مقدمة
اختلفت الروايات في تعاملها مع الفضاء كمكون سردي، فالرواية التقليدية -إن صح التعبير- اتخذته إطارا للحدث متفاعلا مع الشخصية وعاكسا لأجوائها النفسية، فاهتمت بوصفه، لكنه لم يشتغل في النص إلا كإطار، أما مع روايات التجريب فقد انتقل ليحتل مكانة هامة في بنية ودلالة النص الروائي، ما يفتح باب السؤال عن هذا المكون السردي وكيفية تشكله في النص وعلاقاته مع باقي المكونات السردية، والدلالات التي يولدها، وبحثنا إذ يتغيا البحث في أفضية رواية نسوية فإن التفضئة تعد أكثر إشكالية بالنظر لانحسار المرأة العربية دون العديد من الأفضية، التي لا يمكنها ولوجها فكيف لها أن توظفها إبداعيا، ورواية المتمردة، تعكس هذا الابعاد عن المكان، والذي ينتهي بهجرتها خارج الفضاء الصحراوي، مع ذلك لا تنقطع الأفضية الصحراوية بكل حمولاتها الثقافية والتراثية من الحضور في السرد، ليس فقط في الطبقات السردية المسترجعة من ذاكرة الطفولة بالصحراء، بل حتى في الطبقات التي تسرد حياة المهجر، وللإحاطة بهذا الحضور المكثف للمكان في مدونتنا، اعتمدنا على تحليل شعرية الفضاء التي لا تمثل مسارا إجرائيا بل يمكن في تحليل الفضاء الروائي الاتكاء على مسارات متعددة شكلتها جهود الباحثين حول هذا المكون الذي همش مقارنة بالاهتمام الكبير الذي حظي به مقابله الزمن، رغم أنه من الثراء بحيث لم تحط به مقاربة واحدة ما جعلنا نستفيد من جهود كل من جنيت ولوتمان وبشلار وبورنوف وحتى مشروع الأمريكي كيسنر الذي يبدو الأكثر شمولية ونضجا.
1. التقاطبات المكانية
تشكلت دراسات الفضاء الروائي في شكل مسارات بحثية مستقلة، رغم ما يطبع المسارات من تباين وتشتت فإنها تقدم إضاءة لا غنى عنها لدراسة الفضاء الروائي، من اوائل الدراسات الغربية التي تناولت الفضاء الأدبي « La poétique de l’espace » لغاستون باشلار Gaston Bachelard وهي الدراسة التي تستلهم عمق التأمل الفلسفي المتكئ على المنهج الظاهراتي في دراسة القيم الرمزية المرتبطة بالمناظر التي تتاح لرؤية السارد أو الشخصيات في أماكن إقامتهم كالبيت والغرف المغلقة أو الأماكن المنفتحة، الخفية أو الظاهرة، المركزية أو الهامشية..و غيرها من التعارضات التي تعمل كمسار يتضح فيه تخيل الكاتب والقارئ معا (weisgerber,1978,p.9) سعيا منه للقبض على الدلالات والمعاني وتحديد القيمة الانسانية للمكان في ذاكرة الإنسان ووجدانه. وقد رصد جنيت G. Genette هذه العلاقة التي تربط الفضاء بالأدب فيما اصطلح عليه بالفضاء الدلالي المتحقق في النص عن طريق الصورة، والدلالات المجازية.
أما يوري لوتمان الذي يشاطر جنيت فكرة أن الإنسان يعبر بالعلاقات الفضائية عن عدد من العلاقات الأخرى، ويرجع سبب ذلك إلى أن الإنسان يدرك العالم إدراكا بصريا، مما يؤدي به إلى اعتماد لغة العلاقات الفضائية في «وصف الواقع، وينطبق ذلك أيضا على ما هو إيديولوجي صرف» (الظل، 2011، صفحة 49) فمفاهيم مثل «أعلى - أسفل»، «يسار - يمين»، «قريب- بعيد» ...وغيرها تستخدم في بناء نماذج ثقافية تشتمل على ما هو فضائي فتكتسب معاني جديدة مثل «قيم-غير قيم»، «حسن- سيء»، «الأقربون- الأغراب». ليخلص إلى أن نماذج العالم الاجتماعية والدينية والسياسية والأخلاقية العامة التي ساعدت الإنسان (على إضفاء معنى على الحياة التي تحيط به تنطوي دوما على سمات مكانية تأخذ أحيانا شكل تضاد ثنائي ينطوي على سمات مكانية، مشكلة بذلك تراتبية سياسية أو اجتماعية تشدد على التعارض الحاصل بين «الطبقات العليا» والطبقات الدنيا «وتارة في شكل تقابل صفات أخلاقية بين »اليمين» و «اليسار».
وجدت دراسة لوتمان هذه حول التقاطبات باعتبارها أداة انتاج للدلالة، امتدادا عند كل من جورج ماتوري G.Matoré وجان فيسجربر G.Weisgerber؛ حيث سيعمل الأول على توسيع منظورات لوتمان حول الفضاء في كتابه الفضاء الانساني L’espace humain ملاحظا كثافة حضور المصطلحات الفضائية في قاموسنا، مما جعله يشدد على تصنيف هذه المصطلحات (الزموري، 2010، صفحة 32) أما فيسجربر فيقدم أهم إضافة في هذا المنحى، من خلال مشروعه الفضاء الروائي L’espace romanesque الذي لفت فيه الانتباه إلى أهمية اللغة في تشييد فضاء الرواية، وتنويع تضاريسه وإبراز تمظهراته على عكس فضاءات أخر كفضاء السينما والمسرح التي يتم إدراكها بواسطة حاستي السمع والبصر بينما يدرك الفضاء الروائي بوساطة اللغة اللفظية المكتوبة، لتصبح نسقا يؤسس لفضاء المحكي الأدبي وينظم مواصفات الفضاء عبر تحققات تخييلية تتصل بوصف الأحياز المكانية، وقياس تضاريسها وامتداداتها، مؤكدا بهذا على خطورة اللغة في تشخيص الأمكنة وتنويعاتها ما بين واقعية ورمزية وعجائبية، فالفضاء الروائي لا يكون بالضرورة حقيقيا بل غالبا ما يتم انتاجه من قبلنا حيث يتم استيلاده من إمكانية تشكيل الألفاظ المتخيلة.
استفاد الأمريكي جوزيف .إ. كيسنر من هذه المسارات البحثية وغيرها وأسس لمفهوم الإيهام الثانوي، كما اعتبر شعرية الفضاء منهجا في قراءة الرواية، محددا مفهوم الإيهام الثانوي بأنه تواجد أحد عناصر شكل من أشكال الفن في شكل آخر (كسنر، 2003، صفحة 23) بعبارة أوضح، فإن الإيهام الثانوي للفضاء في الرواية هو ظهور عنصر الفضاء من الفنون الفضائية في هذا الفن الزمني، والتي لن يقتصر تأثيرها على الجانب الشكلي فقط، كما قد نختصرها متسرعين في حجم الكتاب أو لون الغلاف، بل إنها تمتد حتى مضمونه، بل وأهم من ذلك إن الفضاء يحدد طريقة تشييد النص - معماره - كما أنه يحدد الدلالات التي سترتبط بالحكاية من خلال تحديد أماكنها.
يؤدي الإيهام الثانوي للفضاء أربع وظائف:
-
الوظيفة الأولى: من حيث إنه ايهام ثانوي فعال وواسطة تتحقق عبرها الخصائص الفضائية في الفن الزمني، ويتم تلقي الصورة والتركيبات الكلمية من خلال الارتداد والتعاقب الآني.
-
الوظيفة الثانية: تتجلى من خلال الأنواع الهندسية كالنقطة والخط والمستوي والمسافة لأن اللغة عمودية (كسنر، 2003، صفحة 28) مفضاة أكثر منها أفقية وتتابعية
-
الوظيفة الثالثة: تكمن في علاقة الرواية بالفنون الفضائية كالرسم، والنحت، وفن العمارة، التي تمد الأدب بالمشهد، وخلق الشخصيات، والشكل الوظيفي على التوالي، الذي يميزه برتراد راسل من خلال «المجازات البلاغية وعناصر الكلمة، والجملة، والفقرة، والفصل في أي رواية كلها معمارية في نزوعها نحو تسييج فضائي» (كسنر، 2003، صفحة 29)
-
الوظيفة الرابعة: تؤثر على الفعل التأويلي حيث إن النص يخلق حقلا «مطابقا مولدا» في حضور القارئ الذي يدخل في علاقة دينامية مع النص.
2. بنية التقاطب المخاتلة المهجر/الوطن
في رواية المتمردة لمليكة مقدم يحضر المكان بشكل مكثف حتى لتبدو الرواية رواية مكان، اتخذت الكاتبة من الثنائية المضادة تقنية لتفضئة نصها، وهي آلية
«مشحونة دلاليا ورمزيا نتيجة دمجها في المنظومة الثقافية العامة عن طريق اللغة فأصبحت بما تتوفر عليه من كثافة دلالية...تحدد الرؤية العامة للكائن تجاه الواقع والعالم» (حسين، 2000، صفحة 74)
فتقسم أماكن الرواية إلى «هنا» و «هناك» ، فانكتبت الرواية بشكل متناظر وفق سرديتين، الأولى سردية مدينية تروي سيرة المهجر والمدن الفرنسية- تحديدا مدينة مونبولييه- حيث تقيم الساردة وتضطلع بفعل الحكي، وسردية الصحراء التي تروى بفعل التذكر، وتحمل عنوانا فرعيا «هناك» مقابل العنوان الفرعي «هنا» ، اسما الإشارة الذين يتناوبان على عنونة اللوحات السردية داخل فصول الرواية، حيث تشير هنا إلى القريب مكان اقامة الساردة ومكان الحكي، أما الهناك فهي للبعيد ليس جغرافيا فقط بل وزمانيا أيضا، إنها تشير إلى زمكان الطفولة التي عاشتها في الجزائر تحديدا في الصحراء بمنطقة القنادسة، غير أن الذاكرة التي تسرد لا تكبحها التقسيمات التي اعتمدت الكاتبة فحتى في مقاطع «هنا» تحضر الصحراء، وذاكرة الساردة وماضيها ليحتل الحاضر ويحتل المكان الجديد وهو المهجر، الذي يتخذ صورة منفى يقف بينها وبينه حاجز نفسي، فلا تصفه ولا ترسم معالم حياتها فيه، كأنها تعيش منفى مزدوج منفية ثقافيا عن مصادر اللغة التي تكتب بها (الفرنسية) وموروثها، وحتى فضائها الذي لا تشكله في النص، ومنفية لغويا عن أجواء الصحراء التي تكتب عنها بلغة الآخر، مع ذلك تتشكل الصحراء كهاجس في النص لا يتوقف سرد المكان الصحراوي إلا لتعود إليه الساردة بكل محمولاته الثقافية والاجتماعية، وحتى الجغرافية، كأن الكتابة عند مليكة مقدم « سجل إنتروبولوجي للعادات والتقاليد والأساطير، دبج برؤيا رومانسية تميط اللثام عن الأسرار والخبايا » (ابراهيم، 2011، صفحة 249) وتصور الساردة بصورة ضحية لمحيطها الذي يدفعها نحو العزلة والاغتراب فتنتهي إلى الكتابة.
ليأتي فضاء الكتابة طافحا بانشغالات الوطن الأصلي ولا ينقل شيئا من فضاء المهجر، الذي رغم أنه المكان الذي ينكتب فيه النص إلا أنه لا يحمل شيئا من سماته، فالكاتبة ممزقة بين لا انتماءين، فلا هي امتلكت وانتمت لمكانها الأصلي «الصحراء» ولا هي سبرت أغوار المكان الجديد فهو لا يرد إلا في شكل إشارات متباعدة، للبيت، للعيادة وللبحر، وهي أماكن تحمل الدلالات ذاتها التي تحملها الأفضية الصحراوية، فالفضاء الصحراوي متداخل مع شخصية الساردة وهو خالق أبعادها النفسية والسوسيوثقافية، والوعي به مكون أساسي من مكونات الوعي بشرط الكتابة عند مليكة مقدم وساردتها (الكاتبة) جماليا وتكوينيا، وجودا وذاكرة وهوية، فالصحراء تطبع هذا النص بطابعها الثقافي والطبوغرافي ونفسية الساردة لم تتغير رغم الانتقال بين فضائين متناقضين، ما بين صحراء الجذب والعطش إلى منبوليي المدينة التي لم تصف لا أمطارها ولا ثلوجها، بل اكتفت بوصف الريح التي تذكرها برياح الصحراء. « أحس بالضجر، وأصغي إلى ريح الطرمنطان. والرياح المزمجرة (...) ربما تقودني إلى الصحراء. فهناك تمنح ريح الخماسين لفصل الربيع رائحة التراب...» (مقدم، د.ت، صفحة 11) حتى على مستوى الدلالة يلتبس الفضاء الفرنسي بالصحراوي ليلتقي كل منهما في كونه فضاء للحكي
3. فضاء الحكي
1.3. البيت
تشرع الساردة بالكتابة في بيتها بمونبولييه وان كانت تمارس الكتابة في العيادة أيضا، إلا أن نصفية البيت هي الفضاء الذي خصصته للكتابة وسرد الحكايات كما تصفها، لتشبه جدتها التي كانت من الرحل وانتهت إلى الاستقرار، وصارت تعوض التنقل في الفضاء الصحراوي بالتنقل في فضاء الذاكرة وسرد حكاياها للساردة أو لضيوفهم كما حصل ليلة اجتياح السيول وحلول الضيوف ببيتهم للحماية، فكانت تسرد لهم حكايا الرحل، فالبيت هو فضاء للحكي، سواء كان شفاهيا أم مكتوبا لا يختلف في ذلك بيت الصحراء عن بيت مونبولييه، كلاهما بيت للأنثى وفضاؤها للحكي، الذي يعوضها ويشفي النقص الذي تحسه، فالجدة تنفس عن افتقار الترحال بالحكي عنه، والساردة تعوض جراح الوطن في التسعينيات وما شابها من عنف بالكتابة عنه.
يرتبط البيت المديني بالدلالات ذاتها التي دفعت الساردة لهجرة البيت الصحراوي، إنه مكان للضجر، للوحدة، للألام النفسية، هو فضاء القطيعة التي تأتت بعد هجران الحبيب لها فغادر وتركها بالبيت العابق بالذكريات، كذلك كان بيت الصحراء فضاء للقطيعة التي مارستها هي ذاتها مخلفة البيت ومغادرة نحو الثانوية أولا ثم الهجرة التي استمرت 13 سنة دون عودة لبيت الصحراء، أما سبب هذه القطيعة فهو ثقافي في الحالتين، بمنبولييه هجرها حبيببها بسبب الكتابة التي وقفت حاجزا بينهما:
«أفكر في الظلام في قبيلتي التي ولدت فيها، لم أهجرها عن رفض أو عن تذوق للمغامرة. لقد قطعت نفسي عنها كي لا أموت اختناقا. والآن، ها أنا أفترق عن الرجل الذي أحب لأنه هو الذي يختنق من رؤية الجسد والعقل المتواطئين مع الكتابة» (مقدم، د.ت، صفحة 17ـ18)
أما في الصحراء فكان التعلم والكتب هي سبب القطيعة مع العائلة بعد أن استولت على فضاء خاص هو غرفة الضيوف جعلته فضاء للقراءة والنوم وكان بمثابة الحرب المستترة مع الأم، تحولت إلى قطيعة نفسية مع العائلة بالكامل، وبداية العيش معزولة عنهم:
«استيلائي على هذه الغرفة أعطى الانطلاق للحرب، التي ظلت مستترة إلى هذا اليوم، ما بين أمي وبيني (....) القراءة طوال الليل والنوم صباحا، والعيش بمعزل عن الآخرين» (مقدم، د.ت، صفحة 112)،
لتتحول قاعة الضيوف إلى معراج للحرية، تختار بفضله الساردة طريقة عيشها، وتقاوم محيطها بكل أنساقه، فهي اختارت الكتب وسط ثقافة شفوية، واختارت العزلة في القبيلة والعائلة، وبفضل هذه الخطوة الأولى على طريق الحرية سيتأتى لها الذهاب بعيدا، ومغادرة الصحراء نهائيا لتقتلع ذاتها من الصحراء ومن الجزائر ككل، غير أن هذه الأفضية تظل تسكنها، وتحضر لتحتل فضاء المهجر، فأخبار الوطن في الجرائد وهي تبتاع منها الكثير لتتابع الوضع بالوطن رغم أنه يعمق جراحها، كما أن الدلالات التي ترتبط بفضاء الصحراء والوطن ككل هي نفسها التي تربطها بالمهجر، فالعنف والقتل الذي ارتبط بتسعينات الجزائر، هو نفسه يهدد حياتها في المهجر، فالذين اغتالوا طاهر جاووت في الجزائر يهددون كل من يهددهم قلمه، فأحرقِت سيارتها، وهُددَت،و توالى جيران عيادتها بإخبارها بأنهم يتلقون تهديدات بقتلها ،كأن المهجر الذي وهبها الحرية للتعلم والعمل، والعيش كما تشاء، لم يتمكن من منحها الإحساس بالأمان، ولا حتى بالانتماء فهي بعد حرب الخليج تفقد الاحساس بالانتماء لفرنسا التي مثلت وطنا بالتنبي قبل ذلك، فتصف نفسها أخيرا بعديمة الجنسية، وتتحول فرنسا إلى فضاء معاد، تصفه بالمستعمر على اختلاف اشكال الاستعمار التي يمارس، ما يجعل من فضاء المهجر مساويا في عدائيته لفضاء الصحراء، محملا بالدلالات ذاتها من موت وعنف، ولا انتماء، إنها لم تعد تنتمي إلا لثقافة الحد /الثخم
«ثقافة مقاومة ومضادة لجماليات الحداثة الرائجة، لأنها ثقافة ساهم في انتاجها آداب المقموعين والمهمشين والمنبودين والمنفيين الذين يعارضون جماليات «المركز» ويقفون منها موقف النقيض » (الشحات، 2005، صفحة 21)
فتنحاز للهامش، وتترك المشفى والتخصص بأمراض الكلى وتفتح عيادة للطب العام في حي للمهاجرين، فيكونون عائلتها الجديدة، عائلة من المهمشين
«إن الحي الذي يقيمون فيه ينشر حولي باستمرار، مذاقاته وأريجه العائلي. هذه الأشياء العائلية هي ما أبحث عنه. ولكن المنة الأكثر عمقا تأتيني من نظراتهم. صرفت كثيرا من الوقت كي أعي بها وكي أزن قدرتها على الإصلاح وعلى التجديد والإحياء. العيون نفسها بدأت، هنا، في إعادة إصلاح وترميم ما خرب هناك.» (مقدم، د.ت، صفحة 119)،
الحي المهمش الذي تقيم به غالبية مهاجرة من المغاربة وبعض الأتراك والبرتغاليين وقلة من الفرنسيين المهمشين، هذه الفئة المسحوقة تخلق أخيرا الإحساس بالانتماء لدى الساردة /الكاتبة، ويقع التقاطب أخيرا بين الـ هنا والـ هناك، لترمم هنا ما خربته هناك، وتشفى جراح الأنا بفضائها الجديد الفضاء الهامشي الذي يخلق الألفة وتعالج ما بنفس الكاتبة من تمزقات وعزلة سببها فضاء الصحراء بل الوطن ككل، غير أن هذه التمزقات لا تجد لها في النص مبررا واضحا، فالساردة وهي تروي هذا النص الذي يتشابك فيه التخييلي بالسيرة الذاتية، تخلق مبالغة في الشعور بالنبذ في حين أنها على امتداد النص كانت تروي سيرة للابتعاد الطوعي عن العائلة الأصلية
«سيرة ذاتية مضخمة وتأملات وجودية مبهمة تصور حالات إنسانية مزعزعة يتعذر عليها الإنتماء، ولا هوية لها، أدى هذا الضرب من الكتابة إلى حيرة وعتمة وسخط، وارتفعت فيه درجة حرارة الغضب» (ابراهيم، 2011، صفحة 251) لأسباب غير واضحة غالبا.
فالتقابل بين الفضاءين «هنا» و«هناك» المهجر/الوطن هو على المستوى الجغرافي وعلى المستوى البروكسيمي، حيث حققت لها هنا ما كانت تصبو إليه من اكتساب فضاء خاص بها فامتلكت المنزل والعيادة، وصار لها سرير خاص، تبتعد به عن السرير العائلي الذي كان يجمعها بأشقائها، غير أن الفضاءين لا يختلفان من حيث كونهما عنيفين، مهددين للحياة، ويفتقران للألفة، التي لا تجدها إلا في حي هامشي هو إقامة المرضى، التي تعوضها عن فقدان العائلة، إنه نقطة للعزلة التي تجد بها المهمشين والمبعدين عن عائلاتهم، الذين يشبهون حالة العزلة التي آلت إليها.
2.3. الغرفة نقطة لعزل الذات
تبدو الساردة كنقطة منعزلة في فضائها، إنها تقيم وحيدة ببيتها بعد أن هجره جان لويس، وفي العيادة تعمل بمفردها، وحتى حين تستعيد ذكريات الصحراء تروي كيف انتقلت إلى غرفة منفردة بعيدا عن باقي العائلة. إن تقنية النقطة الفضائية تربط علاقة تبادلية بالجانب الموضوعاتي في الرواية، لتتشرب نوعا خاصا من موضوعات، هي تلك المتعلقة بالعزلة، النبذ الاجتماعي، الوحدة الوجودية، الأنانية، اليتم، قضايا الإبعاد...وغيرها من أشكال العزل، «فتقوم بدور الصورة الحاسمة في الرواية، من حيث إن» مستوى «المجتمع (...) يشكل الحقل الذي تكون فيه هذه «النقطة» معزولة.» (كسنر، 2003، صفحة 49) غير أن العزلة في هذا النص حالة اختيارية، إن الساردة منذ بدايته تسعى للخروج من الممارسات الجماعية، إنها ليست حالة من الإبعاد أو النفي، بل هي رغبة واعية في الخروج عن النسق العائلي وشق طريقة خاصة في العيش تؤثثها الكتب والقراءة ولغة مستعمر يجهلها حتى الوالدان « لقد كان الأرق والعزلة والقراءة حرياتي الأولى » (مقدم، د.ت، صفحة 11) التي شرعت بممارستها منذ مرحلة الطفولة واستمرت معها حتى في مهجرها، حيث تقابلنا الفاتحة الروائية بوصف وحدتها في البيت متنقلة بين غرفه وأسرته دون أن تتمكن من بلوغ الاحساس بالألفة فتستعيد ذاكرة المكان الصحراوي، غير أن الصحراء لا تصور في الرواية في صورة يوتوبية لبيت الطفولة، بل هي على العكس من ذلك تأتي بدلالاتها السلبية العطش، والعزلة فعائلتها تقيم في بيت بعيد عن القرية، وهي تقيم في غرفة الضيوف بعيدا عن باقي أفراد عائلتها، بعد أن تنقلت من سرير إلى آخر.
يتداخل فضاء الغرفة حيث تعزل الساردة ذاتها بفضاء السرير في هذه الرواية إن الغرف لا تجيء إلا للحديث عن سرير أو عن فراش، حتى غرفة العيادة تصفها بسريرها، كأن الغرف تفقد كل دلالاتها لتختصر في السرير، ومرد هذا إلى حالة العزلة المهيمنة على النص بالكامل، والتي تخلق الإحساس بالحرية لدى الساردة، فهي حين تستعيد غرفة بيت الطفولة حيث كانت تتشاركها مع والديها وتتشارك فراشها مع باقي أخوتها تصفها «كمظاهر الظلم الأولى، وبدايات الشقاء» (مقدم، د.ت، صفحة 15) وتجعلها سببا في أرقها الذي سيستمر معها حتى زمن الكتابة، ولا تحس حريتها إلا باقتلاع نفسها من ذلك الفراش المشترك والانتقال إلى غرفة الضيوف حيث تنعزل لممارسة القراءة ليلا والنوم صباحا، وترى في هذه العزل منعرجا نحو الحرية عليها الحفاظ عليه، أما باقي الغرف في الرواية فهي أيضا لا تذكر إلا مقترنة بأسرتها، منها غرفتها في المدرسة الداخلية حيث تصف مباشرة سريرها والخزانة، ثم أسرة الطالبات، غرفة نومها الرئيسية والسرير الذي صنع جون لويس وتحطمه لتقتني آخرا، غرفة معدة للضيوف تعرج على سريرها ثم ترفض النوم به، النصفية وهي مكتب خصصته للتأليف وبه سرير أيضا، غرف المرضى التي تصفها من خلال أسرتها، فالسرير هو الفضاء الأساسي في هذه الرواية ولذا جاء الفصل الأول من الرواية بعنوان السرير الواقف.
السرير فضاء للخصوصية والهناءة المرتبطة بالنوم، والحميمي، أما اضافة صفة الوقوف له فهي تسقط عنه كل هذه الدلالات، فالأسرة تأتي ممددة لتضطلع بوظيفتها، أما وقوفها فنفي جذري لهذه الوظيفة، فلماذا جعلت مليكة مقدم سريرها واقفا، إن التفسير تأتي به من التراث الشفوي الصحراوي وهي تضمن الرواية حكاية عن صناعة النسيج التراثية أيضا، حيث وصف المنسج بالسرير الواقف لشبه شكله من جهة ولجمعه بين حبيبين من جهة آخرى (مقدم، د.ت، صفحة 34) في علاقة حب انبثقت من اعجاب بالزرابي، جعلت الحبيببين في الحكاية الشعبية يقفان معا أمام المنسج، السرير فضاء الحب في الحكايا، أما المنسج في بيت الساردة فلم يخلق الحب بل صنع خيبة الأم التي لم تتقن هذا الفن وخيبة الجدة التي لم تتمكن من نقل فنها التراثي للجيل الجديد، ليتخذ السرير الواقف دلالات جديدة هي الخيبة التي تنتهي بتفكيكه، يتحول إلى سرير منكسر كالأسرة التي ستعايشها في حي المهاجرين بمونبوليي والتي تصفها مقارنة إيها بالأسرة الواقفة « هذه الأسرة ليست أسرة واقفة، إنها مكسّرة وموضوعة في أقصى الأمكنة »(مقدم،د.ت ص118) فصفتي الوقوف والانكسار لا تحمل دلالتها الحرفية كما في النص التراثي بل إنها تضاد بين حال القوة والصمود مقابل الضعف والوهن، إنه فضاء نفسي يعكس حياة الشخوص أكثر مما يصف حال السرير، إنها أفضية النفس في قوتها أو إنكسارها.
غير أن السرير لا يبتعد عن الدلالة الأولى وهي العزلة مهما اختلف توظيفه في هذا النص، فالسرير الواقف هو فضاء لعزلة العشيقان في نص الحكاية الشعبية حيث اختليا بعيدا عن زوج الحبيبة، وأسرة المرضى المكسورة معزولة عن الحياة تصفها بـ «أقصى درجات العزلة في زوايا البؤس والاقتلاع» والعزلة عن الآخر، عن العائلة البعيدة في مواطنهم الأصلية، العزلة عن الحياة والانغماس في البوس والفاقة، والعزلة بعيدا عن الحب والعائلة كسرير بيتها، الذي هجره جان لويس بعد سبع عشرة عاما.
وهي تفتتح الرواية بهذه الثيمة مباشرة واصفة فضاء للوحدة والعزلة، فقد غادره الحبيب وبقيت فيه لوحدها، تصارع ذاكرة المكان، ذاكرة الرائحة والصورة التي شكله عليها جان لويس ذاكرة المكان:
« لقد غادر هذا الصباح، أنا وحيدة في السرير، وحيدة هذا المساء في رائحتنا، بالرغم من أن الشراشف تم تبديلها ولكن الرائحة مازالت هنا، في نسيج القماش في ذاكرة السرير » (مقدم، د.ت، صفحة 9)
فالسرير الذي كان فضاء للحب والحميمي والانغماس في حالة من الألفة تحول إلى نقطة معزولة قلقة، إلى فضاء ضاغط يهاجم الساردة بالذكريات ويسبب لها الأرق فتنتهي بتحطيمه، وجلب سرير آخر لا ذاكرة له، ليفقد الدلالات العدوانية ويعود إلى دلالته الطبيعية فضاء للانكماش على الذات فالإنسان
«يعيش في تذبذب جدلي بين الرغبة في الانتشار والانطلاق من قوقعة إلى أخرى في حركة طرد مستمرة وبين الرغبة في الانكماش والتقوقع في حركة جذب إلى الداخل» (قاسم، 2002، صفحة 38)
هي الرغبة التي حققت لها الألفة والفرح في طفولتها حين كانت تأوي إلى فراش جدتها، الفضاء العابق برائحة زكية وحكايا الصحراء والرحيل والخيول، والحنو العائلي الذي يحملها على النوم في طمأنينة وسلام في حضن الجدة، وفي المهجر تعود إلى السرير تبحث هذه المشاعر التي كان وجود جان لويس يهبها إياها، فلا تجدها بل تصف حالها في السرير بالانكماش في فضاء بارد معزول يسبب الأرق.
3.3. الفضاء الصحراوي
بالنسبة لمليكة مقدم تتساوى الصحراء والجزائر، إنها لا تفصل بين الفضاء الكلي وهو البلاد بكاملها والصحراء التي تمثل جزءا فقط منها، لكن السرد لا ينتقل بالأفضية الشمالية بل فقط بالصحراء مقابل أفضية مهجرها. ارتبطت الصحراء بدلالات متنوعة، أولها جسدت صورتها النمطية من عطش حرارة واتساع وموت إذ تصف الصيف بـ «الأيام الجهنمية «والصحراء: «الفضاء الفارغ، هو الخارج. هو الصحراء. هو الموت» (مقدم، د.ت، صفحة 111) غير أنها ناذرا ما تأتي على وصف هذا الفضاء الصحراوي خارج البيت، باستثناء مرات قليلة وصفت فيها المساحة المجاورة للبيت وما تتضمنه من خزان للمياه، تحول إلى مصدر رزق والدها. فحتى سماء الصحراء بمشهد نجومها الفريد تصفه من داخل البيت السبب في ذلك هو وجود المظليين واحتلالهم الفضاء الخارجي ليلا، لكنه ليس السبب الدائم لمنع الأنثى من اكتشاف الفضاء الخارجي ووصفه، بل لأن فضاء المفتوح محتكر للجنس الآخر، للرجال حتى أن الفتيات اللائي يتجرأن على اجتياز هذه الأفضية قاصدات المدرسة يتعرضن للعنف اللفظي وحتى الجسدي
و«على الآباء أن يتحملوا النقد والتنصل والمواجهة الجسورة للتقاليد، إنهم يعرضون بناتهم للاستنكار والشجب ولأقوال خسيسة ومهينة في الشارع، هذا إذا لم يصل الأمر إلى حد رجم سيقانهن بالحجارة لأنهن تجرأن على دعس أراض كانت لحد الساعة محصورة بالذكور» (مقدم، د.ت، صفحة 122)
فالفضاء المفتوح حكر على الذكور ومحاولة عبوره فقط دون الطموح إلى اكتشافه أو استغلاله تفضي بالأنثى إلى تحمل العنف عقابا اجتماعيا تفرضه الذكورة عليها، حتى أن الأسطورة حين تروي عن طارغو شبح امرأة تسكن الصحراء وتظلل المسافرين، أو تروي حصة الإملاء عن إيزابيل إيبرهاردت فإنهما تذكرا متنكرتين بزي رجالي لتتمكنا من عبور الفضاء الصحراوي.
هذا جعل الأفضية الصحراوية المفتوحة في النص قليلة جدا، وهي حين ترد تمثل مهربا للساردة، التي تتسلل إليها خفية أو تنطلق إليها هاربة.
أما حين تصف القصر والسبخة والضريح والقرية والحي الفرنسي في مقابل الحي العربي واليهودي، فإنها لا تصفها متنقلة فيها بل فقط تطل عليها من بعيد، ثم تلجأ للكثيب المعزول الذي لا تبلغها فيه ألسنة ولا أيدي الآخر الذكر ليعنفها، تقضي به وقت قصيرا « ووجوده(ا) هنا لا يتحقق بسبيل العيش...بل في تأكيد الذات إزاء المحيط الواسع المتناهي » (النصير، 2010، صفحة 113) لتعود مستعدة لمواجهة قسوة الحياة والصحراوية وكذا قسوة حياتها الأسرية التي تفتقر لحنان الأم فهي الأخرى تفضل أبناءها الذكور وتدللهم وتحاول جعلها تخدم أخوتها الذكور بينما « هم ليسوا فقط أحرارا، ولكنهم أيضا محل دلال وغنج وملاطفة. أما أنا فلا حق لي في أي شيء من كل هذا وما على إلا أن أخدم وأذعن وأن ألوذ بالصمت» (مقدم، د.ت، صفحة 112)، ولأن الفضاء المغلق (البيت) هو الآخر ليس ملكا لها، ولا هو وفر لها الحنان الذي تحتاجه أي طفلة فإنها فضلت العزلة.
أما الفضاء الصحراوي في الرواية فيتجلى من خلال الثقافة المحلية، فالساردة تأتي على ذكر تفاصيل اليومي فتأثث سردها بعناصر من البيئة المحلية: المسرجات، الكانون، حصيرة الحلفاء، بطانية الصوف. كما تأتي على سرد تفاصيل مهنة النسيج التي تلقنها الجدة للأم وبكل مراحلها التي تمتد لأسابيع في
«الغسيل وفي كشط وندف ونسج وتخضيب وصبغ جزازات الخرفان، والآن شلات صوف تتراكم وتتكدس، خضراء وحمراء وبيضاء ونيلية وصهباء، جاهزة لما هو شاق، وهو تحويل الشغل إلى عمل مكتمل(...) أمي منهمكة في مهنة النسيج. جالسة في بدلتها النسائية وظهرها متقوس بشكل خفيف، وهي تحاول جاهدة إدخال حبال قصيرة ملونة في لحمة النسيج. تقوم بتثبيتها بعقد قبل أن تقوم بقطع وتوازن طولها....» (مقدم، د.ت، صفحة 31،32)
تأتي الساردة على ذكر كل مراحل الإعداد للنسيج ثم الشروع به لتتناول كل تفاصيل العملية التي تعد تمثيلا « للغة طبيعية محكية بعلامات وبإشارات خطية منقوشة (...) إن للحياكة حاملا ماديا يعمل على حفظها » (هرابي، 2006، صفحة 131) من النسيان، إنها لغة الأنثى التي تقاوم بها النسيان من جهة وتقاوم بها انحسارها في فضاء مغلق ومنعها من التعبير عن وجودها إلا بما توافر لها داخله، فالحياكة برموزها وتنوع أشكالها وألوانها، لغة إبداعية تزاولها الأنثى لتخلق فضاء فني تتواصل من خلاله مع من يحسن قراءته، فيتخلق تاريخ فني أنثوي محفوظ على المنسج الذي تسميه الكاتبة «السرير الواقف» لتشكل الحياكة بؤرة السرد في الفصل الأول المعنون بالسرير الواقف في تشبيه لأداة النسيج بالسرير لكن بوضع عمودي «واقف»، والتي ترتبط أيضا بأولى قصص الحب التي تسمعها الساردة، قصة من التراث الشفوي تضمنها الساردة حكيها، لارتباطها بمهنة النسيج التراثية وبالحياة الصحراوية بشكل عام، حياة الأنثى داخل البيت الصحراوي، فالبيت هو الفضاء المهيمن على هذا النص سواء في المهجر أو في الصحراء، ترتبط به الساردة بشكل كبير ولا تصف إلا تواجدها به وجل أحداث النص تدور في أفضية مغلقة، سواء في الصحراء أو حتى في المهجر. وحضور تراث البيئة المحلية بكل أشكاله تراث مادي وغير مادي الطابع الذي يميز الفضاء الصحراوي في نص مليكة مقدم.
في هذه القصة الشعبية يقع خبير في النسيج بحب النساجة من خلال زربية معروضة، لتتحرر الأنثى من السجن الذي أودعها إياه زوجها، وتبلغ السعادة مع هذا الخبير بالزرابي ويجمعهما السرير الواقف، الفضاء الفني والتواصلي الذي تتحرر فيه الأنثى من قيد الأفضية المغلقة التي فرضتها عليها حياة الصحراء وأعراف أهلها.
مع ذلك لا تتمكن كل النساء من هذا الفن فوالدة الساردة تنتهي إلى الإقرار بفشلها وتترك النسيج إلى الخياطة، لأن « الحياكة قابلية المرأة الرافضة لقيودها لكي تكون مختلفة عن الآخرين » (هرابي، 2006، صفحة 131) وهو ما تمثله الجدة والحفيدة في الرواية أما الوالدة فعلى العكس من ذلك هي من النساء الخانعات وهو ما خلق فجوة وجفاء بينها وبين ابنتها الساردة، فالجدة مثل الحفيدة تسعى لتخليد ذاكرة، هي ذاكرة الرحل الذين شرع الاستقرار يقتلها، فلم يتبق لها غير الفن لتخليد ذاكرتها فكان الحكي والحياكة هما سلاحها لمقاومة النسيان، ولمقاومة الحياة الصحراوية التي يهيمن على أفضيتها الرجل فتخلق أفضيتها الخاصة في الحكي والحياكة، وهي التي توفر الحماية للحفيدة لتمتلك أفضيتها الخاصة بين الكتب
«إنه، تحديدا، إخلاص هذه المرأة الحاكية، ذاكرة ثقافة شفهية، من يحمي ويرعى مجهوداتي للتعلم...جدتي التي تحتاج كثيرا إلى نقل ذاكرة الرحل المهددة ذاكرة شعب في طريق الانقراض: «إن استقرار الذين كانوا رحلا، هو الموت الذي بدأ يستبد بقدمي» وأما الآن، فأنا لا أملك سوى سفر الكلمات...» (مقدم، د.ت، صفحة 44)
فالجدة التي كانت من البدو الرحل الذين امتلكوا الفضاء الصحراوي وعاشوا فيه وعايشوا تقلباته، تعرف قيمة الفضاء للأنثى وأن تجد الأنثى لنفسها فضاء خاصا، تعيش فيه وله أحيانا، وتعرف أن فقدانه هو الموت البطيء الذي يكتسحها، هذا ما جعلها حامية للحياة التي اختارت حفيدتها، داخل الأفضية المتخيلة التي تخلق الكتب.
فالأنثى في الصحراء «الفضاء الفسيح المتسع» لا تملك سوى أفضية تخلقها بنفسها، لتهرب إليها ليس من قسوة الطبيعة فقط بل وهو الأهم من قسوة العادات والأعراف الصحراوية.
خاتمة
بنت مليكة مقدم روايتها المتمردة بتقطيع مكاني وفق طبقتين هما «هنا» و«هناك» بشكل متناوب، ما يجعل قارئها يعتقد للوهلة الأولى أن أماكنها متقاطبة، غير أن بنية التقاطب هذه مخاتلة إذ أن الساردة التي هجرت «هناك» الصحراء والوطن، نحو هنا المهجر مونولييه، بقيت تحمل أماكن الصحراء بذاكرتها، وقد هيمنة هذه الذاكرة على الفضائين معا الهنا والهناك
فارتبط كلا الفضاءين بالدلالات ذاتها، وأهمها العزلة والوحدة، فكان كلاهما فضاء معاديا للساردة، إلى أن اكتشفت حيا فقيرا وشرعت بالعمل به، فشرع بترميم ما تحسه من خراب بذاتها، فكان الفضاء الهامشي هو فضاءها الأليف، الذي خلق لها الإحساس بالانتماء.
تعيش الساردة حالة من المنفى المزدوج فهي رغم أنها غادرت الوطن طوعا، إلا أنها لم تجد الانتماء ببلدها الجديد «وطنها بالتبني» خاصة بعد حرب الخليج، ولا هي تمكنت من الفكاك من ارتباطها بالوطن الأصلي ولا الشعور بالانتماء إليه، بسبب جفاء علاقاتها العائلية من جهة وأحداث التسعينات من جهة أخرى.
هيمنة العزلة إذن على الساردة فلم تتمكن من توصيف الأفضية المفتوحة ونذر وجودها بالنص لأنها حكر على الرجل، واقتصر وجودها على الأفضية المغلقة التي مثلت نقاطا لعزل الذات عن باقي محيطها، في الصحراء ابتعدت عن عائلتها لتعيش بأفضية متخيلة في الكتب، وفي المهجر خسرت حبيبها بسبب الكتابة، الفضاء الذي تهرب إليه مشكلة جراحات الوطن.
في أفضية عزلتها وهي غرف غالبا كانت تتجه دوما لوصف السرير فضاءاً وظف ليحمل دلالات كثيرة وإن كانت العزلة أهمها، فإنه خلق عن طريق التقابل بين حالاته المختلفة دلالات متضادة بين فكان فضاء أليفا للحميمي والأمان مرة، وفضاء ضاغطا للعزلة والانكسار والوحدة مرات عدة.
تحضر الصحراء بشكل مكثف في الرواية، لكنها لا تتجلى بمناظرها الطبيعية بل بالحياة الأنثوية والأفضية الفنية التي تخلقها داخل الفضاء المغلق للبيت، كالحكي والحياكة.
فالفضاء الصحراوي متداخل مع شخصية الساردة وهو خالق أبعادها النفسية والسوسيوثقافية، والوعي به مكون أساسي من مكونات الوعي بشرط الكتابة عند مليكة مقدم، فالصحراء تطبع هذا النص بطابعها الثقافي والطبوغرافي ونفسية الساردة لم تتغير رغم الانتقال بين فضائين متناقضين