مقدمة
تشكل الدراسات الثقافية جانبا من الجوانب التي تعنى بالظاهرة الأدبية ونقدها حيث تجلب فيما بعد الحداثة، وبرزت من خلال حقل النقد الثقافي وكذا النقد الثقافي المقارن هذين المصطلحين أقاما بناءً منهجيا جديدا يتأسس على تحليل النصوص ودراستها في ضوء السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي، من هنا كان لزاما على النقد الثقافي أن تشكل آلياته الإجرائية حول مسألة الثقافة وأنساقها الظاهرة والباطنة من خلال تحليل الخطاب وتلقيه، إذ تتداخل القراءات وتتعدد التأويلات لإبداعات أصحاب النصوص بغية استنطاقها وتفكيكها.
نسعى من خلال هذه الدراسة إلى محاولة الكشف عن مختلف الأنساق المضمرة في مدونة « حليب المارينز » لعلي عاود باعتبارها نصا روائيا يزخر بحمولة ثقافية متنوعة تعكس الصراع الحضاري بين « الأنا » و » الآخر » و » الشرق » و » الغرب ».
محاولين الإجابة عن عدة تساؤلات أهمها ما مفهوم النسق المضمر؟ وما علاقته بالنقد الثقافي؟ وما هي تظاهراته في النص الروائي « حليب المارينز »؟ إلى أي مدى تبلورت صورة أمريكا عند العراقيين من خلال التجربة الروائية لعلي جواد؟
كان اختيارنا لهذه الرواية باعتبارها شاهد حي عن الأحداث التي وقفت للعراق جزاء الغزو الأمريكي مطلع الألفية الثانية.
من الجدير بالذكر أن البحث قد أفاد من الجهود العلمية للنقاد والدارسين ممن سبقوه في تناول الأنساق الثقافية وفي مقدمتهم « عبد الله الغداسي ».
1. الإطار العام للدراسة
1.1. تحديدات منهجية واصطلاحية
لابد لكل دراسة من استعراض أهم المفهومات الخاصة بموضوعها وذلك جريا على تسهيل القواعد العامة للدراسة نفسها، وكان لزاما علينا إعطاء تعريفات إيجازية ونبذة محددة عن بعض المفاهيم، إذ أن معرفة المفهوم على نحو سليم يغرز القيمة الإبسنتمولوجية للمفهوم من جهة، ويمنح المفهوم بعداً أنطولوجيا من جهة أخرى. ذلك أن حالة المعرفة والتطبيق التي أشرنا إليها من الناحيتين الإبستمية والأنطولوجية تجعل من الباحثين على دراية واضحة لحقيقة المفهوم وصدقية المعنى، إن عدمية الفهم تعني – بشكل آخر – تسريب التطبيق أو عدم بناءه علميا وبالتالي قد تعاني من إشكاليات كبيرة في مسألتي التفسير والتحليل.
1.1.1. الرواية
تعد الرواية من الموضوعات الجادة التي أثارت جدلا كبيرا في العالمين العربي والغربي، إذ أنها تمثل جنسا أدبيا كالشعر والقصة والمسرح وهلم جراً... غير أن هذا الجنس لم تتخذ معالمه بشكل دقيق ولم تستقر حدوده أيضا لأن الرواية حين تكون بوليفونية تتاح لها القدرة على مواكبة الزخم المعرفي والتطورات التي تشهدها الساحة الأدبية والمحلية والعالمية على حد سواء، ولكن قبل الخوض في غمار هذا الموضوع وجب علينا إعطاء تعريف بسيط عن الرواية، فالرواية حسب المعاجم آتية من (روى)، والحديث عن قوم رواة كأن نأمر أحدا فنقول له أنشد القصيدة يا هذا، ولا تقل أروها، ويقال : فلان روى فلانا شعرا، إذا رواه له حتى حفظه من كثرة الرواية عنه... ويقال أيضا رويته الشعر تروية أي حملته على روايته (منظور، د/ت، صفحة 361)
يفهم من هذا التعريف أنّ التعبير يكون بأسلوب مختصر ومضغوط كاستخدام الألفاظ والصور بشكل مكثف وموجز لتوصيل المعاني والأفكار للمتلقين.
أما الرواية في الاصطلاح تعرف على أنها :
« سياق حوادث متصلة ترجع إلى شخص أو أشخاص يدور ما فيها من الحديث عليهم، ففيها يعالج المؤلف موضوعا كاملا أو أكثر، فلا يفرغ القارئ منه، إلا وقد ألم بحياة البطل أو الأبطال في مراحلها المختلفة » (سلام، 2010، صفحة 20).
إذا فالرواية هي بشكل أو بآخر تمثل : « حكاية... وهذه الحكاية هي الكنز الذي نبحث عنخه جميعا منذ الميلاد وحكايات المهد، وما دامت تدب فيها الروحن فنحن في بحث دائم عن هذا الكنز » (خضر، 2007، صفحة 134).
يفهم من هذا الكلام أن الرواية هي سرد طويل للأحداث والتفاصيل الدقيقة وتوصيف للأماكن والشخصيات والأحداث.
تهدف الرواية –كغيرها من الأعمال الإبداعية الأخرى – إلى الكشف عن الحقيقة والمساهمة في تطوير الفرد والمجتمع وفق منظور المواقف الإنسانية، كما أنها تحمل إيديولوجيات حسب المبدع أو البيئة التي خرجت منها، أو التي تسعى للوصول إليها.
نستنتج مما سبق أن الرواية متصلة بالأحداث المختلفة سواء أكانت واقعية أو خيالية، ومن ثمة يخرج القارئ بتصور للواقع والحياة بفلسفة أو رؤية مختلفة عن الإنسانية.
2.1.1. النسق/ البناء
ترتبط فكرة النسق « System » ارتباطا وثيقا بمفهومات البناء الاجتماعي والنظم الاجتماعية، فهي في أبسط معانيها تشير إلى قيام هذه الوحدة الشاملة التي تتآلف من عدد كبير من العناصر والمكونات المتفاعلة على الرغم من كثرتها وتعقدها وتناقضها في كثير من الأحيان، فهي بذلك تقتضي ضرورة التسليم بأن كل جزء او عنصر من العناصر الداخلة في تكوين « الكل » - أيا كان ذلك الكل - يؤدي وظيفة معينة بالذات من شأنها الاسهام في تماسك هذا الكـل، فهي إذا تشير على ما يقول عـالم الاجتماع الأمريكـي الشهير « تالكوت بارسونز Talcott Parsons » (بارسونز، (13 ديسمبر 1902-08 مايو 1979))، إلى وجود نوع التساند أو الاعتماد المتبادل الذي يهدف على تحقيق وظائف معينة أيضا بين عدد من الأفراد أو الزمر الاجتماعية الذين يقومون بأدوار مرسومة محددة.
لقد أدى كل ذلك إلى الاهتمام بفكرة :
« النسق كفكرة مكملة ومرتبطة اشد الارتباط بمفهوم البناء الاجتماعي على أساس أن المجتمع نفسه يؤلف نسقا طبيعيا مكونا من أجزاء متفاعلة ومتساندة ذلك التساند الوظيفي الذي يميز الكل المتكامل المتماسك » (أحمد، 1967، الصفحات 1-3)
ومهما يكن من أمر فإننا نستخدم هنا كلمة النسق بمعناها البنيوي البسيط أو بالمعنى الأولى الذي يكون على أساس أنه يمثل البنية الأولية لكل ظاهرة اجتماعية أو نظام اجتماعي.
وهذا ما نقصده أيضا بمفهوم « نسق الأشياء » « The Order of Things » وذراتها ذات المعاني البسيطة جدا والتي لا يمكن تقسيمها أو تجزئتها إلى أشياء أصغر، فهي وفقا لهذا المفهوم تمثل إلى حد ما أبسط القضايا التي لا يمكن النظر فيما وراءها من قضايا أصغر.
ويرى « عبدالله الغذامي » أن
« النسق يتحدد عبر وظيفته وليس وجوده المجرد، والوظيفة النسقية لا تحدث إلا في وضع محدد ومقيد، وهذا يكوّن حتما تعارض بين نسقين أو نظامين من أنظمة الخطاب إحداهما ظاهر والآخر مضمر... » (الغذامي، 2005، صفحة 77)
بحي أن الحقائق لا تنكشف إلا بعد ذلك الصراع التأويلي للنصوص من أجل الوقوف على أدق تفاصيلها الغير ظاهرة.
3.1.1. النقد الثقافي
ارتبط النقد الثقافي بمختلف مجالات حياة الإنسان فقد عني « بنظرية الأدب والجمال والنقد والتفكير الفلسفي وتحليل الوسائط » (أيزابرجر، 2003، صفحة 30)، والنقد الثقافي في أبسط مفهوماته ليس بحثا أو تنقيبا في الثقافة،
« وإنما هو بحث في أنساقها المضمرة وفي مشكلاتها المركبة والمعقدة، وبهذا فهو نشاط إنساني يحاول دراسة الممارسة الثقافية في أوجهها الاجتماعية والذاتية، بل في تموضعاتها كافة، بما في ذلك تموضعها النصوصي ومن هنا يبتعد النقد الثقافي عن الأدوات المنهجية المستعملة في النقد الأدبي » (الخليل، 2012، صفحة 07)
ومن هذا التعريف تتضح لنا مهمة النقد الثقافي في كونه يبحث « عن الأنساق المضمرة في الإبداعات النصوصية بأدوات تختلف عن النقد الأدبي... » (الخليل، 2012، صفحة 07)، دون فصلها عن السياق التاريخي والسياسي والاجتماعي المحيط بالظاهرة الأدبية.
2.1. ملخص الرواية
رواية « حليب المارينز » لصاحبها « علي عواد » الصادرة عن دار فضاءات بعمان في طبعتها الثانية عام 2010م تسرد لنا جانبا من الأحداث التي شهدتها بغداد يوم دخول المحتلين الأمريكيين « المارينز » وإسقاطهم تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس.
إذ تكشف تداعيات الاحتلال في النفوس وما مدى تأثير هذا الاحتلال على شخصية الرواية وخاصة « سامر » البطل الذي ينتهي به المطاف ميتا.
عمد الروائي « علي عواد » في مدونته « حليب المارينز » إلى توظيف مفردات وتعابير دالة على حالة الحزن والهم والأسى وكذا الموت والذبول جراء الصدمة والخيبة التي عانت منها بغداد وكامل البلد فيما بعد، بما فيها من شخوص وأمكنة، وهذا ما عكس لنا حالة الضياع والتشتت وعدم الاستقرار.
وبالرغم من ذلك، فقد وظف في مقاطع عديدة صورا للمرأة تحمل دلالة رمزية عن الحب والصفاء والنقاء والسلام الذي يبعث على الأمل، فالمرأة هنا عكست لنا بغداد التي تحلم بالاستقرار وتفيض بالحب والعاطفة الجامحة، وفي المقابل نجد ملامح الحزن مرتسمة على البطل « سامر » والدموع التي لا تجف جراء فقد الأحبة والأهل، فقد تعرض للابتزاز من طرف العصابات التي اختطفت أخاه « ساهر » وطلبت منه الفدية فعاد إلى بغداد وفيها لقي حتفه.
تلك حال بغداد الحضارة والامتداد والتاريخ، امتدت لها أيادي الغزاة « المارينز » عبثت بكل ما هو جميل فيها، ونهبت الخيرات المتوافرة فيها بل حتى الآثار والدرر النفيسة الشاهدة على تاريخا الموغل في القدم.
2. الأنساق الثقافية في رواية « حليب المارينز »
تصور لنا الرواية تمسك البطل « سامر » بوطنه وحنينه إليه رغم اغترابه، فهو على اتصال دائم به من خلال تتبعه للأحداث والمستجدات عبر شاشة التلفاز من كندا، نلمس ذلك في المقطع الموالي الذي يسرد ليلة سقوط بغداد حيث يقول الراوي : « فأنا كنت أنتظر هذا السقوط بأي طريقة، أما هو فكان يفضل أن يزاح بطريقة ما غير دموية، من الداخل » (عواد، 2010، صفحة 07)، هذه المقولة أسقطت القناع الغربي وجسدت لنا الحالات المغتربة التي هاجرت طامحة في ما هو أفضل، لكن تجد ذاتها مضطربة تعاني الأمرّين، إذ صورت لنا حالة العراقي البعيد عن الوطن جغرافيا المرتبط به وجدانيا، صحيح أن الكاتب بين لنا هروب البطل بحثا عن موطئ قدم في ديار الغربة وسعيه للتماهي في حضارة الآخر الغربي في ظل التضييق وانعدام الحرية في المجتمعات الشرقية إلا أنه أدرك بأن هذا الغرب براغماتي يبحث عن المصلحة فقط أدرك « سامر » هذا متأخرا عندما شاهد الأحداث التي تلت سقوط التمثال وما تبعها من عنف جعل العراق تعيش في دوامة يصعب الخروج منها، فتغير وجه هذا البلد وأصبح شاحبا لا ثقافة ولا قيم... إلخ، » »في الليلة التي تلت دخول « المارينز » بغداد انهالت علينا المكالمات التليفونية من أصدقائنا في غرب كندا وشرقها وجنوبها" (عواد، 2010، صفحة 07)
يتجلى في هذا المقطع أن « الأنا » العربي يحمل هم وطنه عندما تغربه الظروف القاهرة إذ تنهال عليه المكالمات من حدب وصوب بحثا عن حقيقة ما يحدث في العراق، حيث احتلت عناوين الصحف وأصبحت حديث محطات التليفزيون ووسائل الإعلام العالمية، وهنالك من يتعرف على هذا البلد للمرة الأولى ويسمع به.
3. صورة « الأنا » و » الآخر »
تعد ثنائية « الأنا » و » الآخر » من أعقد الثنائيات وأبرزها تشكلا في الخطاب الروائي بل تمثل بؤرة تكونها ونضجها، هذا ما جعل ثنائية « الأنا » و » الآخر » تدخل ضمن اهتمام الدراسات الأدبية المقارنة والثقافية بل عدت ركيزة أساسية ومحورا فاعلا في النقاشات الأكاديمية لما لها من أثر بالغ في فهم العلاقات بين الشعوب وتكسير الصور النمطية المسبقة.
هي ثنائية جسدت صورة العرب بوصفه « أنا » ورسمت صورة « الآخر » الغربي وكشفت عن موقف القبول والرفض، فالأنا تتعرض للرفض والاستفزاز والصخرية من طرف الآخر والآخر يحمل صورة التعالي والسمو فيرى الأنا العربي نظرة ريبة وانتقاص.
يقوم الآخر على صفة الاختلاف والتباين كونه اللبنة الأساسية، إذ يمثل الآخر مرة بوجه عربي ومرة بوجه غربي حسب تعدد رؤية « الأنا »، وهذا ما سنوضحه في رواية « حليب المارينز » التي تتجلى فيها صورة « الأنا » و » الآخر » بشكل مكثف في المقطع الآتي :
« أليس البلد الذي لا يستطيع الإنسان أن يمارس فيه حريته هو بلد كفر كما يقول المعتزلة؟ أيعقل بعد كل هذا الانتظار الطويل، الموجع، الدامي أن يصبح مصيرنا بين أيدي حفنة من الأوباش والغرباء المعادين للحياة يتحكمون بنا، ويسوقوننا كالخراف إلى هوة سحيقة؟... » (عواد، 2010، صفحة 14).
يجسد هذا المقطع صورة « الأنا » التي بدأ اليأس يدب في نفسها، وأصيبت بالإحباط جراء الخذلان وانطفاء شمعة الحلم برؤية عراق مزدهرة تعيش في كنف الحرية والديمقراطية.
سيطرت الهواجس والكوابيس على أفكار « سامر » و » عشتار »، وزال بصيص الأمل بالعودة إلى الوطن بعد طول غياب، وواصل القول : « إنني أفضل ألف مرة أن أظل مغتربا على أن أعيش مثل بهيمة في تلك الهوة المظلمة... سنوات أخرى ستقضم مما تبقى من حلم عودتي، بل ربما ستلتهمه كله » (عواد، 2010، صفحة 14).
الحلم بدأ يتبخر، ترسخت لدى « سامر » قناعة « البقاء مغتربا » والمعاناة في صمت على العودة في إلى بلده الذي لم يترك فيه « المارينز » شيئا يدعو للتفاؤل، دخولهم للعراق أطفأ وهجها وجعلها خرابا، إذ يمثل الكاتب لذلك من خلال قول « سامر » : « ملأتني جريمة الاغتيال التي حدثت في النجف ذلك اليوم غماً ورحت أبحث عن تفاصيلها، وحين عثرت عليها خشيت أن تكون بالفعل بداية لمآس مقبلة لا يعلم مداها إلا الله كما قالت عشتار » (عواد، 2010، صفحة 19).
يبرز هذا المقطع إنسانية « الأنا/ سامر » وتعاطفها مع أبناء بلده، وفي المقابل يلقى اللوم على « الآخر الأمريكي » الذي يقوم بارتكاب المجازر في بلاد العراق، حيث أبدى الكاتب موقفه الرافض لهذا الآخر الذي كان يدعي الديمقراطية ونشر الحرية.
تتزعزع صورة الأمريكي في نفسية « عشتار » هذا ما جعله يترك مسافة أمان بينه وبين الآخر، حيث
« يشعر الأنا منذ بداية حياة الإنسان بعلاقته بالآخر ومن ثم تنشأ سلسلة من الثنائيات، الأنا والآخر، هنا وهناك، العدو والصديق... وهذه الثنائيات تعين الحدود بين الأنا والآخر هذه الصورة التي تتشكل في ذهن الإنسان عن الآخر وترتبط تلك الصورة بالمصالح المختلفة، وزمن الاتصال وكيفيته ومداه ويمكن لهذه الصورة أن تتغير لمرور السنين واخلاف الظروف » (زادة، خريف 2014، صفحة 128).
يتضح لنا مما سبق أن « الأنا » العربية تتوافق في وجوهات النظر مجسدة في شخصية « سامر » و » عشتار » ويبرز ذلك من خلال المقطع الموالي : « يبدو أن قدرنا نحن العراقيين حتم علينا أن نعيش أصنافا عجيبة من المآسي، لكنني أغبطك على تشبثك الجنوني بالحياة » (عواد، 2010، الصفحات 20-21)، رغم الاختلاف في رؤية الحياة عند العراقيين، بين الأمل والألم إلا أن هناك حقيقة راسخة ومشتركة هي أن « المارينز » لم تطأ أقدامهم العراق من أجل السياحة أو نشر الديمقراطية وإعطاء حليب مجاني لأبناء هذا البلد، بل قابلوهم بالقنابل والمجازر المروعة والاغتيالات، جعلوا العراق تغرق في أنهار من الدماء، بعد أن كانت رمزا للحضارة والتاريخ.
يواصل الكاتب » علي عواد » في روايته سرد الأحداث المأساوية التي تعرضت لها العراق غداة الغزو الأمريكي لها على يد أبنائها الذين سرقوا كل ما هو ثمين تحت غطاء ومباركة أمريكية وها هي « عشتار » تقص لنا تلك الفاجعة حيث تقول :
« فجعنا أنا وسامر، في اليوم الثالث من مشاهد النهب والسلب التي عمّت المدن كلها بصورة أشد فظاعة مما حدث في مارس قبل اثني عشر عاما... كم تألمنا ونحن نشاهد الخراب الذي حل بالمتحف بعد أن سرق منه ما سرق وتحطم ما تحطم في قاعاته ومخازنه من الكنوز الأثرية... » (عواد، 2010، صفحة 33).
الصدمة التي تعرض لها سامر وعشتار كشفت بوضوح صورة « الأنا » الانتهازي الذي يتحين الفرص للانتقام من نظام الحكم في عهد رئيسه صدام حسين فرغم الانتقادات أو المساوئ التي نتجت عن هذا النظام إلا أن صدام حافظ على وحدة العراق، وهاهم ثلة من الغوغاء وعديمي الضمير باعوا وطنهم بثمن بخص في أول فرصة أتيحت لهم، وارتموا في أحضان الآخر الأمريكي مهللين، كيف بهم أن يحطموا بلدهم الممتد عبر التاريخ بين عشية وضحاها؟
الحقد أعمى عيون المغرر بهم من العراقيين تواصل « عشتار » الحديث :
« لقد هز ذلك اليوم، وما تلته من أيام، كياننا وضربنا في الصميم، وكانت الوحيدة التي أدركت مغزى ذلك الحزن هي صديقتنا الرسامة روزا... ثم راحت روزا تعدد لي أسماء قطع نادرة أخرى من بين عشرات الآلاف من قطع المسروقة مثل : زهرية الوركاء المقدسة... والنسخة النادرة من التورات، ولوحات تمثل سبي اليهود في العصر البابلي ! » (عواد، 2010، صفحة 34).
أدركت « روزا » تلك الفتاة العراقية المغتربة ذات الأصول اليهودية مقدار الجريمة والفظاعة التي حلت ببلدها العراق، ومست رموزه التاريخية وراحت تتحصر على حاله وتندب حظها، تتساءل كيف ستقابل أبناءها وأحفادها عندما يسألونا عن أبائها وأجدادها وما فعلوه بالعراق وبحضارة البابليين أم أنها ستحاول تبييض صورتهم أمام الأحفاد، وواصلت حديثها عن التطرف الديني والتمزق الطائفي الذي غذّته الأيادي الخارجية بمباركة أمريكية، تجسد ذلك بوضوح في المقطع الآتي : « ومثلما أفزعتني صورة البلاد وهي تتقاذفها أمواج الشمولية الدينية، فكتبت عنها قصيدة كابوسية، فإن صورتها وهي تنهب، ويطفأ ضوؤها استولت على ذهني... » (عواد، 2010، صفحة 34).
راحت « روزا » تؤلف قصيدة بعنوان « اللقطاء » سيميائية العنوان تعكس لنا انعدام الضمير لدى هؤلاء الأشخاص المتطرفين الذين حاربوا التاريخ والفن والحضارة والثقافة في العراق بمباركة أمريكية تحاول محو ذاكرتهم، كل ذلك تحت أنظار « المارينز » الذين لم يحركوا ساكنا.
يسرد لنا الكاتب في المقطع الموالي ظروف وملابسات غزو بغداد حيث بدأت تحضيرات لذلك بغلق المنافذ على المدن المحيطة ببغداد إلى كركوك،
« وصلت بعد ساعتين إلى الساحة التي قصدتها، فإذا بها ملغومة بعشرات المدنيين والمسلحين، وقد تسلق عدد من اليافعين التمثال، وهم يلفون الحبال حول رقبته وذراعه المرفوعة، في حين توزع عند قاعدته رجال من أعمار مختلفة، وانهالوا عليها تهشيما بالمطارق والفؤوس » (عواد، 2010، صفحة 50).
الكل أراد أن يساهم بطريقته في إزاحة التمثال المتمركز في الساحة وهو تمثال الزعيم « صدام حسين » الكل يترقب وينتظر اللحظة التي يتم فيها إسقاط التمثال، لما له من رمزية في نفوس العراقيين الذين تعرضوا للظلم والفقر والتضييق طيلة فترة حكمه، فإسقاطه يمثل دلالة على اقتراب النصر وحلول الديمقراطية وفتح المجال للحريات، ولكن وقع ما لم يكن في الحسبان حيث : « ... رفع بعضهم فوق رأسه راية بيضاء كتب عليها بالإنجليزية Thank You USA. كنت أتطلع إليهم وفي داخلي إحساس مفجع بأن أغلبهم من تلك الشريحة الانتهازية التي صنعته... » (عواد، 2010، صفحة 50).
لم يدرك الكثير ممن تجمعوا في الساحة أن سقوط التمثال يعني سقوط العاصمة بغداد ومن بعدها العراق ككل، وراحت القوى الخائنة تهلل وتفرح لهذا النصر المزيف، هنا سقطت الأقنعة وبدأت الحقائق تظهر من وراء إسقاط تمثال الرئيس.
ابتهج الخونة وشكروا الأمريكان على الخدمة التي قدموها لهم، هذا الفعل جسد صورة الأمريكي الخير الذي يقدم يد المساعدة وينصر المستضعفين، لكن تكشفت الحقيقة بعد مرور سنة على الغزو وظهرت حقيقة الآخر الوحشية التي كانت تختبئ تحت مظلة السلم والحرية،
« لماذا لم تتحسب أميركا لحدوث هذه الظواهر قبل أن تشن الحرب؟ هل خططت لمرحلة ما بعد الاحتلال، وماذا خططت؟ إن الفراغ الأمني الذي أعقب احتلالها تتحمل وحدها مسؤوليته، ها قد مضت سنة كاملة فأين هي الحرية التي وعدت بجلبها لنا؟ » (عواد، 2010، صفحة 63).
لم يكن هدف أمريكا من غزو العراق تحقيق السلام، إنما جعل البلد يعيش في حالة الفوضى واللاأمن ومن ثمة تظهر للعالم أنها ستقدم للعراقيين يد المساعدة واختيار من يحكمهم بكل شفافية، لكن من يستطيع تحقيق الاجماع يجب عليه أن يكون مواليا للغرب وأمريكا والمقطع الآتي يبين ذلك :
« هل ألوم الآن ناتالي على قولها إن المارينز لم يدخلوا بغداد حاملين مشعل الحرية، ولم تذهب أميركا إلى العراق كي ترضع شعبه من ثديها المدرار بالحليب المجاني، بل لتهبه صندوق بانادورا المشؤوم » (عواد، 2010، صفحة 63).
راحت أمريكا إلى العراق محملة بالقنابل التي تشبه حبات الطماطم التي يتبارى بها الإسبان في مناسباتهم المختلفة، أمريكا أو المارينز لم تقدم للعراقيين حليبا بالمجان بل هي من رضعت من حليب البقرة المدرارة في العراق، نهبت الخيرات وسيطرت على حقول النفط وتحكمت فيها محققة بذلك أرباحا كثيرة عوضتها خسائر حملتها على العراق وأفغانستان وغيرها، تكشف لنا العبارة الموالية أهداف أمريكا غير المعلنة من غزوها للعراق : « بوش يقر بأنه حتى لو كان يعرف قبل الحرب عدم وجود أسلحة محظورة في العراق كان سيقوم بدخوله بكل الأحوال... » (عواد، 2010، صفحة 177).
دخلت أمريكا إلى العراق تحت ذريعة أن نظام صدام يمتلك أسلحة محظورة في خطوة منها لتبييض صورتها أمام الرأي العام العالمي.
خاتمة
ختاما ومن خلال دراستنا وتحليلنا لرواية علي عواد توصلنا إلى مجموعة من النتائج يمكن استخلاصها في النقاط التالية :
-
رواية « حليب المارينز » تحاكي الواقع الاجتماعي حيث شكلت تيمات الحب والحزن محاورها الرئيسة، فهي تعبر عن ألم ومرارة الفراق جراء موت الأحبة (الإخوة والأبناء).
-
تواتر الألفاظ الدالة على المعادلة الزمنية والوقت مثل : يوم، ساعة، السبت، الجمعة، أمس...إلخ.
-
توظيف الألفاظ التي تنتمي إلى الحقل الدلالي المعبر عن الحرب (بندية، صاروخ، موت، خراب، انفجار، حروب، دمار...إلخ).
-
حاكت الرواية الأحداث التي صاحبت دخول المارينز إلى بغداد بطريقة سردية محكمة النسج وبحبكة فنية منقطعة النظير موظفة لنا في ذلك الشخصيات الرئيسية والثانوية مثل : سامر، عشتار، آنيا، إبراهيم، روزا، سلوى...إلخ.
-
وفي الأخير نتمنى أن يكون هذا البحث قد ألم ولو بجزء بسيط من الاستشكالات الثقافية التي تزخر بها الرواية آملين أن يكون فاتحة لأبحاث أخرى من أجل استكناه مكنوناتها والحفر فيها.