مقدمة
ارتبطت نشأة الجدل الكلامي المبكر بسياقات سياسية واجتماعية عرفها المجتمع الإسلامي بعد مرحلة التأسيس النبوي؛ إذ أسهمت مسألة الإمامة/الحاكمية في تداخل الاعتقاد بالسياسة، وفي تشكّل مواقف فرقية ومذهبية، وتبلور مقولات ومقالات، وما صاحب ذلك من صراعات وتأويلات متباينة للنص. وفي هذا المناخ ظهرت البواكير الأولى لما سيُعرف لاحقاً بعلم الكلام؛ بوصفه جهداً نظرياً يجمع بين تحديات الواقع وتجليات فهم النص، قبل أن يتبلور في مدونات المدارس المختلفة. وقد استقرّ عند كثير من الدارسين على أنه «دفاع عقلاني عن العقيدة»، غير أن هذا التوصيف نفسه عرف تنويعاتٍ واسعة؛ إذ لم تثبت تعريفات العلم على صورة واحدة، بل تقبضت وانبسطت تبعاً للظروف والتحديات والعلوم المجاورة. ومن ثمّ تسعى هذه الورقة إلى تتبّع تحولات البناء المفهومي والتعريفي لعلم الكلام، وإبراز ما تعكسه اختلافات التعريف من تفاعل بين المعرفي والتاريخي والسياسي والاجتماعي، من غير أن يكون «التعريف» ذاته موضوعاً لخلاف جدلي على شاكلة قضايا «خلق القرآن» و«القدر» وغيرها. وعليه تُطرح أسئلة: هل عرف علم الكلام هوية واحدة ثابتة عبر مسار نشأته ومأسسته؟ وكيف أسهمت التحولات السياقية والخيارات المنهجية لدى المتكلمين في إعادة تشكيل لغته ومنهجه وغاياته؟
1. علم الكلام بين الماهية الدفاعية والماهية الإنتاجية
يتفق كل والجٍ بالدراسة لدين الإسلام أن الأحكام الشرعية لهذا الدين تنقسم إلى قسمين رئيسيين : قسم يرتبط بأصول الإيمان الدينية فكانت أحكامه اعتقادية، وقسم يتعلق بالأعمال والمعاملات وتسمى أحكامه أحكاما تشريعية فقهية. فالتعاليم الإسلامية على ثلاثة أقسام :{عقائد، فقه، وأخلاق،} ويرى بعض المفكرين أن هذا التقسيم راعى أبعاد الإنسان الثلاث (العقل/خصال/أفعال) « وقد لوحظ في هذا التقسيم جهة ارتباط التعاليم الإسلامية بالإنسان، فإن (العقائد) ترتبط بعقل الإنسان وفكره، وعلم (الأخلاق) يرتبط بسجاياه وخصاله، وعلم (الفقه) يرتبط بأفعاله وسلوكه » (مطهري، 2009) فجاء متناسبا معها، فما ارتبط بالأصول واستقر اهتمامه في دائرة الاعتقاد سميناه علم الكلام « الأحكام المنسوبة إلى الشرع منها ما يتعلق بالعمل تسمى فرعية وعملية ومنها ما يتعلق بالاعتقاد، وتسمى أصلية واعتقادية،..وسموا العمل باسم الفقه، وخصوا الإعتقاديات باسم الفقه الأكبر، والأكثرون خصوا العمليات باسم الفقه، والإعتقاديات بعلم التوحيد » (التفتازاني، 1998).
1.1.الماهية الإنتاجية في علم الكلام
لا ينفك كل طالب لصنعة الكلام، بغائية الدفاع عن العقيدة وإثباتها بالحجج والرد على المخالفين والمنكرين لها بأدلة العقل، من الوقوف على حقيقة هذا العلم، فالحد والموضوع والثمرة من مبادئ أي علم، ومنذ أن أعلن ممثليه الحرب الجدلية مع أهل الملل والنحل المخالفة تثبَّت في مدوناتهم تعريفات متغايرة ومتعددة لهذا العلم سنقف على بعضها تحليلا وشرحا وتفسيرا :
يذهب القاسم بن محمد بن علي الزيدي (ت1029ه) : « علم الكلام هو بيان كيفية الاستدلال على تحصيل عقائد صحيحة، جازمة، يترتب صحة الشرائع عليها. أو الاستدلال على شرائع وعقائد مخصوصة » (بن علي، 1436ه) ، فيكون القسم الأول من هذه الصناعة هو النظر في الدليل، لينتهي هذا الاستدلال بنتيجة ويصل إلى ضالة اليقين في الاعتقادات، وهي : تحصيل العقيدة الخالصة من الشك والظن، والمقصود بالشرائع التكليفات العملية المرتبط صدقها بحصول المعرفة الصحيحة بالعقائد، والاستدلال الثاني الذي حمله التعريف هو الاستدلال النقلي من الكتاب والسنة، والذي يخدم عقيدة خاصة كشفاعة النبي محمد، أو وجود الجنة والنار..الخ، بمعنى أنه آلة تعطي صاحبها دربة وصنعة متقنة في المعرفة والوصول إلى اليقين في المعتقد، أو أنه يعلم طالبه كيف يستدل ويثبت صدق وصحة عقائد معينة وكشف الزيف والشبهة عنها.
في موسوعة دائرة المعارف الإسلامية يُصنف علم الكلام كمعْلم من معالم الفكر الديني الإسلامي، فيتقدم هنا تعريف مقارن بين حدّي الفقه/ العلم/الكلام « وعلى أية حال فبينما المعنى الأصلي لمصطلح « الفقه » - خصوصا في المذهب الحنفي - يعني الفهم والفطنة؛ مما يميزه عن « العلم » بمعنى « المعارف التقليدية »، اكتسب مصطلح « الكلام » معاني « التحاور والمناقشة والجدل ». » (م.ت.هوتسما، 1998). فنصبح هنا أمام مشترك لفظي ( فن التحاور والمناقشة والجدل عن المعارف العقدية)، فيعبّر بهذا علم الكلام عن مبحث منتظم ومنهج مضبوط بحزمة من البراهين، والمناقشات والجدل والاستدلال والاستنباط في التعامل مع مضمون العقيدة، والذي لا يتقوّم إلا بوجود الآخر حتى يتم فعل الحوار بين مشكك ومنكر ومثبت ومدافع. « وعلم الكلام ليس أكثر من مناظرات المتكلمين ومنازعاتهم، » (سروش، 2010).
أما عند المتكلمين فقد تحددت غايته الأولى في نصرة العقيدة والذب عنها ضد خصومها، ليكون الهدم والتقويض لمقولات الخصوم هو فاتحة التجربة الكلامية التي تبغي صرع الآخر وتمكين الأنا، لينتهي إلى بناء التصور الصحيح للعقائد الإسلامية الحقة ( ثنائية البناء والهدم التي توجه ذاكرة المتكلم). يقول عضد الدين الإيجي(ت756ه) في تعريف يظهر فيه الغاية من علم الكلام والتسامح واللينة مع الخصوم « والكلام علم يقتدر معه إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، والمراد بالعقائد ما يراد به النفس الاعتقاد دون العمل، وبالدينية المنسوبة إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فإن الخصم وإن خطأناه، لا نخرجه من علماء الكلام »(الإيجي، د س)، يظهر أن الغاية من علم الكلام هو بناء صرح معرفي وتكوين ملكة علمية لدى أصحابه تمكنه من إثبات العقيدة والذب عنها، وذلك بإبطال الشبهات ودرء كل ما يضر بالاعتقاد بالأدلة والبراهين والحجج، وهنا تبرز وظيفة علم الكلام الدفاعية التبريرية، ثم ينتقل الإيجي إلى تخصيص موضوع علم الكلام بالعقيدة الإسلامية دون سواها أي ما أنزل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيصبح علم الكلام علما إسلاميا أصيلا تفتقده الملل الخارجة عن الإسلام، وهذا التعريف من الشواهد القوية على أصالة علم الكلام تأتي من موضوعه الذي هو الاعتقاد الإسلامي، وغايته وهي التأسيس النظري للاعتقاد والذب والمرافعة عنه ضد الشبهات « وهكذا يكون علم الكلام علما دينيا خالصا سواء في موضوعه أو غايته، وإذا كان أحد معاني الأصالة أن يكون للشيء أصل ثابت يُبنى عليه، فإن الأصل هنا في علم الكلام هو الدين الإسلامي وأصوله فهي موضوعه وغايته. » (السيد، 1987).
ثم يتوسع البحث في علم الكلام ليشمل المذاهب الإسلامية المختلفة؛ ويُلاحظ أن كثيراً من المتكلمين—على تفاوت مناهجهم — يفرقون بين مناقشة المقولات العقدية والحكم على أصحابها، فلا يلزم من التخطيء أو التبديع، في عدد من المدونات التراثية، إخراج المخالف من دائرة الإسلام. ويرتبط هذا التفريق بتحديد معنى «أصول الدين» وحدودها في كل مدرسة.
وأشار المفكر الإيراني أحد قراملكي إلى نقطة مهمة تُعَدُّ فاتحة هذا الإشكال قائمة على تحديد الموقف من الفلسفة، قبولا أو رفضا، إذ لاحظ أنَّ الذين وقفوا في موقع العداء والإدانة للفلسفة جعلوا من الكلام ذا هوية انتاجية لا استهلاكية. فإلى جانب الدفاع نجد المتكلم يشرح ويستنبط ويستدل ويبين ويوضح المفاهيم الدينية، يصوغ ابستيمولوجيات دينية (عقائدية) وهذا مبني على مسلمة التعارض بين الحقيقتين الفلسفية والدينية، إضافة إلى العقم الذي ألحقته الهوية الدفاعية الجدلية الخصومية بعلم الكلام « إن التصور الرئيسي الثاني لماهية علم الكلام هو اعتباره منتجا للمعرفة، ولظهور ورواج هذا التصور سببان : أولا إعراض بعض العلماء عن الأفكار الفلسفية اليونانية، واليأس المعرفي من وصول العقل المحض إلى معرفة الوجود، والتوقع تبعا لذلك أن يتم الحصول على معرفة الوجود من خلال الوحي. ثانيا : الاعتقاد بعدم جدوى علم الكلام الرائج على أساس التصور الدفاعي له، فهو بسبب دخوله في جدالات عقيمة لم يسهم في إثراء وترويج المعارف الدينية » (قراملكي، الهندسة المعرفية للكلام الجديد، 2002).
ويذهب بعض الباحثين إلى ربط هذا التصور بتياراتٍ انتقدت الاعتماد على الفلسفة اليونانية، وبمدارسَ تميل إلى جعل الكلام أقرب إلى وظيفةٍ تفسيرية/دفاعية للمعرفة الدينية. (قراملكي، الهندسة المعرفية للكلام الجديد، 2002).
ويمكن أن نقدم أحد النماذج التعريفية الممثلة للهوية الإنتاجية انطلاقا من أبي حامد الغزالي (505ه) الذي وقف بالضد لإلهيات الفلاسفة « تهافت الفلاسفة »، الذي أثبت فيه تعارض النظريات الفلسفية مع التعاليم الإلهية، وبالتالي سيغدو علم الكلام مع هذا الأشعري ليس جدلا مخاصما وإنما آداة لتحصيل المعرفة الدينية التي يعجز الفيلسوف حسبه عن الوصول إليها « ما يطلبه الفلاسفة من الفلسفة اليونانية وتأملات العقل النّظري سراب وليس حقيقة، ويجب استقاء علم الوجود الصحيح من الوحي، لأن العقل الإنساني لا يمكنه الوصول وحيدا إلى حقائق الأمور والسعادة الحقيقية » (قراملكي، الهندسة المعرفية للكلام الجديد، 2002).
يجعل الغزالي في كتاب « الإحياء » علم الكلام في مصاف العلوم الكفائية، التي تنبري لحراسة وصون عقائد العامة التي لا حول لها أمام تشويشات الخصوم، واعتراضات الخصوم « فإذاً ؛ الكلام صار من جملة الصناعات الواجبة على الكفاية حراسةً لقلوب العوامِّ عنْ تخييلات المبتدعةِ، وإنّما حدث ذلك بحدوث البدع، » (الغزالي، 2011)، لهذا ينوّه الغزالي مؤكدا أن المتكلم ينبغي عليه أن يعلم ماهيته ومرتبه في هذا الدين؛ والتي لا تتعدى أن يكون درعا واقيا وجدارا حاميا لعقيدة التوحيد والمنتسبين إليها، فهو ردة فعل، واستجابة لنقد أو تشويش يلحق بتصديقات المؤمن(التوحيد) « فليعلمِ المتكلّمُ حدّهُ منَ الدينِ، وأنَّ موقعَهُ منهُ موقعُ الحارسِ في طريقِ الحجِّ، »(الغزالي، إحياء علوم الدين ج1، 2011) أما حظ الكلام من تقسيم العلوم عند الغزالي في كتاب « المستصفى » كالتالي : فهو أم العلوم، أو علم العلوم، أو أصل الأصول، فهو بمثابة الواجب للممكنات ( على مستوى ابستيمي) « فالعلم الكلي من العلوم الدينية هو : الكلام..والمتكلم هو الذي ينظر في أعم الأشياء وهو الموجود، » (الغزالي أ.، د س). وتجدر الإشارة إلى أن المصطلحات التقويمية التي تَرِد في بعض النصوص التراثية —مثل «البدعة» و«المبتدعة»—تُستعمل هنا بوصفها معجماً تاريخياً داخل خطاب المتكلمين، لا بوصفها حكماً معيارياً يتبناه الباحث.
وبهذا يكون علم الكلام علما للوجود، ليصل إلى واجب الوجود من خلال تقسيم العالم كله إلى قديم أزلي ومحدث مخلوق، فهو يقدم تصور كليا عن الوجود من أجل حصول التقسيم للموجودات إلى واجب وممكن، بمعنى علم الكلام ينتقل بنا بتصوراته من الموجود إلى الموجد، بعد أن يبين كلا صفاتهما ( القديم والمحدث) « فيقسم الموجود أولا إلى قديم ومحدث، ثم يقسم المحدث إلى جوهر وعرض،..ثم ينظر في القديم : فيبين أنه لا يتكثر، ولا ينقسم انقسام الحوادث »(الغزالي أ.، المستصفى من علم الأصول، د س) ، وعند هذا الحد تنتهي حركة العقل بعد أن أثبت الباري وما يجوز له وما لا يجوز عليه، وأثبت حدْث العالم وجواز بعثة الأنبياء، لينصت لترانيم الوحي بعد عجز العقل عن إدراك بعض الحقائق الدينية بدونه « عند هذا ينقطع كلام المتكلم، وينتهي تصرف العقل، بل العقل يدل على صدق النبي، ثم يعزل نفسه ويعترف بأنه يتلقى من النبي بالقبول ما يقوله في الله واليوم الآخر، مما لا يستقل العقل بدركه ولا يقضي أيضا باستحالته » (الغزالي، أ.، المستصفى من علم الأصول، د س) ، وكأن عمل المتكلم هو السير بالعقل في إثبات الأصول الكبرى للعقيدة استدلالا قبل أن يُولّي وجهه شطر الوحي سمعا وتصديقا، ولم تظهر في التعريف أي إشارة إلى التصور الدفاعي الكلامي التي سيلصقها به (علم الكلام) أنصار الهوية الدفاعية، وإن كانت الهوية المنتجية للمعرفة محايثة لخاصية الدفاع الكلامية إلا أن هذه الأخيرة (حراسة العقيدة والذب عنها) ليست المطلوب الأول والمبتغى الجوهري عند المتكلم المنتج للمعارف؛ علم الوجود المستسقى من الوحي الإلهي كما يوضحه الجرجاني في « التعريفات »« علم الكلام : علم باحث عن الأعراض الذاتية للموجود من حيث هو على قاعدة الإسلام » (الجرجاني، التعريفات، 2013).
وينحو التفتازاني (ت792ه) نفس هذا المنحى في تعريفه لعلم الكلام الذي يلبسه هو أيضا الهوية الإنتاجية « الكلام هو العلم بالعقائد الدينية على الأدلة اليقينية »(التفتازاني، شرح المقاصد ج1، 1998) ، وهذه دعوة إلى النظر والاستدلال لكل والجٍ لحريم علم الكلام، إن الباحث عن الإعتقادات في الكتاب والسنة بأدلتها التفصيلية اليقينية يسمى متكلما لأن العقائد لا تقام بالشك والظن. لكن هذا التمثُّل الإنتاجي للمتكلم في عالم العقيدة لا ينفي الدور المنوط له في الذب والدفاع عن العقيدة وإن لم تُذكر في تعريفاتهم إلى أنها كانت متضمنة في كتبهم « وتجدر الإشارة إلى أن اقتصارهم في تعريف علم الكلام على ذكر البعد المعرفي فقط، لا يدل على رفض البعد الدفاعي منه. لأنك تراهم في كتبهم قد اهتموا بهذا البعد أيضا »(بِرِنْجْكار، 2016).
1.2. الماهية الدفاعية في علم الكلام
وبالعودة إلى القرن الرابع هجري نجد ممثل المشائية الإسلامية الفارابي (ت 339ه) يقدم أقدم وأول تعريف للعلوم في البيبليوغرافيا التي يصنف ويعرف فيها علوم عصره ويحدد معالمها « إحصاء العلوم » « وصناعة الكلام - ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرّح بها واضع الملة، وتزييف ما خالفها بالأقاويل »(الفارابي، 1996)، لو قمنا بتشريح هذا النص فإننا سنصطدم للوهلة الأولى بمصطلحات أساسية، الوقوف على كنهها يعد مفاتيح لمغاليق هذا النص من قبيل : « الصناعة »، « ملكة »، « الكلام »، « الآراء » و« الأفعال » وكذا مقابلة الكلام بالفقه، بل وقد وضع تحت راية الدفاع الكلامية النظريات والعمليات، فلو عدنا إلى مصطلح صناعة فإننا نجد أن هذا الضرب من العلم ليس متاحا للجميع بل هو من نصيب الخاصة من الناس، التي تجتهد تعلما وتدرجا في تحصيله، فهو حكرٌ على الخاصة التي تتوفر فيها مقومات ومؤهلات التعلم والاكتساب لصناعة الكلام، وتوفرت على أدوات وآليات الاجتهاد الكلامية، إذ لا تقوى عليه العامة وعن هذه الصناعة يقول الجرجاني (ت471ه) في تعريفاته « الصناعة ملكة نفسانية يصدر عنها الأفعال الاختيارية من غير روية، وقيل : العلم المتعلق بكيفية العمل » (الجرجاني، 2013) فالملكة تفيد استعداد وتأهب وقدرات معينة لدى فئة من الناس تجعلهم بوجودها خير مؤهلين لتبني الوظيفة الكلامية علما وعملا.
إن تسمية الصناعة الكلامية من نحت الفارابي ولم تكن متداولة من قبله، والملفت للإنتباه أنه لم يستعمل لفظ العلم بل صناعة، دلالة على أنه لازال لم يرتقي إلى مصاف العلوم التي تعتمد المنطق في مباحثها وهو المتأله الفيلسوف والمنطقي، ناهيك عن المكانة المهمة التي كان يحتلها المنطق في أي حقل معرفي والذي تأخر علم الكلام من الاستفادة من مباحثه « إذا ما عرفنا أن الكلام الإسلامي لم يخضع لنظرية المعرفة الأرسطية حتى ذلك الوقت، » (المدن، 2010)، فاستحضار مصطلح الصناعة بدل العلم، وربما غاية هذا التوظيف نفي الهوية العلمية من علم الكلام لافتقاره للمنطق كاحتمال « هذه التسمية من نحت الفارابي نفسه، وهي ذات دلالة بالغة الأهمية إذا ما عرفنا أن الكلام الإسلامي لم يخضع لنظرية المعرفة الأرسطية حتى ذلك الوقت ما يجعله في نظر الفارابي الفيلسوف، والداعية الأكبر لتلك النظرية آنذاك، مجرد « صناعة » وليست « علما ».. ومن الواضح أن طبيعة هؤلاء الخصوم- كما يبدو غير متقيدين بما يصرح به واضع الملة والعقيدة،. فالخصم هنا ليس « مسلما ». ومن هنا نفهم أن مهمة صناعة = الكلام في عصر الفارابي لم تعد تلك المهمة التي انطلق منها الجيل الأول من متكلمي الإسلام، هذا الجيل الذي كان معنيا بالانشقاق الإسلامي/ الإسلامي بشأن قضايا « اسلامية » » (المدن، تطور علم الكلام الإمامي حتى القرن السابع الهجري، 2010) ، وكأن تعريف الفارابي لم يكن على ضابط الإسلام وإنما مقتضى فلسفة الدين، بعد أن جعل الكلام الإسلامي صناعة مِلِّية تهدف الدفاع عن أي دين، ضف إلى ذلك التحول الذي طرأ على الخصم فلم يعد ذلك الآخر المشارك في الملة والمرتكِز إلى نفس النص والرواية، بل أضحى من خارج دائرة الاسلام غريب عن عقيدتها ونصوصها، أو اقتصاره على الدفاع والرد، لأنه مسبوق بحصول معرفي استفاد منه من نصوص الكتاب والسنة وجلسة تلقي واستماع من الأئمة والشيوخ، وهذا ما تبناه البعض « واعتبر البعض الصناعة في العلم والمعرفة، وفسّروا الصناعية بمعنى نفي الهوية العلمية عن الكلام، واستنادا إليه شبّهوا بفن الجدل، وقالوا : كما أن الجدل فن ومقدرة وليس علما كذلك فالكلام فنّ الدفاع عن الثغور العقائدية وليس علما نظريا، وقد فسّر البعض سبب تسمية الكلام بهذا الاسم على هذا الأساس. »(قراملكي، 2002) يُصنَّف الفارابي على رأس الاتجاه الذي يُسنِدُ لعلم الكلام الإنفراد بالمهمة الدفاعية، بمعنى أنه يقدم الغاية من هذا العلم دون الإشارة إلى منهجه الذي يُعدُّ أهم نقطة وخاصية كان ينبغي الإشارة إليها، مقتصرا على الموضوع « الآراء والأفعال » والغاية وهي « نصرة » هذه الآراء والأفعال « الاتجاه الأول يعرف علم الكلام على أنه علم آلي فقط كما هو المنطق، بمعنى أنه يُفاد منه في الدفاع عن الدين والعقيدة..وعلى هذا الأساس فإن المنظور من هذا العلم ليس تحصيل المعرفة وإنما الذود عن جميع المعارف المستقاة من الوحي الإلهي وإثباتها والبر هنة عليها »، (نجف، 2003) وهنا تظهر الهوية الدفاعية الاستهلاكية لعلم الكلام دون هوية الإنتاج المعرفي.
إن أنصار الهوية الدفاعية والذي قارب أهله الحقيقة الفلسفية بالحقيقة الدينية واعتبروا أن لا تعارض بينهما، إذ لم تسجل حسبهم الحقيقة الفلسفية أي تعارض مع حقائق الدين بل دعّمته، وشهدت له كما يذهب جمهور المشائية مع اختلاف طفيف بين منهج الفيلسوف البرهاني ومنهج النبي الوحياني، فالمُحصَّلُ من الفلسفة كحقيقة (علم الوجود) يغنينا من البحث عنها في علم الكلام الذي سيغدو مع هؤلاء وسيلة دفاع وذب عن الحقائق الوحيانية، التي سبق للمتكلم حصول علمٍ له بها، والفارابي يُعدُّ إمام هذا التصور الدفاعي الذي يرى أن المُنجز المعرفي الذي استفاد منه المتكلم في جلسة التلقي الأولى مع الوحي الذي قدم له تفسيرا لعالم الوجود ( المنجر المعرفي الوحياني)، فأعفاه من مهمة الإنتاج التي استُبدلت بخاصية الدفاع « إن الأشخاص الذين انطلقوا من موقف الفارابي في تحليلهم لهوية علم الكلام وتعريفهم له، أناطوا به مهمة المحافظة على العقائد الدينية، وتنكّبوا عن الإقرار له بمسؤوليته عن تحصيل المعرفة بعالم الوجود،.. ولم يرى أتباع الفارابي أي حاجة- مع وجود الفلسفة - لتحصيل المعرفة بعالم الوجود عن طريق علم الكلام، » (قراملكي، الهندسة المعرفية للكلام الجديد ، 2002) ومن الذين تمثلوا هذه الهوية الدفاعية نجد الأشعري ابن خلدون (ت732ه) الذي جعل الكلام في مقدمته « وهو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات على مذهب السلف وأهل السنة، » (ابن خلدون، 2014) وكأن الكلام عند أهل السنة دون غيرهم، لهذا نجد اللاهيجي يخص الغاية من علم الكلام بحسب المتقدمين في خاصيتين دفاعيتين في جوهرهما تُسحب منهما هوية الإنتاج الكلامي، تتمثل في حفظ العقيدة الدينية وكذا نصرة الأصول والقواعد المذهبية « حاجة قدماء المسلمين لهذا العلم كانت لسببين : الأول، المحافظة على العقائد الشرعية من تطاول وتجاوز الجاحدين والمعاندين من بقية الملل والشرائع، وتشمل هذه الحاجة أهل الإسلام، والآخر سعي كل فرقة من فرق المسلمين لإثبات أصولها وعقائدها والمحافظة عليها من المساس من قبل الفرق الإسلامية الأخرى، ومما لا شك أن هذا السعي كان يختلف من فرقة إلى أخرى. »(قراملكي، الهندسة المعرفية للكلام الجديد، 2002).
- الطابع الشمولي في تعريف الفارابي لعلم الكلام إذ لم يجعل قيدا إسلاميا لهذا العلم بل جعله وسيلة لنصرة الاعتقادات، ولم يؤكد على إسلامية هذه العقائد، سوى أنه أكد على سماويتها، فهو العلم الذي يُرافع عن العقائد الدينية ويُدافع عنها دون اختزال هذا العلم في تصور فئوي (أشعري، معتزلي، شيعي.) أو تصور مِلّي (يهودي، مسيحي، إسلامي)، مما يعني أن الكلام متعلق بالفكر الديني على العموم لكن في حدود التشريع السماوي (التي صرح بها واضع الملة)، وقد أشار إلى هذه القضية المفكر الروسي هاري ولفسون بعد أن وجد هذا الرأي متكررا بالمعنى عند ابن رشد المبسوط في « تفسير ما بعد الطبيعة » عند مناقشته لدليل الاختراع عند المتكلمين من أهل الملل حسبه « وإفراط هذا التوهم هو الذي صيّر المتكلمين من أهل الملل الثلاث الموجودة اليوم إلى القول بأنه يمكن أن يحدث شيء من لا شيء، وذلك أنه إن جاز الإختراع على الصورة جاز الإختراع على الكل » »(ابن رشد، 1938). وكأن علم الكلام هو علم ملّي، جعله ابن رشد مشتركا بين الأديان الإبراهيمية الثلاث، فنكون أمام علم كلام : يهودي/مسيحي/إسلامي « ويتحدث ابن رشد عن المتكلمين من أهل ملتنا ومن أهل ملة النصارى »(ولفسون، 2009) ، وبالتالي فإن مهمة علم الكلام تتعدى الحدود الاسلامية والتقييدات المذهبية ليُصبح متّسعا شاملا لكل الأديان، و التي يتقدم أعلامها للدفاع عن عقائدها بلا قيد ملة أو فرقة أو مذهب، فهو علم الدفاع عن الفكر الديني بالخصوص وما يتضمنه من آراء وأحكام مقدسة من وضع الشارع.
لا يحصر الفارابي مهمة الدفاع الكلامية في التكاليف القلبية النظرية بل يجعل دائرة علم الكلام واسعة تضم حتى العمليات (التكاليف العملية)، فهو يجعل علم الكلام مكلف بالدفاع عن جميع المقولات الدينية بشقيها النظري والعملي « نصرة الآراء والأفعال »، مع أن المعلم الثاني يضع تمييزا بين الفقه والكلام « لأن الفقه يأخذ الآراء والأفعال التي صرح بها واضع الملة مسلمة يجعلها أصولا فيستنبط منها الأشياء اللازمة عنها. والمتكلم ينصر الأشياء التي يستعملها الفقيه أصولا من غير أن يستنبط عنها أشياءً أخرى » (الفارابي، إحصاء العلوم، 1996). ولا يستبعد الفارابي أن تجتمع صفة الاستنباط والدفاع في الشخص الواحد « فإذا اتفق أن يكون لإنسان ما قدرة على الأمرين جميعا فهو فقيه متكلم، فيكون نصرته لها بما هو متكلم، واستنباطه عنها بما هو فقيه »(الفارابي، إحصاء العلوم، 1996) ، لكن الإشكال المتقدم في هذا التعريف هو ما علة دخول الفقه تحت راية الدفاعية الكلامية إذا كان موضوع العلم هو العقيدة النظرية لا الأعمال؟، يذهب الدكتور علي بوملحم الشارح والمقدم لكتاب « الإحصاء » إلى افتراض أن تكون المسائل الأخلاقية التي غَذّت الجدل الكلامي هي المقصودة من مصطلح الفقه من قبيل التحسين والتقبيح، الحرية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر « لم يوضح ماذا يعني بالآراء والأفعال في علم الكلام. وربما قصد بالأفعال أفعال الإنسان الخلقية وسلوكه لأن المتكلمين تطرقوا إلى المسائل المتعلقة بالأخلاق والحرية والإرادة والصالح والطالح والخير والشر. » (الفارابي، إحصاء العلوم، 1996) ، ويبقى الاختلاف القائم بين الفقيه والمتكلم هو طريقة تناول المقولات الدينية اعتقادا أو عملا، فهذا يستنبط من الكتاب والسنة أحكاما تخص الجوارح، وذلك يستنبط قواعد تخص الفؤاد. المتكلم يتقدم لنصرة التكاليف القلبية والعملية لأنها مجتمعة تشكل سقف الدين، يمكن أن يُلاحظ هنا أن دور العقل وحركيته في علم الكلام أظهر منه وأنشط في الفقه المستند إلى النص بامتياز، ويشير الأستاذ مصطفى عبد الرزاق أن الفارابي لم يعمد إلى إبراز الفرق بين الفقيه والمتكلم وإنما أراد أن يبين ماهية العلوم الدينية ومكونها « نعم إن الفارابي في « إحصاء العلوم » لم يقصد إلى بيان الكلام الإسلامي. والفرق بينه وبين الفقه على مصطلح أهل الإسلام، بل قصد الكلام في العلوم الدينية جملة فجعلها طائفتين : طائفة تبحث فيما يقتدر به الإنسان على الاستنباط من نصوص الدين المأخوذة تسليما؛ وطائفة تبحث فيما يقتدر به الإنسان على نصرة ما جاء به الدين من العقائد والأحكام وتزييف كل ما خالفه بالبراهين العقلية »(عبد الرزاق، 2011) ، وقد كان رأي الفارابي هذا معتبرا عند بعض الأعلام كأبي حيان التوحيدي الذي أشار في نص مهم إلى حقيقة الصلة الموجودة بين الفقه والكلام حتى أضحى الفصل بينهما وظيفيا مستحيلا، فبعد تحقيقه لماهية الفقه والكلام، يقدم هذا النص الذي يتجاذب فيه حدي الكلام والفقه بعد أن وجد أن العقل بينهما مُعتبر « وبابه مجاورٌ لباب الفقه، والكلامُ فيهما مشتركٌ وإن كان بينهما انفصال وتباين، فإنّ الشِّركة بينهما واقعة، والأدلة فيهما متضارعةٌ. ألا ترى أن الباحث عن العالم في قدمه وحدوثه وامتداده وانقراضه يشاورُ العقل ويخدمه، ويستضيء به ويستفهمه. كذلك النّاظرُ في العبد الجاني : هل هو مشابهٌ للمال فيردُّ إليه أو مشابه للحرِّ فيحملُ عليه، فهو يخدم العقلَ ويستضيءُ به. »(التوحيدي، 2001).
يظهر الطابع الغائي في تعريف الفارابي لعلم الكلام، لأنه عمد في تعريفه إلى تقديم التصور الدفاعي الجدلي فوق كل الاعتبارات، وهو ما يجعل من هذا العلم وسيلة بيد المتكلم يرتب بحرية مطلوب الدفاع كيفما هو يريد، وهناك تفسيرات لهذا التصور الدفاعي منها ما ربط هذه الغائية بنوع العلم فإذا تحددت هوية العلم بأنه من سنخ العلوم الآلية ثبت التصور الغائي في تعريفه، والراجح أن الاقتصار على غاية ودور العلم الكلام قد يكون مرده إلى إيمان هؤلاء بعجز علم الكلام عن الإنتاج المعرفي « إن علة قيام البعض بتقديم تعريف غائي لعلم الكلام هو اعتقادهم أنه غير منتج للمعرفة، فمن وجهة نظر علماء المنطق العلم الذي يبحث في تحصيل المعرفة يتم تعريفه حسب الموضوع، وأما العلم ذو الهوية الآلية والدفاعية فيعرَّفُ حسب الهدف، ووظائفه في الوصول إلى الهدف » (قراملكي، الهندسة المعرفية للكلام الجديد، 2002) ، هناك من يقدم تحليلات مغايرة على شاكلة عبد الكريم سروش الذي ربط تقدم التصور الغائي في التعريف بفقدان العلم للموضوع « هذا علمٌ بلا موضوع، ولا يمكن ذكر موضوع معين له، والإدعاء بأن علماء الكلام قد بحثوا في عوارضه الذاتية المباشرة،..ويمكن اعتبار قسم آخر من العلوم من تلك التي تفتقر إلى الموضوع، وأحدهما علم الكلام هذا، » (سروش، القبض والبسط في الشريعة، 2010). لكن في مقام آخر من كتابه « القبض والبسط النظري في الشريعة » يشير إلى استقراء تاريخي مهم، وهو أن علم الكلام في المرحلة التي سبقت تلاقحه مع الفلسفة كموضوع ومنهج كان له دور الإنتاج والصناعة المعرفية، بدليل أن الفترة التي تغذى فيها علم الكلام بالحكمة اليونانية شهدت احتضارا وانحسارا لهذه المهمة، بعد أن بنى مراكز دفاعية متسلحة بأضلع فلسفة اليونان لا يهمها الإنتاج المعرفي « علم الكلام كان في البداية علما منتجا ( ينتج فلسفته الخاصة)، ثم تحول على يد بعض الحكماء، كالخواجة نصير الدين الطوسي، إلى علم مستهلك بعد أن استعار مقدماته العقلية وأساليبه البرهانية من الفلسفة » (سروش، القبض والبسط في الشريعة، 2010) ، يظهر الطابع الإيديولوجي في أغلب تعريفات علم الكلام، فها هو الغزالي يلبسه لباسا سنِيا مقصيا آثار وجهود كل الفرق الإسلامية باستثناء المتن الأشعري، الذي اعتبره الممثل الوحيد للجبهة السنية « إنما المقصود منه حفظ عقيدة أهل السنة وحراستها عن تشويش أهل البدعة، فقد ألقى الله إلى عباده على لسان رسوله عقيدة أهل الحق، على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم كما نطق بمعرفته القرآن والأخبار »(الغزالي أ.، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، 1988)، يظهر هذا التعريف أنه موجه بذاكرة مذهبية أشعرية، لهذا اعتبر الغزالي أن العقيدة الحقة هي المنبثقة من مورد القرآن والسنة مهملا لدور العقل « المعقولات » الذي ستتبناه المعتزلة آلة لتحصيل العقيدة الحقة، ولم يكن ابن خلدون كما مر بنا ببعيد عن التصور الايديولوجي للغزالي على عكس الفارابي « من هنا نرى أن الفارابي والإيجي قد جعلا علم الكلام يقوم على نصرة العقيدة الإسلامية دون تمييز يبن الفرق الإسلامية : فإننا نجد ابن خلدون يحصر التعريف في نصرة الاعتقادات على مذهب السلف وأهل السنة ويخرج باقي الفرق » (المغربي، 1995) ، يذهب العلامة الحلي (ت726ه) إلى أن علم الكلام هو العلم المتعلق بواجب الوجود معرفةً به وبصفاته، بعد أن أشار إلى أن شرف هذا العلم مستمد من شرف معلومه « ولما كان الغرض الأقصى من هذا الفن معرفة الله تعالى وصفاته وكيفيته أفعاله وتأثيراته، والبحث عن رسله وأوصيائهم، وأحوال النفس والمعاد، » (الحلي، 1430ه) لقد عرّف الحِلِّي الكلام بموضوعه والذي هو واجب الوجود وبغايته والتي هي المعرفة بهذا الواجب وما يتفرع عنه،.فإنتاجية المتكلم مرتبطة بتحقيق العلم بواجب الوجود وغيره مما تحدّد في التعريف، لكنه لم يخفي الطابع المذهبي في تعريفه بأنه جعل معرفة الأئمة (وأوصيائهم) من مقاصد المتكلم وغايات علم الكلام المنشودة.
لو عدنا إلى تعريف الإيجي وحتى الفارابي نجدهم يجعلون علم الكلام مشروطا بتوفر القدرة التامة لدى المتكلم والتي يسمونها في بعض الأحيان بالملكة، وهي العلم بالأدلة؛ عقلية كانت أو نقلية، وكذا أدوات الحجاج والمجادلة والحوار وأساليب اللغة وفن الخطاب الخ.، بما أنه معرفة جدلية بامتياز تهدف إلى تجلية الموقف الإيماني والانتصار له تقريرا للرأي الديني الصحيح، أمام تحديات النحل والملل الأخرى « فهم لا يكتفون بما يمكن التوصل إليه من الأدلة الشرعية المأخوذة من الكتاب والسنة، وإنما يضيفوا إلى ذلك الأدلة العقلية التي استخدموها في جدال أتباع الأديان الأخرى، ممن يدينون بعقائد أخرى مخالفة لما جاءت به العقيدة الإسلامية »(بخيت، 2014) ، وقد نجد عند التهاوني قيدا منهجيا ومعرفيا للمتكلم يجتمع فيه الدفاع والعلم بالمعتقد ( الدفاع والإنتاج) « فينطبق التعريف على العلم بجميع العقائد مع ما يتوقف عليه إثباتها من الأدلة ورد الشبه، لأن تلك القدرة على ذلك الإثبات إنما تصاحب هذا العلم..وفي اختيار إثبات العقائد على تحصيلها إشعار بأن ثمرة الكلام إثباتها على الغير، وبأن العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع ليُعتدّ بها، وإن كانت مما يستقل العقل فيه، »(التهاوني، 1996).
لهذا نجد في أغلب التعاريف أن فعل الاقتدار هو الذي يُكسبه علم الكلام لصاحبه، الذي ينبغي أن تكون له دراية وقدرة تامة وقريحة متمكنة على اكتساب هذه الصناعة النظرية بتعبير اللاهيجي « صناعة نظرية يقتدر بها على إثبات العقائد الدينية » (اللاهيجي، 1433ه) ، إلى هنا نكون قد وقفنا ولو من بعيد على تعريف بالرسم لعلم الكلام، في حين أن حقيقته تكون بتَلفُّع ثوب التجربة الكلامية والغوص في مسائله ومناهجه وقضايا وظروف نشأته وملابساتها، وإن كان التعريف الذي قدمناه « ليس تعريفا بحقيقة على طريقة « الحد الحقيقي » لدى « المناطقة » وإنما هو تعريف بالرسم فقط؛ إذ « التعريف الحقيقي » أو معرفة جوهر هذا العلم أو -أي علم آخر- إنما يتحقق بعد المعرفة التامة بمسائله وأبحاثه جميعا »(الشافعي، 2001)
يعيش المتكلم قبل الخوض في أي تجربة كلامية نوع من الالتزام والتعهد والنذر بتأمين المبادئ التصديقية ( الاعتقادات)، وهنا تكون سلطة دينية قد كفت ذاك أو هذا المتكلم صياغة المقولات الدينية، كتجهيز وتهيئة مسبقة تجعل المتكلم في مأمن من أي تحول أو عارض قد يطرأ على عقيدته المتبناة إثباتا ودفاعا، وبالتالي سلامة الإيمان المذهبي الصحيح وثبات الترسيمة العقدية وبالتالي يصبح « هذا التوصيف أو تلك التوصية كأنها تفترض مسبقا انتهاء علم الكلام من البناء الاعتقادي، ومن ثم هو يقوم أو يجب أن يقوم بتبيينه، أو إقامة الدليل عليه، أو الدفاع عنه، برد الانتقادات الموجهة إليه وهذا يستدعي أن يكون ثبوت المعتقد الديني أو المذهبي لدى العقل الكلامي أمرا مفروغا منه، ويُراد لعلم الكلام أن يعرضه أو يبرهن عنه للآخر وهذا يتطلب معرفيا أن نكون قد هيأنا ما يجهز لعلم الكلام هذه المعتقدات ليقوم بدور خدمتها »(حيدر حب الله، 2008) ، بمعنى أن المتكلم يكون قد استفاد من جلسة سماع وتلقين وتلقِّي من أئمة المذهب الذين كان لهم شرف رسم المعتقد الفرقي السليم والمعياري ( به تُعرف تقسيمات تراثية من قبيل «الفرقة الناجية» و«الفرقة الهالكة»). ثم يتوج تحصيله بالاستعانة بالعقل للاستدلال والدفاع بخلاف الفيلسوف الذي يركن إلى العقل فقط ولا يسلم بمقدمات إيمانية « وغاية الأمر، أن الإنسان يستعمل القضايا التي يأخذها من النقل في بناء نظام متكامل، ولا يتوقف في بنائه إلى أن يتمكن من معرفة البرهان على كل القضايا بالعقل فقط. »(فودة، 2009)
يذهب بعض الدارسين أن أهم أثر فقهي في ميدان الاعتقادات كان من صنيع أبي حنيفة أحد أئمة الفقهاء المجتهدين في القرن الثاني للهجرة، والذي ارتضى له تسمية « الفقه الأكبر » مقابلا « للقفه الأصغر » ( العمليات)، وذلك يعود إلى تلك الرسالة الصغيرة في أصول الدين والاعتقاد وقد روى هذه الرسالة ابنه « حماد بن ثابت الكوفي » (ت 176ه) الذي كان أدرى بمذهب أبيه « أول من استخدم مصطلح « الفقه الأكبر » للاعتقادات مقابلا « الفقه الأصغر » للعبادات، كما استخدم مصطلح « أصل التوحيد » »(النشار، د س).
ونظرا لشهرته فقد انبرى كثير من الأعلام في شرحه من داخل الحنفية وخارجها، ويصوغ لنا أحد الأحناف تعريفا لعلم الكلام من مجموع أقوال أبي حنيفة في تحديد ماهية علم الكلام وهو البياضي البسنوي (ت1097ه) « (هو الفقه الأكبر)، هو معرفة النفس عن الأدلة ما يصح لها وما يجب عليها من العقائد الدينية » (البياضي، 2007). أي معرفة التكاليف القلبية النظرية( المجردة)، ثم يردف قولا يبين فيه البسنوي سبب هذه التسمية وعلتها من الإمام باعتباره أصلا لما يليه من العلوم « وأشار إلى اسمه الدال على شرف مسماه وكونه أصلا لما سواه حيث سماه الفقه الأكبر؛ »(البياضي، 2007).
وهو ما نجده يتكرر بنفس التصور الحنفي عند العلامة الكمال بن الهمام (ت861ه) « والكلام معرفة النفس ما عليها من العقائد المنسوبة إلى دين الإسلام عن الأدلة علما وظنا في البعض منها »(الحنفي، د س). قد يتسائل القارئ كيف للظن أن يلتقي مع العلم في العقيدة؟ فالمقطوع به أن العلم هو الأصل في الاعتقاد، والمقصود به ما ثبت به الدليل القطعي كوجود الصانع وحدوث العالم، والظن ما ثبت بدليل غير قطعي وهو يجوز في فروع العقيدة لا في أصولها مثل أحاديث عذاب القبر التي تدخل في دائرة الظنيات، فيجوز أن يتقدم الظني في مقام إثباتها لأنها من فروع العقيدة لا أصولها ولا حرج ولا بأس في ذلك، أما الدليل الظني في أصول العقيدة فغير مقبول، والمسلم مطالب بتصديق الاثنين معا أصلا وفرعا « وتعيين محال وجوب العلم كمعرفته تعالى وصفاته الذاتية والظن كبعض شروط النبوة وكيفية إعادة المعدوم والسؤال في القبر من الخارج » (الحنفي، د س).
2. تحولات التعريف في العصر الحديث والهوية الوسائطية
أما في العصر الحديث فنجد المفكر الإصلاحي محمد عبده يعرف علم الكلام بالإشارة الصريحة إلى موضوعه بذكر الواجب والممتنع في إثباته ونفيه « علم يبحث فيه عن وجود الله وما يجب أن يُثبت له من صفات وما يجوز أن يوصف به وما يجب أن يُنفى عنه، وعن الرسل وما يجب أن يكون عليه وما يجوز أن يُنسب إليهم وما يُمتنع أن يُلحق بهم » (عبده، 1343ه) ، لم تظهر مهمة الدفاع هنا باستثناء الاستغراق في الدور الإثباتي والإقراري للمتكلم حيال الواجب والممكن من الموجودات ( الله كواجب الوجود وما دونه من ممكنات). لكن هذا كما ذكرنا سابقا لا يُخفي الدور الدفاعي للمتكلم الذي يتقدم دائما بحماسة الذب والمرافعة عن عقيدة التوحيد، المعرفة/ الإثبات/ والدفاع هذا هو الثالوث الذي يحكم التجربة الكلامية الإسلامية في نصرتها لدين التوحيد، فالمتكلم عارف بالحقائق الإيمانية (كتاب وسنة) وشارح لها ومثبت بالأدلة العقلية والنقلية لمضامينها وراد لشبهات ومقولات الخصوم، وهو ما يجمعه الشيخ مرتضى مطهري في تعريفه لعلم الكلام « (علم يبحث في أصول الدين الإسلامي)، ويتوخى بيان ما هو داخل في أصول الدين وما هو خارج منها : ويتعرض إلى بيان الأدلة التي يمكن من خلالها إثبات هذه الأصول ويتصدى للإجابة عن الشبهات والشكوك التي تُثار ضد هذه الأصول » (المطهري، 2009).
خاتمة
نخلص في الأخير إلى بعض النتائج منها : أن المتكلم ينطلق من مفروضات ومقدمات نقلية تشكل مجتمعة عمدة الاعتقاد الإسلامي، وباكورة كل الاجتهادات الكلامية وهي الكتاب والسنة ولا يكاد يخرج عن ذلك إلا في مقارباتٍ لا تنطلق من المرجعية الإسلامية « أوائل المباحث الكلامية وأوائل الأدلة التي يُستدل بها في أصول الدين والعقائد نجدها في القرآن الكريم وفي كلمات الرسول صلى الله عليه آله وسلم »(اللواساني، 1425ه).
- لقد تراوحت تعريفات العلماء بين مستقر على الموضوع وبين مقدم للغاية كلٌّ حسب تصوره لهذا العلم، وإيديولوجيته المتبنّاة، وكذا مميزٍ بين علم كلام ديني يشمل كل الفرق الموحدة، وبين علم كلام مذهبي فرقي موجه بذاكرة مذهبية ونِحلية خاصة، فهناك حتى من حَرَمَ كل الفرق المخالفة من الدخول تحت مضلة التجربة الكلامية كما في قول الخياط عن شيوخه المعتزلة « لتعلم أن الكلام لهم (يقصد المعتزلة) دون سواهم »(الخياط، 1925)، وعليه فإن التعريف المُستنتج من جل هذه التعريفات والذي يجمع خصائص علم الكلام الثلاث هو كالتالي « هو العلم الباحث عن العقائد الدينية اعتمادا على المنهجين العقلي والنقلي، والمسؤول عن تبيينها وتنظيمها وإثباتها استنادا إلى مصادر هذه العقائد والرد على شبهات المخالفين واعتراضاتهم » (بِرِنْجْكار، علم الكلام الإسلامي دراسة في القواعد المنهجية، 2016)، ضف إلى ذلك أن ما يُستفاد من بعض هذه التعريفات هو أن هناك علاقة بين الفقه والكلام كما أشار الفارابي في تعريفه، وهو ما يكشف عن وثيق صلة بينهما، مادام أن الفقيه ينطلق من أصول فقهية تتيح له عملية استنباط الأحكام الشرعية، وهذه الأحكام تدخل في مرمى الدفاع الكلامي، باعتبارها مقررات دينية يجب الذب عنها، وهو ما يعبر عن تكامل المعرفة الدينية « البحث الكلامي لا يختص بالأصول الاعتقادية بل يشمل أيضا المسائل الفرعية والأحكام العملية، وذلك لأن السؤال عن الأحكام الفرعية له وجهان، فقد يكون الهدف. الحصول على سند الحكم، فهذا يرجع إلى علم الفقه وقد يكون الهدف معرفة فلسفة الأحكام، فهذا على عهدة علم الكلام ، » (الكلبايكاني، 1418ه) فالتمييز بين الحق والباطل في مجال الاعتقادات هو غاية الغايات الكلامية أي : « عرض المفاهيم الاعتقادية التي يجب على المسلم أن يؤمن بها » (الترحيني، 1993) ، إلى هنا نجد أن هناك ثلاث هويات محصلة : إنتاج، دفاع، والهوية الوسطية؛ التي تجمع الانتاج بالدفاع مع أسبقية محتملة بينهما، أي بين التصور الآلي والتصور الإنتاجي اتصال وترابط وثيق لا تعارض وانفصال عميق « إذا أخذنا الهوية الوسائطية لعلم الكلام بعين الاعتبار يمكن أن نرجع التصورين الرئيسين له إلى تصور واحد شامل؛ لأن تحصيل المعرفة لا يتنافى مع الدفاع، وبين الهوية الدفاعية وهوية الإنتاج المعرفي توهم عدم انسجام وليس عدم انسجام حقيقي، وعلى هذا الأساس يمكن القول : بأن الكلام معرفة وسائطية بين الوحي ( الكتاب والسنة) وذهن ولغة المخاطبين ودوره عبارة عن تحصيل معرفة بالعقائد، وتوضيح وفهم التعاليم الدينية، وتصحيح العقائد الدينية، وإثبات تعاليم الوحي، ودفع الآراء المعارضة. »(قراملكي، الهندسة المعرفية للكلام الجديد، 2002).
.
