مقدمة
كان للثورة التحريرية الجزائرية تأثيرها الايجابي المحسوس في تفعيل المجال الثقافي عامة، والأدبي خاصة. ونخص بالإشارة هنا الشعر التحرري والقصة والرواية. فقد حفزت الأدباء وفجرت فيهم الحماس وروح الإبداع لينظموا ويؤلفوا حول معاناة الشعب الجزائري ونضاله ثم حول الثورات التي خاضها من أجل كرامته وتحرير بلاده. ونود التركيز هنا إلى أنه أيا كانت النصوص والمؤلفات والمواضيع التي تتناولها، فإنها لا تتجاهل عاداته ومبادئه وقيمه بل وكثيرا ما ترتكز عليها للتوعية والتحسيس وتفعيل المشاعر النبيلة والنزوات البناءة من أجل النهوض بالمجتمع والوطن.
لم تكتف الحركة الأدبية في الجزائر خلال الحقبة الاستعمارية بالسير نحو الآفاق الزاخرة، بل سعت نحو المحافظة على انتصارات الثورة بغية العمل على استمراريتها في مجال البناء والتشييد عقب الثورة وتحقيق النصر.
وإذا كانت السياقات والأحاديث تميز بين آداب باللغة العربية، ثم باللغة الفرنسية، وباللغة الأمازيغية، فان ذلك لا يعني قطعا أن هنالك آدابا منفصلة يعبر عنها بهذه اللغات، بل إن الأدب الجزائري يكون وحدة متكاملة، متماسكة ساعدت فئات الشعب المختلفة على خلقه بثلاثية لغوية، إلى درجة أنه كثيرا ما تظهر هذه اللغات في النص الواحد من خلال ما يعرف بالدخيل المعجمي أو التداخل اللغوي، فكثيرا ما تفرض الظروف على الفرد والمجتمع استخدام هذه اللغة أو تلك كأداة للتعبير، طالما أنها جزء لا يتجزأ من شخصيته ومن واقعه. فهو في مجمله أدب جزائري ألف بلغات مختلفة، لكنه واحد وأصيل، متشبع بقيم المجتمع، وعاداته، وآلامه، وآماله، وثوراته. فالأدب واحد داخل حلة لغوية متعددة ومتنوعة.
برزت خلال هذه الحقبة من تاريخ الجزائر، أي خلال الحقبة الاستعمارية، وإلى وقت ليس ببعيد، نخبة من كبار الأدباء الذين عبروا عن المحيط الثقافي، والاجتماعي، والديني، والعقائدي، والسياسي الذي كانت تعيش فيه الجزائر بصفة عامة. نذكر من أبرز الروائيين : مولود معمري في روايته المشهورة « الربوة المنسية » 1955 ، مالك حداد في روايته « الانطباع الأخير » ، مولود فرعون في رواياته « ابن الفقير »، « الأرض والدم »و « الدروب الشاقة » ، وغيرهم من الأدباء الذين يعود إليهم الفضل في حفظ ذاكرة وتراث ماديين ومعنويين في شظايا مؤلفاتهم التي وصفت ودونت الماضي لما كان حاضرا ولما كان غائبا. فماذا اكتنزت مؤلفات هؤلاء؟
1.الجانب المنهجي
1.1. المدونة
أخذنا كعينة في عملنا هذا، دراسة رواية الدروب الشاقة لمولود فرعون. فهي رواية اجتماعية لكاتب جزائري من منطقة القبائل، ألفها بلغة مستعارة هي الفرنسية، ثم حظيت بالترجمة إلى عدة لغات، من بينها اثنتان إلى العربية. لكن كونها رواية اجتماعية لم يقيدها بذلك ولم يمنع من احتوائها على جوانب تاريخية لأنها تروي أحداثا حقيقية ماضية عاشها المجتمع الجزائري عامة والقبائلي خاصة خلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر، كما تصف مجتمعا حدث فيه بعض التغيير منذ الاستقلال فتغيرت ظروف معيشته وطبيعتها. وتبرز الرواية إضافة إلى ذلك، ذاك العالم المنغلق المختوم عليه، والذي لم يمسسه الزمن فلم يؤثر فيه ولم يبدله. إنها تعرض وصفا لتلك الطبيعة الشاقة والمأساوية أحياناً خاصة لما يتصادم فيها الجديد والقديم، الماضي والحاضر، في وعي الناس وسلوكهم. فهي أساسا رواية دراما عاطفية تعرض أحداثا لحياة قروي مثقف، متعلم ومنعزل في أحضان قرية قبائلية نائية تسمى : « إغيل نزمان ». فقد جعلته يعيش منفصلاً عن العالم، وبعيداً عن التاريخ، يكتب مذكرات لا حاجة للناس بها في وقت يقوم فيه جميع المثقفين الجزائريين بمقومة المستعمر والثورة ضده وضد ما فرضه من فقر مدقع وحرمان وطغيان على المجتمع الجزائري. والرواية تصور حيرة وارتباك جيل نضج، يصور فيه الكاتب عالم القيم القديمة، في تغذية الأمل في الأشكال الإنسانية للتخلص من العبودية.
فالرواية ليست مجرد قصة حب وغرام، وغيرة وانتقام، بل تصف ما يكمن وراء هذه العواطف المحتدمة من صراع بين القديم والجديد، بين الأصيل والمستحدث، بين الشيوخ والشباب، بين الإسلام والتبشير. إنها ببساطة « رواية صراع هوية » على شاكلة العديد من روايات الكتاب الجزائريين خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية.
فالرواية في شكلها العام نسق يتضمن في بنيته الداخلية مجموعة من الأنساق الفكرية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تحوي في طياتها مواضيع تدور حولها الأحداث الروائية التي ينعكس فيها صراع الواقع المادي والروحي. تسعى الرواية إلى إبراز مختلف الصور التي يعيشها الإنسان القبائلي في مجتمعه محاولة إبراز أهم القضايا التي يعاني منها : سواء أكان ذلك ما يعانيه تجاه الاستعمار الفرنسي ، أو ما يعانيه تجاه شراسة طبيعة وتضاريس حياة الريف، أو قساوة نزاع الأجيال لأن « النص الأدبي حادثة ثقافية لا يمكن أن تقرأها بمعزل عن سياقاتها الخارجية التي خلقتها ».1
ففي هذه الدراسة أخذنا مؤلفات مولود فرعون كمدونة في عملنا هذا من أجل استخلاص الحقائق الثقافية التي كانت سائدة في المجتمع القبائلي بإحدى قراه، والذي كان محل أحداث روايته الدروب الشاقة التي يعبر عنوانها بعمق عن مضامينها من معاناة ومشقات يومية تتلاعب بالفرد فتفرض عليه بؤسا يلازمه ويسكن محيطه وجسده وتفكيره.
فبما أن منظومة الأنساق الثقافية المكونة لذهنية أي مجتمع من المجتمعات تظل كامنة في نصوصها الأدبية الرسمية، فالإشكالية المطروحة هنا هي : هل استطاع مولود فرعون ترجمة الواقع الذي عاش فيه المجتمع الجزائري في هذه المرحلة الحساسة من تاريخه؟ هل مكنت الرواية من تحقيق ذاتها وجماليتها ومضمونها من خلال مختلف المظاهر التي ميزت مثل هذه المجتمعات؟ فالدروب الشاقة نص ثقافي يحمل أبعادا ودلالات جمالية وفنية باعتباره صورة عن المجتمع القبائلي الجزائري، في مختلف تجلياته السوسيوثقافية.
2.1. الاشكالية ومنهج الدراسة
1.2.1. الاشكالية
ولتناول هذه القضية، ارتأينا اعتماد المنهج الثقافي الذي نراه أنسب لأنه يلائم طبيعة الموضوع. فالمنهج الثقافي يرمي إلى استكشاف الأنساق الثقافية الجلية والمضمرة والتي عبر عنهما عبد الله الغدامي في قوله أن النص الأدبي يحمل نسقين «ظاهر ومضمر وبينهما تعارض وتعاكس على أن يكون النص جماليا وجماهيريا»2، فيقوم بدراستها في سياقها الثقافي والاجتماعي والسياسي والتاريخي والمؤسساتي فهما وتفسيرا. لأن إبعاد العينة أو الظاهرة عن سياق من سياقاتها سيثير حتما على نتائج فهمها وتحليلها، فتبعد صاحبها عن الحقيقة المرجوة والمقصودة. وقد تأثر هذا المنهج بمنهجية جاك دريردا Jak Derida التفكيكية القائمة على التقويض والتشتيت والتشريح، دون أن يكون القصد إبراز التضاد والمتناقض، وتبيان المختلف إضاءة وهدما وتأجيلا، بل من أجل استخراج الأنساق الثقافية عبر النصوص والخطابات سواء أكانت تلك الأنساق الثقافية مهيمنة أو مهمشة3 . لأن ما يكشف عنه الأدب قد لا يبرز للمشاهد والمتمعن في الملاحظة خاصة في وسط اجتماعي شديد الرمزية والكتمان والحرمان.
2.2.1. بعض خصائص المنهج
قبل الشروع في التحليل، نود أن نستعرض هنا مجموعة من السيمات التي يعتمد عليها هذا المنهج إن لكل مجتمع ثقافته الخاصة وعاداته التي تختلف بالطبع عن ثقافات المجتمعات وعادات الأخرى حتى وان أمكن أن نجد تقاربا بين مجتمعين. وقد نجد في المجتمع الواحد ثقافات متعددة، قد تكون متجانسة، وقد تكون متباينة لأن مكونات المجتمع والمجتمعات تتأثر كل التأثر بجميع السياقات التي تحيط بها : من طبيعة وتضاريس، من لغة وديانة، من سياسة وايديولوجيا...ومع تعدد وتنوع هذه العناصر في المجتمع الواحد، تتنوع ثقافته ولغته وأفكاره وعاداته... نلاحظ أن كل هذه العناصر مرتبطة ارتباطا وطيدا بالمجتمع وبالدراسات الاجتماعية لأن الدراسات الثقافية بالخصوص نشأت في حِجْر علماء الاجتماع ـ لذا، تنحو الثقافة دائمًا منحى الاتجاه الاجتماعي، فتصطبغ الدراسات الثقافية بالصبغة الاجتماعيةـ وانتقلت فيما بعد إلى علوم مختلفة مثل الأنثروبولوجيا، علم النفس، اللغويات،
النقد الأدبي، ونظرية الفن، والفلسفة، والعلوم، والسياسية وغيرها...
iفالدراسات الثقافية من أغنى الدراسات بالدلالات المضمرة، والأنساق المخفية، والعبارات الرمزية المبهمة والتي تحمل محتويات ومعاني عميقة لأشياء كثيرة، لا يمكن فهمها إلا بالعودة لدراسة الثقافة والمجتمع.
وعليه، فان القراءة الثقافیّة للنّصوص الأدبیّة تعمل على الإبحار في أعماق النص للكشف عن تلك الأنساق المضمرة فيه، وتساعدنا على تحلیله تحلیلاً شاملا، واسعا ومتجذراً للتعرف على النسق الثّقافي الذي يؤدي بنا إلى فهم العمل الأدبي أكثر. وهذه القراءة أقرب إلى القراءة العلمیّة، رغم غوصها في الثقافة والمجتمع، لأنّها لا تعتمد كثيرا على جمالیات النصّ وبلاغته. بقدر ما تركز على مرجعياته المدلولية الثقافية. فأول ما نبدأ به هو دراسة الأنساق الدلالية للعنوان.
2. التحليل
1.2. قراءة في عنوان رواية الدروب الشاقة
1.1.2. ماهية العنوان
إن للعنوان أهمية بالغة في التعريف بكامل النص الأدبي قصيرا كان أو طويلا، لأنه يمثل مدخلا له، وبوابة إليه، ومرآة تحوصله وتشمله في هيكل كثيرا ما يؤلف بين البساطة والإبهام، بين السلاسة والغموض. فهو «مجموعة العلامات اللسانية من كلمات وجمل وحتى نصوص قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتعينه، تشير إلى محتواه الكلي لتجذب جمهوره المستهدف» 4 .فبقـدر ما يكون العنـوان خلاصـة للعمل المنجـز، بقدر ما يكـون مفتاحا وبوابــة تطـل على النص بأكملــه، وتبعـث بمذاقــه ومضمونه، قبل الدخــول فيــه والخوض في صفحاتـه. فهو أول ما يلاحظ وأول ما يلفت الانتباه في المؤلف. لذا فهو من أهم العتبات النصية الموازية المحيطة بالنص الرئيسي، حيث يساهم في توضيح دلالات النص واستكشاف معانيه الظاهرة والخفية. كما انه الأداة التي بها يتحقق اتساق النص وانسجامه. وبها تبرز مقروئية النص فتنكشف مقاصده المباشرة وغير المباشرة، البينة وغير البينة. فالعنوان هو العتبة الرئيسية التي تجذب القارئ والدارس فتفرض عليهما تفحصها واستنطاقها قبل الولوج إلى أعماق النص بأكمله. فالعنوان هو الواجهة التي تبعث فينا الفضول فتجعلنا نتشوق للتطرق لما في أحشاء المؤلف. فهو «ذو موقع نصي إستراتيجي، يشتغل بوصفه دليلا signe، به تمتاز الرواية عن غيرها ».5
إن العنوان هو المؤلف الأول والأخير، به يبدأ الكاتب وبه ينهي عمله: فعنوان البداية قد يكون فكرة تختلج في ذهن صاحبها، ثم يشرع في ترويضها وسقيها حتى تكتمل. ومع النهاية قد يعود صاحب النص إلى بدايته كي يؤكد عنوانه أو ينقحه أو يغيره تماما.
إن العنـوان، على صغـره، يكاد يمثل، لوحده، عالما أسلوبـيا وبلاغـيا لـه دلالتـه وجماليتـه المميزة التي يتعيـن إزاءها التمكـن من قدرات تحليليـة وتركيبيـة وتبليغيـة خاصـة، لا نظنـها تتوفـر لدى كل ذي ريشـة وبراعـة، خاصة وأن العنوان لا يرد حتما على شكل واحد : فقد يأتي كلمة مفردة أو مركبة، وقد يأتي جملة، كما يمكن أن يكون من مجموعة كلمات لا تكون جملة تامة.
2.1.2. نظرة في العنوان
جاء عنوان «الدروب الشاقة» رمزي حيث يعبر عن معنـاه الخفي الذي نصـل إليـه من خلال قراءتـنا لمتن الرواية، ونصل إليـه مع مختلـف الصعوبات والعراقيـل التي تواجـه الشخصيتيـن الرئيسيتيـن للروايـة : ذهبيـة وعامـر : «لقد ضاقت بي السبل ووجدني اصعد دروبا وعرة كسائر الناس... هل قدر علينا فعلا أن نعيش في تعاسة وشقاء في هذه الحياة؟لماذا لا نجد أمامنا إلا دروب الشاقة».6 يجمع عنوان رواية الدروب الشاقة بيـن تضاريس منطقـة القبائـل وقراها صعبة المسالك )القرى الجبليــة (وكذا نمطـهم المعيشي وما يسيرهم من قيم ومبادئ وعادات كثيرا ما تجعل الفرد مكبلا في كلامه وتصرفاته، إذ أن كلا منـهما يجمـع في وعورتــه وصعوبتــه بين الالتــواء والارتفـاع وطول المسافـة وغيـرها. «فالفضاء الجغرافي غير منفصل أبدا عن دلالاته الحضارية، فهو إذن يتشكل من خلال العالم القصصي، ويحمل معنى جميع الدلالات الملازمة له 7».
أما جغرافـية المنطقـة وتضاريسها، فمن المعـروف عن منطقـة القبائـل أنها جبليـة وعرة، صعبـة المسالـك وقاسيـة التضـاريس والمناخ. ونظـن أن هذه الطبيعـة القاسية من الظروف التي أثرت في الروائي ولعبـت دورها في اختياره لعنوانـه هذا : تتسـم منطقـة القبائــل، بيـن قراها ومداشـرها وحقولـها، بصعوبـة مسالكـها والتوائــها وضيقـها. وقد اختار الروائي كلمة (chemins) تعبيرا عن ضيقها وصعوبتها بين الاستواء والالتواء، ثم كثرة العوائق من أحجار وأشجار. فترجمت إلى العربية بالدروب التي تعبر بجدارة عن حقيقتها. وأضاف لها الروائي مولود فرعون وصفا باستخدام فعل مضارع (qui montent). إن اختيار المضارع لم يكن اعتباطا بل هو تعبير عميق عن شعور الإنسان وهو يسلك صعودا تلك الدروب. فهو إحساس أن تلك المسالك غير منتهية، وأنها تتمدد وتطول كلما خضتها لأن التعب ينتابك، وما تحمله يرهقك. وكأن هذه المسالك في صراع معك فتنافسك تتطاول عليك وتزداد طولا وأنت تسلكها صعودا ليبين أنها أقدر منك وأنها تغلبك وتعلو عليك. لذا فإنني أرى أن الترجمة بكلمة الشاقة أو الوعرة لا تف إطلاقا بالمحتوى الحقيقي لما جاء في العنوان الأصلي لسببين : أولهما أن هذه الكلمة لا تترجم تلك الحركية الموجودة في الفعل خاصة وأنه مضارع يلازم حركة من يسلك ذلك الدرب. وثانيهما أن كلمة الشاقة أو الوعرة التي جاءت وصفا لتلك الدروب لا تعبر سوى عن وجه واحد من المضامين التي تحتويها الكلمة الأصلية حقيقة ورمزا.
ليست هذه الطبيعة القاسية وهذه المسالك التي لا تنتهي وعورتها سوى جانبا من جوانب مشقات الحياة التي يعانيها يوميا، بل ليل نهار، سكان تلك القرى التي نسيها الزمن «غدا يوم جديد ستستيقظ فيه القرية كما تستيقظ عادة صباح أيام الشتاء حيث تخرج بعسر من خمولها لأنها هي أيضا تود أن تموت وتتجمد بفعل البرد القارس»8 . فنفـس الظـروف ليست سوى استنساخا بل امتدادا لحياتـهم وأحوال معيشتـهم التي لا يحسـدون عليـها كأفراد وكمجتمع قروي. فالنمط المعيشي، الذي نخـص فيـه بالذكـر عاداتـهم التي تحكـم حياتـهم اليوميــة، وتتحكـم في روابطـهم وعلاقاتـهم الاجتماعيـة، انعكـاس وتجسيد للطبيعـة التي تحيـط بـهم بـما فيـها من جميـل و شنيـع، وكأن قساوة التضاريس والطبيعة والمناخ أثرت فيهم ليواجهوها بنفس القوة والقساوة حتى يتغلبوا عليها ويتمكنوا من المكوث بها وترويضها. فحياة البطل الرئيسي للرواية، عامر، وهو ابن لامرأة من جنسية فرنسية (ابن المدام)، مليئة بالشوائب والمعاناة والصراعات: العقائدية بين الإسلام والمسيحية، والثقافية بين القبائلية والفرنسية، والعشائرية بين عائلة وأخرى أو بين قرية وأخرى ... فهي حقائق معبر عنها بلغة مستعارة هي الفرنسية، وهي حقائق عاشها الروائي وشخصياته في محيط قبائلي وباللغة القبائلية غالبا بما فيها من معجم، فللمفـردات الخاصـة بالبيئـة أو الحضارة من التأثير المدلولي ما لا يقارن ولا يشابـه من حيـث العمـق والدقة فكـرة وإحسـاسا. فالمخـزون المدلولي لبعـض الألفـاظ المعجميـة واللبـوس اللغويـة أو السيـاقيـة أو التركيبية، خاصـة في ثنايـا استعمالـها الاستعـاري، لا يفصـح ولا يجهـر بسـرها لمـن لم يروض الثقافـة والعادات وغيرهما من مقومات المجتمع، مع دقة التحكـم في اللغـة استعمالا وتفكيكا. فنجد بعض الاستعمالات ك ( طرف فوطتها، الحصيرة ، الطاس ، ناناه مالحة، الجماعة ....).
أخذ الكاتـب مولود فرعـون عنوانـه هذا من الطبيعـة القاسيـة لهذه المناطـق الجبليـة انطلاقا من ارتفاع مائتي متر إلى ما يتعدى الألف متر بمسافة مباشرة لا تتجوز الألف متر. فجمـع في صورة عنوانه وصـفا ماديا وحسيا معنويا لأمور مختلفة متباعدة، ومتشابهة متقاربة، في آن واحد : فقد جمع بين هذه تلك الدروب الملتوية الصاعدة الشاقة، وبين بعض الأطعمـة التقليديـة التي تحضـر في المنطقــة بعد عناء المرأة وشقائـها، لكونـها تتطلـب جهدا كبيـرا من عضلاتها ، وكذا كثيرا من الوقـت مثل الكسكس ، والمطلوع والكسرة ... فأما هذا فهو الجانب المرئي المحسوس. وأما المعنوي، الشعوري واللامادي فهو متضمن في كل ما يختلج في أحشاء الشخصيات وتفكيرها ومشاعرها من معاناة وصراعات مع كل ما يحيط بالذات : مع الأسرة، مع أهل القرية، مع العقيدة، مع التفكير الاجتماعي....
2.2. النسق الاجتماعي
1.2.2. النمط المعيشي للفرد في المجتمع
لكل مجتمع نسق عام تندرج ضمنه كافة أوجه السلوك الإنساني، ويتضمن مجموعة من النظم الاجتماعية ذات قواعد سلوكية مستقرة تحكم الأنشطة الفردية والاجتماعية. ولهذا ترصد رواية الدروب الشاقة لمولود فرعون مختلف التحولات الاجتماعية في قرية إغيل نزمان من خلال قساوة المعيشة الريفية التي تتلخص إما في الظروف الطبيعية القاسية حيث الثلوج التي تغطي الجبال والحقول لأشهر عديدة، رغم جمال المنظر البديع من حيث حلته، أو من صعوبة الحياة والحركة في المجتمع القبائلي الجزائري الذي انتشر فيه الفقر والبؤس والحرمان، ليخط بذلك مولود فرعون تفاصيل الذات الإنسانية الغامضة بكل تناقضاتها، والظواهر الاجتماعية المضطربة التي عبرت عنها ذهبية وهي تتحدث بلغة كل فتاة شابة تعاني حياة الشقاء والتعاسة وتسعى جاهدة لتثبت كينونتها ووجودها في المجتمع. ولعل هذا ما تعاني منه كل امرأة جزائرية سلبت منها أبسط حقوقها حيث كانت ولا تزال خاضعة للهيمنة الإجتماعية التي رسختها الثقافة الذكورية والمجتمع الأبوي. فنسق الرجل هيمن على مختلف شؤون الحياة الاجتماعية الثقافية
، فنجده في الرواية بارزا حيث يتعالى الرجل على الآخر أي المرأة وذلك بتقيده وسلطته اللامتناهية، مما جعل هذا النسق يرتبط بحياة الشخصيات وميولاتهم وعلاقاتهم وتصرفاتهم.
أما اختيار الروائي لقرية إغيل نزمان فلم يكن عشوائيا بقدر ما كان مرآة تعكس الواقع الاجتماعي المأساوي الذي تعاني منه معظم القرى بل كلها حيث سادها التمييز الجنسي والتنوع في جوانب كثيرة وخاصة في خلفياتها الثقافية كالتهميش والفقر والطبقية.
2.2.2. نسق الزواج
يعد الزواج نسقا مدنسا يتجلى من خلال الرواية، حيث أن عادات الزواج تختلف من بلد لآخر ومن مجتمع لآخر، ونخص بالذكر منطقة القبائل التي لها نسقها وفكرها الخاص، فتنفرد به رغم ارتكازه على الإسلام على غرار المناطق الجزائرية الأخرى، حيث تتجلى تلك الخصوصية في انقيادها انقيادا عجيبا لعادات اجتماعية معينة، تتضمن قيما خاصة، يتمسك بها هذا المجتمع تمسكا قويا، لدرجة أنها تأصلت في جذوره، وترسخت في أذهان أهلها التي تميز ثقافتهم وصارت في جوهر التراث الثقافي القبائلي، إذ نلمس في الرواية نوعا من زواج الطائفة، وهو نوع من الزواج الذي يحقق توافقا في السلالة، والدين، والمكانة الاجتماعية، والاقتصادية. ويضمن إلى حد بعيد توطيد العلاقة بين المجموعات والعائلات القبائلية. تراعى في الزواج كذلك أمور أخرى كالفوائد التي يحصدها، فهو في الـكثير من الأحيان يأخذ طابع الصفقة التجارية التي تضمن تعاون العائلات وارتكازها الواحدة على الأخرى من خلال بناء علاقات متينة وأصيلة. فحتى وإن كانت العروس من الأهل والأقارب فإن هذا لا يمنع التفكير في المصالح. فتطلب يدها للزواج من منطلق حسابات كثيرة، أي أن المصلحة هي الأساس الذي حكم العلاقات، فالزواج إذا في إغيل نزمان له عدة خصوصيات كما أسلفت الذكر، حيث تقوم بعض الأمهات بإعطاء الصداق للشاب خفية ليدفعه يوم الزواج، وتعطيه أيضا بعض مستلزمات العروس «والعجيب أن بعض الأمهات يعطين الصداق سرا للشاب كي يدفعه يوم الزواج وكأنهن يقدمن بناتهن هدية، وبهذه الطريقة فإن أهل العروس هم الذين يدفعون تكاليف الفساتين والحلي وملازم الفراش وإذا كان هذا الأخير لا يوفر لها ما تحتاجه من مستلزمات الحياة من ملبس ومأكل فالأم هي التي تتكفل بهذا»9 .« فإذا كانت لا تنال نصيبا كافيا من المأكل في دار زوجها زارت دار والديها من حين لآخر لتأكل معهم شيء من الطعام «وتأخذ كذلك الملابس والأقمشة»10 وإذا لم يقتن لها زوجها ملبسا فإن أمها ستتكفل بتدبير الأمر فتشتري لها الفساتين والأقمشة «وعندما يحتاج الزوج إلى مصروف يومي لا بد كذلك على أم الفتاة أن تمنحه شيئا من النقود خشية أن تسوء طباعه ويتعكر مزاجه فينهال عليها ضربا.»11 لذا تسعى الأم في غالب الأحيان إرضاء زوج بنتها حتى تتضمن لها نوع من الاستقرار والعيش الكريم.
خاتمة
وخاتمة دراستنا والتي تحدثنا فيها عن الأنساق الثقافية في الرواية الفرنكفونية، رواية الدروب الشاقة، قام الروائي بتصوير الحياة اليومية للمجتمع القبائلي بكل خصوصياته، وأكثر ما كان يسعى إليه ليس مجرد تصوير لديكور فولكلوري مادي، وإنما كان يهدف أكثر إلى نقل روح المجتمع القبائلي وترجمته على الورق. فعكس في ذلك جوانب من عادات وتقاليد أهل القبائل، فالممارسات الفلكلورية والطقوس في المناسبات تندرج في موروث شعبي متجذر، وراسخ بين أبناء مجتمع محافظ على دعائم بقائه الوجودية على مر الزمن وامتداده.