تمهيد
إن البحث عن المعنى وكيفية إنتاجه وتأويله في ضوء تشكلات أنساقه الدلالية راهن نُسائل من خلاله النصوص الشعرية المعاصرة عبر ما يفرزه النظام الداخلي للعلامة من دلالات، ووفق ما تطرحه طبيعة اشتغال هذا النظام في سلسلة من التداخلات تمثلها الصورة العلائقية للأبعاد الثلاثة (الممثلRepresentamen - الموضوعObjet – المؤوَلInterprétant) التي أرسى دعائمها «بورس Peirce»1
ويذهب الباحث سعيد بنكراد إلى القول بأن «هذه العلاقة هي من الجدة والأصالة لدرجة أنها تحيلنا على سيرورة دلالية لامتناهية تفترض، من جهة، أن سلسلة الإحالات لا يمكن أن تتوقف نظريا عند نقطة محددة، فالماثول يحيل على موضوع عبر مؤول، ليتحول هذا المؤول إلى ماثول جديد يحيل على موضوع آخر عبر مؤول جديد وهكذا إلى مالانهاية. »2
يحيل النص إلى أنّ سيرورة العلامة تتأتى من خلال هذه العلاقة اللامتناهية الدلالة التي يسميها بورس « السيميوزيس semiosis » ومن ثم فهي تحقق كينونتها ووجودها متصلة بعمليتي الوعي والإدراك اللتان تربطان الإنسان بعالم الوجود إذا ما سلمنا بنظرية « سوسير Saussure » في أن « اللغة نظام من العلامات المعبرة عن الأفكار »3 فهي علاقة ذهنية حسية تمكننا من فهم العالم الخارجي، وكلما زاد وعينا بحقيقة الأشياء المدركَة التي تحيط بنا، كلما اتسعت رؤيتنا وبالتالي يصبح هذا النظام العلاماتي نظاما حركيا مبنيا على الإحالة.
1.دينامية نسق العلامة وتفريعاتها عند بورس
استند «بورس» في تقسيمه الثلاثي للعلامة على نظرية المقولات التي اختزل من خلالها تجربة فهم الإنسان للعالم، وفق مراتب ثلاث (الأولانية والثانيانية والثالثانية) إذ إنه اعتقد في نحو قوله:
«أنّ هناك ثلاث صيغ للوجود، وأجزم أنه بإمكاننا رؤيتها مباشرة في عناصر كل ما هو حاضر في الذهن في أي وقت بطريقة أو بأخرى. هذه الصيغ هي: وجود الإمكان الكيفي الموضوعي (L’être de la possibilité qualitative positive)، وجود الواقع الفعلي المتجسد (L’être du fait actuel)، ووجود القانون الذي سيحكم الوقائع في المستقبل... ».4
بناء عليه يمكننا القول أنّ محاولة صياغة العالم وفق ما تقدم به بورس وربطِه بعملية الإدراك يعد منفذا للبحث في عمق دلالة الظواهر التي أنسنتها التجربة، ومن ثم بات من الممكن تحديد كينونتها ومعرفة كيفية حصولها واشتغالها بوصفها علامة ذات مرجعية ثقافية، ذلك أن «ما ينتمي إلى العالم الخارجي، لا يحضر في التجربة الإنسانية من خلال أبعاده الملموسة، بل هو موجود من خلال إحالاته الثقافية»5 التي تضمن استمرارية إنتاج المعنى في ضوء قواعد سنتها القوانين الاجتماعية.
إذ لا يمكن فهم الوقائع والأشياء الموجودة في الطبيعة بمعزل عن التجربة وبعيدا عن الوعي والإدراك، كونها مُفرغة من القصدية والحركية التي تكفل تعدد طرق إنتاج الدلالة داخل نظام الإحالات. لذا فـ «الوجود الوحيد لتلك الوقائع هو اندراجها ضمن سيرورات السيميوز التي لا تنتهي، والسيميوز إنتاج ثقافي للدلالات، لا تعيينا لها. »6 ما دام يمنح العلامةSigne كيانا معرفيا جديدا ينفتح على إمكانات تأويلية لا متناهية، تقوم على «عنصر أول يقوم بالتمثيل (ماثول) وآخر يشكل موضوع التمثيل (موضوع) وثالث وسيط بين الاثنين يشتغل كفعل للمفهمة هو ما يقود إلى الامتلاك الفكري «للتجربة الانسانية في مظهرها الصافي«(مؤول).»7 ولكل مرتبة من هذه المراتب تفريع ثلاثي يقوم على الإحالة التي تعتبر محورا أساسا لاستمرار إنتاج الدلالة، بحيث يشكل الماثول بإحالته على نفسه علامة نوعية أو مفردة أو معيارية، وقد يحيل على موضوعه فيشكل أيقونا أو أمارة أو رمزا، وقد يحيل على المؤول فيكون بذلك خبرا أو تصديقا أو حجة.8
يستند هذا النظام العلائقي في تشكله إلى وجود رابط دلالي يجمع بين ما هو موجود في العالم الخارجي وما ينطبع في الصورة الذهنية؛ ومن ثم فهو يسمح بتشكل علاقات التمدلل التي يستقيم عبرها الربط بين عناصر العلامة علامات أخرى. يمكن تصنيفها وفق ما تحدده الطبيعة العلائقية للماثول والموضوع ضمن أنساق دلالية «تنتظم داخل أكوان السيميوز في ملفوظات وإثباتات وأوامر وتساؤلات. وتنتظم الملفوظات في نصوص، أي في خطاب. ويمكن التأكيد حينها أنْ لا وجود لسميائيات للعلامة دون سميائيات للخطاب.» 9أين تُمنح العلامة دلالات جديدة تمتد عبر فضاء المتخيل لإدراك العوالم الممكنة داخل النص، من طريق المؤول، انطلاقا من الشكل الأولي المباشر للمعنى الذي تعرضه العلامة، إلى غاية الانفتاح على كل الإحالات الممكنة الحاضرة في الذهن والتي تأخذ طابعا ديناميا تتولد بموجبه المعاني صوب اللامتناهي؛ ما يطلق عليه «بورس» المؤول الدينامي، وهي مرحلة يحيلنا من خلالها إلى ضرورة التوقف عند مؤول نهائي يحد من نهم الانفتاح المفرط واللامحدود.
وتجدر الإشارة هنا إلى إمكانية تشكل المعنى - ضمن نظام علاماتي- في أشكال وصور رمزية متجددة ومتعددة الدلالات على مستوى النص الأدبي بخاصة. على نحو يستدعي قراءة تأملية تستند على مرجعية معرفية وآليات إجرائية؛ لفهم طبيعة دينامية نسق العلامات ومعرفة طرق اشتغالها عبر «سلسلة من المسارات التأويلية التي تدخل عبرها الذات المؤولة (القارئ) كعنصر أساس في عملية إنتاج الدلالات المتنوعة. »10 ذلك أنّ فعل القراءة هو اللحظة التي يُؤذن فيها للنص بالانفتاح على نصوص أخرى تتعالق مضامينها دلاليا وتتفاعل أسيقتها مع سياق النص المؤول دون إلغاء لمقصدية المؤلف، والتي تروم برأي «أمبرتو إيكو Umberto Eco» قارئا نموذجيا يمتلك «الكفاءة الموسوعية» الكافية التي تمكنه من تفعيل دينامية السيميوزيس عبر إعادة صياغة الواقع في بعده الإنساني داخل إطار النصية. ذلك أنّ السيميائيات بوصفها «منهجا في البحث غاياتها تقصي «الحق» ومقاربته قصد تخليص العالم من خطر زواله ودفع الإنسان إلى السعي وراء كماله عن طريق التماهي مع الكون والحلول فيه.» 11
استنادا إلى ما سبق ذكره يتضح أن طريقة فهم الإنسان للعالم في ضوء العملية التواصلية هي في حد ذاتها تبليغ عن مقصديته في إثبات وجوده على حد قول « ديكارت Descartes » (أنا أفكر إذا أنا موجود) وقد يقصد بالوجود هنا التفكير في ما وراء الطبيعة، لذا فالتمثيل لذلك في نسق من العلامات والرموز على نحو ما تُصوره، « فكرة النظام Order كما تتصوره وتستنبطه حضارة ما، وكما تصوغه من خلال عقائدها وعاداتها وتقاليدها، وأساليب الإنتاج فيها »12، يشكل وعيا معرفيا تتجاوز من خلاله التجربة الإنسانية حدود العبارة أو الشكل ويحقق الفكر استقلاليته وتحرره من العالم المادي مستشرفا صوب اللامرئي واللامتناهي، حيث
«تعلق العبارة (سواء من قبل المرسل أو بقرار من المتلقي) بمضامين سديمية، أي بجملة من الخاصيات تعود إلى حقول مختلفة يصعب تنظيمها تنتمي إلى موسوعة ثقافية معينة. وهذا ما يجعل كل شخص بإمكانه أن يتفاعل إزاء العبارة فيملؤها بالخاصيات التي يقرها أكثر، من دون أن تستطيع أي قاعدة دلالية تحديد صيغ التأويل الصحيح. »13
ومن دون أن يفقد النص مقصديته، حيث يعمد القارئ إلى إحداث تأويل ينفتح على الدلالات الممكنة والمحتملة دون أن يكون جائرا على الدلالات الكامنة في النص تجنبا للتأويل المنحرف.
من هذا المنطلق التصوري يمكننا القول إن إنتاج النصوص مرهون بجهود القارئ من خلال تفاعله مع النص وتجاوبه مع المؤلف وبضرورة امتلاكه للموسوعة، إذ
«لا يمكن استنفاذ معاني هذا المعطى دون سبر أغوار البياضات والفراغات التي تسيج النص، فالقارئ حينما يتعامل مع النص لا يتعامل معه دون ذاكرة معرفية تتحرك عبر ما يثيره النص من شفرات وعبر ما يتضمنه من خصائص ظاهرة تسمح للمتلقي كي يمارس فعل التأويل دون أن يكون جائرا على محمولات النص وذلك حتى لا يتحول النص إلى واقع يسوده الهذيان في نحو من اليوتوبيا العائمة»14.
وبناء عليه يمكننا الحديث عن منظومة نسقية نستطيع أن نقف من خلالها على طبيعة الموضوع وما يقتضيه المعنى المباشر ومن ثم الديناميكي إذا ما ربطنا النص بمرجعيته الثقافية التي تسيجه وتجعله قابلا للتأويل. وفي خضم هذا الطرح حاولنا أن نَبسُط لقراءة سيميائية تأويلية نصل من خلالها إلى المؤول الديناميكي ومن ثم النهائي لقصيدة أنثى من شرفات القافية عبر سلسلة من الإحالات التدليلية انطلاقا من العنوان (أنثى من شرفات القافية).
2. فاعلية العنوان في إنتاج دلالة النص
يمثل العنوان الفاتحة النصية لكل منجز إبداعي يمكن إدراك ممكناته الدلالية ضمن نسق من العلامات، ذلك أنه يتحول إلى علامة سيميائية تمارس فعل التمدلل داخل النص كما يقوم بدور المحفز لإثارة التوقعات لدى المتلقي. وعلى هذا الأساس يظل العنوان موجها فعالا في عملية القراءة، إذ تتبدى فاعليته عبر ما يؤديه من رمزية... فضلا عن كونه خطابا يمارس وجوده الدلالي ضمن بلاغة الإيجاز. ويعد بذلك العتبة الأولى التي يتم « عن طريقها الولوج إلى عوالم النص، وعنصرا مساهما في تفجير سيرورة الانفتاح التأويلي »15، ومن هنا ينهض عنوان (أنثى من شرفات القافية) على كثافة إيحائية تنبني دلالتها على هذه النخوة الأنثوية التي بثها الشاعر في ثنايا القصيدة عبر دال « مريم »، ومن ثم تتحول مريم إلى علامة سيميائية ذات مرجعية دينية يستحضر من خلالها الشاعر شخصية المرأة الصالحة التي وهبت نفسها لخدمة المعبد، ضمن مشهدية يضمر من خلالها التعالق الروحي بين شخصية مريم وشخصية المرأة الافتراضية التي استطاع أن يؤنسن من خلالها الجزائر ويجعل حبها يخدم قصيدته.
ذلك أن مريم رمز للخصوبة والعطاء والإعجاز في النصوص الدينية. وهي علامة تحيلنا ضمن سياقها التداولي في القصيدة إلى مدلول «الجزائر» أرض المعجزات والعطاء الثوري، وتتضح دلالة هذه الصورة عبر تعالقها مع مطلع الإلياذة لمفدي زكرياء في نحو قوله:
جزائر يا مطلع المعجزات *** ويا حجة الله في الكائنات 16
في ضوء هذا التداخل النصي تفرز القراءة التأويلية نصا جديدا ينهض في دلالته على قداسة الوطن المخضبة أرضه بدماء الشهداء والذي يشاكل قداسة الأم وتضحياتها، ضمن مشهدية جسدتها صورة (أنثى) لم يشأ الشاعر أن يحدد هويتها ليوسع من دائرة الممكن والمحتمل لدى القارئ، ومن ثم فهو يحيلنا عبر علامة (أنثى) إلى مجموعة من الإيحاءات تستدعي دال (الأم، البنت، الحبيبة...) ما يطلق عليه بورس المؤول الدينامي الذي يتحول إلى علامة أخرى تنطوي في سياق استعمالها على بعض خصائص الأنوثة التي تتمتع بها المرأة من (رعاية، حنان، حب، عطاء،... ) وعبر هذا النسق العلامي تتشكل سيرورة تدليلية ننتهي من خلالها إلى المؤول النهائي (الوطن) الذي حاز مطلق الأنوثة في القصيدة، وهي حيازة يمنحها العنوان للنص عبر أيقون « الميم » الذي تنسب إليه القصيدة بوصفه رويا لعروض القافية (مريم) ومن ثم فهو يمتد عبر كل الأبيات ليحيل على سيادة الوطن وسُموقه التي استمدها من مدلول مريم لما أسند إليه من محمولات دلالية تنهض في معناها على السمو والعطاء، ذلك أنه اسم علم على وزن « مَفْعَل من رام يرِيمُ...والرَّيْمُ : الزيادة والفضْلُ »17..« ورَيَّمَ بالمَكَانِ : أقامَ به »18. هذه الإقامة حددتها الدلالة المكانية للمقام الذي تعتليه الأنثى لتطل منه عبر كل القوافي، وهذه الإطلالة جسدتها كلمة (شرفة) التي تنبني في دلالتها اللغوية على مفهوم العلو، ذلك أنّ شرفات جمع شرفة، والشرفة) أعلى الشيء)19 وجاء في المعجم الوسيط: الشرفة « بناء خارج من البيت يُستشرف منه على ما حوله. »20
فالجمع والتأنيث والعلو وحركة الضم التي لازمت الروي، إيحاءات دلالية تحيل على الحضور المكثف للأنثى في كل أبيات القصيدة لشيء من الرفعة في مكانتها وشأنها.
انطلاقا من هذه القراءة التأويلية للعنوان نحاول تتبع طرق اشتغاله داخل القصيدة بوصفه علامة دالة تسلمنا مفاتيح النص، هذا وإن أفضت «العلامة المنعزلة إلى العديد من الاستنتاجات إلا أن فضاء تأويلها يضيف دائما أكثر إذا ما أضيفت إليها علامات أخرى تقيم معها تعالقا متماسكا. »21 وهذا ما أمكننا الوقوف عليه فعلا ضمن جملة من التمدللات التي تشكل سيرورة تدليلية نستشف من خلالها اشتغال العلامات على مبدأ التعالق الدلالي والتعاضد النصي الذي قادنا إلى ملء « فضاءات المسكوت عنه أو المصرح به الذي بقي في البياض »22 وعليه يبدو أنّ الشاعر مدرك لفاعلية الحذف ضمن ما تؤديه دلالة الحضور والغياب في توليد المعنى، إذ جعل العنوان في بنيته التركيبية قائما على غياب المسند؛ المقدر في بنيته العميقة على فعل محذوف تقديره (تطل)، ليزيد من غموض المشهد الذي يثير عدة تساؤلات في نفس القارئ حول علاقة الأنثى بالمكان وطبيعة هذه العلاقة التي تنقلنا عبر سلسة من الإحالات التدليلية إلى متن النص.
حيث يفتتح الشاعر المقطع الأول بجملة فعلية تؤدي دلالة الهز والحركة في مستهل قوله:
هزّي بـجذعِ مودّتي يا مريـمُ
تسّاقطِ الكلماتُ درّاً والفمُ
روحي السريُّ ببابِ صمتكِ فانطقي
تُنثرْ زنابقُ وجنتيكِ وأنـجُمُ 23
وهي اللحظة التي امتثلت فيها الأنثى للصمت وفقا لما تشير إليه دلالة السكون والاستقرار في الجملة الاسمية للعنوان، التي يحاكي عبرها الشاعر زمن الصمت والخوف الذي عاشه وطنه في ظل العشرية السوداء، في مشهدية يتناص فيها الخطاب الشعري بالخطاب القرآني في سورة مريم : ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا(24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)﴾ 24، حيث تشكل ثنائية (الصمت والنطق) علامة سيميائية تحيلنا في عمقها الدلالي إلى ما تقتضيه رمزية الوحي والولادة التي تقابلها دلالة الإلهام والقصيدة ومن ذلك ميلاد عيسى وميلاد القصيدة؛ هذه الولادة أحدثت مفارقة دلالية على مستوى النص الشعري إذ أخدت بعدا تأويليا يروم من خلاله الشاعر ربط الأحداث وفق نسق من العلاقات التي تشكل في سيرورتها نصا جديدا مغايرا للنص الأول؛ اشتغل عبره الشاعر« على ما هو خارج نصي لتعضيد التأويل »25 ذلك أن ولادة عيسى عليه السلام ومعجزة نطقه في مهده تحققت على مستوى الخطاب القرآني في حين أن القصيدة بقيت في المخاض رهينة الخوف والصمت ويتضح ذلك من قوله : (محراب لا، يتلعثم، أكاد، حلم) وتشير هذه المدلولات في معانيها إلى عجف الجزائر وإعراضها عن الكلام نتيجة الوضع الذي آلت إليه والذي انعكس على الذات الشاعرة لبغداد سايح.
والشاعر إذ وظف الفعل (هزي) فهو ينشد التبدل والتحول والتغيير للواقع البائس الذي يعيشه وطنه والحزن الذي أسكت فيه صوت الشاعر والمحب ومن ثم فهو يأمل أن تطال هذه الحركية مشاعره وتهزها - مختزلا المسافة الزمنية بين العلة والمعلل-. ورد هذا في جملة تعليلية حذف منها حرف التعليل، ساقها في قوله: (تساقط الكلمات درا والفم) لما تنهض عليه من دلالة (الإلهام، الوحي، العطاء، الكلام، النظم..) لأن الجزائر تمثل مصدر إلهام له وجزءا لا يتجزأ من قصائده وهو ما تحيلنا إليه العلامة السيميائية (هزّي بـجذعِ مودّتي ) والجذع متأصل متجذر في الأرض وهي صورة استعارية تنهض على كثافة إيحائية تَبين عن تعلقه بوطنه وعمق التجربة الشعورية لديه.
وتمتد دلالة هذه الرابطة الروحية لتخدم الموقف التواصلي الذي يتمثل من خلاله الشاعر روحه سريا في قوله: (روحي السري)، وجاء تفسير السري في القرآن بمعنى النهر: ﴿فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾. والنهر وفق ما يقتضيه سياق القصيدة رمز للصفاء والطهارة الروحية، وهي إحالة على أنّ القصيدة تفوح بحب طاهر. وهذه الطهارة والصفاء تتوزع عبر ثلاثية (مريم، النهر، البياض(بيضاء)) حيث أفرزت سماتا دلالية تتوافق وتتعالق مضمونا مع (شخصية مريم، اللون والأرض) وتتحدد طبيعة هذه العلاقة ضمن نسق من العلامات لتدل على حب الحياة ومنه حب الوطن.
والشاعر يعترف بطهارة حبه التي استمدها من طهارة وعفة (مريم) والتي تقابلها طهارة الأرض في قوله: (المحراب، دُرًّا) عبر إقامة علاقة تمدلل بين هذه الوحدات اللغوية وربطها بدلالة الفعل (توضأت) مراعيا مقامية المكان والمكانة (الشرفة، السماء، مريم). « ومن هنا يتبدى التأويل في فاعليته من حيث المرجعيات المسبقة، إذ يساهم القارئ في انفتاح النص انطلاقا من خلفياته الموسوعية واعتماده على مقولات النص واستراتيجياته »26 التي تسمح بتجاوز المعنى المباشر والانفتاح على العوالم الممكنة، وعليه فاشتغال الشاعر على المستوى الداخلي للموضوع المباشر من حيث علاقته مع مرجعه ملمح سيميائي يتضح من خلال اعتماده على الجانب العلائقي للوحدات اللغوية (الوضوء، المحراب، مريم، السَّرِيّ...) الذي أفضى إلى إنتاج سيرورة تدليلية تقتضي امتلاك سنن ثقافي يحيل القارئ على إيحاءات دلالية تتآز معرفيا ودلاليا مع مدلول الوطن في سياق ديني يجمع بين بعض خصائص الأنثى/مريم والجزائر بوصفها مرجعية لقصيدته.
ينهض المقطع الثاني من القصيدة على زخم دلالي يفرزه المشهد المرئي في صورة تخييلية تحاكي مناجاة الشاعر لوطنه عبر سلسلة من الوحدات الإيمائية الدالة على الهوية والانتماء بحيث تشكل حركة العين في بعدها الضمني نسقا تواصليا نستشفه في قوله:
عيناكِ ترتشفانِ منّي نظرة
وبـخافقــي لهمـا هــوى يترنـّمُ
كالشّاي تسكُبني الـحلاوةُ منهما
وكأنني من غيرِ وجهكِ علقمُ
عيناكِ خاشعتانِ في محراب « لا »
والـحـُسنُ خلفهما شذاً يتلعثم
بهما توضّأتِ السماءُ ورتّلتْ
آي الـجمالِ فطارَ ليلٌ مُغــرمُ
عيناكِ ترتـحـلانِ أشعاراً معي
ولحون أشواقٍ يُبرعمُها الدمُ27
ومن ثم ينطوي دال العين في القصيدة على وظيفة إيحائية تنبني على دلالة التأمل الروحي عبر ما تؤديه مفردات هذا المقطع (الارتشاف، الخشوع، الارتحال) من رمزية، حيث يرتشف الشاعر من فيوضات الحب الصوفي، لينتقل عبر هذا النسق الرمزي من حال مراقبة ومكاشفة في قوله : (عيناكِ ترتشفانِ منّي نظرة) إلى عمق التجربة الروحية فيعيش عبرها مرحلة فناء في وطنه الجزائر في نحو قوله : (كالشاي تسكُبني الـحلاوةُ منهما...) ولما كان « الفناء نسبة تزول »28 وظفه الشاعر بوصفه علامة سميائية لتخدم النسق المضمر في قوله : (عيناكِ خاشعتانِ في محراب « لا »...، .. يتلعثم، فطارَ ليلٌ مُغرمُ) لينتهي إلى مرحلة بقاء بمحبوبته حين يقول : (عيناكِ ترتـحـلانِ أشعاراً معي...، أنا منكِ يا بنتَ الجزائرِ سُكّرٌ...). فبعدما صفا قلبه لهذه الأنثى وفني فيها حبا آمن بها وطنا وروحا تسكنه فبقي بها قصيدة. وهو ما تؤكده الصيغة الرمزية (لحون أشواق يبرعمها الدم، أنا منكِ يا بنتَ الجزائرِ سُكّرٌ).
ويحيلنا تجلي النزعة الصوفية في القصيدة عبر مجمل العلامات اللغوية (الحسن، هوى، مغرم، أشواق..) إلى الطهارة والتعالي؛ ذلك أن الشاعر يريد أن يتجاوز الحب المادي الذي تمثله صورة المرأة عبر دال (مريم، الأنثى) إلى معان روحية تقابل في معناها الباطن دلالة المؤول النهائي (الوطن). ويتضح ذلك في قوله :(.. الـحـُسنُ خلفهما شذاً يتلعثمُ) فـ «الحسن والجمال موجود في غير المحسوسات، إذ يقال: هذا خلق حسن وهذا علم حسن...، وشيء من هذه الصفات لا يدرك بالحواس الخمس بل يدرك بنور البصيرة الباطنة. »29 وعليه يتمثل الشاعر حُسن الجزائر (لطيفة) يكاد استدراكها عبر توظيفه للرمز الصوفي.
وفي مشهدية أخرى يقدمها بغداد سايح ضمن هذا المقطع الشعري:
فـأكادُ أُبصـــــرُ مُقلتيـــكِ عــــلى يدي
وعــلى شفاهِ الفــجرِ فُلاّ يُضــرمُ
هُـــدُبٌ تسُــــلُّ مواجعـي فإذا بـهِ
حُلـمٌ هنــاكَ بـمهـــدهِ يتكلــّمُ
أنـا حيـــنَ يُشــعلُني نـواكِ محـاولاً
قفـــزاً إليــــكِ فكلُّ ســـورٍ يُهـــدمُ30
تشكل سميائية الجسد من خلال دال (مقلة، اليد، شفاه، هدب) بعدا جماليا ودلاليا على مستوى القصيدة، من حيث اشتغال الشاعر على فضاءات متعددة «رغبة في الخروج من دائرة الذات/الجسد، لخلق المعادل المحدد للكينونة ضمن دائرة الفضاء الواسع. »31 إذ نلفيه يتجاوز الوظائف الفيزيولوجية لهذه العناصر ليمنحها قيمة رمزية، وهو بذلك يستدعي قارئا نموذجيا يمتلك سننا كافيا يمكنه من فك شفرات النص وفهم ممكناته الدلالية.
وتتضح فاعلية الامتداد الدلالي في هذا المقطع عبر توظيف دال اليد في القصيدة ليحيل إلى (الكتابة، الإبداع، القبض، التملك) لحظة ارتباطه بدال المقلة، و«المُقْلَةُ: شَحْمَة العين التي تجمع السَّواد والبَياضَ...وقيل : هي العين كلها ».32 وهي علامة سيميائية تقوم في دلالاتها على ثنائية (الليل والنهار)، (القرطاس والمداد) ومن ثم تجتمع دلالة هذه الوحدات لتعكس اللحظة الإبداعية للشاعر وهي تتأرجح بين حالتي مد وجزر، تؤكدها دلالة الفعل : (أكادُ).
والفجر في القصيدة يدل على الجديد والمبهم، على المستقبل المجهول الذي يكاد يراه شعلة من الشوق والأمل وشفاها تنطق بلسان قلمه غير أنه يستيقظ على حلم ما زال صغيرا في مهده لأن دموع الجزائر أعمق من أن تكفكفها قصيدة في قوله: (حُلمٌ هناكَ بـمهدهِ يتكلّمُ) والهدب في سياق ما ورد: (هُدُبٌ تسُلُّ مواجعي فإذا بهِ) من «الهُدْبة والهُدُبَة : الشعرة النابتة على شفر العين، والجمع هُدْبٌ وهُدُبٌ. »33 وهي تشكل في معناها الاستعاري علامة سيميائية تنبني في دلالتها على الاضطراب والأرق الذي يوقظ أحلامه ويحُول دون استقرار وطنه. وهو ماتحدده الحركة التدليلية التي يحيلنا إليها أيقون الفجر؛ كونه يجمع بين السواد والبياض ويفصل بين الليل والنهار، بحيث تتأسس هذه البرزخية الجامعة المانعة في دلالتها على ثنائية (الشوق والمجافاة) (الوصل والفصل) (الحقيقة والخيال). لتعكس الحالته النفسية للشاعر عبر ما تؤديه رمزية التقابلات الضدية في نحو قراءة تأويلية تنهض على دلالة التوتر والاضطراب الذي تعيشه الجزائر في فترة زمنية معينة. حيث تشكل دلالة الزمن علامة سميائية تتمحور حولها أحداث القصيدة في نحو ما أورده الشاعر في هذا المقطع قائلا:
أمســـــيتِ في لُجــجِ الغيابِ ســفينةً
لــمّـا دعـاكِ إــى رحيــلٍ مأتــمُ
أبــحـرتِ مغمضـــــة الـكلامِ بلا غدٍ
بيضـــــاءَ يتبعُــكِ البـــكاءُ الأعظـمُ
موجُ الدموعِ يضــــجُّ من زبدِ الـــمنى
حتى الصخـــــور برغمِهــــــا تتألـــــّمُ
للرمــل أعـــــزفُ ذكرياتـي غارقــاً
إنــــي أمــــامَ ذبـــولِ عُمــركِ أُهــــــزمُ
طعَـــــــنَ الفراقُ.. أنـا نزفــــتُ حكايــةً
و«سألتُ طينَ الـجرحِ:» هلْ لكِ توأمُ؟ 34
وعليه ينبني ثالوث الزمن في القصيدة (الليل، الفجر، المساء) على كثافة رمزية تحيل إلى الظلام، الغروب، الغموض والحزن، عبر تعالقه دلاليا مع مشهد (المأتم، موج الدموع، بلا غد، البكاء الأعظم...) الذي يصور معاناة الجزائر في زمن ربط الشاعر دلالته بالمساء وتتضح صورة ذلك في بناء الفعل (أمسيتِ) على السكون؛ وذلك لاتصاله بضمير يعود على الأنثى (الجزائر) ليدل على استغراقها فيه حزنا وكآبة، « لأن التاء قد صارت كأنها جزء من الفعل إذ كانت لا تقوم بنفسها ».35 وهنا تتحول الظلمة والسواد في ارتباطهما بالليل والمساء، إلى معطى ثقافي يشير إلى مدى تأثر الشاعر بأحداث العشرية السوداء، مما جعله يضفي على المشهد دلالة الكآبة إذ ربط هذا المقطع الشعري بالسفر المعنوي والفراق الروحي في قوله : (أبحرت مغمضة الكلام بلا غد، للرمل أعزف ذكرياتي غارقا، طعن الفراق..). وهو نسق يستدعي دلالة الخيبة عبر ما تفرزه الصورة الاستعارية (مغمضة الكلام بلا غدٍ) من إيحاءات دلالية تضمن استمرارية مشهدية الحزن إثر تفاعلها مع سياق القصيدة، وهي بذلك تعدّ آلية سيميائية تستدرج القارئ لملء فراغات النص.
ذلك أنّ النص برأي إيكو «ليس عبارة عن نسيج من الدلالات المصرح بها فقط، بل هناك قارة رهيبة من المسكوتات، التي يتوجب على القارئ ملء فراغاتها، واستنطاق مكنوناتها. »36 بحيث تشكل هذه المضمرات عبر امتدادها في غياهب المعنى الرمزي فضاء للتأويل يبسطه النص والشاعر أمام القارئ كونه يؤدي «وظيفة تعاضدية، تساعد النص على تحيين حيله التعبيرية.» 37ومن ذلك ما اشتمل عليه قول الشاعر :( إني أمامَ ذبولِ عُمركِ أُهزمُ، طعَنَ الفراقُ.. /أنا نزفتُ حكايةً) من استعمالات استعارية قائمة على مخاتلة القارئ، ذلك أنّها تضعه أمام دلالة (الموت، النهاية، التوقف، اليأس، الكتمان)، ثم تليها نقطتان متتابعتان (..) حيث يترك الشاعر مسافة تخييلية تمنح المشهد دلالات جديدة بعد إحالة القارئ على العلامة الاستعارية (أنا نزفتُ حكايةً) لتكسر أفق التوقع لديه عبر فعل النزيف الذي يدل على الاستمرار والسيلان والكشف، ومن ثم تكتمل الصورة لديه عن الواقع الأليم الذي انتهى بالشاعر إلى شدة الحزن والبثّ الذي وافق دلالة النزيف والحكاية.
يصور المقطع الشعري اللحظة التي أسالت حبر الشاعر لكتابة هذه القصيدة التي يبث عبرها آلامه وأحزانه. ضمن نسق استعاري تفاعلي يضمن «توليد وتنظيم شبكة نافعة كنقطة اتصال بين المستوى الرمزي بارتقائه البطئ، والمستوى الاستعاري السريع الزوال»38 ليمتد في صيغة رمزية صوب مساءلة الأنثى عبر دال الطين الذي يرمز إلى الأرض ومنه الجزائر في سياق استنكاري (وسألتُ طينَ الـجرحِ: «هلْ لكِ توأمُ؟») يحملنا على الإقرار بمكانة الجزائر وفرادتها وفق سيرورة تدليلية تربطنا بالعتبة الأولى للنص (أنثى من شرفات القافية).
وبناء عليه يحيلنا مشهد العودة إلى الماضي إلى دلالة الحسرة على الوضع الذي آلت إليه الجزائر، ضمن ما ورد في المقطع الأخير من القصيدة:
كنـتِ الـحديقــة أغـــــــرسُ الدنيا بها
ليفـــوحَ شعرٌ...حبّنا..و تبسُّمُ
كـنتِ القصيـــدة ترتدين مشــاعري
وتُلوِّنينـي بالدلال فأُرسمُ
أنـا واحةٌ صمّـاءُ ودّعنـي الصّدى
ومـــدىً حزيـــنُ الصّبحِ بعــــــدكِ أبكمُ
نبـضٌ يُفتــِشُ فـــي الثرى عــن قلبِه
يطــأُ الــجـِنـــان فتســـــتفيق جهنــــــّمُ
أنا منــكِ يــا بنــتَ الجزائرِ سُــــكّرٌ
حُزنــي يذوّبُنــي فـــداكِ وأكتـــُمُ39
يُحْدث الشاعر من خلال تكراره للفعل (كنتِ) والضمير (أنا) مفارقة زمنية بين ماضيه وحاضره بين اتصاله وانفصاله عن روحه عن قصيدته الجزائر، ومفارقة مكانية شكلتها الثنائيات الضدية (الـحديقة، واحةٌ صمّاءُ)، (الـجـِنان، جهنّمُ)، يدلنا هذا على عنصر المفاجأة في القصيدة الذي تَشكَّل عبر تكسير الخطية الزمانية والمكانية داخل النص قصد إثارة القارئ وإشراكه في بناء المعنى.
وفي السياق ذاته يشتغل بغداد سايح على رمزية المكان مضمرا صورة الصحراء في قصيدته (الرمل، واحة، الصدى...)؛ ذلك أنه يريد أن يتخذ منها عالمه الحزين (فالواحة الصماء) صورة رمزية تحيلنا من قبيل الاستعارة المكنية إلى الوحدة، الفراغ، الحاجة إلى أنيس، الوحشة...، لأن القصيدة هي صدى لصوت الجزائر الذي يريد أن يُسمعه للوجود ويبث عبره آلامه وأحزانه.
وعليه تتغير دلالة المشهد الشعري في القصيدة عبر اللازمة الشعرية التي اتخذها الشاعر مقاما للبوح في نحو قوله:
قولي جزائرُ ما تـــقـــولُ لــنـا الــوُرودْ
قولي الـمحبّة سوفَ يسمعُــكِ الوُجــودْ
لكِ حُبّنا والــمجدُ كلّـهُ والـخُـودْ40
الخاتمة
تشكل الخاتمة النصية علامة سيميائية، يُحدِثُ من خلالها الشّاعر تحوّلا دلاليا على مستوى القصيدة، لحظة خروجه عن الصمت الذي طوق قصيدته عبر أيقون الميم (الرويّ)؛ وهو حرف «صامت انسدادي»41 مطبق42،. أخذ في هندسته شكلا دائريا مغلقا ينهض على دلالة (الصمت، الكبت، الكتم). ليتخذ من اللازمة الشّعرية مقاما للبوح والتنفيس عن آلامه عبر حرف الرّويّ (الدّال) (الورود، الوجود، الخلود)، والدال «صوت شديد مجهور...انفجاري.. »43 يشاكل في دلالته الصوتية معاني الإفصاح، الإفشاء والتنفيس.
تتعالق دلالة الصمت مع مشهدية البوح ضمن سيرورة تدليلية تشكل النسق العام للقصيدة، حيث أضمر الشاعر اسم وطنه (الجزائر) ضمن دال (أنثى، مريم، طين الجرح/الضمير المستتر «أنتِ») وهي علامات سيميائية أفرزت سيرورة تدليلية امتدت ديناميتها عبر مجمل أبيات القصيدة، لينتهي الشاعر إلى الجهر باسم وطنه والمجاهرة بحبه للوجود مقرا بذلك عبر هذه اللازمة الشعرية التي ختم بها قصيدته.
ويحيلنا هذا إلى النسق العام للقصيدة الذي ينبني على ثنائية تضادية تتوزع بين (الصمت والبوح)، حيث يبحث بغداد سايح عن ذاته الشاعرة وهو يعيش حالة (شوق ومجافاة) (وصل وفصل) عن وطنه وملهمته الجزائر، إذ يسعى للوصول إلى صرح هذه الأنثى التي أطبق عليها الحزن والصمت في زمن العشرية السوداء، والقصيدة هي متنفس الشاعر التي يبث عبرها آلامه وأحزانه.
بناء على ما تقدم ذكره يمكننا القول أنّ السيميائيات اعتبرت النص المؤوَّل تجربة القارئ الذي يمتلك سننا كافية للإحاطة بالموضوع المباشر، ومن ثم تتحول العلامة إلى مدلولات تتجدد وتتوسع وفق نظام من الإحالات التدليلية التي ينبني عليها النص حيث تتوسع دلالة المعنى وفق الموضوع الديناميكي الذي يقتضي ضرورة التوقف لدى المؤول النهائي الذي يحدده سياق النص حتى لا يضيع المعنى في فوضى الانفتاح المطلق.