشكّل حلقات مترابطة ومتكاملة ومستمرّة في حلقة كبيرة تسمى التّقويم البيداغوجي، حيث تمتدّ على طول المسار الدّراسي بداية من انطلاق المشوار الدّراسي في أوّل السّنة، حيث يبرز التّقييم التّشخيصي كآليّة من الآليّات التي يستعين بها المعلّم لمعرفة المكتسبات القبليّة، والمستوى التّعليمي لدى المتعلّمين، هذه الخطوة ضروريّة كمرحلة تحضيريّة للمتعلّمين لتمثّل الجديد من الدّروس مستقبلا.
كما أنّ تدرّج المتعلّمين في المسار التعليمي التّعلّمي، لا يكون إلا بمرافقة التّقويم التّكويني، إذ هذا الأخير هو رفيق المتعلّمين، ووسيط بين ما هو متحقّق من تعلّم آني، وبين ما هو متوقّع تحقّقه مستقبلا، وبفضله يسير المتعلّم بخطوات ثابتة تقرّبه إلى استكمال تحقيق الكفاءات المنشودة.
ذلك أنّ إصدار الحكم على نجاح أو إخفاق العمليّة التّعليميّة التّعلّميّة في تحقيق الكفاءات الختاميّة لا يتمّ إلّا من خلال التّقويم الختامي، الذي يعدّ ضروري لاتّخاذ القرارات وإستصدار الأحكام المنصفة اتّجاه مستوى المتعلّمين أو العمليّة التعليمية ككلّ، وتؤخذ هذه القرارات والأحكام على أنّها التّقييم النّهائي لمكتسبات المتعلّمين، حيث يعتمدها المعلم ككفاءات أدنى (مدخلات) للمتعلّمين، يبني على أساسها التّعلّمات الجديدة في بداية كل فصل أو سنة دراسيّة.
والمراقبة لمراحل سير العمليّة التّعليمية أو ما يسمى بمراحل الدرس اللّغوي، يلاحظ أنّ أنواع التّقويم التي تتخلل العملية التعليمية تأخذ منحا متدرّجا صعودا بحسب الصعوبات التي تواجه المتعلمين في المواقف التعليميّة، فكلّما يجري الاشتغال على مراحل أعمق وأعقد من عمليات التّعلّم، يسخّر التقويم نوعا من أنواعه لتذليل الصعوبات والعقبات التي تتخلّل كلّ مرحلة من مراحل التّعلّم، حيث ينتقي المعلّم لها أنواعا من الأنشطة، تناسب كل مرحلة من مراحل سير العملية التعليمية.
ويعني ذلك؛ أنّ التقويم بأنواعه المختلفة يؤدي وظيفة تكوينيّة، إضافة إلى وظيفته التّقليدية الممثّلة في تقييم المكتسبات وإصدار الأحكام واتّخاذ القرارات، إذ لا يمكن للمعلّم أن يرتقي بتفكير المتعلّمين، إلاّ بعد أن يبدي المتعلمون كفاءة وقدرة في تجاوز الأنشطة التعليمية والتقويميّة التي تعترضهم، فيكونون بتجاوزهم لها قد أبانوا على استيفاء الكفاءة المنشودة، مما يؤهّلهم لمستويات أعلى في مسارهم التكويني.
2.1. ترتيب وتصنيف الأنشطة الصفيّة
وفي هذا الإطار يمكن ترتيب الأنشطة التعليميّة التّعلّميّة للّغة العربيّة في طور التّعليم المتوسّط على النّحو الآتي :
-
أنشطة قبلية : وهي أنشطة تركّز على تشخيص المكتسبات القبليّة للمتعلّمين؛ لأجل تثمين ما صحّ منها وتعزيزه، ومعاينة ما يكتنفها من ضعف وقصور وتشخيصه، إضافة إلى تحديد مكامن الصّعوبات لدى المتعلمين والعقبات التي قد تعترض عمليّة التّعلّم وتذليلها، وهذا ما يطلق عليه التّقويم التّشخيصي، إذ يتّجه المعلّم إلى التّفكير في فرضيّات العمل، والتخطيط من أجل معالجة المشاكل التي يكتشفها أثناء عمليّة التّشخيص لمعالجتها، لإعداد وتأهيل المتعلّمين بعد ذلك لاستقبال القادم من المكتسبات.
-
أنشطة مصاحبة : ونعني بالأنشطة المصاحبة أنشطة البناء والاستثمار، وهي مرحلة ثانية في إستراتيجيّة التّعلم البنائي؛ تأتي بعد تقييم المعلّم لمكتسبات المتعلّمين القبليّة (التقويم التّشخيصي)، ليقبل على بناء المتعلّمات الجديدة، وتبدأ عادة بقراءة نموذجيّة تستهدف قياس مهارة السّماع والفهم لدى المتعلّمين لتنشيط الذاكرة وجذب الانتباه والدّفع بالمتعلمين إلى خوض غمار التعلّم والتّحصيل، وتقع الأنشطة المصاحبة في فترة زمنية وسيطة، يبدأ فيها المعلم بإحداث بعض التغييرات في سلوك المتعلّمين وتقويمه على نحو يسهّل عليه بلوغ الأهداف التعليميّة المرجوّة. ويستعين في ذلك بأسئلة الفهم والمناقشة المتعلّقة بنوع النّشاط - فهم المنطوق، أو فهم المكتوب، أو الظواهر اللّغويّة، أو التذوّق النّصي- بوضعيات لمشكلات تعليميّة مرحليّة ذات طبيعة تقويميّة.
-
أنشطة بعديّة : وهي في العادة مرحلة تأتي في ختام مساق التّعليم، يُمارس فيها تعلّم إدماج المكتسبات الجديدة لاستكمال التعلّم وتجويده وهي فترة زمنية محدّدة، يتدرّب المتعلّمون فيها على عمليّة الإدماج في وضعيّة تسمّى « وضعيّة إدماج المكتسبات »، وبعدها يشتغل المعلّم على تقويم مستوى الكفاءة التي تكوّنت لدى المتعلّمين في وضعيّات تسمّى وضعيّات تقويم الإدماج (تقويم ختامي)، تعطى في شكل واجب منزلي، ويشير أحمد الخطيب إلى معايير اختيار الأنشطة التّعليميّة إلى المواصفات التّالية :
-
أن تختار الأنشطة بحيث يمكن للمعلّم الاستعانة بها في تنمية الكفاءة.
-
أن تشمل المادّة العلميّة على القرارات الخارجيّة، وأن تشير إلى بعض الأنشطة الجماعيّة.8
ومن خلال عرض تصنيف وترتيب الأنشطة يجد البحث أنّ هناك تداخلا بين أنشطة التّعليم والبناء وأنشطة التّقويم، وهذا يدلّ على أنّ التّقويم هو إجراء يرافق العمليّة التّعليميّة التّعلّميّة، وهو كذلك جزء منها لا ينفكّ عنها، فمسار التّقويم يأخذ نفس مسار أنشطة التّعلّيم، تقويم قبلي(تشخيصي)، تقويم تكويني ( بنائي )، تقويم بعدي ( ختامي)، ويمكن تلخيص ذلك في المخطّط التالي :
وممّا سبق يمكن القول إنّ تصنيف وتوزيع الأنشطة التّعلّيميّة والتّدريبات التّقويميّة ضمن المخطّط العام للأنشطة الصفيّة ليست عمليّة اعتباطيّة، وإنّما هي عمليّة موضوعيّة تخضع لمعايير ومقاييس تنظيميّة وعلميّة، تضمن الاستمراريّة والتّكامل بين عناصر الأنشطة التّعليميّة والتّقويميّة، لذلك فإنّ تحديد مخرجات التّعلّم يسبقه تحديد أرضيّة المدخلات، التي سينطلق منها المتعلّم ليبني عليها مكتسبات جديدة، وتحديد أرضيّة المدخلات يكون على أساس الكفاءات الأساس الأدنى، التي نجح المتعلّم في تحصيلها في مشواره التّعليمي السّابق، كما أنّ توزيع الأنشطة التّعليمّية والتّقويميّة يجب أن يكون في شكل متكامل ومترابط ومتسلسل، يساعد المتعلّم على تنظيم وبناء المكتسبات استعدادا للتّعلّمات الجديدة، ويحافظ كذلك على التّتابع والتّدرّج في المراحل التّعلّيميّة على نحو يسهّل على المتعلّم تكوين الكفاءة الختاميّة المستهدفة بمعايير الجودة والنّوعيّة.
« وإذا كنّا نعمل على تقويم التّفكير عند الطالب بأسئلة ومهمات، فلابدّ من أن يتمثّل التّفكير في مستويات محدّدة في معايير يعبّر عنها عموما في أهداف التّعلّم أو نصوص المناهج الدّراسيّة المعتمدة لدى الإدارات التّربويّة في المناطق التّعليميّة ».9
3.1. الأهداف التّربويّة ومستوياتها
اختلفت معاني الهدف في اصطلاح التربية والتعليم وتعدّدت تعريفاته، منها من عرّفه على أنّه « سلوك أو أداء يعبّر التّلميذ من خلاله على قدرته ليُعترَف له بكفاءة معيّنة » (Louis Bernard Gossot,1979 )، ومنها من اعتبره « تغيير يصاغ في عبارات خاصّة ويكون صالحا ومرغوبا فيه، كما يمكنه أن يتحقّق على مستوى سلوك المتعلّم، وهذا التّغيير يرجع إلى التّعليم الذي تلقاه المتعلّم والذي نريد به أن يكتسب سلوكا جديدا أو يتقن سلوكا مكتسبا في السابق » (De corte, E, 1990, p50)« 10، ويمكن تصنيف الأهداف التّربويّة إلى نوعين :أهداف عامّة وأهداف خاصّة.
-
الأهداف العامّة: «الأهداف في هذا المستوى واسعة النّطاق، عامّة الصّياغة تتحقّق عن طريق عمليّة تربويّة كاملة كأهداف مرحلة تعليميّة أو برنامج تعلّمي كامل، وتتضافر فيها عدد من المواد الدّراسيّة، تحقيقها وبلوغها يستغرق وقتا ليس بالقليل. 11».
-
الأهداف الخاصّة: «ويشار لهذه الأهداف بالأهداف الخاصّة، حيث أنّها ترتبط بمقرّر دراسي معيّن أو بوحدة تدريسيّة وهي أهداف قصيرة الأمد تحدّد بدقّة وتوضّح ما يجب أن يتعلّمه المتعلّم من دراسة مقرّر معيّن أو من القيام بنشاط معيّن، وتكون صياغة الأهداف التّعليميّة أكثر تحديد وتخصيصا من المستوى السّابق. حيث تتحوّل الأهداف إلى وصف سلوك نوعي يحدّد الأداء النّهائي الّذي يصدر عن التّلاميذ الّذين ينجحون بتعلّم السّلوك المطلوب. 12»
وفيما يخص التقويم «يمكن تقييم الأهداف والغايات الناتجة عن السياسة التعليمية بطريقة موضوعيّة نسبيا فيما يتعلّق بتماسكها، فيما يتعلّق بهذه السياسة التعليميّة من ناحية، ووجهة نظر قيمتها الوظيفية من ناحية أخرى.» 13
2. صنّافة بلوم للأهداف المعرفية وأقسامها
«اهتمّ علم النّفس المعرفي بدراسة مفصّلة للعمليّات العقليّة المعرفيّة، الّتي يحتاجها الإنسان في أثناء اتّخاذه للقرار، حيث ظهرت الحاجة إلى الانتقال من دراسة العلاقة بين المثير والاستجابة إلى التّركيز على العمليّات العقليّة المعرفيّة الّتي يستخدمها الإنسان في أثناء حصوله على المعرفة من جانب، والّتي تظهر فيما بعد في شكل مظاهر للسّلوك الإنساني من جانب آخر».14
يتضمّن المجال المعرفي مستويات عقلية يمكن توضيحها على النّحو التالي 15
-
مستوى المعرفة Knowledge: يقوم على تذكّر المادّة الّتي يتعلّمها التّلميذ واستحضارها من الذّهن أو التّعرّف عليه من بين مجموعة إجابات نقدّمها له، وتشمل معرفة أو تذكّر تفاصيل المادّة، ومصطلحاتها الفنيّة والحقائق والمبادئ والتّعميمات والنّظريات الّتي تحتويها المادّة ويتطلّب هذا المستوى استحضار العقل وشحن الذّهن وتدريب الذّاكرة لاسترجاع المعلومات المطلوبة.16 «ويشير (أبو زينة- 1992) أنّ المعرفة تعني تذكّر المعلومات الّتي تعلّمها التّلميذ سابقا، أي استدعاؤها من الذّاكرة أو التّعرّف عليها.» 17 «ويمثّل هذا المستوى أدنى مستويات القدرة العقليّة، بمعنى أنّ المعرفة على هذا المستوى تعتبر أدنى النّواتج التّعليميّة في المجال المعرفي ومع ذلك فإنّها درجة أساسيّة وضروريّة لباقي درجات المعرفة الّتي تعلوها، فليس معنى أنّها درجة دنيا أن يغفلها المدرّس في أهداف تدريسه ولكن المهم ألاّ تتوقّف أهدافه عندها، ومن الأفعال المستخدمة في هذا المستوى: يذكر، يعدّد، يميّز، يسترجع، يسمّي، يختار، يعيّن.» 18
-
الفهم Comprehension : يعرّف «جرونلند» الفهم على أنّه القدرة على إدراك معنى المادّة أو النّص الّذي درسه الطّالب وبحيث لا يتجاوز حدود ذلك النّص، كما يذكر «بلوم(Bloom, 1956) » أنّ الفهم يتضمّن التّرجمة والتّفسير، ومن الأفعال السّلوكيّة في هذا المستوى : يترجم، يحوّل، يوضّح، يفسّر، يغيّر، يتنبّأ، يستقصي.
-
التّطبيق Application: يبيّن «جرونلند» و «لين (Gronland and Linn, 1990)» أنّ التّطبيق استخدام ما تعلّمه الطّالب من مفاهيم، أو إجراءات أو مبادئ أو تعميمات أو غيرها في مواقف جديدة، ومن الأفعال السّلوكيّة في هذا المستوى: يطبّق، يعمّم، ينظّم، يستخدم، يحسب، يعيد صياغة، يحلّ، ينتج.
-
التّحليل Analysis : يعرّف «بلوم» (Bloom , 1956) التّحليل على أنّه تحليل المادّة إلى العناصر المكوّنة لها وتتبّع العلاقات بين الأجزاء والطّريقة الّتي نظّمت بها. ومن الأفعال السّلوكيّة في هذا المستوى: يوضّح، يبحث، يبوّب، يلخّص، يشير، يختار، يحلّل، يقارن، يجزّئ.
-
التّركيب Synthesis : يشير «جرونلند» و«لين (Gronland and Linn, 1990) »إلى أنّ »بلوم« يعرّف التّركيب أنّه وضع العناصر والأجزاء معا بحيث تؤلّف كلاّ واحدا، وهي عمليّة تتعامل مع العناصر والأجزاء وربطها معا بطريقة تجعلها تكوّن نمطا أو بنية لم تكن موجودة من قبل بوضوح، ومن الأفعال السّلوكيّة في هذا المستوى : يكتب، يخبر، ينتج، يستحدث، يوثّق، يؤلّف، يصنّف، يلخّص، يعيد تنظيم.
-
التّقويم Évaluation: ويعرّف» بلوم «(Bloom, 1956) التّقويم على أنّه إصدار أحكام لغرض ما حول قيمة الأفكار والأعمال والأساليب والمادّة...الخ، ومن الأفعال السّلوكيّة في هذا المستوى: يحكم على، يناقش، يثبت ن يختبر، يقرّر، يوازن، يميّز، يبرهن، يفرّق.
يوضّح الشّكل رقم (3) التّرتيب الهرمي واتّجاه مستوى الصّعوبة من التّعقيد حيث يعتبر كلّ مستوى متطلّبا سابقا للمستوى الّذي يليه.
أهميّة توظيف صنّافة بلوم للأهداف المعرفيةّ وآليّة اشتغالها في ممارسة التقويم الصفّي التكويني
«يمكن استخدام تصنيفات بلوم Bloom لمساعدة المعلّم على تطوير الأهداف والنّتاجات التّعلّميّة وأنشطة التّعلّم على المستويات العالية في المجال المعرفي، وفي الوقت ذاته، يمكن المحافظة على مناخ أكاديمي بمعايير عالية مناسبة في غرف الصّفّ، وهذا المناخ يمكن أن يعزّز وينمّى من قبل المعلّم الّذي يدير الصّفّ بنمطيّة رجال الأعمال، فيحدّد الأهداف، ويساعد الطّلبة على إنجازها وتحقيقها وذلك باستخدام (وقت الصّفّ) استخداما مثمرا ومنتجا. «19
وينطوي تكييف أسئلة الاختبارات سواء الصفيّة منها أو التّحصيليّة وفق نموذج المستويات العقليّة لصنّافة بلوم المعرفيّة على أمرين مهمّين؛ الأمر الأوّل هو أهميّة تصنيف الأسئلة بالنسبة للمعلّم، حيث يستفيد منه في توجيهه نحو التّدرّج في قدرات المتعلّمين، فيبدأ بالأسئلة الاسترجاعيّة والّتي تكون غالبا لصيقة بالوضعيّة الانطلاقيّة للدّرس اللّغوي، وتكون بذلك حلقة واصلة بين المعلم والمتعلّم عند التواصل، ومن جهة أخرى تربط هذه الأسئلة بين المكتسبات القبليّة للمتعلّم، وما هو مقبل على تعلّمه، حيث تعدّ المكتسبات القبليّة للمتعلّمين الأرضيّة الّتي يبني عليه المتعلّم المكتسبات الجديدة التي سيكتشفها في الخطوات اللاحقة ضمن السيرورة التعليمية.
وتكمن أهميّة الأسئلة الاسترجاعيّة كذلك في أنّها أسئلة تساعد على مد قناة التّواصل بين الأطراف الفاعلة في العملية التعليمية التعلّميّة (معلم/متعلّم/ معرفة)، كما تحفّز المتعلّمين وتدفعهم إلى الإقبال على التّعلّم وتشدّ انتباههم إليه، نظرا لأنّها أسئلة سهلة المأخذ ولا تستدعي الإجابة عنها إجهادا فكريّا.
وتعدّ المرحلة الانطلاقيّة في التّدريس مرحلة مهمّة للغاية ضمن مدخلات التّعلّم، يبني عليها المعلّمون الخطوات اللاّحقة التي تليها، سواء في مرحلة البناء والتكوين أو في مرحلة تقويم التعلّم ونواتجه، وهي تشبه في أهميّتها وتأثيرها وضعيّة الانطلاق لدى المتسابقين على مضمار السباق، إذ أنّ المتعثرين في مرحلة الانطلاق لا ينجحون في الفوز بالمراتب المتقدمّة، ويخفقون في تحقيق أهدافهم المرجوّة. لذا فضبط مسار التّعلّم يرتبط أشدّ الارتباط بحال مرحلة الانطلاق، إذ تؤثّر في الجانب التعليمي وما يتعلّق به من طرائق، ومحتوى، وتقويم، وفي الجانب التّعلّمي وما يرتبط به من تحقيق الأهداف البيداغوجيّة ونواتج التعلّم الفعلي.
ففي الجانب التّعليمي يؤدي نجاح المرحلة الانطلاقيّة إلي ما يلي:
-
تذليل الخطوات اللاّحقة للدّرس بالنّسبة للمعلّم.
-
تسهّل للمعلّم تطبيق الطريقة المناسبة للتّعليم.
-
تمكّن المعلّم من فحص وتشخيص المكتسبات القبليّة والقدرات الذّهنيّة للمتعلّمين.
-
تساعده على انتقاء أنسب الأنشطة التّعليميّة الموصلة لتحقيق الأهداف التعليميّة.
-
استشراف جيّد لطبيعة المتعلّمين ومستوى مداركهم المستقبلية (سواء بالنّجاح أو الإخفاق).
-
تكشف عن أنماط التعلّم لدى المتعلّمين.
وأمّا الجانب التّعلّمي فنجاح المرحلة الانطلاقيّة يؤدّي إلى:
-
الإعداد الجيّد للمتعلّم واستعداده للمراحل اللاّحقة من المسار التّعلّمي.
-
تتيح للمتعلّم التّدرج في التّعلّم.
-
تعين المتعلّم على استدراك مكامن القصور والضعف لديه لإصلاحها.
-
ترفع الغموض وتزيل المبهم من الأفكار وتجعل عملية التعلّم أوضح.
-
تمنع الأفكار المسبقة - التي تعيق عن التعلّم- من التسلل إلى ذهن المتعلم.
من خلال ما سبق يدرك المتأمّل والمشتغل بالحقل التربوي، أهميّة المرحلة الانطلاقيّة التي يؤسّس المعلّم من خلالها خطوة تمهيديّة مهمّة لبقية تعليميّة اللّغة العربيّة؛ ضمن الحصّة التعليميّة الواحدة، أو مجموع الحصص التي تندرج تحت مسمى المقطع التعليمي الواحد للبرنامج الدّراسي، فالمرحلة الانطلاقيّة هي مرحلة يشتغل المعلم فيها على استذكار وتقييم الفهم –المكتسبات القبليّة – الذي سيفتح الباب للمتعلمين لولوج مرحلة التعلّم المتعلق بالدرس الجديد. حيث يصبح تقويم المكتسبات في هذه المرحلة حلقة واصلة بين المكتسبات القبلية للمتعلّم وما هو مقبل على تعلّمه، ومدخلا يسهل على طرفي العملية التعليمية –المعلم والمتعلم- تذليل العقبات أثناء التدريس، وملمحا للمعلّم واضحا لا لبس فيه، يسترشد به لينتقي ما يناسب المرحلة من أسئلة وأنشطة ومهمّات، لتحقيق ما هو مبرمج من أهداف تعلّيمية، ذلك أنّ المرحلة الانطلاقيّة هي الأساس الذي يتمّ عليه بناء المتّعلّمات الجديدة.
ورغم أهميّة هذه المرحلة في إنجاح العملية التعليمية، لا يمكن «أن ننسى أنّ الوقت المخصّص لدراسة اللّغة العربيّة قصير، لا يتّسع إلى ما يطمح إليه المربي من تكوين الذّوق الأدبي لدى التّلاميذ.»20 حيث لا ينبغي أن يستنفذ الوقت المخصص لها - الذي لا يتجاوز في معظم الأحيان عشر دقائق على الأكثر- وإلاّ سيكون عامل الوقت عثرة في سير الدرس وتحقيق أهدافه، وعليه يلتزم المعلمون بالتقيد بمخطّط جذاذة التدريس التي توضّح له مراحل تنفيذ العملية التّعليميّة التّعلّميّة والوقت المستغرق لكل مرحلة من مراحلها.
وبعد خروج المعلم من المرحلة الانطلاقيّة يدخل في مرحلة بناء التّعلّمات والاسثمار، التي تتطلّب في بدايتها بناء الفهم - هنا الفهم متعلق بالمكتسبات الجديدة- لدى المتعلمين، وتختلف آليات وأساليب بناء الفهم بحسب طبيعة النّشاط المقدم، ففهم المنطوق يختلف عن إنتاج المكتوب، كما أنّ تعليم القواعد النّحوية والقواعد البلاغيّة يختلف عن تعليم النصوص الأدبية والتعليميّة، فلابد أن تناسب الطريقة التعليميّة طبيعة النشاط المقدّم.
ولذلك تبنّي المقاربة النّصيّة في تعليميّة اللّغة العربيّة والاهتمام بالبعد التّواصلي في تكوين المتعلّمين أعطى للنّص إمكانات واضحة جعلت منه مشروعا مؤهلا لتحسين تعليمها وتعلّمها، يضاهي الواقع التّداولي للّغة ويجعل منه عامل إثراء في مجالات متنوّعة المعرفيّة منها، والوجدانيّة، والمهاريّة، فالنّص محور تدور حوله نشاطات فهم المنطوق والقواعد اللّغوية والتذوّق النّصي وإنتاج المكتوب، وعليه فإنّ
«استثمار النّصوص يركّز على توفير شروط وإنماء ملكات المتعلّم وقدراته العقلية، لتكون له وسائل وتقنيات تعينه على بلوغ غايته، والغاية هي تلقي المتعلّم كيفية تبليغ اللّغة، وأن يطوّر المهارات القرائية لاستخراج المحتوى من خلال اللغة التي تعبّر عنه، فأهميّة تدريس النّصوص لا تكمن في اللّغة أو في المحتوى فحسب وإنّما تكمن فيهما معا. « 21
وعادة يبدأ المعلّمون في مرحلة البناء والاستثمار بقراءة النّص التعليمي أو الأدبي أو الأمثلة المتعلّقة باستخراج الظواهر اللّغوية ودراستها، والقراءة هنا تعدّ مدخلا لبناء الفهم العام للنّص قبل الغوص في الفهم المعمّق، الذي يحتاج فيه المتعلّم إلى التطبيق على مختلف الأنشطة والمهمات التي تساعده على الإدراك العام للنّص، حيث تفتح مرحلة بناء المتعلمات بابا لاستقبال المعارف الجديدة، بعد أن يكون المتعلّم قد هيّئ نفسيّا وفكريّا لتلقي المكتسبات الجديدة، ليرتقي من خلالها في مستوى معرفي أعلى وأعقد يتطلّب بذل جهد فكري في مستوياته العليا.
وتعدّ أسئلة الفهم والمناقشة والأسئلة الشفهية أهم وسيلة للتواصل مع النّص التعليمي، وتعتبر أداة من أدوات التقويم التّشخيصي والتكويني، وهي تضارع أسئلة الاختبارات التّحصيليّة التي تلي النّص الممتحن فيه وتختلف عنها كونها متعلقة بنشاط تعليمي من الأنشطة التعلّم الصفيّة، عكس أسئلة الاختبار التي تنتقى وفق معايير ومقاييس الأسئلة الاختباريّة، ولا تتعدى في معظم الأحيان الخمس أو ست أسئلة، وتتنوّع هذه الأخيرة بحسب الغاية المرجوّة منها والنّشاط المقرّر لها، وتكمن أهميّتها في كونها تفتح المجال للمتعلّم لتعلّم التّعبير الشّفوي بممارسته، وإبداء أفكاره، مع توظيف مهاراته اللّغوية والأدائية، ومهاراته الإدراكيّة في مستوياتها المعرفية المتباينة؛ من تذكر، وفهم، وتطبيق، وتحليل، وتركيب، وتقويم.
ويمكن لأسئلة الفهم والمناقشة توفير تغذية راجعة عن التّعلّمات وطرائق تفكير المتعلمين، وأنماط تعلّمهم، إذا التزم المعلمون بمخطّطات تدريس تراعي توزيع الأسئلة وتضبطها وفق مستويات الأهداف المعرفيّة لصنّافة بلوم، بذلك يضمن المعلمون التوازن بين أسئلة المستويات المعرفيّة بقسميها الدنيا والعليا من غير تفريط ولا إفراط.و تراعي مبدأ التدرج في المستويات التعلّمية دون الإخلال بها أو اختزال مراحلها. وتعتبر مهارة طرح الأسئلة مهارة استراتيجيّة في بناء الدرس التعليمي، حيث يمكن الحكم على المعلّم من خلال طريقة صياغته لها ومهارته في إعدادها وتنفيذها، فكلّما كانت مهارة المعلّم مرتفعة في طرح الأسئلة، كلّما كانت مشكلات التعلّم أوضح لديه، واستشرافه لما يمكن أن يعترضه من عقبات في مسار التدريس صائبا، بذلك تتوافر للمعلّم الحلول اللازمة ويضمن حسن سير العمليّة التعليميّة وجودة مخرجاتها وسلامتها من العيوب.
وقبل الانتقال إلى مستوى التطبيق ينبغي الإشارة إلى أنّ التذكر والفهم يشكّلان القاعدة الأساس في سلم المستويات المعرفية لصنّافة بلوم ورغم تذيّلهما السلّم فإنّ ذلك لا ينفي عنهما الأهميّة في العمليّة التعليميّة التعلّميّة؛
«فالفهم كنشاط عقلي لا ينفصل عن باقي الأنشطة العقليّة كالذاكرة والتذكّر، ومتى أمكن تصنيف عملية عقلية أو تحديد الاستجابة الدالة عليها في باب الفهم، فهذا يعني أنّ الفهم هو الطابع الغالب فيها، والخطوة الأرقى في تلك العمليّة.22»
والمتعلم الذي يفهم الكلام والنصوص فهما صحيحا، فإنّنا نستطيع قياس الفهم لديه عن طريق:
-
تعيين معاني الكلمات أو غيرها من التراكيب.
-
تفسير الاستعارات والتراكيب المجازيّة، وإعطاء معانيه الواضحة.
-
تفسير الجمل والفقرات، والتعبير عن الفكرة بطرق جديدة.
-
إدراك ملاءمة المفاهيم والمبادئ العامة للأوضاع الجديدة، والتمثيل بها أو إبراز انطباعاتها عليه.
-
الكشف عن المشكلة الرئيسيّة التي هي مدار البحث.
-
الكشف عن الجوانب، أو الأفكار التي وصل إليها الكاتب.
-
متابعة تسلسل الفكر في الترابط المنطقي.
-
اشتقاق أو استخراج؛ الأفكار والمعاني التي وصل التي ينطوي عليها النّص ضمنا وتصريحا.
وبعد أن يستوفي المعلم أنشطة المناقشة والفهم يدخل مرحلة بناء الاستثمار ويبدأ بأنشطة التطبيق، ويقصد بالتطبيق «استعمال التّمثّلات المجرّدة وتوظيفها في حالات خاصة وجديدة» 23؛ أو هو آلية من آليات التحويل المعرفي الذي يعدّ هدفا أساسيا في تكوين الكفاءة ضمن المقاربة بالكفاءات والمقاربة النّصيّة، التي تشتغل على مقاربة النصوص وتكوين الكفاءة النّصيّة. ومعنى التّمثّلات المجرّدة؛ ما يقع من تصوّر وفهم نظري في ذهن المتعلّم، هذا النّوع من الفهم تختلف طبيعته ومستوياته من متعلم إلى آخر، ويلجأ المعلم إلى التطبيق على أنشطة تعليميّة تقويميّة في شكل وضعيات مشكلة يقبل المتعلمون على حلّها، وهذا الإجراء يوافق ما «أشار إليه برانسفورت وستين إلى أنّ حل المشكلة هو الآليّة العامة وراء جميع أشكال التفكير بما فيها التّذكّر» 24.
والمستكشف الفاحص لأنواع الوضعيات المشكلة التعليميّة التقويميّة؛ يجدها وضعيات متدرجة في الصعوبة والتعقيد لتسهيل الانتقال من مرحلة تعلّميّة إلى أخرى بتدرج وسلاسة، فلا ينبغي أن تكون الأنشطة الموجّهة للتّطبيق -الذي يلي الفهم - أنشطة معقّدة وصعبة، إذ يجب أن تناسب طبيعة المرحلة في المسار التّعلّمي، وتحترم مبدأ التّدرّج في التّعلّم الذي يقابله التّدرّج في مستويات الأنشطة التّعليميّة. حيث لا يمكن أن نرتقي بمستوى المتعلّمين، إذا لم نرتق بمستوى التفكير لديهم إلى مستويات التفكير العليا، وهذا بدوره يحتاج إلى أنشطة تطبيقيّة تستثير البنى الذهنية العليا، من قبيل الأسئلة الاستدلاليّة والتعليليّة والأسئلة المفتوحة النّهاية، أو الوضعيات المشكلة التي تتطلّب حلولا إبداعيّة وفنيّة مبتكرة، لهذا فالتطبيق ليس مهارة عقليّة فحسب، بل هو كذلك آليّة ووسيلة تعليميّة تقويميّة لاستثارة البنى العقليّة؛ سواء كانت بنى عقلية دنيا أو بنى عقليّة عليا، حيث تتجلّى المهارة المعرفيّة في الكيفية التي تُحلّ بها هذه التّطبيقات، التي تكشف عن نمط التعلّم لدى المتعلّم ومساق تفكيره، فالتطبيق يمنح الخبرة للمتعلّم أثناء التعلّم، والخبرة تتطوّر بالممارسة، وكلّما أثري المتعلم من الخبرات صقل تعلّمه بتقوية حسن استخدامه للمستويات العليا من التفكير، فيتكوّن ما يسمّى الكفاءة في المقاربة بالكفاءات.
ويعزّز وجهة النّظر السابقة الذّكر؛ أنّ بلوغ المتعلّم مستوى الحكم والنّقد والتّقويم يخرجه من مرحلة التعليم والتعلّم إلى مرحلة التقويم والإبداع، بهذا يمكن تصوّر مفهوم التطبيق على أنّه أنشطة تعليميّة تعلّميّة تقويميّة محدّدة الغاية والأهداف، كما يمكن تصوّره مهارة عقليّة إذا حوّلنا مفهومه للشق الثاني أي؛ مجموع الحلول التي ينتجها المتعلمون، حيث يمكن تصنيف هذه الحلول من شاكلة الحلول الاسترجاعية أو من شاكلة الحلول الإبداعية المبتكرة، أو بمعنى آخر الحلول ذات الطبيعة الاسترجاعيّة المنحصرة في المستويات الدنيا للتفكير(التذكر، والفهم)، والحلول ذات الطبيعة إبداعيّة؛ التي تستثير بنى التفكير العليا التي يحصرها بلوم في التحليل، والتركيب، والتّقويم.
ولتوضيح الفكرة يمكن الاستعانة بالمخطّط التالي:
وترتبط مهارة التّطبيق من ناحية الضّعف والقوّة ارتباطا وثيقا بدرجة حضور أو غياب المهارات العقليّة الأخرى؛ سواء كانت هذه المهارات دنيا كمهارتي الاستذكار والفهم، أو مهارات عليا كالتحليل والتركيب والتقويم، لذلك يصادف المعلّمون في حياتهم العمليّة نوعا من المتعلّمين ممّن له قدرة فائقة على التّكيّف مع مختلف المهام والوضعيات المشكلة التعليميّة والأسئلة التي تصادفهم، بحيث تكون لهم مهارات فائقة في التحليل والتأليف والتقويم، فلا يحتاج هذا النوع من المتعلمين الكثير من المعلومات ذات الطبيعة الاسترجاعية، وإنّما يعتمدون في حلولهم على مهاراتهم المعرفيّة العليا، فتوفّي حلولهم المطلوب منهم.
وبالمقابل يوجد نوع آخر من المتعلّمين يعتمد في حلوله للمشكلات على ما يستذكره، بغض النّظر عن طبيعة الأسئلة إن كانت استرجاعيّة أو وظيفيّة؛ تتطلّب تحويلا للمعرفة وإعمالا للبنى العليا من التّفكير، فهذا النوع من المتعلمين لا يمكن لهم أن يطوّروا قدراتهم الفكريّة وليست لهم القدرة على التّعلّم الذاتي، وإعمال الحلول المطلوبة للوضعيات المشكلة المختلفة، ويمكن إرجاع غلبة النمط الاستذكاري في التعلّم لأسباب مختلفة ومتنوّعة منها:
-
أسباب نفسيّة : حيث يمكن أن ندرج تحتها الخوف من الرسوب أو الخوف من نيل العلامة المتدنيّة بفعل الضغط الاجتماعي، سواء كان من الأولياء أو من الأقرباء والزملاء. وقد يتعلّق الأمر بضعف شخصيّة المتعلّم فيكون من النّوع الذي لا يثق في قدراته الفكريّة والتّحصيليّة.
-
أسباب فكريّة : أحيانا يؤدي الاعتقاد الخاطئ عن التعلّم إلى ترسيخ النّمط الاستذكاري، كأن يظنّ المتعلم أنّ الإجابة الكاملة تكمن في النّقل الحرفي لما يكتبه المعلّم أو يقوله، وهذا السبب يقع فيه الكثير من الممتحنين.
-
أسباب بيداغوجيّة : ويتسبّب فيها المعلم الذي يغلب في أسئلته التعليميّة وأسئلته التقويميّة- ومنها الاختبارات التّحصيليّة- الأسئلة الاستذكاريّة التي تقيس ما يحفظه المتعلّم، أو التي تكون بنودها غير متوازنة فيغلب عليها طابع الاسترجاع. وقد يرجع السبب في ذلك إلى نوع التكوين الذي خضع إليه المعلّم، أو إلى ميله للأسئلة الاسترجاعية السهلة لاختصار الوقت والجهد؛ باعتبار أنّ أسئلة التفكير تستهلكهما.
وفي هذا الصّدد، تبيّن الدراسات التي قام بها الباحث برانسفورد Bransford (1986 م)، أنّ الدّرايات المكتسبة بهذه الطريقة هي دّرايات ميّتة وليس بمقدور التلاميذ تجنيدها بنجاح في حلّ المسائل. 25 إنّ التفكير في مستوياته العليا كما تقترحه أليكساندرا ورفاقها (Alexander et, al, 2011) هو
«اشتغال العقل بأفكار وأشياء، ومواقف بطريقة قياسيّة، محكمة، استقرائيّة، استدلاليّة، وعدا عن ذلك فهي تحويليّة، معبّرة عن توجّه المعرفة كمشروع مركّب يتطلّب جهدا، وابتكارا، وبحثا عن البيّنة، والعمل في نهج تأمّلي. »26
ويمكن اعتبارّ مقاربة التعلّم بالكفاءات خيارا استراتيجيا يخدم مجال إنماء المهارات العقلية العليا، فيما تقترحه بيداغوجيا الإدماج وحلّ المشكلات من أنشطة تعليميّة وتقويميّة تمثّل أنواعا من الوضعيات المشكلة تراعي في حلولها هذا المجال من التّعلّمات، ولأنّ
«كتابة أسئلة ومهمّات تقوّم بها التفكير في مستوياته العليا، يقتضي تصوّرا لأسئلة التّقويم ومهمّاته كمشكلات تستدعي حلولا، هذا التّصوّر يساعد في تأكيد أنّ الأسئلة والمهمّات التي تطرحها للطلبة تتطلّب حقيقة تحويل المعرفة كما تطلّبه تعريفنا للتّفكير في مستوياته العليا. »27
الخاتمة
إنّ التلاميذ وهم في المدارس هم المستقبل و«العالم يتغيّر بسرعة، وسيحتاج الطلبة إلى أن يطوّروا مهارات التّفكير العليا وأن يستخدموها طوال حياتهم ».28 وسيحتاج «المعلمون أن يعرفوا كيف يكتبون أسئلة ومهمات تستثير التفكير بمستوياته العليا في طلبتهم، مثل هذه الأسئلة والمهمات يجب أن تصبح وقائع يومية في صفوف الجيل القادم»29، حيث «تحتاج دراسة النّصوص إلى شرح وفهم وتحليل، ويجب أن تنال كلّ العناية من المدرس والطالب. »30، و«من دون شك أنّ الأهم لا يكمن في اختيار الكلمات أو التّعاريف، وإنّما في الإيجاد الفعلي لدى التلميذ لطرائق(ذهنية) متنوّعة؛ ولتمييز هذه الأخيرة، ينبغي تعيينها بدقّة؛ وهو الأمر الذي غذّى الانشغال الأكبر لدى بلوم. »31
لذلك «يعدّ تشجيع الطّلاب في مستويات التّفكير العالية كالتّطبيق، والتّحليل، والتّركيب، والنّقد، والتّقويم ممارسات ضروريّة لتعزيز معايير التّحصيل العالية وفي خطط وأسئلة المعلّم، فإنّ على المعلّم التّذكّر بأنّ معلومات التّذكّر والحفظ هي ضروريّة مبدئيا، إلاّ أنّها غير كافية لتعزيز نجاح الطّالب وتفكيره، بالإضافة إلى تأسيس معرفة أساسيّة، فإنّ الفرص لتحقيق المعلومات من خلال المهمّات والمشكلات، وتكوين الفرضيّات، وتحليل البدائل، وخلق البدائل الخياليّة يجب أن تكون متوافرة. »32