الممارسة النصية في الحقل التعليمي وأثرها في التحصيل اللّغوي والمعرفي

مرحلة التعليم الثانوي أنموذجا

La pratique textuelle dans le domaine éducatif et son impact sur les résultats linguistiques et cognitifs. L'enseignement secondaire comme étude de cas

Textual practice in the educational field and its impact In linguistic and cognitive achievement. Secondary education as a case study

عبد السلام بن علية

للإحالة المرجعية إلى هذا المقال

بحث إلكتروني

عبد السلام بن علية, « الممارسة النصية في الحقل التعليمي وأثرها في التحصيل اللّغوي والمعرفي », Aleph [على الإنترنت], 9 (3) | 2022, نشر في الإنترنت 30 mai 2022, تاريخ الاطلاع 23 novembre 2024. URL : https://aleph.edinum.org/6185

يعالج هذا المقال مسألة الممارسة النصية في مرحلة التعليم الثانوي، ظروفها ودوافعها التربوية والنفسية والاجتماعية، وأهميتها في التحصيل اللغوي والمعرفي للمتعلمين، انطلاقا من أن النص مدونة بإمكانها أن تحمل جميع المستويات اللغوية التي أثبتتها اللسانيات الحديثة، كما يعتبر النص أيضا في نظر أصحاب الفكر التربوي مصدرا مهما في نشر المعارف العلمية والثقافية والحضارية والنفسية والاجتماعية، مما يؤهله بأن يصبح إحدى المقاربات الهامة في تعليم النشء وتهذيبه وإصلاحه وإعداده للحياة.

Cet article traite de la question de la pratique textuelle dans l’enseignement secondaire, de ses conditions et motifs éducatifs, psychologiques et sociaux, et de son importance dans la réalisation linguistique et cognitive des apprenants, en se basant sur le fait que le texte est un code qui peut porter tous les niveaux linguistiques qui ont été prouvés par la linguistique moderne, et le texte est également considéré aux yeux des penseurs de l’éducation comme une source importante dans la diffusion des connaissances scientifiques, culturelles, civilisationnelles, psychologiques et sociales, ce qui le qualifie pour devenir l’une des approches importantes dans l’éducation des jeunes, leur formation, leur réforme et leur préparation à la vie.

This article deals with the issue of textual practice in secondary education, its educational, psychological and social conditions and motives, and its importance in the linguistic and cognitive achievement of learners, based on the fact that the text is a code that can carry all linguistic levels that have been proven by modern linguistics, and the text is also considered in the eyes of Educational thinkers are an important source in the dissemination of scientific, cultural, civilizational, psychological and social knowledge, which qualifies it to become one of the important approaches in educating young people, educating them, reforming them and preparing them for life.

مقدمة

تعتبر اللغة أداة التواصل ومصدر التفاعل بين الأفراد والجماعات، فبواسطتها يعبّرون عن حاجاتهم، ويحققون رغباتهم، ويتمثلون الكثير من القيم والعادات والاتجاهات التي تتشبع بها مجتمعاتهم، إنها الأداة التي تولّد الأفكار، وتحقق الانسجام في المواقف والمقاصد والمشاعر التي تجمع بينهم، واللغة إذ هي كذلك فلا يمكنها أن تظهر إلا في نصوص تتلاحم فيها المفردات، وتتماسك فيها الجمل، وتتناسق فيها العبارات، وتتآلف فيها الفقرات لتتولد منها المعاني الوثيقة والدلالات العميقة، فتؤثر في النفوس وتحدث الاستجابات، والنصوص اللغوية ذات قيمة كبيرة لا تتوفر في وسائل التواصل الأخرى، فهي الوحيدة التي يمكنها أن تحمل الرسالة بصورة كاملة وغير متقطعة لأجل التبليغ والإقناع والتأثير، نظرا للتماسك الموجود بين مختلف العناصر التي تتكون منها، حيث لا تدع مجالا للشك في المتلقي بفضل إحاطتها بالدلالة الكلية للموضوع، والنص في الحقل التعليمي يشكل إحدى المقاربات الأساسية للعملية التعليمية التعلمية، لأنه يجسد اللغة بكل مستوياتها فضلا عن المعارف المتنوعة التي تحملها موضوعاته، إنه الوسيلة الأنسب للممارسة الديداتيكية، لأنه الوعاء الذي يمكنه أن يحمل المعرفة اللغوية والعلمية والتاريخية والثقافية والاجتماعية، هذه العوامل التي تسهم في تكوين شخصية المتعلم وتطويرها في مختلف مراحل العمر، فقراءة النصوص والتفاعل معها من قبل المتعلمين والمدرسين تمثل ممارسة تربوية ونفسية تفضي بهم جميعا إلى اعتبار النص مصدرا مهما من أجل تغيير السلوك نحو الأفضل، والعمل على تنشئة جيل مفعم بالقيم الاجتماعية والإنسانية والحضارية، ومندمج ضمن المواكب والتطورات التي تفرضها العولمة، ونظرا للأهمية البالغة التي تكتسيها النصوص في الحقل التربوي فإن هذا المقال بمثابة محاولة للإجابة عن مجموعة تساؤلات تُطرح على بساط البحث تتمثل في العناصر الآتية :

  • -ما مفهوم النص التعليمي وما مكانته ضمن المحتويات اللغوية الأخرى في مرحلة التعليم الثانوي؟

  • ما المقصود بالممارسة النصّية؟ وما عوامل تطورها لدى القارئ المتعلم في هذه المرحلة؟

  • ما الدور الذي يؤدّيه التفاعل المستمر مع النصوص في بناء الملكة اللغوية وتطويرها لدى القارئ المتعلم؟

  • إلى أي مدى تصبح النصوص التعليمية مصدرا من مصادر المعرفة بكل أنواعها؟

  • هل يبقى تحقيق الأهداف التربوية مرهونا بجودة تلقي النصوص وفهمها من قبل المتعلمين أم بحسن اختيارها من قبل المختصين؟

1. ماهية النص التعليمي

يُعرّف النص من الناحية اللسانية بأنه بنية متكاملة تتشكل من عناصر لغوية متنوعة، بحيث ترتبط هذه العناصر فيما بينها بفضل الاتساق والانسجام لتؤلف نسيجا لغويا متماسكا من خلال تشابك مستمر تصدر على إثره المعاني والدلالات، والنص من المنظور التعليمي يعتبر

«وحدة تعليمية تمثل محورا تلتقي فيه المعارف اللغوية المتعلقة بالنحو والصرف والعروض والبلاغة وعلوم أخرى كعلم النفس والاجتماع والتاريخ، بالإضافة إلى المعطيات المعرفية المتميزة التي صارت تقدمها علوم اللسان في دراسة النصوص، وما في ذلك من فائدة جليلة تعود بالنفع على العملية التعليمية».(ابرير، 2007، ص 129)

والنص من الناحية الأدبية وحدة تتلاقى فيها جملة من المعارف اللغوية والأدبية والاجتماعية والثقافية والتاريخية، وتتجسد النصوص الأدبية في الرواية والقصة والشعر والسرد والوصف، حيث تتميز بتوفرها على الصور البلاغية التي تضفي عليها الجمال الفني والمبالغة أحيانا في الخيال والعاطفة والتصوير، ومحاولة التأثير على مشاعر المتلقي وانفعالاته، والنص من الزاوية النقدية يشكل موضوع دراسة وعينة للتحليل لدى المتعلمين من أجل التعرف على آليات بناء النصوص وكيفيات صياغتها، ومن ثم الحكم على جودة النصوص من عدمها، لأن النقد في الممارسة النصية أضحى وسيلة تربوية تنتهجها المناهج التعليمية في دراسة الظاهرة النصية في مرحلة التعليم الثانوي بسبب بلوغ المتعلم مرحلة متقدمة من النضج تمنحه القدرة التي تمكنه من استخلاص الخصائص الجمالية والأسلوبية التي تتمتع بها النصوص، كما تتحدد أيضا ماهية النص التعليمي في الوظائف التي يؤديها، حيث يعتبر مقاربة لتعليم اللغة وتعلمها بفضل حمله لجميع المستويات اللغوية، وهذا عكس ما تتوفر عليه الجملة من قصور وعجز في الربط بين مختلف الظواهر اللغوية، بالإضافة إلى الوظيفة التواصلية وما يتعلق بالبعد الاجتماعي للمتخاطبين، كما تعتبر النصوص مصدر الإشعاع الثقافي والحضاري والعلمي للمتعلمين، ومن الناحية النفسية فإن النصوص تعتبر نافذة متعة واسترواح تغذي الجانب الوجداني والعاطفي لا سيما في مرحلة التعليم الثانوي، وما يكمن قوله في ختام هذا العنصر إن النص التعليمي مدونة تكون مكتوبة أو منطوقة، تتميز بإثارة المتعلمين وحفزهم على تعلم مختلف المهارات اللغوية واكتساب المعلومات والمعارف بما يمّكنهم من الاندماج في الوسط التربوي، والانصهار في الحياة الاجتماعية، والانصياع لخدمة الدين والوطن والمجتمع.

2. الممارسة النصية

إن كلمة ممارسة في المعاجم اللغوية من الفعل مَارَسَ الشيء مِرَاسًا ومُمَارَسَةً : عَالَجَهُ وزَاوَلَهُ، وتأتي كلمة التمرُس بمعنى الاحتكاك والتدرب، وفي المعنى الاصطلاحي ينطوي مفهوم الممارسة على معنى المداومة وكثرة الاشتغال بالشيء، كما استُخدمت للدلالة على النشاط المستمر الذي توضع من خلاله مبادئ العلوم موضع التطبيق، والممارسة من دعائم ومرتكزات النظرية السلوكية في موضوع التعلم، لأن التعلم عملية تكييف ميكانيكية ومستمرة للسلوك، ناتجة عن وضعية تمرينية متكررة أو ناتجة عن ممارسة أو تدريب أو تجربة، وبالتالي فالتعلم يحصل في غالب الأحيان نتيجة الأفعال والسلوكات التي تميزها الاستمرارية، فالاستمرارية إحدى أهم استراتيجيات التحصيل لدى المتعلم، أما الممارسة النصية في الحقل التعليمي فتعني كثرة الاحتكاك بالنصوص والقيام بعمليات مستمرة ومكثفة في التلقي والقراءة والتفاعل مع مختلف النصوص، مع توظيف العمليات العقلية كالملاحظة الدقيقة والإدراك الحسي والمعنوي والفهم العميق الذي يؤدي نحو استخلاص المعاني والدلالات، كما تعني الممارسة النصية أيضا تطوير الكفايات والتقنيات والمهارت التي يستعين به المتعلم في التعامل مع الظاهرة النصية، لأن النصوص تختلف في الأشكال والأنماط والأجناس مما يتطلب التنويع في آليات التلقي ومنهجيات الفحص العميق، والممارسة النصية في كثير من الأحيان نشاط مشترك بين المدرس والمتعلم، لأنها لا تتوقف على فعل القراءة فقط بل تتعداه إلى استعمال خطوات متتابعة وتوظيف آليات أخرى تتمثل في التفكيك والتحليل والتأويل وإعادة البناء والصياغة وطرح فرضيات، وبالتالي تصبح أطراف الممارسة النصية تتمثل في المدرس والمتعلم والنص ومجموع الإجراءات المنهجية المتخذة في ذلك.

3. دوافع الممارسة النصية

يمثل النص في الحقل التربوي مصدرا من مصادر التواصل والتفاعل والتخاطب والحوار سواء مع الذات الإنسانية في حد ذاتها أو مع الآخرين، وذلك من خلال الأثر الذي يحدثه في المتلقي فضلا عن التغيرات التي تلحق به، لأن النص يمتلك سلطة قوية تبعث في المتلقي نشاطا وحيوية، وتغرس فيه مشاعر وأحاسيس، وترسل فيه روحا جديدة، وتحدث فيه أنواعا مختلفة من الاستجابات، وذلك بفضل اللغة التي تُكتب بها النصوص، فهي غالبا ما تختزن طاقة هائلة من الإيحاء والرمزية لا تتوفر في باقي الخطابات الأخرى، فترابط المفردات وتماسكها فيما بينها في ظل سياقات معينة تتولد على إثرها المعاني الرقيقة والدلالات العميقة، مما يجعلنا نفكر في البحث عن المناخ الملائم الذي يدفع المتعلمين نحو الإقبال على تلقي نصوص وقراءتها والانتفاع بما تحمله من آثار إيجابية تعود بالنفع على المتعلمين، هذا المناخ يعد بمثابة دوافع ومحفزات تختلف من شخص لآخر بحسب الظروف، ويمكن إجمالها فيما يلي :

1.3. الدوافع التربوية 

من المؤكد أن الأهداف التي تسعى المدرسة إلى تحقيقها تدفع نحو التفكير في اختيار محتوى معين من النصوص اللغوية وإدراجها في مرحلة التعليم الثانوي، نصوص تتلاءم وقدرات المتعلم اللغوية والعقلية، وكذا نصوص تتلاءم واهتماماتهم الخاصة من شأنها أن تخلق محفزات التلقي والممارسة والإقبال عليها بشغف، الأمر الذي يلقي مسؤولية كبيرة على عاتق اللجان الوطنية للمناهج ومؤلفي الكتب المدرسية، لأن اختيار المحتوى النصي المناسب ليس أمرا سهلا بل هو عملية تراعى فيها مجموعة من الشروط، حيث يحتل المظهر اللفظي صدارة هذه الشروط لأن النصوص التي يقبل عليه المتعلمون يجب أن تحتوي على مفردات سهلة النطق بتوفرها على مخارج قليلة لا يحتاج المتعلم في إخراجها إلى كلفة فيزيولوجية باهظة، كما يجب أن تحتوي النصوص على المفردات الاشتقاقية وذات الصيغ المجردة، ومن الناحية الدلالية فيتطلب وجود الألفاظ التي تدل على المفاهيم الشائعة بين الشعوب والأمم، لأن النصوص تتجاوز الحدود الجغرافية، وغالبا ما تشترك بعض الأقطار في المسائل الحساسة كالدين والهوية والقيم الاجتماعية، فالنص - حسب الخبراء –

«يجب أن يكون ممثلا لروح الأمة وقيمها نابعا من صميم الواقع العربي الإسلامي والتاريخي ومختلف العلوم الأخرى، متفتحا على الثقافات الأخرى بوعي وحكمة، حتى يكتسب المتعلم فهم حضارته بشكل موضوعي، واع وأكاديمي»، (ابرير، 2007، ص 152)

وبالتالي فإن موضوع (sujet) النص يشكل قيمة إضافية لحياة المتعلم في مجال التربية التهذيب، لذلك يجب التنويع في المحتوى النصي بما يتماشى مع القضايا الهامة والواقعية التي يعيشها المتعلم والقريبة من حياته، ومنه يستوجب التجدد في المحتويات النصية كل خمس السنوات على الأقل، نظرا للتغيرات السريعة التي يعيشها العالم دون المساس بالثوابت الوطنية طبعا، كما يستوجب على المدرسة – من الناحية التنظيمية – تحديد عدد المتعلمين داخل الفصل الدراسي حتى يسهل على المدرسين القيام بعمليات الفهم والتحليل مراعاة لمبدأ تكافؤ الفرص، فعملية الفهم العميق لمواضيع النصوص تتطلب ممارسة خاصة من كلا الطرفين ( المدرس والمتعلم )، وهذه الخاصية تخلق لذة المتابعة وحسن الاهتمام لدى المتعلمين، كما يتطلب من لجان البرامج النظر أيضا في الوقت المخصص للمعالجة النصية وذلك بتوسيع الحيز الزمني بما يكفي للانتفاع بالنصوص قصد توسيع العلاقة الحميمية التي تنشأ بين المتعلم والنص، كما أن المؤسسات التربوية مسؤولة إداريا وبيداغوجيا على فتح قاعات للمطالعة، وتوفير كتب تحتوي على نصوص متنوعة الأغراض والأجناس والأصناف تثير اهتمام المتعلمين، وتخصيص أوقات إضافية مناسبة لممارسة القراءة الذاتية، ومهما تعددت الميادين واختلفت الطرائق للممارسة النصية فإن الوسط التربوي يبقى المناخ الأوفر حظا للمتعلمين للنيل من الفائدة اللغوية والمعرفية بفضل الحضور الفعلي في قاعة الدروس رفقة المدرسين الذين يعملون على الشرح والتبسيط، كما أن المتعلم يستفيد أكثر من سياق الموقف بتوظيفه أكثر من حاسة في عملية التلقي، وقد أثبت هذه الظاهرة ابن خلدون منذ قرون بقوله :

«...أنّ البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارة علما وتعليما وإلقاءً، وتارةً محاكاةً وتلقينًا بالمباشرة، إلا أنّ حصول الملكات من المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها»، (عبد الرحمن، 2000، ص 559)

كما أن تواجد المتعلمين ضمن مجموعة واحدة داخل الفصل في نشاط تلقي النصوص وتحليلها يعتبر حافزا مهما، حيث تحدث بينهم العديد من الاستجابات بفعل التنافس والحماس الذي ينشؤه المدرس بينهم من خلال تحفيزهم على السرعة في إيجاد الإجابات عن الأسئلة التي يطرحها بين الحين والآخر، وكذا تشجيعهم بالشكر والثناء، إنه عامل مهم في تطوير المهارات والانتباه لجودة النصوص وقيمتها النفعية سواء على المستوى اللغوي أو المعرفي، حيث يُغرس في نفوسهم حب الاطلاع والمعرفة، وتنشأ لديهم علاقات المودة والمحبة بينهم وبين مختلف النصوص، وفي مثل هذه الحالات يعمد المدرس إلى ابتكار فنيات للتدريس والتنويع في الطرائق التربوية تناسب الطبيعة النصية من جهة وتلائم قدرات المتعلمين والفوارق الفردية بينهم من جهة أخرى، كما أنّ تطوير الممارسة النصية لدى المتعلمين مرهون بأشكال النصوص وأصنافها وأنماطها، الأمر الذي يعظم المسؤولية الملقاة على أصحاب المناهج وواضعي المحتويات اللغوية، فالطبيعة النصية أمر في غاية الأهمية، ونذكر في هذا السياق أن النصوص تتنوع من حيث الأغراض والأجناس والأنماط، فهناك النصوص الأدبية والنصوص التواصلية والنصوص التاريخية فضلا عن فني النثر والشعر، حيث أن لكل نوع من النصوص هدفا خاصا به يتحقق بفضله في مرحلة التعليم الثانوي، مما يستوجب التنويع في الظاهرة النصية بما يخدم الجانب اللغوي والمعرفي لدى المتعلمين، ومنه يمكن القول إن المجال التربوي بمختلف عناصره يشكل دافعا قويا في صناعة متلق مثالي للنصوص من خلال توفير الظروف الملائمة للممارسة النصية.

2.3. الدوافع النفسية والاجتماعية 

تؤكد معظم النظريات الخاصة بعلم النفس التربوي أن الاستعداد يشكل أحد عوامل التعلم وتلقي المعرفة التي يراها المتعلم مناسبة لميوله ورغباته واهتماماته، إنه يحرص ويوفر الاستعداد الكامل في هذا المجال، فهو «حالة من التهيؤ النفسي والجسمي بحيث يكون فيها الفرد قادرا على تعلم مهارة أو خبرة ما، ويسهم الاستعداد في عملية التعلم على نحو فاعل»، (الزغول، 2003، ص 34)

كما تسهم الدافعية في حدوث عملية التعلم في كونها تزيد من جهود المتعلم أثناء عملية التعلم،

« ...إنها حالة توتر أو نقص داخلي تُستثار بفعل عوامل داخلية كالحاجات والميول والاهتمامات، أو عوامل خارجية كالمثيرات التعزيزية والبواعث، بحيث تعمل على توليد سلوك معين لدى الفرد وتوجه هذا السلوك وتحافظ على ديمومته واستمراريته حتى يتم خفض الدافع»، (الزغول، 2003، ص 35)

وبالتالي فإنه يستوجب مراعاة الجانب النفسي من خلال توفير نصوص مناسبة لإشباع رغبات المتعلمين وحاجاتهم النفسية، نصوص تعمل على استثارة المشاعر والأحاسيس تجعلهم في مهمة مستمرة للممارسة النصية بفعل التذوق الإيجابي، هذا السلوك الانفعالي والإيجابي الذي ينشأ لدى المتعلم من خلال الاستمتاع بالجوانب المعرفية والعاطفية واللفظية والجمالية الموجودة على مستوى النصوص، كما تشير بعض الدراسات في علم النفس التربوي أن القارئ المتعلم للنصوص لديه بنيات وجدانية ( تتمثل في مواقفه واهتماماته التي تعمل على شحذ طاقاته النفسية وتعبئتها حتى تكون قادرة على التحصيل والتحمل والتنظيم والمبادرة، وحتى تتجاوز الصعوبات الذاتية مثل : «الملل والفتور والإعراض عن القراءة بسبب العياء أو الضعف المعرفي»، (البرهمي، 2005، ص 37) فالمشاعر الوجدانية هي التي ترشد القارئ في مواجهة هذه الصعوبات والإحباطات، وتمنحه القدرة على تنظيم الحالة النفسية والتعامل بكيفية إيجابية مع النصوص والانتفاع بها، فالعوامل النفسية تمثل عناصر هامة في شخصية المتعلم ولكنها تبقى رهينة نصوص مختارة تثير في نفوس المتعلمين قوة إدراكية تدفعهم نحو سلوكات إيجابية، كما تثير قوة وجدانية يتذوقون بموجبها نواحي الجمال اللغوي، وقوة فنية تكسبهم لذة القراءة والتمتع بالصور البيانية التي تتركب منها النصوص، حتى توفر الاستمرارية في الممارسة النصية وتظل على الدوام، كما يجب أن تنبع النصوص من الواقع الذي يعيشه المتعلم وما يمكن أن تقدم من معرفة في مختلف الميادين الفكرية والعلمية، وما يرتبط بحياته وبيئته وعصره وما يعينه على أداء الوظائف الاجتماعية المختلفة.

4. دور الممارسة النصية في التحصيل اللغوي 

يعتبر النص وحدة متكاملة من الآليات اللغوية المنسجمة في جانب الصوت والصرف والنحو والمعجم والدلالة والأسلوب، لذلك أصبح يمثل إحدى المقاربات الأساسية في تدريس مختلف الأنشطة نظرا لاحتوائه على جميع المستويات اللغوية، وهذا ما أكدته اللسانيات الحديثة، فمن الناحية الإفرادية يشكل النص منبع الثروة اللغوية لاحتوائه عل أنواع وأشكال من المفردات، وبالتالي يصبح وسيلة هامة للمتعلم من أجل اكتساب المعجم والارتقاء به، والقدرة على تنظيم معانيه على المستويين الإشاري والإيحائي، فالممارسة النصية تعتبر العامل المفسر للفوارق اللغوية الحاصلة بين المتعلمين، لهذا يتعرف البعض منهم دون آخر على كلمات النص لأنهم صادفوها في نصوص متعددة وفي سياقات نصية مختلفة فألموا بظلالها الدلالية، لأن فهم النصوص متوقف على فهم ألفاظها بالدرجة الأولى، فالقدرة على فهم الألفاظ تؤثر في فهم النصوص، كما أن تحصيل هذه الألفاظ واستيعاب دلالتها يؤثر كثيرا في تلقي النصوص، ( إن الممارسة النصية تهدف إلى تطوير استراتيجية تعرف الألفاظ في سياقاتها المتعددة، فحين تتكرر اللفظة نفسها عدة مرات في نصوص مختلفة يصبح من السهل على القارئ المتعلم أن يتعرفها، لأن إدراكها ليس إلا رصدا للقرائن اللفظية والمعنوية والحالية التي تحققها )، (البرهمي، 2005، ص 39) وبهذه الخاصية يفتك النص مهمة التعرف على معاني المفردات من القاموس وذلك بفضل قوة الاستعمال، لأن الألفاظ حينما يحتضنها السياق تكون مفعمة بالدلالة، وعلى المستوى الصرفي فيمكن اعتبار النص الحاضنة التي تنصهر فيها المفردات وتتعدد صيغها، إذ يؤدي موضوع (sujet)النص دورا هاما في توليد قوالب جديدة للألفاظ، أين يمكن للكلمة أن تظهر أحيانا في صورة الفعل، وأحيانا أخرى في شكل المصدر، وتارة أخرى تكون صفة مشبهة أو اسم الفاعل، وهكذا حتى يصبح النص مصدرا لممارسة النشاط الصرفي، أما من الناحية التركيبية فيؤدي النحو وظيفة تحديد معاني الكلمات، لأن معاني الألفاظ لا تتحدد إلا بمكانتها ضمن المستوى التركيبي، ويُستعان في ذلك بواسطة العلامات الإعرابية، كما يقول الجرجاني :

« ... إذ كان قد علم أن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها، وأن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها، والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه » ، (الجرجاني، 1978، ص 23)

وقد أكدت لسانيات النص أن نحو الجملة صار نموذجا تقليديا وحلّ محله نحو النص، ذلك « أن النحو الجملي لم يعد بمقدوره الوفاء باستيعاب مجمل العلاقات والروابط التي عادة ما تتجاوز إطار الجملة كمفهوم نحوي صوري أصلا إلى إطار النص»، (لوصيف، 2007، ص 31)

ومن هذا المنظور أصبح النص الإطار الذي يزول داخله التباس الجمل، كما يحتوي على افتراضات سياقية أخرى غير التي تحملها أعيان الجمل التي تكوّنه، وقد ساهمت بعض الأدوات النصية كالاتساق والانسجام في إعطاء النص بُعدا فنيا وطاقة دلالية إضافية من خلال الترابط أو التماسك الذي يميزه عن الجملة، حيث اعتبره بعضهم نسيجا يضاهي نسيج العنكبوت وأنّ عباراته بمثابة خيوط متشابكة، كما تبرز قيمة النصوص على المستوى الصوتي بشكل لافت، ونعني في ذلك طريقة القراءة، فكلما ازدادت جودة الصوت في قراءة النصوص كلما ترسخ النص في أذهان المتعلمين لأنها تضفي بعدا جماليا، وهذا ما أكدته التداولية ونظريات أفعال الكلام، فأسلوب القراءة له خصائص تطريزية وهي العناصر «  فوق مقطعية» المتمثلة في النبر والتنغيم، ومعروف أن النصوص تحوي عبارات متنوعة مثل الاستفهام والإنكار والتقرير والتوكيد والأمر والنهي والطلب ..، وكل عبارة تتطلب فعلا إنجازيا خاصا بها، أو ما يعرف بصيغ التلفظ التي تسهم بشكل لافت في توضيح الدلالة التي تواكب مقام الخطاب، ومن الناحية الأسلوبية فإنّ النص يمثل عملا إبداعيا لما يتميز به من خصائص جمالية وشحنات لغوية تؤثر في وجدان المتلقي، لأن « الأسلوب يعني طريقة التعبير التي يسلكها الأديب لتصوير ما في نفسه أو نقله إلى سواه بهذه العبارات اللغوية، أي طريقة الكتابة أو الإنشاء، أو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير، أو الضرب من النظم والطريقة فيه »، (الشايب، 1966 ص 44) فكل نص مكتوب بأسلوب جيد قابل لأن يخلق لدى المتلقي إحساسا فنيا وشعوريا، كما أن بعض النصوص تثير كذلك نوعا آخر من الأحاسيس والانفعالات، فهي تعمل على التأثير على ميزاج المتلقي لجعله أكثر مراحا أو حزنا أو أكثر شوقا، وهذه النصوص ذات أساليب خاصة، أي ذات مجموعة من الخصائص التي تثير الحالات العاطفية والانفعالية لدى المتعلمين، ومن بين هذه الأساليب نجد الأسلوب الهزلي الذي تُكتب بواسطته بعض النصوص، وهو أسلوب يثير المرح والضحك بواسطة السخرية والدعابة والمحاكاة والتقليد، ويظهر هذا النوع من الأساليب بشكل لافت في السرد وأدب المقامات، وهناك الأسلوب المؤثر الذي يهدف إلى إثارة نوع من العطف وذلك بتجميل المشاعر إلى أقصى حدوده الممكنة، حيث يتم بواسطته تصوير المعاناة أو الصراع البشري في وضعيات صعبة، ويعتمد على الإثارة المتواترة والتغيير والإيقاع، كما يوجد أيضا الأسلوب التراجيدي الذي يصور عامةً الانفعال الذي يحدثه الاعتقاد الراسخ بأن المصير يتربص بالإنسان حتما مما يوقعه في اليأس والقنوط، كما يظهر أسلوب آخر يُدعى الأسلوب الغنائي أين يبحث الكاتب عن خلق نوع من الرابطة الروحية مع قارئه، لأنه يثير بطريقة تأملية المشاعر الشخصية والمشاعر الموحدة بين الناس، ويُستعمل هذا الأسلوب كذلك بواسطة اللعب على إيقاع اللغة مما يفسر ظهور الغنائية فيه، ونجد هذا النوع في النصوص الشعرية، وهناك أيضا ما يُعرف بالأسلوب الملحمي أو الحماسي وخاصيته الأساسية هي إعطاء الكائنات والأشياء حجما يتجاوزها ويجعلها تمثل رموزا أو قيما اجتماعية كمغامرة لبعض الأبطال مثلا، وبالتالي فإن الأساليب بالرغم من تعددها إلا أنه بإمكانها أن تصنع قراء بالفعل يتذوقون النصوص، إذ إن كل متعلم له خصوصيات متعلقة بالمزاج تجعله يتمتع بأسلوب خاص من هذه الأساليب، كما أن بعض الخلفيات الاجتماعية والإيديولوجية والنفسية قد تكون وراء اختيار الأسلوب المناسب للمتعلم.

5. دور الممارسة النصية في التحصيل المعرفي

تهدف الممارسة النصية في مرحلة التعليم الثانوي نحو تقديم زاد معرفي ثري ومتنوع يحيط بجميع مجالات الحياة التي يعيشها المتعلم، حيث يسهم هذا الزاد المعرفي في تكوين شخصيته وإعداده للحياة عن طريق تزويده بالخبرات ومدّه بالتجارب التي يستخلصها من حياة الآخرين، فكلما كانت الممارسة النصية مستمرة كلما ازدادت المعرفة، ونمت الأفكار، وتطورت القدرات الذهنية، واتضحت المفاهيم والتصورات، واتسعت المدارك ليصبح المتعلم أكثر تهيؤا واستعدادا لأي ممارسة في الوسط الاجتماعي، لأن النصوص مدونة مكتوبة باللغة، واللغة كما يرى أحد الدارسين «مرآة الشعب ومستودع تراثه، وديوان أدبه وسجل مطامحه وأحلامه، ومفتاح أفكاره وعواطفه، وهي فوق كل هذا وذاك رمز كيانه الروحي وعنوان وحدته وتقدمه وخزانة عاداته وتقاليده»، (صليبيا، 1974، ص 120) والمعرفة الإنسانية التي يحصل عليها المتعلم من خلال كثرة اطلاعه على النصوص تفتح له آفاقا بعيدة، رحبة من التجارب والأفكار، وتمكنه من أن يُطل على حياة الماضين بكل شعوبهم وأجيالهم وطبقاتهم ومذاهبهم، فيطلع على عاداتهم وتقاليدهم وأساليب عيشهم ويتحسس أذواقهم، ويطلع على تراث أمته الفكري والاجتماعي والحضاري، فيستفيد من خبراتهم وتجاربهم وأفكارهم، حتى يكون أكثر وعيا، وأثرى فكرا، وأوسع معرفة، وأكثر قابلية على الإبداع والإنتاج، يسهم بموجبه في تطوير النتاج الفكري والإنساني، وفي استمرارية التقدم البشري والحضاري، ونظرا لتنوع مجالات الحياة الإنسانية واتساع ميادينها فإن المعارف أيضا تتنوع، وبالتالي يمكن التفصيل في محتوى المعارف والآثار التي تتركها على المتعلم من خلال العناصر الآتية :

1.5. المعرفة الفكرية 

تعتبر اللغة التي تُدون بها النصوص بمثابة مثيرات للأفكار والانفعالات والمواقف الجديدة للمتعلمين، حيث تدفعهم إلى الحركة والتفكير، وتعمل على تنمية قدراتهم الإبداعية، فاللغة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالفكر، واستخدامها يعينهم على إدراك العالم وينمي القدرة على التفكير فيما حولهم على نحو أكثر جدية وفاعلية، وبذلك تزداد معرفتهم بالأشياء، ويرتقي فهمم لها، ولما يرتبط بها من أحداث وملابسات، ويرى علماء التربية وعلماء النفس « أن النمو العقلي للإنسان منوط بنموه اللغوي، وأنه كلما تطورت لغة هذا الإنسان واتسعت، ارتقت قدراته العقلية فنما ذكاؤه وقوي فكره »، (سارتون، 1987، ص 08) فالممارسة اللغوية – كما يرى بياجيه - وسيلة لتكوين الأفكار الكلية، وإنشاء العمليات النفسية وتطوير القدرات العقلية، كما تساعد المتعلم على تصنيف إدراكاته وعلى تثبيتها في ذهنه وعلى التفكير المستمر في العلاقات الدقيقة بينها، وتدفعه بصورة مستمرة إلى الابتكار، لأن الثراء اللغوي لا يدل على الثراء الثقافي فحسب، وإنما يدل على خصوبة في التفكير، أو على مدى ما قام به الفكر من حركة وفاعلية في مجال الاختزان والتصنيف والتنبه والاستجابات للمثيرات المختلفة.

2.5. المعرفة التاريخية والحضارية

تقدم النصوص القرائية المبرمجة في مرحلة التعليم الثانوي - لاسيما النمط السردي - تاريخا مليئا بالأحداث والوقائع والسير، وتحكي بطولات وأمجاد تعمل على استرجاع الذاكرة القديمة لتحيا بها الأجيال الحاضرة، من خلال تقديم شخصيات تاريخية كالأنبياء والخلفاء والأمراء والعلماء والحكماء والعظماء والفضلاء، وكثير من الولاة والقادة الذين تمكنوا فيما مضى من التأثير على ذهنيات الأفراد والمجتمعات وتحويل سلوكاتهم على نحو ما تنتفع به الأمم من مواصفات معنوية، كالشجاعة والمروءة والكرم والتحلي بمكارم الأخلاق وحمل العلم والمعرفة والدين، لأن النص التاريخي « ينقل الوقائع والتجارب التي تترجم المسيرة الأدبية والفنية والتاريخية للأمة العربية الإسلامية بأسلوب فني يثير المتعة الجمالية والتذوقية لدى المتعلمين، ويحافظ على التراث بهدف صيانة الاتجاهات والعادات الاجتماعية والقيم والمواقف التي يُتوقع أن يتمثلها المتعلمون في الحاضر والمستقبل »، (الزاوي، 2014، ص 16) وبفضل قراءة النصوص التاريخية يعيش المتعلم حياة الحاضر والماضي، يعيش عصورا وأزمانا بعيدة ممتدة، يشارك أهلها معارفهم وخبراتهم وتجاربهم ويستوحي منها ومما أبدعته عقولهم وإبداعاتهم الجديدة، لأن هذه النصوص انعكاس للبيئات والثقافات، تعكس حضارة الأمة وثقافتها، كما تعكس ألوان الحياة الفنية والاجتماعية للمجتمع، حتى يتمكن النشء من الاتصال بالتراث في مختلف العصور، فيتأصل في نفوسهم ويقوي الروابط بينهم، فتظل بذلك الأمة متصلة بتاريخها، مستوحية منه أهدافها في حاضرها ومستقبلها، فاللغة المصدر الوحيد والوثيق لمعرفة القيم والمثل والمفاهيم الحضارية التي تميز مجتمعا عن آخر، وبهذا تصبح اللغة فهرسا لحضارة كل مجتمع، وكما يقول أحد الدارسين : « إن الواسطة المهمة التي يتحضر بها الإنسان إنْ هي إلا نظام من الرموز يتوسط بين المؤثر والمتأثر، وهذا النظام هو اللغة، فاللغة تضيف بُعدا جديدا إلى عالم الإنسان »، (أشلي، 1965، ص 66) فممارسة القراءة للنصوص التاريخية إثبات للهوية القومية، وإذكاء لروح الاعتزاز بالوطنية، ووفاء بمتطلبات الحياة، وشؤون الحضارة، وتشييد للكيان الحضاري الأصيل.

3.5. المعرفة العلمية والثقافية 

تعتبر النصوص مصدرا مهما لتعريف النشء بما أبدعته العقول البشرية في الميادين العلمية من اختراعات واكتشافات للعديد من الأجهزه والآلات، من شأنها أن تقدم منفعة للأفراد والمجتمعات، سواء في مجال الطب أو الصناعة أو الهندسة أو النقل أو تكنولوجيا الاتصال، لأن المعرفة العلمية أضحت من ضروريات الحياة العصرية لا سيما في ظل سرعة التواصل بين الشعوب، مما يحتم على البرامج في مرحلة التعليم الثانوي إدراج قسط وفير من النصوص العلمية، لأن المتعلم في هذه المرحلة على وعي تام وإدراك كامل لما تفرزه التكنولوجيا الحديثة من أدوات وأجهزه إلكترونية علمية تيسر سبل الحياة، أين تسهم وسائل التواصل من تلفزيون وكمبيوتر وهواتف نقالة في توصيل المعلومة بشكل فوري، إذ إن مثل هذه الوسائل أضحت في متناول كل الأفراد تقريبا، حيث تسهم الأقمار الصناعية والشبكات العنكبوتية في سرعة الحصول على المعلومات والأخبار، وبالتالي فمن الضروري ألا يكون المتعلم بعيدا عن هذه المعرفة العلمية التي أضحت من مستلزمات الفرد والمجتمع، وإلى جانب التحصيل العلمي الذي تقدمه الممارسة النصية فإن لها أبعادا ثقافية أخرى، تتمثل في نشر معلومات وأخبار حاصلة في المجتمعات والدول، تتحدث عن تغيرات وأحداث تغذي الفكر، وتسهم في درجة الوعي، ومواكبة التطور الحاصل في المجتمع سواء في مجال الأدب أو الفن أو الرياضة أو الاقتصاد أو الاجتماع..، هذه الميادين التي أصبحت تسيطر على نشاط الفرد واهتماماته، كما تدفع المتعلم نحو إنشاء علاقات مع أفراد آخرين تسمح لهم بتبادل الأفكار والمعلومات ووجهات النظر من أجل الاستفادة من خبراتهم وتجاربهم، لأن الفعل التواصلي مظهر من مظاهر البنية الثقافية، وغالبا ما تنبع الثقافة من النصوص الإعلامية التي تقدم في المجال الصحافي كالجرائد والمجلات والدوريات، وما تنشره من مقالات وتقارير وتحاليل واستطلاعات وأخبار متنوعة عالمية ومحلية.

4.5. المعرفة الأدبية والاجتماعية 

من المألوف أن الممارسة النصية في مرحلة التعليم الثانوي يطغى عليها الجنس الأدبي، والسبب في ذلك – حسب رأي بعض العلماء – هشاشة وجدان القارئ المتعلم في هذه المرحلة، كما يرون أن الارتباط الوجداني ليس نوعا خاصا من أنواع القراءة، وإنما هو مكون أساسي للقراءة عموما، لأن الموضوعات الأدبية تخاطب عقل القارئ وعاطفته، وتهدف إلى التأثير في نفسه وشد أحاسيسه وهز مشاعره، وإيقاظ فكره بكل ما يمكن من وسائل التعبير وأساليب القول، والسبب في ذلك أن الأديب المبدع للنصوص يضع الكلمات في إطار شعوري جمالي خاص، ويشحنها بطاقات هائلة من المعاني، أو يلبسها حللا من الدلالات عن طريق المجاز، وينتقل بها من معانيها الحسية إلى دلالاتها المعنوية، ويبث في هذه الكلمات من روحه المتألقة الصافية روحا أخرى جديدة فتصبح لها نكتها المتميزة وأنماطها التعبيرية الجميلة، ويختار لها ذوقه الرفيع وإحساسه المرهف إطارا فنيا منغما، ويبعث فيها حياة أرقى وأسمى من حياتها المألوفة شكلا ومضمونا، « ولذلك كان الأدب الحقل الأوسع الذي تمارس فيه اللغة بمختلف ألفاظها وتراكيبها وصيغها، وبكل ما يكمن فيها من أسرار، وما تحمله من صفات أصيلة ومن طابع فكري ووجداني وقومي مميز »، (المعتوق، 1996، ص 125) ومهما كان نوع الأدب شعرا أو نثرا فإن قارئ النصوص الراقية منه تجذبه الألفاظ والعبارات بإيقاعاتها الجميلة وجرسها المؤثر، وتلمس الكلمات أحاسيسه بأصواتها الموحية وصياغاتها المصورة، فتعلق في ذهنه مع ما تحمل من معان وإيحاءات وما تعكسه من انفعالات، وتلقى صدى في نفسه وتجاوبا في شعوره، وبهذا تكون حصيلته اللغوية من قراءته لهذه النماذج أوفر من حيث الكم، وأسمى من حيث النوع أو المستوى، إذ تشمل المفردات اللغوية بمعانيها الفكرية أو الذهنية والمعجمية، وبمعانيها المجازية والعاطفية أو الانفعالية، وتتجلى قيمة النصوص الأدبية وأهميتها على المستوى الوجداني للمتعلم في أثرها البين في إعداد النفس وتكوين الشخصية وتوجيه السلوك الإنساني وتهذيب الوجدان وتصفية الشعور وصقل الذوق وإرهاف الحس وتغذية الروح، أما من الناحية الاجتماعية فإن النصوص الأدبية تفوح بالقيم الاجتماعية والإنسانية والدينية والخلقية والتربوية، لأن المتعلم ومن خلال الممارسة الفعلية للقراءة الأدبية يدرك مكانته الاجتماعية، ويشعر أكثر من أي وقت مضى بالحماية الاجتماعية التي تتغذى بكثير من الروابط والصفات، كالأخوة والمحبة والمودة والتعاون، لأن الأدب

« هو صاحب الامتياز، وهو الوسيط الأول للمعرفة : معرفة العالم ومعرفة الذات، وفي المجتمعات التي تُحجب فيها الحقيقة وتُشوه وتُقمع، تُصبح وظيفة الأدب هي إعادة تقييم هذه الحقيقة والكشف عنها، وذلك عندما يصبح النص الأدبي المقروء جزءا من حياة المتعلم، وبالتالي محمولا جماليا لمعرفة أصيلة لا تشخصها باقي الخطابات، معرفة موسومة بتاريخ المتعلم ومجتمعه، ومؤهلة لتفكيك الحقائق المعطاة »، (فرشوخ، 2005، ص 25)

والنصوص الأدبية لا تكمن أهميتها في المستوى اللغوي فقط بل تتعداه إلى القضايا الاجتماعية الهامة التي تعالجها، مما يؤهلها بأن تكون إحدى الوسائل المعرفية لتربية النشء وتعليمه وتهذيبه.

خاتمة 

يعتبر النص في مرحلة التعليم الثانوي إحدى المقاربات البيداغوجية الهامة التي تعتمد عليها المنظومة التربوية في تحقيق جملة من الأهداف في شخصية المتعلم، إن على المستوى اللغوي أو على المستوى المعرفي، غير أن بلوغ الأهداف يبقى رهين الممارسة النصية المكثفة مع الظاهرة النصية من قبل المتعلمين، هذه الممارسة التي تتمثل في مدى تلقي النصوص وكثرة التفاعل معها من قبل المتعلمين، إذ كلما ارتفعت درجة المحاكاة من جهة، وتنوعت النصوص في الأشكال والأنماط من جهة أخرى ارتقت نسبة الاستجابة والانتفاع بما تحويه النصوص من مسائل لغوية وقضايا معرفية، باعتبار أن النص هو الوعاء الوحيد والقادر على استيعاب جميع المستويات اللغوية التي أثبتتها اللسانيات الحديثة فضلا عما يحتويه من معارف متنوعة في جميع مجالات الحياة، مما يؤهل النص بأن يظل وسيلة قوية وأداة فعالة تسهم في إعداد النشء وتكوينه وإصلاحه، الأمر الذي يلقي بالمسؤولية الكبيرة على عاتق النظام التربوي نحو الاهتمام أكثر بالظاهرة النصية في كل أبعادها، وذلك بحسن اختيار النصوص وجودة انتقائها سواء من ناحية الشكل أو المحتوى بما يمكن أن يثير اهتمام المتعلمين، ويلبي حاجاتهم اللغوية والنفسية والاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى بذل الجهد قصد التنويع في طرائق تدريس النصوص بما يخلق الحوافز ويوفر الاستعداد والقابلية، ليس لأجل التلقي فحسب، ولكن لأجل ممارسة نصية مستمرة وأبدية، ممارسة مفعمة بقدرات المتعلمين ومهاراتهم في عمليات القراءة والفهم والتحليل والإبداع، من أجل الانتفاع بالقيم التي تختزنها النصوص، هذه الممارسة التي وإن بدأت كنشاط، لكنها تستمر كعادة وسلوك لتصير في الأخير ملكة نصية مكتملة بصفة راسخة تتمثل في القدرة على فهم النصوص وإنتاجها.

.

ابرير، ب. (2007). تعليمية النصوص بين النظرية والتطبيق. إربد – الأردن: عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع.

ابن خلدون. (2000). المقدمة. بيروت: دار الفكر.

أحمد محمد المعتوق. (أوت، 1996). الحصيلة اللغوية – أهميتها- مصادرها- وسائل تنميتها. سلسلة عالم المعرفة 212.

البرهمي، م. (2005). القراءة المنهجية للنصوص – تنظير وتطبيق. الدار البيضاء، المغرب : الدار العالمية للكتاب.

الجرجاني، ع. ا. (1978). دلائل الإعجاز في علم المعاني (02 ed.). (ت. م. رضا، Ed.) بيروت- لبنان: دار المعرفة للطباعة والنشر.

جميل صليبيا. (جانفي، 1974). تعريب التعليم بين القائلين به والمعارضين له. مجلة العربي(182).

الزاوي، ر. (2014). مكونات النصوص، الكفايات وتقنيات التدريس (السرد- الحجاج- الوصف- الحوار- الشعر). المغرب: دار أبي الرقراق للطباعة والنشر.

الزغول، ع. (2003). نظريات التعلم (01 ed.). عمان- الأردن: دار الشروق للنشر والتوزيع.

سارتون، آ. (1987). الذكاء. دمشق، سوريا: دار المعرفة.

الشايب، أ. (1966). الأسلوب (06 ed.). مصر: مكتبة النهضة المصرية.

فرشوخ، أ. (2005.). تجديد درس الأدب (01 ed.). الدار البيضاء – المغرب: مطبعة النجاح.

لوصيف، ط. (2007). تعليمية النصوص والأدب في مرحلة التعليم الثانوي. رسالة دكتوراه جامعة الجزائر.

مونتاكو أشلي. (1965). طبيعة الإنسان البيولوجية الاجتماعية. (أحمد حسن الرحيم، المحرر) النجف – العراق : أشلي مونتاكو: طبيعة الإنسان البيولوجية الاجتماعية، مطبعة الأدب.

عبد السلام بن علية

جامعة يحيى فارس – المدية

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article