مقدمة
العنف اللفظي يتمحور غالبا في المجتمع العربي، خاصة ما يتعلق بالتسلط والاحتقار، أو الصراع بين الطيبة والخبث، أو حب تعذيب الغير و الذات من خلال إشراك المتلقي في الخطاب، أو ما يتعلق بأحداث التعذيب والقتل، فمعظم الخطابات الدينية تصور الأشخاص الأكثر تظاهرا بالفضيلة و التقوى و الأكثر سموا فكريا أكثرهم عُنفا، على عكس الشخصيات التي لمحناها في حياتنا بأن الأشخاص الأشرار هم الأكثر تنفيذا و حبا للعنف .
ونظرية الأفعال الكلامية تنطلق من مسلمة مفادها أن الأقوال الصادرة عن المتكلمين، من وضعيات محددة، تتحول إلى أفعال ذات أبعاد اجتماعية وهذا ما يفسره العنف اللفظي (اللغوي) المستعمل من طرف الخطباء، لما له من أهمية في فهم مقاصد المتكلم، و لعل قصد المتكلم أهم ما يؤثر في اللغة واستعمالاتها وتأويلها.
1. الخطاب الديني وعلاقته بالمسجد
للمسجد دور كبير في تنشئة الشباب، وفيه يُحرص على إخراج جيل معتدل سوي ويعد المسجد أهم مؤسسة تربوية اجتماعية، و أشرَف بقعة على وجه البسيطة، وحرص القرآنُ الكريم على تبيان فضل المساجد بنسبتها إلى الله عز وجل، وذلك في قول الله : ( وأنّ المساجد لله ) الجن : 18
ومنذ أن أُسّس أول مسجد بعد الهجرة إلا وكان للمسلمين عنايةُ خاصة بالمساجد - عمارة، وبناءً، وصلاة، وذِكرًا لله عز وجل - وكان الدوام على المسجد أمارة للإيمان، فقد كان المسجد من الوهلة الأولى مِحورَ حياة الدولة الإسلامية الفتية التي ما فتئت تكبر وتتوسع، وكان المسجد آنذاك سرَّ قوتها؛ وأول مدرسة محمدية لصنع الرجال وإعداد النفوس وتهيئتها وتنشئتها تنشئة صالحة.
وقد نسب الله إليه المساجد تشريفاً, وأذن أن ترفع تعظيماً، ويذكر فيها اسمه تكريماً، فمنذ أن بني أول مسجد إلا وكان مدرسة محمدية لإعداد الرجال وتنشئتهم , فالمساجد ليست دور عبادة ؛ وإنما تعدى دورها إلى جميع مناحي الحياة؛ التعبدية والتربوية والتعليمية والسياسية والعسكرية .
أما التأثير فهو أعم من الإقناع إذ هو « إبقاء الأثر في الشيء .. وأثر في الشيء : ترك فيه أثراً .
2.الإمام و استراتيجية الإقناع والتأثير
يكمن نجاح دور الإمام بقدرتهِ على إتقان مهارة إقناع الآخرين بما يريد أن يوصله، بعيدا عن التعنيف، و يحتاج منه درجةٍ عاليةٍ من الخبرة والذكاء؛والعلم بطرق الإقناع قصد التأثير في المتلقين، فالإقناع فنٌ لا يُتقنه إلا من فًقِه الدور المنوط به، والإمام الفذ هو الذي يتقن هذا الفن وتلك المهارة، فقد يصعب على كثير من الأئمة إقناع المتلقين، فتنوُّع المتلقين بين متعلم ومثقف وعادي وعامي يجعل المهمة تبدو في الوهلة الأولى معقدة وصعبة، ولكن في حقيقة الأمر هي بسيطة إذا تمكن الإمام من وسائل الحوار والإقناع قصد استمالة المتلقين والتأثير فيهم وإقناعهم، فالقدرة على الإقناع هي المحرك الرئيس والحافز لخلق علاقاتٍ ناجحة بين الملقي والمتلقي دون حدوث مشاكل أو رفض للخطاب، فالإمام يحاول جاهدا إقناع الآخرين لكن دون الحديث بأنهم على خطأ، فالمخاطب وهو جمهور الناس مختلف الشوائب والمؤهلات وكل متشبّت برأيه حتى وإن كان على خطأ، وهنا يجب أن لا يعمل الإمام أو يوهم الناس بأنه على قدر من التحكم فيهم أو عليهم أن ينصاعوا إلى رأيه الذي يجبرهم فيه على اتباعه، فأسلوب التهديد قد ولى عصره .
والإقناع والتأثير ممارسة فعلية بين قطبي العملية التواصلية ( المخاطب– المتلقي).
وفي الغالب يكون كلام الخطيب عفويا، لذلك يلجأ للاستطراد والخروج عن الموضوع، وأحيانا كثيرة يلجأ إلى تعنيف السامعين، وهنا تلعب نفسية المتلقي دورا كبيرا في تلقي الخطاب من رفضه، ، فالوظيفة الأساسية للغة كما ذكر سابقا هي التواصل، عن طريق ملفوظ أو رموز أو أصوات كلامية، وأن ما توصله اللغة عبارة عن ترجمة لمعاني الخطيب، وبما أن العملية التتخاطبية مكونة من مرسل ومرسل إليه بغية التواصل، فيحدث أن يسء الخطيب طريقة التبليغ، إذ يتوقف نجاح العملية التواصلية في قدرة الخطيب على إيصال الخطاب، باستخدام أسلوب مميز يستميل المتلقي ويقنعه ويؤثر فيه، وربما يحدث هنا تأويل للخطاب بمفهوم خاطئ يؤدي إلى فشل العملية التواصلية، ويكون المتهم الأول الخطيب الذي لا يحسن استخدام طرائق التواصل، فيتخذ الخطيب موقفا عدائيا صراعيا معنفا تجاه المرسل إليه وهو السامع فالعملية التواصلية تعتمد على الوظيفة التأثيرية للغة، يمارسها الخطيب بغية التأثير على المتلقي.
لقد أصبح الخطاب الديني في غالبه انفعاليا، وهذا ما أدى إلى تفشي العنف اللفظي فيه، فأغلب الكلمات المستعملة في الخطاب الديني تحتوي على طاقة كبيرة من الشحن العاطفي الصريح، والألفاظ ذات التأثير العاطفي، هذا الشحن العاطفي له القدرة على التأثير في المتلقي لا تعنيفه، فالمتلقي يعيش تحت ضغط الخارج وبذلك لن يتقبل الإملاءات الفوقية، وعليه وجب التوسط في الخطاب الديني لا إلى تنفير المتلقين، فأصبح العنف اللفظي في الخطاب الديني مرجعية فكرية للمرسل، سواء من حيث التراكيب و الصياغات المكتوبة والمفردات الموظفة، وهو ما يستدعي وقوفا على تقييد الخطاب الديني وضبطه، بغية الوقوف على الأسباب المؤدية لهذا العنف اللفظي الذي في الغالب ينفر المتلقين خاصة في بلد عرف صراعا فكريا طيلة 10 سنوات، أنتج هذا الصراع الفكري موجة من العنف الذي أنتج بدوره تراكيب جديدة شملت الخطاب الديني .
إنه من السهل جدا أن نرصد الألفاظ العنيفة أو ما يسميها البعض بالانزلاق اللفظي فمظاهر هذا العنف احتلت مساحات واسعة مما أثر سلبا على الخطاب الديني فاللغة ليست مجموعة من الأنظمة والرموز فحسب، بل هي آليات تستعمل للتأثير والإقناع وإنتاج أفعال وتوجيهها، فإذا كانت اللغة هنا وسيلة لممارسة العنف اللفظي فإنها تفقد وظائفها التي حددها ياكبسون، وهنا تصبح اللغة وسيلة لتزييف الحقائق والبعد عن الواقع، وتختلط بالمغالطات، وإذا لم يكن الخطاب في ذاته وسيلة للتأثير من حيث التفسير والتأويل والتأثير فلا يتعدى دوره هنا كونه ملفوظا فقط، ففي نظرية الأفعال اللغوية الكلامية التي انطلقنا منها في إشكاليتنا ما يؤسس لها هي قول أوسيتن إن كل ملفوظ يقابل بإنجاز عمل لغوي وبذلك تسنى له وضع تصنيف ثلاثي :
- فعل القول أو الفعل اللغوي Acte locutoire، يتحقق بمجرد التلفظ، ويراد به إطلاق لفظ في جملة مفيدة ذات بناء نحوي سليم وذات دلالة، أي يشتمل على أفعال لغوية فرعية، تمثّل المستويات اللسانية : الصوتي، والتركيبي، والدلالي، ولكن أوستين يسميها أفعالا :الفعل الصوتي؛ التلفظ بسلسلة من الأصوات المنتمية إلى لغة معينة. وأمّا الفعل التركيبي؛ ما يؤلف مفردات طبقًا لقواعد لغة معينة، وأمّا الفعل الدلالي؛ توظيف هي الأفعال حسب معانٍ وإحالات محدّدة.
- فعل متضمن في القول Acte illocutoire الفعل المتحقق انطلاقا من القول، ويطلق عليه الفعل الإنجازي، أي العمل الذي ينجز بقول ما، فهو مرتبط بنظرية الفعل الكلامي، لذا اقترح أوستين تسمية الوظيفة اللسانية الثاوية خلف هذا الفعل بالقوة الإنجازية.
- فعل تأثيري بالقول Acte perlocutoire : العمل الناتج عن فعل الكلام ويسمى الفعل التأثيري، ويرى أوستين أنه مع القيام بفعل القول، وما يصحبه من فعل متضمن في القول (القوة)، فقد يكون الفاعل (وهو هنا الشخص المتكلم) قائمًا بفعل ثالث هو التسبب في نشوء آثار في المشاعر والفكر، ومن أمثلة تلك الآثار : الإقناع، التضليل، الإرشاد، الكف (آن روبول، جاك موشلار، د.ت، ص.32 ).
وعليه فإن كل ملفوظ عنده مقترن بالتصنيفين الأوليين على الأقل، وقد يضاف لبعضها التصنيف الثالث، عند ظهور نتائج الفعل، والخطاب الديني كونه ملفوظا فإنه يندرج تحت التصنيف، فما من خطاب إلا وكان غرضه الإقناع والتأثير، أي التغيير في فكر المتلقين سواء بالسلب أم بالإيجاب .
والحديث عن مواصلة سيرل مسار بحث أستاذه معدلا ومضيفا مواطن بحث جديدة، لم يكن أوستين قد تعمق في البحث فيها بحكم حداثة ماقال به وكونه أول القائلين بذلك . فكتابه أفعال الكلام(Les actes de langage essai de philosophie du langage) امتداد لما كان يبحث عنه أوستين، فقد مهد له الطريق بأن يواصل المسير بحثا عن تفريعات دقيقة تصبح من خلالها قادرة على استكشاف طرق إنجاز الأفعال انطلاقا من التصنيف الثلاثي الذي جاء به سيرل، ليشمل تقسيمه أنواع الكلام بغض النظر عن طبيعة تحققه من عدمه. ولعل أهم ما جاء به سيرل تمييزه بين الأفعال المتضمنة في القول والأفعال التأثيرية، إذ مدار أفعال الكلام قائمة على ذلك التمييز.
فسيرل يرى أن الأفعال المتضمنة في الأقوال قصدية، فإذا أنت « لم تقصد أن تعطي وعدا، أو تصدر حكما، إذا فأنت لم تطلق حكما، غير أن الأفعال التأثيرية لا يجب أن تؤدى قصديا بالضرورة. قد تقنع شخصا بشيء ما أو تدفعه إلى فعل شيء(..) دو أن تقصد ذلك » (جون سيرل، 2006، ص :203 ) .
فـ« عنف اللغة » (جمعة سيد يوسف، 1990، ص : 145 ) كما يسميه بعض الباحثين، شمل الخطاب الديني نتيجة استشعار المرسل إليه السلطة المطلقة لإصدار الأوامر والنواهي والتعنيفات القائمة على الرتبة، فيلجأ المرسل إلى اللغة الغليظة وهنا تظهر العلاقة بين أفعال الكلام وبين عنف اللغة، فنجد الخطاب مشحونا بهذا العنف وتلك المشاعر المحتقنة، وكأن المرسل في حرب كلامية لا وظيفة إقناعية استمالية، فقد حصدت الحرب الكلامية من قبل جماجم كثيرا من خلال انتقال الخطاب من النصح إلى التسلط وظهرت ألفاظ في الخطاب الديني لم يألفها المسلمون ولم يعتادوا توظيفها، فكان هذا نتيجة الخطاب العنيف، رغم كونه مراقبا ومدققا إلا أنه خرج على المألوف .
ويعتقد الكثيرون أن الخطاب الديني الذي تميز بسمة العنف اللفظي كان له الأثر البارز في صناعة كثير من المآسي، فاللغة لا تفرض نفسها بخطاب الصدمة والصوت العالي والنظرات الحادة كما يعتقد البعض، أنما عن طريق تحقق وظائفها.
وهنا يجب أن نتساءل : هل تعنيف المخاطب يحقق الغرض الذي من أجله وضع الخطاب ؟
-
هل عنف اللغـة هنا يرجع إلى كون لغة الخطاب الديني مستمدة من لغة الجمهور ؟
-
ما أصل العنف اللفظي ؟ هل هو المجتمع أم المرسل ؟
إن العنف اللفظي لم يكن عبثا، بل كان نتيجة تراكمات لغوية سابقة، مهدت لظهوره على هذا الشكل، فالملفوظ غالبا يفسر ويربط بتأثيره، فالربط بين اللغة ونظرية الفعل يفرض تحقق الشروط السابقة الذكر، وتحقق وظائفها، فالأوامر والنواهي السلطوية ينظر إليها هنا على أنها حققت فعلا إنجازيا، فأشكال الخطاب لا تتحدد إلا من خلال الاستعمال، وهذا الاستعمال ربما يكون إيجابيا كما قد يكون سلبيا، فالفعل اللغوي عند سيرل هو محور نظرية أفعال الكلام التي تقوم على البحث في الأثر والإنجاز.
ففي الخطاب الديني، يحاول الخطيب إقناع السامعين واستمالتهم والتأثير فيهم فيلجأ إلى الحِكَم خاصة إذا تعلق الأمر بالموت الذي لا يبقي على أحد، فعند بداية كل لوحة فنية يفصل الخطيب ما أورده في مقدمة خطبته، ويجب أن تتلاحم الأجزاء، وقد يعتمد الخطيب الأسلوب المتمثل في الإجمال ثم التفصيل لإيصال رسالة مفادها دوام الحال من المحال، وهذا ما نجده في خطب الحديث عن الموت محاولا بذلك إقناع السامعين بضرورة الاستعداد لهذا اليوم، كما تلزمه الضرورة بتوظيف العبارات الدالة على الفناء، فالكلمات ذات الحقل الدلالي للموت التي يذكرها ما هي إلا تفصيل لمعنى الخلود والبقاء، وهذا التفصيل ما هو إلا تأثير في السامعين وهذا كي يكون المتلقي بعيدا عن التأويل، لذلك يحاول الخطيب تنبيه الإنسان الغافل بأن المنية حق ولا مفر منها، فالانتقال هنا من المجمل إلى المفصل من شأنه أن يحقق نوعا من التلاحم والاستمرارية، لأن اللفظ المجمل هنا تتناسل المعاني وتفصل كي يفهم المرسل إليه الرسالة، لكن غالبا ما تعترض الرسالة عوارض تعيق عملية الفهم إذ يلجأ الخطيب إلى تعنيف السامعين مما يجعل هذه العملية معقدة ويفشل في استمالة المخاطبين، كذلك الحال بالنسبة للديث عن الأمور التي تتعلق بالمسلمين كقضية فلسطين، إذ يحث الخطيب المتلقين بوجوب الدفاع عن قدسهم، مذكرا إياهم برابطة الأخوة التي تجمعهم، محاولا استعطافهم واستمالة قلوبهم للدفاع عن أراضي المسلمين، لعل فيهم قلوبا حية تسمع النداء، لكن قد يصحب هذا النداء صخب فيعنف الخطيب السامعين فيشعرون وكأنهم المذنبون، وإذا حاول الخطيب الإقناع فإنه سيختار ألفاظاً سهلة، وموسيقى تتمثل في السجع تستطرب لها الأذن، دون تكلف، لأنه أراد أن تصل كلماته إلى كل نفس تأبى الظلم وتصبو للحرية، وتتعلق بالأرض.
خاتمة
حاولنا في هذا البحث تسليط الضوء على العنف اللغوي الموظف في الخطاب الديني، هذا العنف اللغوي أنتج فعلا جديدا وسلوكا فريدا يجعل من اللغة تتحول من وظيفة نقل المعلومات من مرسل إلى مرسل إليه، إلى وسيلة للتأثير في المخاطب واعتقاداته، تجعله يتخذ أنماطا من السلوك تتوافق ومواقف المخاطب، وهكذا تصبح عملية التخاطب في حقيقتها إنجازا لأفعال لا مجرد عملية تواصلية مبنية على جمل وتصورات، مع التركيز على قصدية المتكلم الذي يلغي مشاركة المستمع في هذه القصدية وتصبح الوظيفة الحجاجية سلطوية قائمة على تفرد المرسل بالخطاب والتوجيه وإصدار الأوامر والنواهي، وهذا ما يجعل المرسل إليه تحت الإكراه والضغط، ذلك أن التخاطب يقوم على قواعد وضوابط، يكون فيه التواصل الإنسانيِّ متميزا ببعده الأخلاقيِّ؛ وذلك بوضع مجموعة من المبادئ هدفها نجاح العمليات التواصلية - التخاطبية، سواء في تمظهراتها البسيطة أم في أبعادها المعقَّدة.
.