خطابات المتنبي بين سلطة الأنا والمثاقفة مع الآخر

نحو خصوصية مغايرة للشعرية العربية

Les discours d'Al-Mutanabbi entre l'autorité de l'ego et l'acculturation : vers une autre intimité de la poétique arabe

Al-Mutanabbi’s Discourses Between the Authority of the Ego and Acculturation: Towards Another Intimacy of Arabic Poetics

كوثر بوقرة Bouguerra Kawtar et زوليخة زيتونZitoune Zoulikha

p. 543-565

Citer cet article

Référence papier

كوثر بوقرة Bouguerra Kawtar et زوليخة زيتونZitoune Zoulikha, « خطابات المتنبي بين سلطة الأنا والمثاقفة مع الآخر », Aleph, Vol 10 (2) | 2023, 543-565.

Référence électronique

كوثر بوقرة Bouguerra Kawtar et زوليخة زيتونZitoune Zoulikha, « خطابات المتنبي بين سلطة الأنا والمثاقفة مع الآخر », Aleph [En ligne], Vol 10 (2) | 2023, mis en ligne le 31 mars 2023, consulté le 21 décembre 2024. URL : https://aleph.edinum.org/8363

تحاول هذه الدّراسة التأصيليّة الانتصار للحضارة العربيّة في خضم الفلسفات الغربية المعاصرة التي حاولت الإطاحة بها، وملامسة الجوانب الواعية للفكر العربي في تعامله مع الثقافات الآخرية، خاصة وأننا نحيا في واقع تغيّبت فيه المؤسسات الثقافية العاملة على تأسيس خطاب ثقافي عربي يؤمن بالمثاقفة التشاركية الايجابيّة بين الأنا والآخر. بعيدا عن الاستنساخ والتبعيّة، ممثلين في ذلك بخطابات المتنبي التي تختزل داخل مكنونتها محاولاته الجادة في تحديد احداثيات الهوية العربيّة في خضم الخلط الهويّاتي والثقافي الذي عرفه عصره، مستندين في ذلك إلى المقاربة الوصفية التحليلية.

Cette étude passe en revue la brillance de la civilisation arabe au milieu des philosophies occidentales contemporaines qui la mettent en crise.

Fondée sur la transculturalité, elle aborde les aspects conscients de la pensée arabe dans sa relation avec les autres cultures qui l'environnent dans un espace où les institutions n'œuvrent pas pour favoriser l'émergence d'un discours culturel arabe qui croit en une acculturation participative positive entre l’ego et l’autre, Loin du clonage et de la subordination.

Basée sur une approche descriptive et analytique, cette étude prend appui sur les discours d’Al-Mutanabbi qui présentent des tentatives sérieuses pour déterminer les coordonnées de l’identité arabe au milieu d’un mixage des identités et des cultures de son temps.

This study reviews the brilliance of Arab civilisation in the midst of contemporary Western philosophies that put it in crisis.
Based on transculturality, it addresses the conscious aspects of Arab thought in its relationship with other cultures around it in a space where institutions do not work to foster the emergence of an Arab cultural discourse that believes in a positive participatory acculturation between the ego and the other, far from cloning and subordination. 
Based on a descriptive and analytical approach, this study draws on Al-Mutanabbi's discourses that present serious attempts to determine the coordinates of Arab identity in the midst of a mix of identities and cultures of his time.

مقدمة

جاءت هذه الدراسة لتقف على خصوصية الشعرية العربية المغايرة في خطابات المتنبي؛ والتي استطاع من خلالها كسر أفق توقع معاصريه محاولا بذلك مزاحمة الآخر في ساحة العولمة-الحداثة الشعرية الناتجة عن التشاكل بين سلطة الأنا والمثاقفة مع الآخر عن طريق المثاقفة التشاركية التي عرفها العصر العباسي آنذاك.

وتهدف الدراسة إلى إبراز جدلية الأنا والآخر في شعر المتنبي انطلاقا من تشغيل آليات المثاقفة والحوارية والتناص والتفاعل وحتى الترجمة، لأجل تحديد عناصر التفرّد الهوّياتي في الشعرية العربية. من أجل ذلك جاءت إشكالية البحث : كيف تمظهرت خطابات المتنبي بين سلطة الآنا والمثاقفة مع الآخر؟، والتي يمكن صياغتها في التساؤلات الآتية :

  • ما مصدر خطابات المتنبي؟

  • هل تأثر المتنبي بثقافة الآخر في خطاباته؟

  • هل كان هذا التأثر واعيا أم أنه مسّ بحدود الأنا العربية؟

  • هل يمكن اعتبار المثاقفة استراتيجية فاعلة لدخول المتنبي عوالم الابداع الشعري الحداثي؟

  • وهي الإشكالية التي اقتضت الاستناد إلى المقاربة الوصفية التحليلية، فضلا عن الاستعانة بعديد المفاهيم والآليات الإجرائية المستقاة من المقاربات النصية كالحوارية والثقافية.

وتكمن أهمية هذه الورقة البحثية في أنها تحاول التبرير لوجود حداثة شعرية عربية في مسيرة المشهد الإبداعي العربي، الذي أضحى مجرد ناقل، ومتتبع لمسارات غيره، بالامتثال لجميع المقولات والأفكار المصدرة من الآخر، دون أن يعير أي اعتبار لتطابق سياقتها مع القيم العربية.

1. مقاربة مفاهميّة

1.1. مفهوم الخطاب

  1. لغة : لم يحظ مصطلح الخطاب بمفهوم واضح المسار، وذلك لتواتره التجديدي تبعا لراهنية وخصوصية المرحلة المعاشة، فقد ورد هذا الأخير في القرآن الكريم بصيغ مختلفة، منها في قوله تعالى : ﴿فَقَالَ أَكۡفِلۡنِيهَا وَعَزَّنِي فِي ٱلۡخِطَابِ﴾ (سورة ص: الآية 23)، وكذلك في قوله : ﴿وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُ وآتيناه ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ﴾ (سورة ص: الآية 20). وقد فسّر الزمخشري عبارة فصل الخطاب بقوله : « إنه البيّن من الكلام الملخص الذي يتبيّنه من يخاطب به، ولا يلتبس عليه » (النحوي، 1997، صفحة 90). يظهر من خلال الآيتين أن كلمة فصل قد أبانت لنا أكثر عن مدلول الخطاب في القرآن الكريم؛ والذي يشير إلى الكلام البيّن البعيد عن كلّ لبس، الخالي من كل تعقيد فيكون بذلك واضح المقاصد والمرامي.
    أما عن معاني هذا الأخير في المعاجم العربية يمكن أن نستذكر منها ما جاء في لسان العرب لابن المنظور : « خطَب الخطب : الشأن أو الأمر صغُر أو عظُم، سبب الأمر...، والخِطاب الأمر الذي تقع فيه المخَاطبَةُ والشأن والحال...والخطابُ ومراجعةُ الكلامِ، وقد خاطبَه بالكلام ِمخاطبةً وخطابًا وهما يتخاطبانِ ». (المصري، 1994، صفحة 359. 360). أما قاموس المحيط فقد جاء فيه الخطاب أو الخطبة هو : « الكلامُ المنثورُ المسجعُ ورجل خطيبٌ حسنُ الخطبة » (أبادي، 2008، صفحة 478). وقد أفضى البحث عن مدلول الخطاب في متون المعاجم اللغوية العربية القديمة إلى اقتران هذا الأخير بالخطابة، كونها تمثل الجنس الأدبي الأقرب إلى دائرة اهتمامات الفترة التي عايشها اللغويون، والمواكب لخصوصيتهم الحينية آنذاك.
    وبالنظر إلى المعاجم الأجنبية، فإن أغلب المفاهيم المتعارف عليها لهذا المصطلح؛ قد أخذت معناها الاشتقاقي « من الأصل اللاتيني ( Discursus)ومعناه ( الركض هنا وهناك)، فليس أصلا مباشرا لما هو مصطلح عليه بالخطاب، إلاّ أنّ الجذر اللّغوي اللاّتيني أصبح يحمل معنى الخطاب أو ما اشتق منه من معان منذ القرن السابع عشر، فقد دل المصطلح على معنى طريق صدفي، ثم المحادثة والتواصل، كما دل على تشكيل صيغة معنوية سواء أ كانت شفهية أم مكتوبة عن فكرة ما » (شرشار، 2009، صفحة 23). وعليه فإن مدلول الخطاب في بادئ أمره كان يقتصر على المشافهة، إلا أنّ التبلور المفاهيمي أكسبه مدلولا أدبيا أحالنا إليه من خلال عبارة « صيغة معنويّة شفهيّة أو كتابيّة » (شرشار، 2009، صفحة 23). ومن ثم فإنّ كلا من المعاجم العربية والغربية في بادئ أمرها كانت تحيل إلى اقتصار هذا الأخير على الجانب المشافهاتي دون غيره، وأن السياقات اللاحقة كانت كفيلة بأن يتبلور مفهوم هذا الأخير تدريجيا إلى غاية وصوله إلى ما نحن عليه اليوم.

  2. اصطلاحا : توالت النزاعات الجدلية حول مفهوم الخطاب في حقول الدراسات النقدية والأدبية حتى وصلت أوجها، وانجر عن ذلك كثير من التصوّرات المفاهيمية لهذا المصطلح كان لكل منها منطلقها ومبرّرها.

1.1.1. عند الغرب

ويمكن في ذلك أن نورد مفهوم ميشيل فوكو (Michel Foucault)للخطاب وذلك لجديته في الطّرح باعتباره أوّل محدّد لمفهوم هذا الأخير بقوله : « هو أحيانا يعني الميدان العام لمجموعة المنطوقات وأحيانا أخرى مجموعة متميزة من المنطوقات وأحيانا ثالثة ممارسة لها قواعدها تدل دلالة وصف على عدد معين من المنطوقات وتشير إليها » (فوكو، حفريات المعرفة، 1968، صفحة 68). والملاحظ من خلال هذا القول أن الخطاب يتوفر على كثير من الدلالات والمعاني، وذلك لتعدد سياقاته فيقول : « بدلا من اختزال المعنى المتذبذب للفظ أظن أني أضفت لمعانيه معاملته أحيانا باعتباره النطاق العام لكل الجمل، أحيانا باعتباره مجموعة متفردة من الجمل، وفي أحيان أخرى باعتباره عملية منضبطة تفسر عددا من الجمل ». وقد حاولت سارة ميلز بدورها تفسير معنى الخطاب الفوكوي لتتوصل إلى أن هذا الأخير يجعل من كل الأشياء الحاملة لمعان خطابا مهما كانت طبيعتها، آخذا بعين الاعتبار السمات المنفردة التي تفصل بين الخطاب، فلكل خطاب بنياته الخاصة التي تخلق شرخا بينه وبين غيره من الخطابات، وتواصل ميلز حديثها عن السياقات المنتجة للخطاب حسب فوكو، فتخلص في ذلك إلى أنه ينفي بأن يكون مجرد كتابات ناتجة عن لحظة حسية عاطفية شعورية اتجاه حالة ما أو تعبير عنها، ذاهبا إلى أبعد من ذلك بكثير، بأن جعل منه مؤسسة اجتماعية تعمل على كشف خبايا الواقع (ينظر: فوكو، 1984، صفحة 209). وهو ما يحيلنا إلى أن هذا الأخير يحمل في طياته كثير من الحمولات الفكرية والثقافية، والايديولوجيات والأنساق الثقافية الممرّرة من خلال التعاملات الاجتماعية المختلفة لأمر الذي يجعله منفتح الدلالات، وعليه فإن طبقات الخطابات تتشكل من سياقات مختلفة ولامحدودة.

2.1.1. عند العرب

يمثّل الخطاب من زاوية نظر جابر عصفور : « الطّريقة التي تشكّل بها الجمل نظاما متتابعا تسهم به في نسق كلي متغيّر ومتجدّد الخواص، أو على نحو يمكن معه أن تتألف الجمل في خطاب بعينه لتشكل خطابا واسعا ينطوي على أكثر من نص مفرد، وقد يوصف الخطاب بأنه مساق العلاقات المتعينة التي تستخدم لتحقيق أغراض معيّنة » (عصفور، 1985، صفحة 265). فالخطاب من منظور هذا الأخير قائم على الانسجام والتماسك الهادف لتبليغ فكرة، وقد يشتمل هذا الأخير على نص محدّد، أو يحيل إلى نصوص متشابكة زمنيا أو مكانيا أو فنيا متماسكة لغويا متناسقة دلاليا ونحويا...تشكل لنا كتلة متكاملة البناء مجسدة في الخطاب. وعبارة « على نحو يمكن معه أن تتألف الجمل في خطاب بعينه لتشكل خطابا واسعا ينطوي على أكثر من نص مفرد، وقد يوصف الخطاب بأنه مساق العلاقات المتعينة التي تستخدم لتحقيق أغراض معيّنة » (عصفور، 1985، صفحة 265). تشير في أقرب حالاتها إلى أن التناص آلية من آليات تشكيل الخطاب.

2.1. المثاقفة (acculturation) وإشكاليّة المصطلح

يشير هذا المصطلح إلى « التغيرات الطارئة نتيجة التفاعل الثقافي بين طبقتين اجتماعيتين تنتمي كل منهما إلى ثقافة مغايرة تماما للأخرى... » (فريول، 2011، صفحة 29). ويمكن أن نعرف المثاقفة أيضا بأنها : « مجموع التفاعلات التي تحدث نتيجة شكل من أشكال الاتصال بين الثقافات المختلفة كالتأثير والتأثر والاستيراد والحوار والرفض والتم ثل وغير ذلك مما يؤدي إلى ظهور عناصر جديدة في طريقة التفكير وأسلوب معالجة القضايا وتحليل الإشكاليات، مما يعني أن التركيبة الثقافية والمفاهيمية لا يمكن أن تبقى أو تعود بحال من الأحوال إلى ما كانت عليه قبل هذه العمليّة » (العنزي، 2012. 2013، صفحة 11). وتبعا لذلك، تقتضي المثاقفة آخر نقيضا في الفكر والثقافة، كبنية معاكسة تساعد الذات على معرفة إمكانات أناها، وتحقيق وجودها ضمن علاقة جدلية بين الذات وما يقابلها (الآخر)، وما ينتج عن هذه المعرفة من ارتسام لحدود الذات وخصوصياتها، الّتي تسنح لها التلاقح مع الآخر في علاقة احتكاكية توحي بأهداف نفعية تسهم في ارتقاءها، وهو يستوجب حضور المثقف الواعي المتمكن من التفريق بين المثاقفة الحقّة والتلوث الثقافي والاستلاب الهوياتي.

ونجد محمد عابد الجابري يدلي بموقفه المعادي للممارسة المثاقفتية، والتي يرى فيها مجرد هيمنة فكرية سلطت على الساحة العربية، في إطار ما يُعرف بالصراع الفكري والثقافي الهادف لمسخ شخصية الأنا، فيقول : « إن العولمة ليست مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي، بل هي أيضا وبالدرجة الأولى أيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم، والعولمة هي نفي للآخر وإحلال للاختراق الثقافي محل الصراع الأيديولوجي. وأن ثقافة الاختراق تقوم على جملة من الأوهام هدفها التطبيع مع الهيمنة وتكريس الاستتباع الحضاري » (الجابري، صفحة 5). والحقيقة أن مفهوم المثاقفة من المنظور الغربي يجعلنا نؤمن بموقف محمد عابد الجابري؛ فهم يرون فيها « علاقة بين متفوقة وثقافة متخلفة » (حنفي، 1991، صفحة 30). وهو ما يوحي بالكثير من الغطرسة والاستعلاء والاستحقار للثقافة العربية كما يحيلنا مباشرة إلى فكرة الإسلاموفوبيا التي حاولت تدنيس صورة الإسلام والمسلمين وجميع ما يصدر منهم، وذلك من أجل الحطّ من قيمة الثقافة العربية والإشادة بدونية كل ما يصدر من العرب.

كما لا يفوتنا أن ننوّه إلى أن المثاقفة قد تولدت ضمن مقولات ما بعد الحداثة، وإننا نرى أن في الحداثة وما بعدها أنهما مرحلتان لا تتواءما مع الثقافة العربية، فقد تولدتا كرد فعل على سياقات غربية، وبالتالي يجب التمحيص والتدقيق في جميع الواردات المصطلحية المسوقة لنا من طرف الآخر وغربلتها، واستحداث أخرى (مصطلحات) تختص بالثقافة العربية، وتتلاءم مع سياقاتها، وطبيعة فكر الأمة العربية، حداثة نستطيع أن نتغلب بها على ذلك الاكتساح الثقافي لثقافة الآخر والذي أفضى بنا إلى كثير من المعضلات التي تشكلت ككتلة واحدة صلبة أمام العبور الثقافي العربي لساحة التطورات، فالثقافة العربية بها من الامكانات ما يفوق الآخر فهي بحاجة فقط إلى الوثوق بإمكاناتها.

3.1. الشّعرية العربية

1.3.1. مفهوم الشعرية

سنحاول التطرق إلى الشّعريّة بمعناها الحداثي آخذين بعين الاعتبار حداثيّة شعر المتنبي، ومن المحاولات التي حاولت الإحاطة بالجوانب المفاهيميّة للشعريّة، يمكن أن نورد مفهوم عبد الله الغذامي والذي يرى بأنها : « مصطلح جامع يصف اللّغة الأدبيّة في النّثر والشّعر، ويشمل مصطلحي الأدبيّة والأسلوبيّة ». (الغذامي، 1983، صفحة 21. 22). تظهر لنا هذه الرؤية المفاهيميّة أن هذا الأخير يجعل من الشعرية مصطلحا رديفا للأدبيّة ويضعهما في كفّة ميزانيّة واحدة.

أما أدونيس فيرى أن : « سرّ الشّعريّة أن تضل دائما كلاما ضد الكلام لكي نقدر أن نسمي العالم وأشياءه أسماء جديدة » (أدونيس، 1989، صفحة 78). فهي إذا تقويض للسائد، وكسر للنمطيّة وعدول عن المألوف، فبقدر ما كان الخطاب غريبا وتجاوزيا بقدر ما كان شاعريا. ولم يكن كمال أبو ديب بعيدا عن هذه الفكرة بقوله : « أنّ استخدام الكلمات بأوضاعها القاموسيّة المتجدّدة لا ينتج الشّعريّة، بل ينتجها الخروج بالكلمات عن طبيعتها الرّاسخة إلى طبيعة جديدة، وهذا الخروج هو خلق لما أسمّيه الفجوة : مسافة التوتّر » (ديب، 1987، صفحة 38). ومن ثم فإن الصّدمة التي يحققها هذا الأخير عند المتلقي هي تحقيق للشّعرية المطلوبة.

ونجد أنّ المفاهيم السّابقة اتخذت جميعها موقفا واحدا في تحديدها لمصطلح الشّعرية، والتي تتطلب الديناميّة والتطور المصاحب لمتغيّرات الأوضاع الاجتماعيّة، والسياقات الرّاهنيّة الأمر الذي يفضي إلى أنّ الخطابات الأدبيّة في حاجة دائما إلى سمة الجدّة، والانحراف عن مسارات التقليد تحقيقا للصدمة الانفعالية والانبهار لدى المتلقي، فعلى قدر التجاوب والتفاعل تكتسب الخطابات الأدبيّة لقب الإبداعية، والشّاعريّة.

2.3.1. الشّعريّة المقارنة في العصر العباسي

شهدت الساحة الفكرية العباسية تخوما معرفية كبرى أسهمت في خلقها تلك التّلامسات التّفاعلية الثقافية بين مختلف الأجناس التي عايشت هذه الفترة، ونجد أن وتيرة هذا الاحتكاك قد ازدادت بفعل الترجمة كون العرب قد تعاملوا مع الروم قبل هذا العصر في مجال التجارة، (ينظر : عابد، 2014) وكان هذا التعامل سطحيا لم يرق إلى المستوى المثاقفاتي المعهود في العصر العباسي، إذ ازدادت وتيرته في هذا العصر على نحو لا مسبوق فولّد هذا التصادم الابستيمي بين الأنا والآخر صدمة لدى الأنا العربية ومن ثم بدأت المقارنات بين النصوص المنتمية للحضارات المختلفة، الأمر الذي أدى إلى جنوح هذه الأخيرة ( الأنا) إلى النزعة التجديدية كردّ فعل على هذه الصدمة التي كسرت أفق توقعها؛ فحاولت إثبات إمكاناتها في حلبة الصراع الثقافي الهوياتي وعمل شعراء هذه المرحلة قدر الامكان على إبراز مدى فاعليتهم في ظل هذه التغيرات، وتقوية حضورهم أمام الآخر، فاختاروا الخوض في غمار التجريب كرد فعل على الصدمات التي أحدثتها المعارف والثقافات الجديدة التي شهدوها من الآخر، ويمكن أن نستذكر في ذلك : البحتري، أبو تمام، المتنبي...إلخ. فانهالت بذلك النصوص الإبداعية وأضحى هذا العصر مسرحا رحبا للإبداع في الأدب.

وفي معرض حديثنا عن أكثر الشعراء الذين كانت لهم النزعة المقارنتية هاجسا كبيرا نجد المتنبي فقد كان واحدا من أكثر الشعراء عنفوانا ونرجسية في عصره، وذلك لامتلاكه روحا شعريّة تحرّرية رافضة لمبدأ التكافؤ، ذلك التكافؤ الذي يجعله في مرتبة واحدة سواء مع شعراء عصره أو من سبقوه، عائدا إلى مختلف المشارب الفكرية لتحقيق التنمية الشّعريّة الذّاتية التي تحقق له مبدأ اللاتكافؤ مع الآخر والتفوق عليه في الميزان الشّعري من خلال إبداعياته المثقلة باللاّمعهود. الأمر الذي جعل نرجسيته المتعالية أمرا إيجابيا أكثر منه سلبيا وهو ما سنوضحه في المباحث الموالية ونجد أن مبدأ الشعرية المقارنة يتحقق أكثر من خلال الممارسة المثاقفتية التي تتيح للآخر التعرف على ثقافات الآخر، ونواقص الأنا، والتزود من منافع الآخر بغية الاستزادة والبناء. وقد كانت نرجسية المتنبي ورغبته الجامحة في افتكاك الأستاذية الشّعرية دافعا للتثاقف مع الآخر، لكن هل كان هذا الأخير يملك وعيا انتقائيا للمعارف الآخرية؟ هل يمكن القول بأن المتنبي مثقف واع في تعامله مع معارف الآخر؟ وهو ما سنحاول الإجابة عنه.

2. آليات اشتغال المثاقفة في خطابات المتنبي

سنطرح في دراسة هذا الجانب بعض القضايا الجوهريّة التي استثارتنا خلال مسيرتنا التطبيقية لآليات المثاقفة في شعر المتنبي، وهي في مجملها استنتاجات بحثية ووجهات نظر استقيناها من قراءات مختلفة. وقبل الإشارة إليها كان لا بد من التفاتة صغيرة لمفهوم المثاقفة، والذي يشير إلى أنه « نقل الأفكار والأقوال من لغة إلى أخرى مع المحافظة على روح النص المنقول » (نعماني، 2002، صفحة 186). وهو مفهوم يراعي المعايير المنهجية لعملية الترجمة، من خلال الحفاظ على جميع ما يطرحه النص الأصلي من أفكار ورؤى أثناء رحلته بين العوالم اللغويّة.

1.2. المثاقفة والترجمة

حاولنا من خلال الطّرح السّابق أن نؤسس للحديث عن إشكالية الترجمة في العصر العباسي فبيد أن المهام الجوهرية للترجمة تعدو أن تكون مجرد استبدال أو تحويل لغوي للنصوص، إلى كونها رحلة معاني وأفكار وثقافات تمرّ عبر القنوات اللغوية للنص المترجم. وهي إشكالية كبرى كانت ولا زالت تؤرق حركة المرور الترجمي إلى يومنا هذا، وذلك لاختلاف التراكيب اللغوية بين مفردات اللغات المختلفة، الأمر الذي يستوجب هيئات مختصة في مجال الترجمة متمكنة من كلتا الثقافتين واللغتين (ثقافة اللغة الأصلية وثقافة اللغة المراد النقل إليها). وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل : هل كانت الترجمة في العصور السابقة خاصة في العصر العباسي تستند إلى معايير ممنهجة؟

والحديث عن النصوص المترجمة من اللغات اليونانية والرومانية...إلخ إلى اللغة العربية يجعلنا في حيرة من أمرنا يكمن في الإشكالية الآتية : هل كان العرب يتقنون لغة الآخر وثقافته درجة الترجمة منها إلى لغتهم؟ الأمر نفسه بالنّسبة للعجم هل كانوا يتقنون اللغة العربية وتيماتها ومختلف تراكيبها لترجمة نصوصهم إلى العربية، خاصة وأن مفردات اللغة العربية زئبقيّة وتحتاج إلى أهل اختصاص؟ هل نقلت لنا الهيئات المترجمة حينها معارف الآخر بحذافيرها نقلا علميا حرفيا ممنهجا؟ أم أنهم ترجموا هذه المعارف بتراوح نسبي بين ترجمة قائمة على حساب قدراتهم اللغوية والثقافية المستقاة من التعايش بين الأنا والآخر حينها وأخرى ممنهجة؟ وهذا ما يجعلنا نقول إن ترجمة النصوص قد لا تقتصر على ذلك الانتقال اللغوي والفكري والتصوّراتي للنص الأصلي إلى آخر مغاير له في اللغة، لأن المترجم عندما يفتقر إلى الدراية بثقافة اللغة المصدريّة أو المراد المترجم إليها، سيحاول أن يترجم بعض المفردات وفق تصوراته وخبراته المعرفية وما أتاح له فهمه لثقافة اللغتين، وهو ما يولّد فكرة أخرى لدينا يمكن أن نوردها في المخطط الآتي:

Image 1000020100000280000000902F9468CEFD91E56C.png

وتجدر الإشارة إلى أن الطرح السابق يمثل وجهة نظرنا التي استقيناها من واقعنا المعاش، فعلى الرغم من عصريتنا، وتوفر كل السبل من إعلام وتكنولوجيا إلا أن الواقع الترجمي لا زال يؤرّقنا، ويشكل معضلة كبرى لا زلنا نبحث عن حلول لسد فجواتها، ونتقصى الطرق التي تتيح لنا الترجمة الممنهجة ولم نستطع التوصل إليها كلّها، وعليه كيف استطاع مترجمو العصر العباسي أن ينقلوا المؤلفات الغربية بسهولة إلى العربية على الرغم من بدائيتهم، إنها حقّا مفارقة عجيبة تستحق البحث ! ! !

2.2. الحوارية (Dialogisme)

1.2.2. إشكالية المصطلح والمفهوم

إن الحديث عن مصطلح الحوارية يحيلنا مباشرة إلى ميخائل باختين(Mikhail Bakhtin) الذي حاول من خلاله الإشارة إلى ذلك التعالق الذي يربط أي تعبير بتعابير أخرى (ينظر: تودوروف، 1996، صفحة 121. 126) . وتشير الحوارية في أبسط أمورها إلى عنكبوتية الخطابات الموّلدة حديثا مع مختلف الأنظمة والخطابات الثقافية السابقة لها، فهو بذلك يجزم بانعدام الخطابات المباشرة المنقطعة الصّلات كونها لا تنشأ من العدم إنما هي نتاج تحاور مختلف الترسبات، والأقوال، والمواقف السابقة لها، ونجد أن حوارية باختين لم تسلط الضوء على فاعلية النصوص السابقة، والآنية في تشكيل الخطابات دون غيرهما بل ركّزت كذلك على مبدأ التأويل من خلال استشراف المبدع لردود الفعل المنتظرة اتجاه خطاباته « فالمبدع لا يتأثر بمقولات من سبقوه فقط، بل يتعدى ذلك إلى التأثر بالمقولات النّقدية التي سيتعرض له خطابه تبعا لتوقعاته المختلفة » (أحمد، 2006). وقد خصّ مبدأ الحوارية بالرّواية، واستبعده عن المجال الشّعري « فهو في نظره بعيد عن التمثيل والمحاكاة، فهو يكفي ذاته بذاته، ولا يفترض وجود ملفوظات الآخرين خارج حدوده » (أحمد، 2006). ولعل زعمه هذا تمخض انطلاقا من أن الكاتب في الرواية يحمّل شخصياته مختلف الرؤى، والتعابير والتصورات التي أراد أن يوردها في خطاباته، فتتحاور هذه الشخوص في المتن الروائي وتتصارع كل حسب ايديولوجيته، وهو ما ينعدم في الشّعر الذي يفتقر إلى التمثيل، ويكون فيه الشاعر الممثل الوحيد لشعره. والحقيقة أنه أجاد في الطّرح الذي قدّمه عن حوارية الرّواية، لكنّه أخطأ في تصوّره عن انعدام الحواريّة في الشّعر. من خلال ما سبق يظهر أن ميخائيل باختين قد حصر الحوارية في الفن الروائي دون غيره، إلا أن جوليا كريستيفا Julia Kristeva) (جاءت وطوّرت من هذا الطّرح، وجعلته يشمل جميع النصوص على اختلافها. وسنحاول في المباحث الموالية أن نبيّن مكمن الحواريّة في النّصوص الشّعريّة.

2.2.2. الحواريّة وتعدد الأصوات في خطابات المتنبي

أشرنا سابقا إلى إشكالية الترجمة في العصر العباسي، والتي أثارت بدورها قضية تعدد الأصوات. ولما كان المتنبي واحدا من فحول هذه المرحلة، فقد عمد إلى ملامسة ما يطرحه الآخر من حمولات ثقافيّة على سبيل الاستزادة الفنيّة الابداعيّة، وهو ما تجسّد في خطاباته الخارقة للمألوف، والتي كانت سببا في انهيال المؤلفات النّقديّة عليه. ولأننا نسعى إلى تبيان مسارات المثاقفة عند هذا المبدع بمعناها الإيجابي الطامح للإعلاء من الأنا العربيّة عامّة محاولين اسقاط الاتهامات التي ألحقت بها، والتي كانت ناتجة عن تصوّرات ضيقة وفكر محدود، ومن جملة ما تأثر به المتنبي يمكن أن نورد : « الفلسفة اليونانيّة »؛ والتي تسرّبت إليه من خلال احتكاكه بالفارابي الفيلسوف العربي الذي انكب على دراسة مؤلفات أرسطو « حتى سميّ بالمعلم الثاني على اعتبار أن أرسطو هو المعلم الأول » (دويدار). والملاحظ من خلال القراءة لحكم المتنبي أن أثر الفكر الفلسفي اليوناني ماثل في شعره، ومن جملة ما أورده صاحب الرسالة الحاتمية تغريدة أرسطو (Aristote) القائلة : « عِلَل الافهام أشدّ من عِللِ الأجسام » (الحاتمي، 1931، صفحة 303). لنجد المتنبي ينشد بالموازاة مع ذلك قائلا :

يهونُ علينا أن تُصابَ جسومَنا

جسومَنا وتَسلَمُ أعراضٌ لنا وعقُول

(الحاتمي، 1931، صفحة 303).

وصاحب النظرة البعيدة الثاقبة لا يرى في هذا البيت تمجيدا لثقافة الآخر، أو استحضارا لها، لأن قراءتنا للخطابات الشعرية تستوجب منا الكشف عن ما وراء الستار أي الكشف عن خبايا ظاهريتها فالمبدع قد يتخذ في بعض من الأحيان آليات واستراتيجيات شعرية يسعى من خلالها إلى طمس المعاني الشعرية المراد ايصالها وراء الحجب، إما خوفا من السلطة أو تجسيدا للجمالية التي تدخل المتلقي في دوامة الاحتمالات والتأويل، وهو ما يحقق للخطابات شعريتها.

والمتمعن في مضامين هذا البيت يلحظ وجود أصوات متعددة تتضارب فيما بينها، كل واحد منه يحاول أن يثبت كينونته ويمحو نظيره، ناهيك عن كل واحد فيه حامل لفكرة، ووجهة نظر وايديولوجية معينة، الأمر الذي يجعلنا أمام خطاب حامل لأكثر من صوت وأكثر من وجهة نظر، وعليه فإن خطاب المتنبي يحمل داخل مكنوناته مزيجا من أصوات مختلفة في آن واحد (المجتمع، الثقافة، الانسان، المتنبي)، ويمكن أن نمثل في ذلك ب المخطط التالي :

Image 10000201000002800000007D2754D11854F23022.png

إن هذا المخطط يحاول إيصال فكرة تعدد الأصوات في خطاب المتنبي السابق من خلال: أن أرسطو هو صاحب الفكرة الفلسفية ومالكها الأصلي، وهي حكمة فلسفية لها صوتها الخاص بها، كما أنها تحمل العديد من الأصوات والايديولوجيات التي استقاها أرسطو ممن قبله أو معاصريه، أو احتك بهم ومختلف الأنساق الثقافية التي مُرّرت بشكل أو بآخر إلى مكامنه. لتحول هذه العبارة الفلسفية إلى اللغة العربية من خلال المترجم. وقد أفضت عملية الترجمة إلى أن الفارابي تأثر بالأفكار الفلسفية كغيره من المتلقين بما فيها تصورات المترجم في معرض قراءاته لمؤلفات أرسطو المنقولة إلى العربية التي كان مولعا بها، وتتواصل بذلك دائرة التأثر إلى أن تصل إلى المتنبي الذي احتك بالفارابي لشدة اعجابه به وبثقافته الفلسفية الواسعة فنقل إليه هذا الحكمة الأرسطية مع غيرها من الحِكم الأخرى الممزوجة بفلسفته وتصوراته الخاصة - خاصة- وأنه كان يلقب بفيلسوف المسلمين، وذلك لتمكن الذائقة الفلسفية لديه، فنكون بهذا قد اكتشفنا صوتا آخر له عن سياقاته ورؤاه الخاصة الحاملة للعديد من الأصوات والايديولوجيات والتي تسربت إلى مكامن فكريته من خلال القراءات الواسعة لكتب الفلسفة -خاصة - منها قراءته لأرسطو. والأكيد أنه قد عمل على تمرير كل هذه التخوم بما فيها فلسفته الخاصة إلى المتنبي. ليقوم المتنبي بعد ذلك بالتوليف بينها وبين ذائقته الفنيّة، ومختلف المعارف والأفكار التي استقاها من المؤلفات، والنصوص الشّعرية العربية السابقة له وجميع الأنساق العربية الممرّرة من خلالها، والتي تعتبر هي أيضا أصوات يمكن أن نستشهد بها في حديثنا هذا، ولا ننسى في ذلك الصراع الذاتي عند هذا المبدع القائم بين صوت عقله وصوت لا شعوره، ناهيك عن تصورات المتنبي، وتأويلاته لردود فعل المتلقين، وعليه يصبح الحوار مصيرا محتما في ظل هذا التعدد الصوتي، وذلك لأن هيكلة النصوص تقتضي تفاعلا علائقيا بين مختلف الأصوات والتصوّرات على نحو اتساقي، ليظهر ذلك كله في خطاب متكامل البناء كثيف الدلالات، وقد كان خطاب المتنبي حواريا بامتياز، لأنه استوعب داخل مكنوناته عديد من التصوّرات التي زادت من احتمالات تأويلاته وعملت على تدعيم موقفه، فيكون المتلقي حينئذ أمام نص حامل لأكثر من صوت، « وهو ما ينفي مقولة (النص المغلق المكتفي بذاته)، ويضعه في دائرة الإنتاجية، لأن مقولة النص المغلق تتجاهل أشياء كثيرة منها المعرفة التي ينتجها النص، ودائرة إنتاجه، وتغيّر القراءة عبر الأزمنة والأمكنة... » (المناصرة، 2005، صفحة 12). وبالرجوع إلى فكرة التعددية الصوتية داخل هذا الخطاب فإن ذلك يحيلنا إلى الصّراع الايديولوجي بين الأنا والآخر، فقد جعل المتنبي خطابه هذا مسرحا رحبا للصراع بين هذه الأصوات، إلا أن الغلبة في الأخير كانت للأنا العربية لأن عدد أصوات الأنا العربية في هذا الخطاب الشعري قد فاقت أصوات الآخر، ومن ثم فقد احتلت سلطة الأنا مكانتها المركزية في هذا الخطاب ومثلت الأنا العربية حق تمثيل، كما أثبتت وعي المتنبي في محاورته لنصوص الآخر، الأمر الذي يثبت دون شك تجذر العصبية القومية في مكامنه، فلولاها لما كانت الغلبة لصوت الأنا العربيّة، هذا الانتصار الذي تجسّد في دلالة هذا البيت الفلسفي الذي كان يحاول من خلاله شحن همم العرب للاستفاقة من الهوان الذي أصابهم، والعار الذي ألحق بهم من جرّاء الانحلال الأخلاقي الذي انغمسوا فيه، ففي نظره أن أمراض الجسد أهون من ذلك، وقد ترك للمتلقي مهمة فك شفرات دلالات هذا الخطاب.

وقبل أن نختم مبحثنا هذا كان لا بد من الإشارة إلى التّعددية الإبداعية في هذا الخطاب، ففي حين استحضار المتنبي لحكمة الآخر محاولا التّوليف بينها وبين نصوص الأنا، وجد نفسه أمام تعدد شاعري وإبداعي (المقصود هنا الشعرية) الأمر الذي اقتضى إلزامية قصوى لأن يثبت تفوقه الإبداعي في خضم هذا التعدد حتى يكون خطابه خطابا متماسكا، منسجما قائما على أسس ذاتية أكثر منه غيريّة. وهنا لا بدّ أن نشير في ذلك إلى أن المثاقفة البناءة لا تعيب الخطابات إلا في حالة الاجترار التام للمعاني الآخرية دون بصمات ذاتية، وهو ما لا نجده في خطابات المتنبي، وبالرجوع إلى فكرة التعددية الشعرية ومحاولة تبسيط هذه المعادلة، وتفكيك تيماتها نجد أن خطابات أرسطو مبنية على أنقاض نصوص سابقة لها شعريتها ومكانتها الإبداعية والتي أسهمت بدورها في توليد معاني جديدة عملت على تشكيل الخطاب والمتمثل في الحكمة الفلسفية التي اكتسبت شاعريتها من خلال اكتساحها لآفاق لا محدودة في عوالم التداوليّة في عصره والعصور الموالية له. فبمحاورة المتنبي لهذه الابداعيات ومزجها بملكاته الذاتية، وما تيسر له من قراءته للخطابات العربية التي كان لها مكانتها الإبداعية أيضا، والتي لا شك أن أصحابها قد اطلعوا على أعمال كانت لها شعريتها ومكانتها، وجد المتنبي نفسه أمام تعدديّة ابداعيّة، وبالتالي كان عليه أن يثبت فاعليته أمام هذا التعدد، فتصارع المتنبي مع هذه الفنيات الإبداعية، واستطاع أن يطوعها في الأخير تحت سلطة خطابه الشاعري، وأثبت بذلك فاعلية الأنا العربية في التثاقف مع الآخر، والتعامل مع نصوصه المختلفة لتوليد خطاب جديدة يتجاوز القديم، فكان بذلك أن انتصر لذاتيته العربية، وأثبت رجاحة فكره في التعامل مع الآخر، وهو ما يظهر جليا في دلالة البيت الشعري السابق.

3.2.2. حوارية السرد في شعر المتنبي

ولما كان الشاعر ملتزما بالتعبير عن قضايا أمّته، فيمكن أن نقول بأن شعره كان بمثابة حكايات سردية واقعيّة مسبوكة بحكمة في قالب فني موزون مقفى، ويمكن أن نستشهد في ذلك بفاعليته الشعر القديم في كتابة التاريخ وسرد أحداثه، فطالما استقى باحثون معارفهم التاريخية من نصوص شعرية ماضية أدلى بها أصحابها تعبيرا عن راهنيّتهم، الأمر الذي يحيلنا إلى سرديّة الشعر. وقد عمل المتنبي على تطويع الأحداث والشخصيات التاريخية الآخرية خدمة للحدث الرّاهن وتعميقا للفكرة التي يريد ايصالها من خلال خطابه، ويمكن أن نورد مثالا في ذلك شخصيّة جالينوس؛ الذي عُرف بشهرته في مجال الطب

والتي عرفها المتنبي من خلال الحكايات التي رويت له، أو الكتب التاريخية التي ألمّ بها، ونجد ذلك في قوله :

يموتُ راعِي الضأنِ في جهلهِ

موتةَ جالينيوسِ في طِبّهِ

(البقاء، 1994، صفحة 213).

وقد استحضر المتنبي هنا حكاية جالينوس طبيب اليونان المشهور، ليعبّر من خلالها عن حالة الخنوع التي آل إليها العرب بعد تولي العجم الحكم، فقد شبه العرب الذين ارتضوا لنفسهم التبعية والانصياع للآخر برعاة الغنم الذين سيموتون في جهلهم، ك ما مات جالينيوس؛ الذي كرّس حياته كلها في مجال الطب إلى أن وافته المنيّة، محاولا بذلك زعزعة مخيال العرب علّه يسهم في استفاقتهم من الغفوة والتبعية الذي أصابهم حينها، وهنا يمكن أن نورد في ذلك نقطة كنا قد مررنا بها سابقا وهي بمثابة تأكيد على حوارية الشعر وهي أن المتنبي قد أورد في خطابه هنا شخصية جالينيوس وهي شخصية غربية، وكذا أورد في خطابه شخصية أخرى وهي راعي الغنم والذي يقصد به العربي الذي امتثل لسلطة الآخر، وارتضى لنفسه العيش الذليل، وقد جعل خطابه بمثابة مسرح تتصارع فيه هاتين الشخصيتين، لكن حواريتهما هنا جاءت بشكل صراع متخفّي، لم يكن صراعا بائنا واضحا على نحو الرواية فكان صراعا من وراء الحجب، وقد أوجدهما المتنبي في خطابه هذا على نحو متكافئ.

ولعل من مقاصد هذا البيت أن المتنبي حاول أن يجعل الأنا العربية تستفيق على نحو غير مباشر لأنه لم يقل في خطابه هذا يموت العربي إنما أوردها بصيغة الإضمار، وبالتالي فقد أثقل كفة الأنا العربية بوقوفه إلى جانبها، كونه جزءا منها والتي يحاول أن يزيد من وتيرة هممها حتى تستفيق، لأن المتنبي على الرغم من ابداعاته المتدافعة، إلا أنه يرى نفسه ما زال في طور الاكتساب، فدائما ما كان يبحث عن الجديد الذي يتجاوز به كل مألوف. من ثم، كان هذا الخطاب موجها لنفسه أيضا كشخصية تابعة لشخصية الأنا العربية التي تحدث عنها بصفة عامة بشكل متخفي مجسدة في راعي الغنم، ويمكن أن نعتبره أيضا راو غير عليم كوننا نتحدث عن حوارية السرد في الشعر، وبذلك نجد أن شخصية الآخر فقدت سيطرتها في هذا الخطاب، وكانت الغلبة بذلك لشخصية الأنا.

من هنا نستطيع القول إن المتنبي استحضر شخصية الآخر تمثيلا لا امتثالا، ما يحيلنا إلى أنّ هذا المبدع يحاول دائما في خطاباته أن يلعب على الأوتار العصبية للآخر، فبينما يرى الآخر أن المتنبي قد امتثل لثقافته واستقى منها، يظهر المتنبي خطابه بشكل يزيد ذاتيتنا رفعة، ومكانة، وكأنه بذلك اتخذ من الأشكال التعبيرية التي استقاها من الآخر قراءة وتعايشا، سواء أكانت حكمة أم شخصية أم حكاية...إلخ سلاحا للدفاع عن قوميته العربية أمام الآخر.

3.2. المحاكاة السّاخرة في شعر المتنبي

يقول ميخائيل باختين (Mikhail Bakhtine )في هذا الصدد :

« إن كلمة المحاكاة الساخرة يمكن أن تكون متنوعة لدرجة كبيرة، يمكن أن نحاكي محاكاة ساخرة أسلوب الغير، بوصفه أسلوبا، يمكن أن نحاكي محاكاة ساخرة طريقة نموذجية على المستوى الاجتماعي أو شخصية على المستوى الفردي، طريقة في الرؤية، في التفكير، في الكلام يمكن أن تقتصر المحاكاة الساخرة على الأشكال اللفظية السطحية، لتصل إلى المبادئ والأسس العميقة لكلمة الغير المحاكاة الساخرة تستطيع أن تكون هدفا بذاتها » (باختين، 1987، صفحة 182. 183).

فهي إذا تمثل نوعا من الأدب التهكّمي الذي يحمل في متونه شحنات استهزائية كبرى، من خلال تقليد الآخر في أساليبه التعبيرية، أو تقليد شخصية ما أو فكرة ما، واستبدال معانيها الأصلية إلى أخرى ساخرة بما يحقق التنافر من الآخر، ويمكن أن تتخذ المحاكاة الساخرة أشكالا أخرى غير التي ذكرناها، والمهم أنها تهدف إلى الإطاحة بالآخر المستوحى أو المقلّد.

وقد عمل المتنبي على محاكاة التراث الديني للآخر، وصهره ضمن مكنونات نصّه الراهن للاستهزاء بعقيدته، والسّخرية منه بتراثه. فيكون قد حارب خصمه بسلاحه، ويظهر ذلك من خلال الإشارة إلى حادثة صلب عيسى عليه السلام، والتي وردت في كل من القرآن الكريم (النساء، الآية 157)، ليسخر من معتقدات المسيحيين، قائلا :

وقد زعمُوا أنّه إن يعــــــــــــد

يعدّ معه الملكُ المعتصب

ويستنصران الذي يعبدان

وعندهُما أنّه قد صلب

ويدفعُ ما ناله عنهــُــــــــــــــما

فيا للرجالِ لهذا العجب

العجب (البقاء، 1994، صفحة 104).

نجد المتنبي في هذه الأبيات يصف مستهزئا ذل الآخر في تضرّعه للمسيح طلبا للنصر في معاركه أمام المسلمين، على الرغم من إيمانه التام بأن هذا الأخير قد صلب من طرف اليهود، ساخرا من التناقض الذي يعتري عقيدتهم من خلال طلبهم المنّ والاستجابة من شخص لم يستطع حتى الدّفاع عن نفسه. ولعلّه بذلك أراد تصوير مدى جهل الآخر الذي وُليّ على العرب، واستلم مقاليد الحكم وتسلّط عليهم، وتبيان كمالية الدين الإسلامي، وجوهريته أمام الديانات الأخرى، فهو بذلك يحاول أن يقول للعرب : كيف ارتضيتم لنفسكم أن تخضعوا لسلطة آخر جاهل، وأنتم أصحاب الجاه، وأتباع دين مثالي متكامل مترفع عن كل تناقض بعيد عن كل التهم؟ ! !

ويمكن أن نورد مثالا آخر للمحاكاة السّاخرة في خطابات المتنبي من خلال البعد الملحمي، الذي استقاه من قراءاته الواسعة، آخذا بعين الاعتبار أهمية الحصان في اكتمال بطولة الفارس، « "فحصان رستم زال المسمى رخش، عثر عليه بعد جهد إذ لا يوجد حصان يتحمل قوة كفّه » (الفردوسي، 1977، صفحة 45)، فاستحضر ذلك في مدحه لعضد الدّولة الفارسي في قوله

بفارسِ (المجروحِ) و(الشمالِ )

أبي شجاع قاتلُ الأبطال

(البقاء، 1926، صفحة 313).

وللإشارة فإن المجروح والشمال هما فرسا عضد الدّولة المصاحبان لبطولاته، ولعل خطاب المتنبي هذا مبطنا بالهجاء، ومكمن ذلك في أنّه لا يساوي شيئا دون فرسيه، فهما من أعطاه صفة البطولة محاولا تجسيد دونيّة الآخر وجُبنه، ولعل هذا البيت يثبت قدرة المتنبي على السبك من خلال اضماره الهجاء تحت عباءة الجمالي والمتمثل في المدح، فقد كانت ظاهرية هذا الخطاب تبدي ودًّا واحتراما لكن باطنيته تُضفي كُرها وحساسية اتجاه الآخر، « وذلك لأن عضد الدولة كان أمير الدولة البويهية، التي أسست كدولة فارسية وسيطرت على أصفهان، وهمدان...في أوائل القرن الرابع الهجري، والتي بسطت هذه السيطرة على العرب، وعلى الخلافة فيما بعد، أي أن عضد الدولة كان يمثل طموح الفرس في السيطرة على الثقافة الإسلامية، فهو يقف ضد فكرة العصبية العربية وتأسيس الثقافة الإسلامية تحت سلطة العرب » (قرتاي، 2019، صفحة 240). وبالتالي فقد كان طموح عضد الدولة الفارسي منافيا تماما لطموح المتنبي الشاعر العربي؛ الذي كانت معظم أشعاره تمجيدا وتعظيما للذات العربية وتأكيدا على استحقاقيتها المركزية دون غيرها من الأمم، وهو ما تجسّد في كرهه الشديد للعجم والذي دائما ما يلوح في أفق خطاباته.

وبهذا نكون قد سلطنا الضوء على الحوارية في شعر المتنبي، محاولين اسقاط تهمة انعدام الحوارية التي ألحقها باختين بالشعر، وحصرها في دائرة الرواية، ولعل نظرته تولدت في سياق كانت جل الاهتمامات فيه تنصب في دائرة الرواية، وتراجع وتيرة الاهتمام بالشعر، وبالتالي كان علينا التطرق إليها مركزين في ذلك على كلمة حوار وتعدد الأصوات ووجهات النظر، لنحاول التأسيس فيما بعد لتناص جوليا كريستيفا التي أثبتت وعيها في الطرح، ذاك الوعي القائم على مبدأ التكافؤ بين الشعر والنثر في نظريتها آخذة بعين الاعتبار أدبية كليهما، فطورت من طرح باختين ووجهته إلى مساره الصحيح وجعلت التناص يشمل جميع النصوص دون اقصائها للشعر.

4.2. التناص المثاقفاتي عند المتنبي :( مساءلة النهضة)

حددنا في هذه الدراسة فئة النصوص المتناصة من خلال كلمة مثاقفة، وبالتالي فمجال حديثنا سيكون عن النصوص المتناصة من الآخر، والحديث عن المثاقفة في العصر العباسي يحيلنا إلى قول ابن خلدون المتمثل في : « من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم من العجم ... وإن كان منهم العربي في نسبته، فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته، مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي... » (نكلسن، 1968، صفحة 48). وقد أشرنا سابقا إلى سعة اطلاع المتنبي وإلمامه بمختلف الثقافات التي استقاها من سياقات مختلفة، ناهيك عن احتكاكه بالفلاسفة ومنهم الفارابي، الأمر الذي ولّد لديه الرغبة الجامحة في خوض غمار التجريب انطلاقا من مبدأ التناص مع الآخر (التناص المثاقفاتي)، فتلاقحت نصوصه مع فلسفات مختلفة، منها :

  • المتنبي ومساءلة الفكر الفارسي : ويمكن أن نمثل بما جاء عن الحلم في الحكمة الفارسية : « الحِلم ترك الانتقام مع القدرة » (حسين، 2005. 2006، صفحة 102).

وفي المعنى نفسه نجد المتنبي يقول مادحا :

رأيتكَ محضَ الحِلم في محضِ قُدرةٍ

ولو شِئتَ كان الحِلم منك المهندا

ا (الرحمان، 1986، صفحة 11)

ومقصد الشاعر من هذا المدح أن يقول : لممدوحه أن ما بدر منه تصرف حكيم صادر عن شخص قادر ذا عقل راجح، في الوقت الذي كان بإمكانه إقامة الحد بدل التريث دون أن يجد المانع في ذلك. ومدح المتنبي هنا كان لغاية التكسب، ذلك التكسب الهادف لافتكاك مكانة في جهاز الحكم، كون الحكام حينها كانوا من العجم فهو لم يمدح ملوك الآخر حبّا أو طمعا في المال، إنما طمعا في السلطة علّه يعيد في ذلك للأنا العربية مجدها، وعليه فإن هذا الأخير كان يجسد أمل الأنا العربية في النهوض بعد ما حلّ بها من هوان وذلّ.

  • المتنبي والثقافة الهندية: وأثر الحكمة الهندية ماثل في شعر المتنبي، ومن ذلك الحكمة التي مفادها : « شرّ المالِ ما لا يُنفق » (حسين، 2005. 2006، صفحة 107).

فيضيف شاعرنا العربي (المتنبي) على ذلك قائلا :

ومن ينفقُ الساعاتِ في جمعِ ماله

مالهِ مخافةَ فقرٍ فالذي فعلَ الفقر

(الرحمان، 1986، صفحة 255).

ولعل المتنبي يقصد بذلك الشعراء الذين اتخذوا من الشعر وسيلة للتكسب والاسترزاق في ذلك العصر وعملوا على الترويج لأشعارهم كسلع طمعا في الأموال خاصة في مدحهم للأمراء والملوك، الذين كان معظمهم من العجم، دون أي اعتبار لكرامتهم متناسين في ذلك هويتهم، الأمر الذي أثار حفيظة المتنبي فأطلق بيته هذا ناقما على هوان الشعر وذل الشعراء العرب، وتراخيهم، وانسياقهم وراء الأموال مخافة الفقر في الوقت الذي عليهم أن ينهضوا بأعباء الأمة العربية باعتبارهم نخبة مثقفة، فهو يرى أنهم بفعلتهم هذه يفتقرون إلى الوعي، وذلك أشد أنواع الفقر.

  • المتنبي والفكر اليوناني: ويمكن في ذلك نورد ما جاء في الرسالة الحاتمية، والتي حاول صاحبها التهكم والتهجم على المتنبي واتهامه بالسرقة في أشعاره. حيث أورد الحاتمي جميع المواضع التي استحضر فيها المتنبي خطابات الآخر محاولا تجريمه، والحقيقة أنه أصدر أحكامه المجحفة هذه حقدا وبغضا (ينظر: الحاتمي، 1931، صفحة 133)، ومن جملة ما أورده يمكن أن نذكر قول أرسطو : « النفوس الذليلة لا تجد ألم الهوان والنفوس العزيزة يؤثر فيها يسير الكلام » (الحاتمي، 1931، صفحة 859). فيدلي المتنبي بصوته قائلا :

من يهنْ يَسهُلُ الهوانُ علَيه

ما لجرْح بميتٍ إيلام

(الحاتمي، 1931، صفحة 859)

من يهنْ يَسهُلُ الهوانُ علَيه ما لجرْح بميتٍ إيلامُ (الحاتمي، 1931، صفحة 859).

ونجد أن المتنبي في هذا البيت يضع الانسان الذي اعتاد العيش الذليل، والميت الذي لا يشعر بأي شيء في كفّة ميزان واحدة، وفي ذلك ايحائية واضحة عن الوضع الدوني الذي ألفه العرب آنذاك وامتثالهم لسلطة هذا الوضع إلى حد المعايشة والتقبل، الأمر الذي جعلهم لا يشعرون بدونيتهم، وكرامتهم المسلوبة تماما كالميّت.

وكذا قول أرسطو: « النفوس المتجوهرة تأبى مقارنة الذلّة جدّا، وترى فناءها في ذلك حياتها، والنفوس الدّنيئة بضد ذلك » (دريدي، 2008. 2009، صفحة 7).

فنجد المتنبي بعد ذلك يقول:

فحُبّ الجبان النفسُ أورده البق

وحبُّ الشجاعِ الحربُ أورده الحربُ

(دريدي، 2008. 2009، صفحة7 )

يحاول المتنبي من خلال هذا البيت زعزعة خيال العرب حتى يستنهض روح المقاومة فيهم، تلك المقاومة النازحة إلى التحرر، مستحقرا بذلك الجبان الذي ارتضى لنفسه العيش تحت رحمة الآخر وتعسفه خاصة وأن المتنبي يمتلك روحا تحررية فكان فارسا مغوارا يجاهد بالقلم متخذا من هذا الأخير سيفا، ومن الشعر درعا، متصديا وبقوة للنزوح الأعجمي الذي بسط نفوذه على جميع ممتلكات العرب، الأمر الذي يؤكد ما أشرنا إليه سابقا وهو رأسمالية الغرب منذ القدم. وإن المتنبي في هذا البيت أراد أن يحفز العرب حتى يُستنفروا لاسترجاع مكانتهم التي سُلبت، وكرامتهم المهدورة، والمحاربة معهم جنبا إلى جنب هو بالقلم، وهم بالسيف حتى يشكلوا قوة تستطيع وضع حدّ لهيمنة الآخر وتماديه.

واللاّفت للانتباه هنا هو توأمية المعاني الواردة في النصوص الفلسفية للآخر، وما يطرحه المتنبي في شعره، وهنا تراودنا الشكوك حول صحة ما كان يزعمه بلاشير في قراءته للمتنبي، الذي حاول الحطّ من قيمة الفكر العربي فيقول : « افتقد تراثهم الفلسفي والعلمي عنصر الأصالة والابتكار... » (دريدي، 2008. 2009، صفحة 7). ومن هنا يمكن أن نتساءل : ما الذي أراده المتنبي من خلال هذا التشابه؟ ما الذي حاول ايصاله؟ هل في هذا اعتراف بثقافة الآخر؟، وهذا ما سنجيب عنه فيما بعد.

وعلى المستوى الإجرائي فإنّ خطابات المتنبي قد أثبتت نجاعتها في استيعاب ثقافة الآخر، واحتواء البنى الغريبة في الثقافة العربية في إطار المثاقفة الواعية. إذ، احتوت خطاباته قيما إنسانية، تاريخية ومعرفية متنوعة زادت من خصوبتها دلاليا وأدبيا. ومن ثم فقد تحرر النص من النزعة الفردية إلى التلاقح القائم على المعرفة المشتركة، والتجانس الثقافي، كما حاول المتنبي من خلال هذا التناصات أن يُسقط تهمة السرقة عنه، لكن كيف للمتنبي الشاعر النرجسي الغيور على ثقافته العربية أن يقبل التساوي في المعرفة بينه وبين الآخر وهو الكاره للعجم؟

والإجابة عن هذا تكون في أن المتنبي عايش فترة بدأ العرب فيها ينسلخون من مبادئهم ينساقون وراء مغريات الدنيا فتفشى الفساد، وتجردت الأنفس من قيمها انبهارا بما وجدته من ثقافات مغايرة، فعمل المتنبي على محاولة نقل هذه الأوضاع من خلال رمزية هذه التناصات، فهي لا تتوقف عند كونها مستقاة من فلسفات قديمة فحسب، إنما هي قراءات جديدة للعصر تفرض التأويل والدراية، وقد يكون في ذلك رسالة قصدية تهدف إلى تغليط من اتهموه بالسرقة والتحريف من بَنِي جلدته، وهي بذلك رسالة مشفرة تحمل في فحواها تصريحا مضادا للاتهامات السابقة، والتي تتمثل في أنه حين يستقي نصوص غيره يتركها بمعانيها كما هي دون تحريف أو زيف. وما يهمنا نحن أن المتنبي حتى وإن نهل من ثقافة الآخر، فإنه لم يعب ثقافته ولم يمس بخصوصيتها، إنما حاول أن يعيد المجد لمبادئ كانت على وشك الانهيار في عصره.

3. تعدد هوياتي في طبقات خطابات المتنبي

انطلاقا من أن الآخر يسهم في تزكية روح المنافسة لدى الأنا، فتسعى بذلك جاهدة لتثبت فاعليتها أمام الآخر، فقد كان المتنبي مبدعا مندفعا مغامرا، وذلك لخوضه غمار التجريب بحثا عن اللامألوف حتى يحقق أعلى قدر من الشعرية في خطاباته، فعمل على توظيف خطابات الآخر وشخصياته...إلخ داخل ابداعاته، لكن الملاحظ أنها تمتلك خصوصية هوياتية منافية تماما لهوية الأنا، كون الشعوب الغربية شعوبا ذات توجهات مقصدية / مصلحية هدفها الأسمى هو الحكم والنفوذ.

إن الحديث عن الخصوصية الهوياتية العربية هو حديث عن المرجعية الثقافية والمنطلقات الفكرية النصيّة، حيث كان القرآن الكريم ولا زال موجها لوعيها، وخير دليل على ذلك أن عقيدتنا اكتملت بنزول القرآن باعتباره دستور البشرية، الذي يقينا من الانحراف كلما افتقدا أثر السبل الصحيحة، وهو ما يوحي بتنافر كلتا الهويتين، الأمر الذي يدفعنا إلى القول بأن المتنبي عندما استحضر خطابات الآخر لهيكلة خطاباته يكون قد جعل منها حالة صراع هوياتية، تحاول فيها كل هويّة أن تتغلب على الأخرى فكانت هويته العربيّة تكافح بروح تحرّرية مجسّدة في جهوده الجبّارة؛ التي أنفقها لضمان تماسك البنية الهيكليّة لخطاباته حتى ينتصر لأناه العربيّة، ويتغلب على هويّة الآخر التي استقى منها على سبيل الاستزادة والتثاقف البناء وهو ما يسقط مقولة أن الفلسفة العربيّة صورة مستنسخة عن فلسفة الآخر، وينتصر لقدرات الأنا في توليد المعاني الفلسفية بعيدا عن فلسفات الغرب، التي لا تعدو أن تكون أكثر من محفّز.

4. المثاقفة والحريّة

لما كان الشعر معبّرا عن الواقع الاجتماعي، فقد شغلت خطابات المتنبي دورا إعلاميا متحرّرا من القيود، منفلتا من كل خنوع، محاولة فرض هيمنتها على سلطة الآخر والتقويض من مركزيته، وإعادة الاعتبار للذاتية العربيّة، التي كانت بحاجة ماسة إلى من يحمل أعباءها ويحيي فيها القيم الذّاتيّة وروح التحرّر بعيدا عن التّعابير الفضفاضة والرّنانة. لتوفير التّربة المناسبة لاستنبات ونموّ بذرة الحريّة المطلوبة... (ينظر: تيزيني، 2008، صفحة 90).

وانطلاقا من أن المثاقفة عبارة عن سلطة، كون الممارسة المثاقفتية تدفع كلّ من الأنا والآخر قدما إلى السيطرة والتحكم في زمام السلطة والحطّ من قيمة نقيضه، وذلك بإنتاج خطابات يترفع بها كل طرف عن الآخر، بغرض السيطرة عليه وعلى ثقافته ككل، وكون الخطاب نفسه هو السلطة على حدّ تعبير ميشال فوكوMichel Foucault) ( نجد أن سلطة الأنا المتعالية تصطدم بسلطة الخطاب التي تفرض الالتزام والتقيد، إلا أن جرأة المتنبي اللامحدودة ومثاقفته الواعية مع الآخر أكسبته ذائقة فنية وتمرّسا انزياحيا دلاليا مكّنه من ممارسة حريته وراء ستار الخطاب، ففرض بذلك سلطته الإبداعية من خلال انتقاءه للمفردات والمعاني والتراكيب الخادمة لخطاباته، والمزج بينها وبين مختلف الحمولات الفكرية، والبنى التي استقاها من سياقات مختلفة بشكل عنكبوتي متواشج البناء، محافظا في ذلك على مبدأ الخصوصيّة الهوياتيّة العربيّة فكانت خطاباته ممارسات إبداعية تحرّريّة مارس فيها (حريّة التّعبير)، متيحا لنفسه كل سبل الأمان والديموقراطيّة في إبدائه لآرائه. حيث اشتملت خطاباته على حوارات نقديّة واعية، أظهر من خلالها ولاءه المبطن بالنّقد-للآخر، بكل ديموقراطية في الطرح. ويظهر ذلك من خلال مدحه لكافور الإخشيدي الذي كان يحمل في ظاهره واجهة لامعة، لكن باطنه يظهر بصورة معاكسة مشحونة بالاستهزاء والهجاء. وللإشارة فإن كافور كان أعجميا مسلما وقد امتدحه المتنبي لسنوات، إلا أن تمسك المتنبي بقوميته العربية جعله ينظر إلى الملوك العجم نظرة احتقار ودونية، ايمانا منه أنهم سبب تقهقر مُلك المسلمين، فلم يكن مدحه لهم مدحا خالصا، بل كان يُبرر غايات أخرى، « من خلال أنّ مديحه ينطوي على ألفاظ عدة تحتمل أن تُصرف إلى الهجاء خبثا واقتدارا » (غانم، 2010، صفحة 132). وخير دليل على ذلك البيت الذي حاول فيه المتنبي التغني بشجاعة كافور، فكانت واجهته تتغنى بشجاعة كافور، وعدميّة غريمه إلا أن باطنيته توحي بجُبنه ودونيته، وهو ما ورد في قوله :

وما العدمُ اللاقوك بأسًا وشدةً

وشدةً ولكن من لاقوا أشدُ وأنجبُ

(البقاء، 1994، صفحة 185).

ونجد في البيت الموالي دليلا واضحا على النقد اللاذع لكافور، وتمكن المتنبي من صوغ الدلالات في فنه، فيقول :

وما طرَبي لما رأيتُك بِدعةً

لقد كنتُ أرجو أن أراكَ فأطربُ

(البقاء، 1994، صفحة 186).

تشير بذلك خطابات المتنبي إلى بُعد النظر العقلي والرؤى المنهجية، والرجاحة العقلية، والنظرة الثاقبة للحياة، التي تعكس البعد الفني العربي الأصيل، والتي أسهمت بدورها في الخروج عن النطاق الشعري القديم السائد، مؤسسة بذلك لحداثة عربية أصيلة واعية آمنت بالتغيير في مواجهة التحولات.

خاتمة

ومن خلال ما سبق يمكن أن نخلص إلى :

  • -تقتضي المثاقفة التعامل مع المعارف الآخرية بحذر، والتحفط اتجاه ما هو معاكس للثقافة الذاتية.

  • أبانت خطابات المتنبي نجاعتها في المحاورة مع الآخر وتمثيل الأنا العربية حق تمثيل، بالاستناد إلى آليات المثاقفة المنتجة التي يكون فيها الحوار نفعيا يسهم في تزكية الأنا والمحافظة على سيرورتها، على الرغم من محدودية فكر عصره مقارنة بعصرنا الحالي، والذي كان من الممكن أن يتأثر بسهولة بما يقدمه الآخر على سبيل الانبهار.

  • تفترض الشعرية الدينامية والتطور داخل الخطابات الأدبية، بما يكسر أفق توقع المتلقي، ويحقق الانبهار لديه، وبما يصاحب تغير الأوضاع الاجتماعيّة. فالخطابات الأدبية إذا بحاجة دائما إلى التجديد، فعلى قدر التجاوب والتفاعل مع المتلقي يتحقق مفهوم الشعرية.

  • إن الحديث عن الترجمة في العصر العباسي، هو حديث عن الدور الفعال لها في التلاقح والتجانس بين الأنا العربية والآخر.

  • تجلت آليات اشتغال الممارسة المثاقفتية عند المتنبي من خلال الترجمة، والحوارية، وتعدد الأصوات، والمحاكاة الساخرة، والتناص. وقد أثبت ذلك أن مثاقفته مع الآخر كانت مثاقفة واعية، حاول من خلالها إعادة الاعتبار للأنا الشعرية العربية.

  • استطاعت خطابات المتنبي أن تكون مسرحا رحبا للصراع بين الأنا والآخر، حيث بدا حريصا جدا على الاعلاء من شأن الأنا العربية وأصالتها لغويا ومعرفيا وابداعيا، وهو ما يحيلنا إلى القول إن نرجسيته كانت إيجابية بامتياز، فمن خلالها استطاع أن يواجه ثقافة الآخر ويجاهد في سبيل أناه العربية بكل بسالة.

  • -أثبتت النصوص الشعرية للمتنبي حواريتها، من خلال إثبات سلطة الأنا على الآخر عن طريق ظاهرة تعدد الأصوات والرؤى والذوات والشخصيات والثقافات.

المقترحات

اتخذ المتنبي من المثاقفة سبيلا لبلورة الخطابات العربية والبناء عليه، الأمر الذي ولّد انبهارا منقطع النظير لدى متلقي خطاباته، من ثم يكون التثاقف ممارسة واعية نستطيع بها محاجة الأنا لتصويب مسارات فكرها إلى منحاها الصّحيح، والتفطن لاستراتيجيات الآخر والتعامل معه، من منظور يدفع بالثقافة العربية قُدما بدل استنساخ مقولاته وتتبعها.

بو القاسم الفردوسي. (1977). الشاهنامة. تر: سمير مالطي. بيروت: دار العلم للملايين.

بو جمال قطب الاسلام نعماني. (ديسمبر, 2002). الترجمة ضرورة حضارية المجلد الثالث. دراسات الجامعة الإسلامية العالمية شيتاغونغ.

بو علي محمد بن الحسن المظفر ينظر: الحاتمي. (1931). الرسالة الحاتمية. تح : فؤاد أفرام البستاني. مجلة المشرق.

دونيس. (1989). الشعرية العربية. بيروت. لبنان: دار الآداب.

لبرقوقي عبد الرحمان. (1986). شرح ديوان المتنبي. بيروت. لبنان: دار الكتاب العربي.

لعبكري أبي البقاء. (1926). ديوان أبي الطيب المتنبي التبيان في شرح الديوان ج3. مصر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي.

لعبكري أبي البقاء. (1994). ديوان أبي الطيب المتنبي التبيان في شرح الديوان ج1. تح: مصطفى السقا. إبراهيم الأبياري، عبد الحفيظ شبلي. بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر.

تزفتيان ينظر: تودوروف. (1996). ميخائيل باختين المبدأ الحواري. تر : فخري صلاح. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

جابر عصفور. (1985). عصر البنيوية من ليفي شتراوس إلى فوكو. بغداد: دار الآفاق العربية.

جار الله أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد، الزمخشري الخوارزمي النحوي. (1997). تفسير الكشاف. بيروت: دار الفكر.

جمال الدين مجد بن مكرم ابن منظور الافريقي المصري. (1994). لسان العرب (مادة خطب) ج1. بيروت : دار صادر.

جيل فريول. (2011). معجم مصطلحات علم الاجتماع. تر: أنسام محمد الأسعد. بيروت: دار الهلال.

حسن حنفي. (1991). مقدمة في علم الاستغراب. القاهرة: الدار الفنية.

حفيظة أحمد. (24 نوفمبر, 2006). حوارية باختين وتناص كريستيفا وتودوروف في النقد الأدبي. تاريخ الاسترداد 24 05, 2022، من الرأي: https://alrai.com/article/196095

خالد عبد الموجود مصطفى محمد دويدار. (بلا تاريخ). موقف الفرابي من نظرية المعرفة عند أرسطو دراسة مقارنة العدد 40. جامعة الأزهر: مجلة كلية أصول الدين والدعوة الإسلامية بالمنوفية.

خيرية قرتاي. (2019). الصراع الثقافي في شعر المتنبي مدح سيف الدولة وعضد الدولة أنموذجا. المجلة الدولية للدراسات اللغوية والأدبية العربية (العدد 4).

رولا خالد محمد غانم. (2010). الآخر في شعر المتنبي رسالة ماجستير غير منشورة. . فلسطين : كلية الدراسات العليا جامعة النجاح الوطنية نابلس.

رينولد. أ. نكلسن. (1968). تاريخ الأدب العباسي. تر : الدكتور صفاء خلوصي. بغداد : مطبعة أسعد.

سارة ميلز. (2016). الخطاب. تر : عبد الوهاب علوب. القاهرة. مصر : المركز القومي للترجمة.

سورة النساء. (الآية 157).

سورة ص : الآية 20.

سورة ص : الآية 23.

مراد شريف. (19 05, 2017). الحداثة العربية...عملية الانسلاخ الفاشل. تاريخ الاسترداد 15 08, 2022، من الرأي : Modernité arabe.. Le processus de clonage a échoué| Al Jazeera Net

شلوف حسين. (2005. 2006). شعر الحكمة عند المتنبي بين النزعة العقلية والمتطلبات الفنية رسالة ماجستير غير منشورة. قسنطينة: كلية الآداب واللغات جامعة الإخوة منتوري. أراجيك:

ينظر : عابد, ط. (2014, يوليو 15). إبداع التجارة في الحضارة الإسلامية. Récupéré sur أراجيك : إبداع التجارة في الحضارة الإسلامية (arageek.com)

ينظر : طيب. تيزيني. (2008). من التراث إلى النهضة. بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي.

عبد القادر شرشار. (2009). تحليل الخطاب السردي وقضايا النص. وهران. الجزائر : دار القدس العربي.

عبد الله الغذامي. (1983). الخطيئة والتكفير. الكويت: دار سعاد الصباح.

عز الدين المناصرة. (2005). النقد الثقافي المقارن. منظور جدلي تفكيكي. دار مجدلاوي للنشر والتوزيع.

كمال أبو ديب. (1987). في الشعرية. لبنان: مطبعة الأبحاث العربية

مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز أبادي. (2008). القاموس المحيط. (مادة خطب). القاهرة. مصر: دار الحديث.

محمد عابد الجابري. (بلا تاريخ). العولمة والهوية الثقافية. مجلة فكر ونقده.

محمد عبد الحسن عودة العنزي. (2012. 2013). نسق التواصل والمثاقفة في الفن التشكيلي العراقي المعاصر دراسة تحليلية. كلية الفنون الجميلة جامعة بغداد رسالة ماجيستير. بغداد.

ميخائيل باختين. (1987). الخطاب والفن الروائي. تر: محمد برادة. القاهرة : دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع.

ميشال فوكو. (1968). حفريات المعرفة. تر: سالم يفوت. الدار البيضاء. المغرب: المركز الثقافي العربي

كوثر بوقرة Bouguerra Kawtar

جامعة 08 ماي 1945. قالمة. الجزائر (مخبر الدراسات اللغوية والأدبية).

زوليخة زيتونZitoune Zoulikha

(مخبر الدراسات اللغوية والأدبية - جامعة 08 ماي 1945. قالمة. الجزائر

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article