مقدمة
يعدّ التراث الشّعبي – بمختلف أشكاله — المعبّر الحقيقي عن هويّة الأمة والباعث لنهضتها والمحافظ على كيانها وشخصيتها الحضارية الأصيلة، فيكون بمثابة البصمة الشّخصية التي تميّزها وتعطيها خصوصية وهويّة. وتمتلك الجزائر- البلد القارة — تراثا ثقافيا ماديا ولا ماديا، متنوّعا وثريا في جميع ربوعها، ويزخر الجنوب الصحراوي الجزائري بدوره، بتراث عربي وأمازيغي ضارب في القدم بجذوره، وقد تم تداوله وتناقله بين الأجيال عن طريق الرواية الشفاهية، ولعل من أهم سمات التراث الشعبي الجزائري أنّ له ارتباطا وثيقا بجميع أبعاد الأمة الجزائرية، أي بالبعد الاسلامي والأمازيغي والعربي وكذلك البعد الأفريقي والمتوسطي، نظرا لطبيعة وخصوصية الحيّز الجغرافي الذي يتداول فيه هذا التراث، حيث إنّ كلا من التاريخ والجغرافيا أثّرا بشكل كبير على طبيعة هذا التراث شكلا ومضمونا .
وسنركز على منطقة من هذا الجنوب الصحراوي الشاسع، وتحديدا منطقة « قورارة »الواقعة في الجنوب الغربي الجزائري لنسلط الضوء على تراث لامادي يعرف محليا باسم « أهليل »، وهو من التراث الشفوي البارز في هذه المنطقة، وقد صنف هذا التراث من طرف منظمة اليونسكو عام 2005 ليصبح ضمن قائمة التراث الانساني العالمي.
من حيث المنهج، تعتمد هذه الدراسة تحليلَ محتوى موضوعيًا لمتون « أهليل قورارة » كما ترد في منشوراتٍ موثَّقة وترجماتٍ مُعلَّقة. شُكِّل المتن من مقاطع ممثِّلة اختيرت وفق حضور المحاور الدلالية الخمسة : الطقسي/التعبدي، العقدي/التعليمي، الأخلاقي، الاجتماعي/المجتمعي، والجمالي. وشملت الإجراءات تقسيمًا مقطعيًا للنصوص، وترميزًا موضوعيًا متعدد المقوِّمين وفق شبكة أكواد مُعلنة، مع استخراج شواهد نموذجية لكل محور؛ والإبلاغ عن نسبة الاتفاق بين المقوِّمين في عيِّنة فرعية. وتَرِد الإحالات الدقيقة إلى الطبعات/الصفحات والمترجمين في الهوامش وقائمة المراجع.
1. الموقع الجغرافي والتركيب السكاني لمنطقة قورارة
تقع منطقة « قورارة » في إقليم « توات » التاريخي، الذي ينتمي إداريا إلى محافظة « أدرار » بالجنوب الغربي الجزائري، وهي منطقة حضارية مهمة، لأنها كانت نقطة إشعاع ثقافي وعلمي وديني تعدّى تأثيرها إلى دول أفريقيا المجاورة، وخاصة منطقة الساحل الافريقي، فنجد مخطوطات متنوعة لعلماء من « توات » في خزائن مالي والنيجر وموريتانيا وغانا وغيرها من الدول الإفريقية المجاورة. (جعفري و أيّا، 2009، الصفحات 7-8)
وتتشكل منطقة « قورارة » من أكثر من مائة واحة تتفرع عنها مجموعة من القبائل لعل من أبرزها : تَواتْ ن-تبُو، تَاسْفَاوتْ، إغْزَرْ مَدْوارْ، أغَادْ، تَالَا، أمْزاقَارْ، بَادْرَيَانْ، بْنِي مَلُوكْ، تلالاتْ....الخ، أما القسم الجنوبي للمنطقة فأبرز قبائله نذكر منها : تَادْمَايتْ، أُوفْرَانْ، متارفا، أُورِيرْ، أدْمُورْ...الخ. وفي الحقيقة « تَوّات » اسم تاريخي يطلق على منطقة جغرافية تضم ثلاث مقاطعات هي : « توات الوسطى » و« تيكُورَارينْ » و« تِيدَكْلينْ »، وحاليا هذه المنطقة تسمى محافظة أَدْرَار تبعد عن الجزائر العاصمة حوالي 1500كلم، وتعدّ ثاني أكبر محافظة جزائرية من حيث المساحة الجغرافية بعد محافظة تمنراست، يحدها شرقا تمنراست وغرداية وغربا جمهورية موريتانيا وتندوف، أما جنوبا تمنراست وجمهورية مالي (بلحاج، 2019، صفحة 21)
تتنوّع تضاريس المنطقة بين السبخات والهضبات والأودية والعروق والحمادات، ومناخها صحراوي جاف، وتعرف المنطقة زوابع رملية شديدة تحرك كثبان الرمال ولهذا يستعمل السكان جريد النخل أو ما يسميه السكان باللهجة المحلية (آفراقْ) كستائر مقاومة تحول دون غزو الرمال لبساتينهم ومنازلهم. وقد جعل الموقع الجغرافي الاستراتيجي المنطقة تتميز بنشاط تجاري كثيفٍ للقوافل التجارية، حيث شكّلت همزة وصلٍ بين شمال أفريقيا وإقليم السودان القديم، ولعل من أبرز المحاور الأساسية للقوافل التجارية نذكر :
-
طريق السودان الغربي : الذي يربط الإقليم بمنطقة مالي وموريتانيا
-
طريق سجلماسة : ويربط الاقليم بمنطقة المغرب الأقصى
-
طريق أغدامس : ويربط الاقليم من جهة الشرق بليبيا ومصر
-
طريق قبائل الطوارق والبربر الضاربة جنوب توات
-
طريق الشمال الجزائري : يربط الإقليم بمدن الشمال مثل تلمسان ووهران وبجاية (بلحاج، 2019، صفحة 21)
وقد سمحت هذه الطرق المتعددة بالتواصل مع الشعوب الافريقية المجاورة؛ مما انعكس إيجابا على الحياة الاقتصادية والثقافية بالداخل واستفادة علماء المنطقة ورجال الدين في نشر الدين الإسلامي، ويظهر هذا الزخم الثقافي في ذلك الكم الكبير من المخطوطات، التي استطاعت أن تقاوم عوامل الزمن والظروف المناخية الصحراوية القاسية، حيث نجد بعضا من هذه المخطوطات في خزائن الزوايا وعند بعض العائلات التي توارثتها عبر الأجيال.
أما فيما يخص التركيبة السكانية للمنطقة فإنها تتشكل من عدة أعراق، تعايشت مع بعضها البعض في هذا المكان منذ زمن طويل، والثابت أن العنصر البربري(الأمازيغي) هو أول من عمّر المنطقة قبل العرب واليهود، حيث إن جلّ أسماء القصور تحمل أسماء زناتية أمازيغية، والعناصر التي تمثل التركيبة السكانية للمنطقة هي :
-
العرق الأمازيغي : التارقي والزناتي، وهم بطون عديدة ولكن ما يهم هو صنهاجة وزناتة، وتعد اللهجة الزناتية جزءا لا يتجزأ من اللغة الأمازيغية، حيث يرجع نسل الأمازيغ إلى مازيغ بن حام بن نوح عليه السلام ويعرّف الباحث عبد الرحمن الجيلالي الأمازيغ أو البربر على أنهم « مجموع سكان الشمال الافريقي من حدود واحة سيوة المتاخمة للبلاد المصرية شرقا، إلى ساحل البحر المحيط الأطلسي غربا بما فيه جزر الكناري وإلى ضفة وادي النيجر جنوبا (الجيلالي، 2009، صفحة 65)، ويعد الزناتيون من أشهر القبائل الأمازيغية في بدايات الفتح الإسلامي، كانت تعيش هذه القبائل على شكل تجمعات مستقلة عن بعضها البعض، تشترك في بعض الأحيان على شكل أحلاف قوية أثناء الحروب ضد العدو الخارجي، وأحيانا تتنازع داخليا عند زوال العدو المشترك بينها، وهذا الأمر صعّب كثيرا من مهمة الفاتحين المسلمين، ونذكر من أبرز هذه القبائل الزناتية : مَغْراوة، بنُو يَفْرَنْ، جَراوَة، إغَمْرَتْ، بَنُو عَبْدِ الوَاد، بَنُو رَاشِد، بنو مِيزَاب...الخ، وقبيلة مغراوة الزناتية هي التي استوطنت واستقرت بتوّات رفقة الطوارق من صنهاجة ومنهم البيض والسمر، فزناتة أشبه البربر بالعرب لأن أكثر موطنهم الصحراء خلافا لبقية البربر (الميلي، 1989، صفحة 208).
وقد تحدّث عبد الرحمن ابن خلدون عن هذه القبائل الزناتية ووصف نمط حياتهم حيث يقول : « ومن قبائل مطغرة أيضا بصحراء المغرب كثيرون نزلوا بقصورها، واغترسوا شجرة النخيل على طريقة العرب، فمنهم بتوات قبلة سجلماسة إلى تمنطيط آخر عمالها قوم كثيرون مواطنون مع غيرهم من أصناف البربر » (ابن خلدون، 1983، صفحة 245) -
العرق العربي : وأبرزهم قبائل« بني هلال » و« بني سليم »، هاجر العرب إلى إقليم توات مع الفتوحات الإسلامية حاملين معهم الدين، وقد تعايشوا مع السكان الأصليين وكانوا دعاةً للدين وقضاةً بين الناس، عملوا على تعليمهم مبادئ الدين الجديد وتعاليمه.
-
اليهود : قدم اليهود إلى المنطقة خلال هجرات متباينة في الزمن منها الهجرة الجماعية من الأندلس في القرن 15م على إثر المذابح الإسبانية في حق اليهود والمسلمين، استقر أكثر اليهود في منطقة تمنطيط نظرا للتسامح الكبير الذي وجدوه من المسلمين، فسُمح لهم بممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية وكذلك التجارة، ولكنهم لما تغوّلوا وطغوا وتطاولوا على المسلمين حاربهم الشيخ عبد الكريم المغيلي لما رأى خطرهم على المسلمين، وأنهى وجودهم في المنطقة (باي بلعالم، 2005، صفحة 80).
-
العرق الأفريقي : يتشكّل هؤلاء من السود والعبيد الذين جُلبوا من أسواق الرقيق الأفريقية وخاصة، من إقليم السودان القديم، وقد امتهنوا بعض الحرف الشاقة مثل الزراعة والبناء وحفر الفقاقير(آبار خاصة بالمنطقة)، وقد ازدادت أعدادهم في القرنين 12 و13 هجري بشكل ملحوظ (فرج، 1977، صفحة 23)
وعموما توطدت العلاقات بين هذه الأعراق المختلفة التي استقرت بالإقليم وتواصلت فيما بينها، واختلطت عبر الزواج والمصاهرة، واستطاع الانسان – في هذه الصحراء الشاسعة – أن يتعايش مع قساوة الطبيعة ويبتكر من الوسائل ما يساعده على التأقلم وتحسين ظروف الحياة بما جادت به الطبيعة وذكاء الإنسان الصحراوي، فاستطاع أهل المنطقة مثلا على المستوى الفلاحي والاقتصادي أن يبتكروا نظام سقي فريد من نوعه يسمى « الفقارة »، ويعمل هذا النظام على توزيع الماء للسقي بحرفية عالية دون تبذير أو تقتير بين شركاء الأرض الواحدةـ، والفقارة هي عبارة عن « نفقٍ ضيّق وشكل ثقب في الأرض يربط سلسلة من الآبار يجمع هذا الثقب المياه من ينابيع تقع في مستويات مختلفة حسب تضاريس الأرض، وتحفر في منحدر بسيط ...وتفصل بين البئر والأخرى مسافة معّينة كما تتميز البئر الأعلى عن الأدنى بانحدار بسيط يسمح بجريان الماء من خلال الأروقة الباطنية ....وتتدفق المياه من بئر إلى آخر لتنتهي بعدها في حوض استقبال يقوم بتوزيعها للسقي والاستعمال المختلف ويسمى بالعامية بالقصرية » (حوتية، 2007، صفحة 85)
وقد سمحت وفرة المياه الجوفية في هذه المنطقة على قيام الزراعة المختلفة، فإذا كانت مصر « هبة النيل » فإن منطقة توات « هبة الفقارة »، لأن أرض المنطقة قاحلة ووديانها جافة ولا تسقط فيها أمطار كثيرة، كما أن درجات الحرارة قد تصل أحيانا في فصل الصيف إلى أكثر من خمسين درجة تحت الظل، ولهذا تعد « الفقارة » هي عمارة هذه المنطقة منذ عشرات القرون، وأصبحت بساتين وواحات بعد أن كانت مجرد قفار جرداء (موساوي، 2007، صفحة 86).
ويعتمد سكان القصور على نظام العمل الجماعي، أو ما يعرف عند الجزائريين بمصطلح « التْويزَة »، في صيانة وتشييد هذه الفقارات، لأن ظروف الصحراء تفرض التآزر والتعاون للبقاء والتعايش مع الطبيعة القاسية، وقد حثّ رجال الدين والمتصوفة في الزوايا والمساجد، السكان على التشارك في مثل هذه الأعمال التي تعود بالفائدة على الجميع ويعاقب الأشخاص الذين يتخلفون – دون سبب- عن أداء واجبهم .
وقد سمح نظام السقي عن طريق الفقارات، بازدهار زراعة النخيل بمختلف أنواعها، وكذلك الخضروات إضافة إلى بعض الثمار والفواكه، فكانت القوافل التجارية التي تمر عبر منطقة « تمنطيط » نحو السودان، تأخذ السلع من هذه المنطقة، وهو الأمر الذي يشير إليه ابن خلدون في قوله : « وفواكه بلاد السودان كلها من قصور صحراء المغرب مثل توات وتكورارين ووركلان » (ابن خلدون، 1983، صفحة 405)
أما بالنسبة إلى العمران وطبيعة تشييد المساكن، فقد استخدمت مواد طبيعية مختلفة مثل : الطين والطوب وجذوع وسعف النخيل بما يتناسب مع مناخ المنطقة الحار جدا، حيث بنى السكان منازل تعرف محليا باسم « القْصُورْ » تحافظ على درجة حرارة معتدلة في فصل الصيف الحار وتكون دافئة في فصل الشتاء، وصمّمت للقصور نوافذ وأبواب بشكل يحميها من العواصف الرملية العاتية في هذه المنطقة، وعموما هناك جملة من الخصوصيات والسمات التي تميّز طريقة بناء هذه القصور، والتي تدل على نظرة استراتيجية وذكاء عميق لإنسان هذه المنطقة الصحراوية، ويمكن اختصارها في النقاط التالية :
-
شيّدت القصور بالقرب من المجاري المائية (الفقارات)، وداخلها توجد آبار ارتوازية يمكن الرجوع إليها كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
-
تمتاز القصور بخاصيتها الدفاعية ضد العدو، كما أنها مبنية من مادة الطين؛ مما جعلها توفّر داخل القصر، جوّا لطيفا في الصيف ودافئا في الشتاء.
-
بنيت وفق هندسة تسمح بمواجهة الزوابع الرملية القوية (حوتية، 2007، صفحة 427)
وطبعا في ظل هذه البيئة الصحراوية القاسية والأعمال الشاقة التي تستدعيها زراعة البساتين وتشييد المساكن والآبار...الخ، كان لابد على الإنسان القوراري(نسبة إلى منطقة قورارة) أن يلجأ إلى بعض الفنون للتسلية والترويح عن النفس في أوقات الفراغ، ويعد فن « أهليل » من أبرز وأشهر الفنون الشعبية المنتشرة في هذه المنطقة فيتشارك السكان في أدائه في الليل لنسيان تعب النهار، حيث يجمع بين الغناء والرقص والموسيقى فما هو فن أهليل؟
2. في تحديد مفهوم أهليل وأصل التسمية
لا تشير المصادر المتوفرة إلى تفسير واحد لمفهوم « أهليل » نظرا إلى عدم وجود سند مرجعي واضح؛ مما فسح المجال أمام اجتهادات الباحثين والمهتمين بهذا الفن الشعبي، وقد وجدنا بعض تعليلات ومعاني هذه التسمية نذكر منها :
-
كلمة « أهليل » مشتقة من عبارة « أهل الليل » : وتعني أصحاب الليل؛ باعتبار أن هذه الأشعار كانت تؤدى ليلا في القديم، حيث كان غناء أهليل مرتبطا بالتناوب على الحراسة من هجوم الأعداء المباغت، ويستعمل أيضا وسيلة لإعلام الأعداء أن الحراسة مشددة وقائمة طوال الليل، ولما نأتي إلى الفعل » هلّل، يهلل، تهليلا والمصدر : التهليل، والهلال : القمر في أوله، والإهلال رفع الصوت عند رؤية الهلال، نلحظ أن هناك معنى الابتداء أو الاستهلال بذكر الله سبحانه تعالى (بن خالد، 2017، الصفحات 40 — 41)
-
أهليل تنبثق من التهليل والتوحيد : أي قول : « لا إله إلا الله » مثلما أن البسملة تعني : « بسم الله الرحمن الرحيم »، والحوقلة تعني : « لا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم »...الخ، على أساس أن الطابع الغالب والأساسي لهذه الأشعار هو الطابع الروحي والديني ومعظم القصائد – حتى ولو كانت غزلية — فإنها تستهلّ بالحمد والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلّم (جعفري أ.، 2014، صفحة 394)
وانطلاقا مما سبق نقول : بأن فن أهليل هو مجموعة من الأغاني الخاصة بمنطة قورارة تتسم بأسلوب احتفالي وتقام في أماكن عامة، وليلا على وجه الخصوص بمناسبة السبوع (أسبوع المولد النبوي الشريف) وزيارة بعض الأولياء الصالحين، ومنه نستخلص أن أهم سمات أهليل هي :
-
طابع فولكلوري خاص بمنطقة قورارة بالجنوب الغربي الجزائري
-
طابع موسيقي وغنائي خاص بما أنه أشعار مغناة تصاحبها حركات إيقاعية وطقوس موسيقية معينة
-
يؤدى بلغة زناتية أمازيغية مختلطة باللغة العربية
-
مشبع بالقيم الاسلامية والطابع الصوفي
-
يؤدى بشكل جماعي (فرق ذكورية أو نسائية أو مختلطة )
ويعد الباحث الجزائري مولود معمري من أبرز الدارسين الذين كان لهم الفضل الكبير والخير العميم في تسليط الضوء على تراث أهليل الصحراوي، حيث كان مديرا لمركز البحوث الأنثروبولوجية وعصور ما قبل التاريخ والأثنوغرافيا من سنة 1969 إلى غاية سنة 1984، وكان مهتما باللسانيات والتراث الشفاهي الأمازيغي، وقد اكتشف مولود معمري منطقة قورارة وتراثها الغني المجهول، فعمل على تأسيس فرقة من الباحثين من مختلف التخصصات في مركز البحث الذي يديره حتى تقوم بدراسة أهليل قورارة، وتنقل معمري بين قصور قورارة في الصحراء الجزائرية مابين سنوات 1971و 1978 حيث تمكّن من الالتقاء بمجموعة من أشراف أهليل فأملوا عليه أشعارهم، وكان يسجلها ويترجمها بكل شغف وحب بعد أن أتقن اللهجة الزناتية للمنطقة خلال فترة إقامته بينهم (معمري، 2014، الصفحات 15 — 16)
وقد سبق لمولود معمري أن قام بأبحاث ودراسات لسانية وأنثروبولوجية حول التراث الشفاهي الأمازيغي واللغة الأمازيغية التي كانت تشكّل هاجسا معرفيا بالنسبة إليه، لأنها ثقافة وهويّة وانتماء فيها حميمية لا توفرها أي لغة أخرى حتى وإن اضطررنا إلى توظيف لغات أخرى، حيث يقول في إحدى حواراته : « ثقافتي، لغتي هما فعلا الأمازيغية وأنا متعلق بهما تعلقا خاصا، لأنني أومن بأنهما يصلحان لتعريفي، إنها ذاتي، بشكل أو بآخر. أعتقد أن أي ثقافة لا تكون حقيقية إلا إذا كانت مستنبطة، يمكنكم اكتساب أي ثقافة تأتيكم من الخارج وأقول أنه من المفيد اكتساب أكبر قدر ممكن من الثقافات، لكن ستنقصها دائما ثابتة، إنها بحق ثابتة الحميمية والصفاء » (Mammeri M.، Langues et langages d’Algérie، 1985، صفحة 31)
لقد ساعدت الباحث معمري في بحثه الميداني، الصداقات التي استطاع تكوينها في مجتمع أهليل مع السكان ولعل من أبرز هؤلاء دليله « مولاي صديق سليمان » الذي رافقه في رحلته عبر قصور قورارة مما سهل كثيرا من مهمته العلمية وسمح له بالغوص في أعماق مجتمع قورارة وجمع عدد مهم من القصائد المغناة، وبالرغم من كونه ليس من أبناء المنطقة إلا أنه استطاع، ببساطته وتواضعه وإنسانيته ودماثة خلقه، أن يكسب ودّ و ثقة سكان القصور، حيث شاركهم أوجه حياتهم المختلفة، وكوّن علاقات إنسانية معهم، فكانوا يلقبونه (بالدَّا المُولُودْ) وهو لقب يطلق دلالة على التبجيل والاحترام للشخص في اللغة الأمازيغية (بليل، 2008، صفحة 15) ورغم الجهد الكبير الذي بذله مولود معمري، بكل إخلاص وتفانٍ، إلا أنه يعترف بأن الجزء الذي قد جمعه يبقى ضئيلا جدا ومحدودا بالمقارنة مع ما أنتجه هؤلاء المغنون الذين يؤدون أهليل، فقد كان مقتنعا بالقيمة الفنية والأدبية لهذا الشعر، وصدرت أول طبعة لكتاب مولود معمري عام 1984 بفرنسا تحت عنوان :L’أهليل du قورارة ثم أعيد طبعه بالجزائر عام 2003 ليحظى بتتويج اليونسكو، التي أعلنت عام 2005 أهليل تراثا إنسانيا عالميا.
كان الهدف الأساسي للباحث الجزائري مولود معمري تدوين أكبر عدد ممكن من نصوص هذا الشعر حتى يحفظه من الضياع والاندثار، فانبرى لجمعه وتدوينه من خلال عملية مسح ميدانية مكثفّة لمنطقة قورارة من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، وقد خرج بخلاصة عامة أنّ شعر أهليل « نوع وطني للقورارة وهو نوع مسموع للغاية، لكنه يتميّز بميزات الشعر القويّ » (Mammeri M.، 1987، صفحة 55)
يضع معمري تعريفا عاما لفن أهليل على أنه « مظهر موسيقي وأدبي في آن واحد، ومشهد مسرحي دنيوي وفي الوقت نفسه احتفال ديني تقريبا »( (Mammeri M.، 2003، صفحة 17)، حيث يشمل فن أهليل الأدب والموسيقى والحفل الراقص، إذن هو فن مركب له جانب شعري قولي وجانب موسيقي، ورقص وحركات، وتصحبه طقوس في الممارسة حيث يرتدي المشاركون فيه زيا خاصا فيلبس الرجال ما يسمى باللهجة المحلية« تْشَامِيرْ » وهو عبارة عن عباءة عريضة وحايك من الصوف يبلغ طوله ثمانية أمتار ومناديل خضراء أو حمراء، كما يحمل المشاركون في أهليل حقائب جلدية صغيرة مخصصة للحشيش والكبريت، وترتدي النساء حايكا يسمى « تَافِيلَاليثْ » تشددنه بظفائر على عنقهن وسواعدهن (Mammeri M.، 2003، الصفحات 25 — 28)
ويعد اللباس جزءًا مهما وأساسيا في طقوس أداء أهليل، فلا يمكن تقديمه بأي لباس لأنها تجربة مختلفة تتم بشكل جماعي، وفي إطار معيّن، حيث إن أهليل فن جماعي لا يغنّى بشكل فردي، وتملك هذه الفرقة مغنيا هو قائد الفرقة أو القوّال يسمى باللهجة المحلية « أَبْشِينُو » وهي تردد الغناء بعده؛ مما يتطلب انسجاما وتنسيقا كبيرين بمرافقة عازف الناي والضارب على الإيقاع، حيث يشكّل المغنون حلقة جنبا إلى جنب وكتفا إلى كتف يؤدون أغانيهم بمرافقة الحركات والتصفيقات بطريقة تتوافق مع الإيقاع ويرددون بين الحين والآخر المقطوعة الشعرية المطلوبة، وعادة ما يمارس هذا النوع من الغناء ليلا بعد إنهاء العمل المتعب في البساتين ويشتهر بهذا الفن الزناتيون بشكل خاص، ويُلاحظ أن هناك تزاوجًا بين الإيقاع الإفريقي والكلمة الزناتية والعربية. (حوتية، 2007، صفحة 402)
إنّ تعلّم فن أهليل يتطلب وقتا واستعدادا، حيث يتم عبر طقوس تعليمية فينتقل التلميذ إلى رتبة معلم بعد أن يتلقى شفويا الفن الشعري القوراري من معلمه، مع تلقينه جملة من الطرائق والأسرار لدعم النبرة الصوتية والمحافظة عليها مع طول النفس، فهو فن ينتقل عبر الأجيال ويتعلم وفق أصوله عبر تمارين صوتية وإيقاعية متوارثة أبا عن جد، ومع طول الممارسة يكتسب التلاميذ الجدد الخبرة ويتحكمون في تقنيات أداء فن أهليل.
يقسم فن أهليل إلى نوعين :
-
أهليل : ويقصد به النوع الرفيع من أهليل وهو خاص بالرجال، رغم تصريحات بعض المرشدين بالطابع المختلط (نساء/رجال) القديم للأهليل ولكن ميدانيا، يصرح معمري أنه لم يلاحظ إلا في حالات استثنائية، مشاركة عجوز أو اثنتين في حلقة من حلقات أهليل، ويُؤدى هذا النوع من أهليل في المناسبات الدينية مثل أسبوع المولد النبوي الشريف وقوفا في الهواء الطلق ولهذا يسمي (أهليل الواقف أو بلغة أهل المنطقة أهليلْ انْبدَادْ) ويتواصل حتى الصباح .
-
تَاقْرَابتْ : نوع من أهليل العائلي الحميمي يمارس داخل المنازل ويختص بالحفلات العائلية، تشارك فيه النساء ويؤدى جلوسا، لا يتطلب لباسا خاصا ولا آلات موسيقية خاصة، ويبدو أن هذا النوع من أهليل خاص بالنساء ومما يدل على ذلك، وجود رواية شفاهية متداولة بين السكان تقول بأن أحد الأولياء ارتدى لباسا طويلا ودخل حضرة النساء ليشاركهن الاحتفال وسط قهقهاتهن، ولما علم والده بالأمر أخذ عصا لمعاقبته ولكن تدخل ولي آخر منعه من ضرب ولده؛ مما سمح منذ ذلك الوقت بمشاركة الرجال والنساء في هذا النوع من أهليل.
ويشكّل المشاركون في أهليل الوقوف حلقة دائرية الكتف للكتف، ويميل المشاركون يمينا وشمالا في حركات منسّقة، ويتوسط الحلقة قائد الفرقة أو منشدها وإلى جانبه يقف عازف الناي، ضارب الإيقاع، وتنظم حلقة أهليل حسب المراحل التالية :
-
بداية الجلسة : تتضمن مجموعة خاصة من القصائد تفتتح بها السهرة، ومضمون هذه القصائد يتعلق بذكر الله تعالى ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم وبرّ الوالدين والأولياء الصالحين، والهدف منها تعليم الناس مبادئ الدين الاسلامي.
-
الشروع في الجلسة : تشرع المجموعة في التصفيق وترديد جمل وكلمات معيّنة، فيتناوب المنشد والمرددون المهمة بالتناوب مرة بعد مرة، حيث ينشد القائد والباقي يرددون جماعيا اللازمات ولا مجال لعلامات الصمت لأن الموسيقى ستملؤها.
-
مرحلة بداية نهاية الجلسة : وتكون بانضمام المنشد للفرقة في الغناء عن طريق غنائه لنفس الجملة واللحن نفسه إعلانا عن بداية الانتهاء من أهليل، فقسم من المرددين يغني الجملة القصيرة (الله الله) في الطبقات الغليظة دون توقف وبسرعة أكب، في حين يأخذ القسم المتبقي في ترديد جملة أخرى مكمّلة للجملة السابقة هي (يا مولانا يا مولانا)
-
مرحلة إعلان نهاية الجلسة : تنتهي الجلسة برفع المنشد صوته بقول (الله أو النبي)، وهكذا فمثلما ابتدأ الإنشاد بذكر الله والنبي ينهيها بالذكر أيضا، ثم يرفع المنشد يديه إلى أعلى في شكل المتضرّع إلى الله ثم ينزلهما بتصفيقة قوية حينها يتوقف الجميع فجأة عن الغناء والحركات الراقصة.
أما فيما يخص أهليل تقرابت فمراحله الغنائية مثل أهليل الوقوف غير أنها تؤدى جلوسا وبنغم خفيف وسريع، ويرتبط هذا أهليل ببعض المناسبات العائلية والحفلات كالزواج وغيرها.
3. احتفالية « السْبوعْ » أو الأسبوع في المنطقة
تعد ظاهرة أو احتفالية« السْبُوعْ » الخاصة بالمولد النبوي مناسبة دينية مهمة في المنطقة يمارس خلالها الأهالي جملة من الطقوس والتظاهرات من بينها فن أهليل، وترتبط الاحتفالية بالتوجه نجو زيارة زاوية سيدي الحاج بلقاسم، وتقول الروايات الشفاهية في منطقة قورارة، أن التأسيس لاحتفال السبوع كان على يد الولي « سيدي الحاج بلقاسم » بعد زيارته للبقاع المقدسة لأداء فريضة الحج مع بعض أصحابه، حيث لما ألقوا السلام على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ردّ عليهم السلام فاندهشوا من الأمر، واعتقد كل واحد منهم أنه هو المقصود بالرد، ولهذا قرّروا أن يعيدوا إلقاء السلام فرادى، ولما جاء دور الحاج بلقاسم قال : السلام عليك يا حبيبي ويا شفيعي يارسول الله، فرد عليه الرسول الكريم قائلا : وعليك السلام يا حبيبي بلقاسم . وبعد هذه الحادثة قرر الحاج بلقاسم عند عودته إلى بلدته الاحتفال الموسم القادم بذكرى أسبوع المولد النبوي الشريف وتكريم الرسول مع إبداء كل مظاهر التبجيل والحب له، فقام بجمع مشايخ الطرق الصوفية التي كانت تعج بهم المنطقة وهكذا بدأت احتفالات السبوع (عبد العزيز، سيدي، 1985، صفحة 37) وقد تواصلت هذه الاحتفالات والتقاليد مع أولاد وأحفاد هؤلاء الصوفيين في موعد سنوي متجدد تتخلله العديد من الشعائر والمراسم والطقوس، يلتقي فيها الزوار من كل المنطقة وحتى من المناطق الأخرى، بعد أن أخذ هذا الاحتفال بعدا وطنيا وحتى عالميا، إذ يتوافد بعض السياح لحضور فعاليات هذه التظاهرة .
ولعل أهم ما يميز هذه التظاهرات هو اللباس الأبيض للحضور المتمثل في العباءات البيضاء، وهو زي المنطقة التقليدي يلبس في المناسبات الدينية، والذي يرمز من خلال بياضه إلى السلام والطهارة والنقاء وهو اللون نفسه الذي تلوّن به الأضرحة في ما يسمى بالعامية(التَجْيَارْ) المأخوذة من كلمة الجير(وهي المادة التي تخلط بالماء وتستعمل في صبغ الأضرحة، وتتميز هذه المادة ببياضها الناصع)، أما الرايات أو الأعلام التي يرفعها ممثلو كل منطقة أو ولي فمعظمها خضراء يحوي بعضها النجمة والهلال أو جملة « لاإله إلا الله محمد رسول الله » أو بعض الآيات القرآنية، وهي رموز إسلامية واضحة كما أن اللون الأخضر يرتبط بالجنة. وتمتد احتفالية « السْبوع » لأسبوع كامل يتم فيها إطعام الزائرين وترديد الأمداح والإنشاد والأذكار الدينية .
4. مضامين أشعار أهليل
1.4. عرض تحليليّ لمضامين أشعار أهليل
إنّ قصائد أهليل لا تأخذ كل أبعادها إلا وهي تؤدى أمام جمهور مستمع، ولهذا فإننا لا نستطيع أن نختزل قيمتها الجمالية — بأي حال من الأحوال — في مجرد مضمون لغوي صرف لأنها ظاهرة فرجوية تعتمد على الإيقاع والأداء والغناء، وبهذا لا يكون التركيز على جانب اللغة فقط بل يشمل معطيات أخرى تتعلق بكل ما يرافق عملية الإنشاد من حركات وإيماءات بالإضافة إلى التنغيم والتنبير والسجع...الخ، وكل المظاهر الجمالية الأخرى التي تعمل على جذب الانتباه وإثارة الأحاسيس والمشاعر مما يخلق لحظة شعرية فريدة بين المؤدين والمستمعين. ومن هنا يمكننا اعتبار الحركات والإيماءات ...الخ، بمثابة مكونات بلاغية في بنية خطاب أهليل لا تسعها الكتابة، وكذلك استعماله للرموز غير اللفظية المتعلقة بالمظهر والحركة واللمس واستخدام المكان واستخدام الزمان .
وهناك – على العموم — ثلاثة مواضيع أو تيمات مسيطرة في أشعار أهليل هي الدين والحب والحياة اليومية، وطبعا فإن الدين هو المسيطر على هذه النصوص، ولكن نجد تزاوجا وانسجاما بين المواضيع الدينية والمواضيع الدنيوية أحيانا، في النص الشعري الواحد، ويرجع بعض الدارسين سيطرة المواضيع الدينية إلى الدعاة الذين قدموا المنطقة في نهاية القرن 15م، حيث كانوا مصبوغين بالطابع المتشدد الذي اكتسبوه من مواجهاتهم للحملات الصليبية البرتغالية والاسبانية بشمال أفريقيا، فعملوا على إحداث بعض التغييرات في محتوى نصوص أهليل نحو الاتجاه الديني؛ مما يفسّر الغنى الشديد الذي تتميز به نصوص أهليل بالعبارات والمصطلحات الدينية و القرآنية (معمري، 2014، صفحة 45)
إذن ترتبط أبرز مضامين أهليل بالغرض الديني والروحي، فلا تكاد تخلو قصيدة منه حيث تكون البداية بالتصلية والتسليم على النبي (صلى الله عليه وسلم) والأولياء الصالحين، وكذلك اختتام القصيدة وكأنها حركة دائرية تنتهي مثلما بدأت، حيث إن شعر أهليل ذو صبغة مقدسة عند أهل المنطقة، وقد وظف لتعليم الدين والمبادئ الاسلامية، حيث استخدمت اللغة الزناتية التي يتكلمها السكان الأصليين للمنطقة، وبحكم جهل هؤلاء السكان باللغة العربية استعمل رجال الدين طريقة الإنشاد والألحان بقصائد أهليل مع جعل مواضيعها تتعلق بالدين الإسلامي وحث الناس على التسبيح والذكر في طابع فولكوري يجذب السامع، ويسهّل عليه حفظها وتداولها، ولنأخذ مثالا على ذلك مقاطع من قصيدة تحمل عنوان « الغنّي » مع ملاحظة أننا أوردنا القصائد مترجمة إلى اللغة العربية الفصحى وليس بلغتها الزناتية الأصلية؛ مما سيؤثر كثيرا على جمالياتها الإيقاعية والموسيقية كما هو معروف فيما يخص ترجمة الشعر :
الغنّي
لاإله إلا الله
من هو الواحد؟
الوحيد إلا الله
من هم الاثنين؟
آدم وحواء
من هم الثلاثة؟
ثلاثة أهل الرضا
من هم الأربعة؟
أربعة كتب
من هم الخمسة؟
خمس صلوات
من هم الستة؟
ستة أيام
من هم السبعة؟
سبع سموات
من هم الثمانية؟
ثمانية حاملي العرش
من هم التسعة؟
تسعة « رهوط »
من هم العشرة؟
عشرة أصحاب الرسول
من هم الإحدى عشرة؟
حدى عشرة إخوة يوسف
من هم الإثنى عشرة؟
اثنتى عشرة شهرا (معمري، 2014، صفحة 246)
يبدو الغرض التعليمي واضحا في هذه القصيدة عبر تقنية السؤال والجواب، ولكن بأسلوب إيقاعي غنائي يسهل حفظه وتداوله بين السكان المحليين لأنه جاء في قالب فولكلوري معروف عندهم منذ قرون، فيكون استقباله إيجابيا لأن ذائقتهم الموسيقية الموروثة قد ألفت هذا الإيقاع وتعوّدت عليه .
ولعل من أهم خصائص الخطاب الشعبي – بصفة عامة — أنه يخلق مستمعين جدد في كل حقبة وبالتالي فلكل عصر وزمن تلقيه، كما أن لكل (مستمع /راوي) قراءته الخاصة، وهذه القراءة لا تأتي من فراغ، بل هي دائما تعتمد على مخزون ثقافي وفكري مرجعي يكتسبه القارئ من خلال النصوص السابقة، بالإضافة إلى جملة من المعايير الاجتماعية والتاريخية والثقافية التي يحملها القارئ كمعارف ضرورية أثناء القراءة (آيت أوشان، 2009، الصفحات 47-48)
ولهذا نستطيع أن نقول : إنه لا وجود للنص النهائي الأصيل في الخطاب الشعبي، لأن طبيعته الخاصة تفترض عدة صعوبات ومشكلات إذا حاولنا تدوينه وتحويله إلى أيقونة لفظية، فارتباط هذا الأدب بالرواة والرواية الشفاهية أساسا كانت وراء التغيير الذي يكون قد طرأ على بعض عناصره، فكل جيل « يختار من التراث الشعبي (الشفاهي) ما يلائمه، ويخدم أغراضه، ويترك كل ما يراه غير مهّم لزمانه، مهما كانت أهميته الفنية » (آيت أوشان، 2009، الصفحات 47-48)، وهذا الاختيار يتم عن طريق تلقٍ معيّن له علاقة بأذواق المستمعين ورغباتهم الفنية وتقاليدهم الجمالية، وهذا الأمر هو الذي جعل رجال الدين يميلون إلى اختيار الإيقاعات الفولكلورية للأهليل مع إعادة تكييف المضامين لترضي أذواق المتلقين وتحقق أهدافهم الاستراتيجية الأساسية.
وتبرز بشكل خاص، المواضيع الصوفية وسير الصحابة والأولياء وكذلك الغناء الصوفي المرتبط بالطرق الصوفية السائدة في المنطقة ومن أبرزها : القادرية، التجانية، الشاذلية ...الخ، ويرد ذكر الاستدلالات القرآنية والأولياء الصالحين المحليين أو المشهورين من أمثال : عبد القادر الجيلاني، مولاي إدريس، مولاي طيب، سيدي اعمر...الخ، كما يغلب الطابع التصوفي الوجداني من خلال تعظيم الله تعالى والحب المحمدي وإبراز العلاقة بين العبد وربه التي تتجلى في العشق الالهي والعشق المحمدي، فتكثر الأشعار في مدح الرسول الكريم وذكر خصاله وأسمائه وصفاته وأيضا يتم التوسل به وطلب رشفاعته، وشفاعة الأنبياء والصحابة والأولياء الصالحين، الذين يحتلون مكانة كبيرة في نفوس الناس، لأنهم من الشرفاء الذين لهم نسب ينتهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم . تقول إحدى القصائد المترجمة عن اللغة الزناتية :
صلى الله عليك ياسيدنا
محمد نبينا
بسم الله نردد
لا إله إلا الله، ربي
سبحانه
حي لا يموت
م يخلق شيئ دائم
غيره
الله العزيز
إن أخطأت، أتوب إليك
فاغفر لي
إن الله والرسول دوما على لساني
أسامحك يارسول الله
حتى وإن تسببت في موتي
إنك تفزعني
في الليل، متى ملك الموت
يحضر
ليأخذ روحه
يقول الرسول :« فاطمة »
بنتي، حبيبتي
افتحي للرسول
القادم
مرحبا برسالتك، يا ربي
إنها رسالة ولن أرفضها أبدا (معمري، 2014، الصفحات 57-58)
ونجد الشاعر في قصيدة أخرى يتوسل ببنت النبي صلى الله عليه وسلم، وبوالدها وبالأنبياء والصالحين حيث يقول :
بنت النبي، سيدتي ومولاتي
إن شاء الله سأكون من جيرانك
وإلى جانبك يا رسول الله
في جنة الفردوس
أين ستكون أيضا هناك بنت الرسول
والحسن والحسين وجميع الأنبياء
وأنت يا رسول الله شفيعنا
ستسبقنا
صاعدا على البوراق، وأنت مكسو بغطاء أخضر،
أدعوك، يا رسول الله، بالنور
وعيسى ونوح، أن تستجيب لي،
بجميع الأنبياء
سأزور سيدي عثمان،
ومولاي الطيب (معمري، 2014، صفحة 73)
ويظهر التوسّل بالأولياء الصالحين في أشعار أهليل بشكل واضح، فالمنطقة تعج بالزوايا التي أدت دورا مهما في التعليم الديني للسكان والحفاظ على هويتهم وعاداتهم وسلوكياتهم، ولهذا نجد احتراما كبيرا للأولياء والصالحين في المنطقة، حيث تقام لهم الزيارات وتوزع الولائم للزائرين من مختلف الأماكن. ونجد في إحدى قصائد أهليل تكريما للولي « سيدي عبد القادر الجيلاني » والذي ينطق عند الجزائريين اسمه « عبد القادر الجيلالي » تقول في أبياتها الأولى :
سيدي الجيلالي
المجد له،
مولاي بغداد
أنعم الله عليه بنعمته
لقد أظهر قداسته
وبيّن فضائله (معمري، 2014، صفحة 80)
ثم يواصل مصليا على الرسول الكريم والخلفاء الراشدين ويضيف إليهم اسم سيدي الجيلالي؛ مما يدل على المكانة الكبيرة التي يحظى بها هذا الولي، ليس في هذه المنطقة فحسب، بل في الجزائر كلها من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، حيث ينتشر اسم الجيلالي بين أوساط الجزائريين تقديسا لاسم هذا الولي :
بسم الله بدأت،
أقوله وأعيده،
صليت على النبي
هو وأصحابه
أبو بكر وعمر،
عثمان الصديق
سيدي الجيلالي
المجد له (معمري، 2014، صفحة 80)
واستعمل العبيد أيضا فن أهليل للتعبير عن بعض مشاعرهم وقضاياهم، فقد كانت الأملاك والبساتين ملكا للشرفاء والمرابطين والأعيان أما العبيد الذين يطلق عليهم اسم « الحَرَاطينْ » فكانوا يشتغلون عندهم كفلاحين ولهذا نجدهم يتمثلون شخصية الصحابي الجليل الأسود البشرة « بلال بن رباح » فيجعلونه حاملا لراية الرسول صلى الله عليه وسلم نحو الجنة نتيجة لصبره وإيمانه العميق، حيث تقول المقطوعة :
صلى الله عليك ياسيدنا
محمد نبينا
بسم الله نردّد
لاإله إلا الله، ربي
سبحانه
حي لايموت
ثم يواصل الشاعر قائلا :
رايات الرسول
ستتجه أمامنا
غدا نحو الجنّة
فمن سيحملها؟
سيدنا بلال
هل بإمكاني أن أتبعهم
ياكنزي وعنايتي
مولاي طيب (معمري، 2014، الصفحات 57-58)
وحتى بالنسبة إلى بعض الأغراض الأخرى مثل المواضيع العشقية والغزلية فالافتتاحية والاستهلال دائما يكون طابعها دينيا، فمهما كان موضوع النص إلا أن التصليات والتعظيم لله طقس ضروري قبل الدخول إلى الموضوع الذي يريده الشاعر، نأخذ مثالا على ذلك المقطع التالي من قصيدة غزلية :
بسم الله يارسول
قلبي مليء بالانشراح
بعدما أزلت أيها النبي الأتراح
قلت لحبيبتي لقد أعميتني
من السكر والعسل
فنهضت وتركتني
ولكنها عادت
إنها تنتظر
لكني لست حبيبا لها
اذهبي واتركيني
رغم أنني ما زلت مرتبا بحبيبتي
وكل ما أعطيتك إياه
سيكون ثقيلا على قلبك
لازلت عاشقا لك
وسأظل أتبعك إلى مابعد الممات (Mammeri M.، 2003، صفحة 261)
وتقول مقطوعة أخرى :
الصلاة على
الهادي محمد
قمت بالمستحيل
لأقهر قلبي،
الذي عذّبته الفتاة السمراء
من له أعداء كثيرون
فإنه يتغذى بالكلمات
ثم يواصل الشاعر قائلا :
يا للأسف !
ويلك، ويلي !
عندما أكون مع أحد
أظن أنه يحبني
لسانه وفمه فقط
لطيفون
مرارة الحب
هو حب من لا يستحق (معمري، 2014، الصفحات 86-87)
أما بالنسبة إلى بعض الموضوعات التي تتعلق بالحياة اليومية فنجدهم يتحدثون عن عصب الحياة في الصحراء ألا وهو الفقارات التي بدونها لن تكون حياة أو زراعة في هذه المنطقة الصحراوية الجافة، حيث تستهل القصيدة بالدعاء إلى الله ليكون في العون والمساعدة :
ربي كن في عوني،
مثلما اعتنيت بالسحاب
الذي يحمل الماء
من وسط البحار
من الغرب إلى الشرق،
ويصبّها على الجبال
يسمح لأشواك الدبق بالنموّ
ولجلد العضاية بالحياة
وكذا لأسماك الرّمال بالبقاء
ويواصل قائلا :
ياربي، ارحمني،
وارحم أهل هذا الزمان
الذين بنوا كل هذا
ووزعوا الماء من الأبيار
سدوا القنوات
شيّدوا الأحواض
وغرسوا الأشجار (معمري، 2014، الصفحات 86-87)
وعلى العموم فإن مجمل قصائد أهليل في موضوعاتها ومضامينها تعكس ثقافة العصر السائدة والأجواء الدينية والصوفية التي تتميز بها منطقة قورارة، ولهذا أخذ المديح النبوي والجانب الصوفي الروحي الذي يبرز علاقة العبد بربه حصة الأسد في هذه الأغاني التي اكتسبت صبغة روحية مقدسة عند أهل المنطقة، وطريقة أدائه عبر الحلقة ترمز إلى التعاون والتآزر بين الجماعة والحفاظ على الروابط المتينة التي تشد الفرد إلى جماعته.
نخلص إلى أن أهليل فن قائم منذ القرون الماضية، وقد تبّنى وظائف وأشكال جديدة عبر العصور، وما يزال يؤدي دورا مهما في الحياة الاجتماعية اليومية المحلية للناس، وإن استمرار فن أهليل يرجع أولا إلى تشبث أهل قورارة بهذا التراث وجعله هوّية لهم خاصة، وأنه يقترن بلغتهم الأصلية الزناتية.
ونستطيع أن نقول في الأخير : إنّ الإرث الثقافي الشعبي الجزائري – بكل تنوعاته وجغرافية تواجده- يشكّل ثروة وطنية يحق للجزائر أن تباهي وتفخر به لأنه متنوع وغني في أشكاله ولغات إنتاجه، نظرا للمساحة الجغرافية الكبيرة للجزائر، ويبقى هذا التراث هو الجزء الأكثر فعّالية في تكوين هويتنا الثقافية، من خلاله استطعنا أن نحافظ على كياننا رغم تعرض بلاد الجزائر إلى الكثير من الحملات الاستعمارية ومحاولة الإخضاع، وسيكون لهذا التراث أيضا الدور الفعّال والحاسم في المستقبل في الحفاظ على الهوية الوطنية الجزائرية.
2.4. النتائج : توزيع التيمات (جدول 1) وخريطة الترابط (شكل 1)
أبرزت التحليلات مركزيةَ الثناء والحثّ الأخلاقي، ووظيفةَ التماسك التي تحققها الجماعيةُ الصوتيةُ والتناوبُ الإنشادي، إلى جانب بناءِ معرفةٍ دينيةٍ يوميةٍ عبر آليات التكرار–التغاير. وتتوزع التيمات الكبرى على خمسة محاور مترابطة : الطقسي/التعبدي، العقدي/التعليمي، القيمي/الأخلاقي، الاجتماعي/المجتمعي، والجمالي.
تظهر في المتن بنى أدائية ثابتة (النداء/التلبية، الأنفورات، الدوريات الإيقاعية) تتيح ترسيخ الرسالة الأخلاقية وتذويب الفواصل بين المؤدي والمتلقي عبر آليات الاستجابة الجماعية. وتدلّ مؤشرات الحضور النوعية على غلبة محوري الثناء/التعبُّد والحثّ الأخلاقي، مع اقترانٍ وثيق بالمحور الاجتماعي/المجتمعي، فيما يحضر البعد الجمالي بوصفه حاملاً إيقاعياً يشرعن الانتقال بين المقاطع ويُيسّر الاكتساب التذكّري.
ويُبيّن الجدول الآتي توزيع التيمات المؤشّر عليها تمثيلياً بمقتطفات قصيرة (تستبدَل لاحقاً بمقتطفات موثّقة الصفحات)، إلى جانب ملاحظات تحليلية موجزة :
جدول 1 — توزيع التيمات ومؤشر الحضور مع أمثلة تمثيلية (تُستبدَل لاحقًا بمقتطفات موثّقة).
|
المحور |
مؤشرات نصّية/أدائية |
مثال مقتطف (سطر واحد) |
ملاحظة تحليلية |
مؤشر الحضور |
|
الطقسي/التعبدي |
ألفاظ الذِّكر، خطاطات النداء–التلبية، تكرارات صيغ الحمد |
« … الحمدُ لك … » |
تثبيت البعد التعبدي وتأمين الدخول في الأداء الجماعي |
عالٍ |
|
العقدي/التعليمي |
تعريف/شرح موجز لمضامين عقدية، صيغ تقريرية، تبسيط مفاهيم |
« … نعلَمُ صغارَنا … » |
تعليم مضمّن في الأداء دون خطاب وعظي مباشر |
متوسط |
|
القيمي/الأخلاقي |
أفعال أمر ونهي، صيغ حثّ، أمثال/حِكم موجزة |
« … أحسِنْ ولا تُسِئ … » |
تقنين السلوك عبر صيغ موجّهة سريعة الالتقاط |
عالٍ |
|
الاجتماعي/المجتمعي |
ضمائر جماعية، نِداءات للتكافل، مفردات صلة الرحم والجوار |
« … معاً نقوم … » |
ترسيخ التماسك والهوية الجمعية عبر الأداء |
عالٍ |
|
الجمالي |
إيقاع، سجع، توازي وصرف صوتي، قوافٍ متناوبة |
« … نُنشدُ فننتشي … » |
حامل إيقاعي ييسّر الحفظ ويضبط الانتقال بين المقاطع |
متوسط |
شكل 1 — خريطة ترابط التيمات
[تُظهر الخريطةُ تمركزَ « الأداء الجماعي/التناوب الإنشادي » بوصفه مُشغِّلاً لباقي المحاور؛ إذ يتعاضد الثناءُ والحثُّ الأخلاقيُّ مع الروابطِ الجماعية، بينما يتوسّط العقدي/التعليمي والبُعدُ الجماليّ مساراتِ الانتقال بين الدلالات.
5. المناقشة
تسعى هذه « المناقشة » إلى تأويل الخلاصات المُبيَّنة في « النتائج » وربطها بسياقاتٍ نظريةٍ أوسع تتعلّق بالشفاهية والكتابة، وبشعرية الأداء الجماعي، وبمسارات التراث الثقافي غير المادي. وكما يوضحه « جدول 1 » و« شكل 1 »، فإنّ مركزيةَ الثناء والحثّ الأخلاقي واقترانهما بالروابط الجماعية لا تُفهَم على أنّها قائمة موضوعاتٍ فحسب، بل بوصفها أثرًا مخصوصًا لطريقة الأداء التي تُعيد توزيع المعنى وتُثبّتُه عبر التكرار–التغاير والنداء–التلبية.
1.5. الشفاهية والكتابة : النصّ المؤدّى لا النصّ المجرّد
تُشير انتظامات التوازي والأنفورات والدوريات الإيقاعية في المتون إلى أنّ « النصّ » هنا **مُؤدّى** في الأساس، وأنّ الكتابة لا تُجسّد سوى « أثرٍ توثيقي » لأداءٍ حيّ. ولذا يغدو التكرار–التغاير آليةً معرفيةً وذاكريةً معًا : فهو يُيسّر الاكتساب الشفاهي ويُنشّط المشاركة، لكنه في الآن نفسه يعيد « تشغيل » الدلالة بتبديلٍ محسوبٍ في مواضع القوّة (النداءات، الأفعال الإنشائية، الإحالات الجماعية). وعليه، فإنّ أيّ قراءةٍ كتابيةٍ محض تفقد جزءًا من **معنى الفعل الأدائي** الكامن في تواطؤ الأصوات وتبادل الأدوار.
2.5. الأداء بوصفه مُولِّدًا للتماسك والدلالة
يبين « شكل 1 » تمركز « الأداء الجماعي/التناوب الإنشادي » بوصفه مُشغّلاً لدوائر الدلالة؛ إذ تتعاضدُ البنيةُ التعبدية مع الحثّ الأخلاقي والروابط الاجتماعية لصوغ « أُفُق تلقي » يُعيد إنتاج الجماعة لذاتها. تتحقّق هذه الوظيفة عبر : (أ) استدعاء ضمائر الجمع وصيغ الدعوة للفعل المشترك، (ب) توزيع الأدوار (منفرد/جوقة) بما يعزّز الاستجابة، (ج) تحويل الإيقاع إلى حاملٍ تنظيميّ يضبط الانتقالَ بين المقاطع ويُؤطر الذاكرة السمعية. ومن ثمّ، لا تُقرأ الأخلاق هنا كمحتوى تعليمي مجرّد، بل كـ **ممارسةٍ مُؤدّاة** ترسّخ القيم عبر تكرارٍ محسوسٍ ومُشارَك.
كما تكشف المؤشرات النوعية عن تزاوج « الدوكسا » القيمية بالمشهد الأدائي : فقوّة الموعظة لا تأتي من الجُمل الخبرية بقدر ما تتولّد من تواتر « الفعل الجماعي » نفسه؛ أي من إسناد القول إلى كِيانٍ جمعيٍّ محسوس.
3.5. التراث غير المادي : بين « التصوين » و« التشييء »
تضيء النتائجُ جانبًا من الجدل بين « تصوين » الممارسة (إبقائها حيةً في سياقها الاجتماعي) و« تشييئها » (تحويلها إلى عرضٍ مفصولٍ عن وظيفتها الأصلية). يُظهر التحليل أنّ فاعلية أهليل لا تنحصر في النصوص ذاتها، بل في **اقتصاد الأداء** وأعرافه (المناسبة/المقام، الأدوار، آداب المشاركة). لذا فإنّ سياسات الصون ينبغي أن تُواكِب هذا البعد الأدائي عبر توثيقٍ سمعي–مرئيٍ مُحكَم، وبرامج **نقل مهارات** تستهدف آليات التناوب والإنشاد الجماعي، لا الاكتفاءَ بجمع النصوص. وتتيح الشبكةُ التحليلية المقترحة في هذه الدراسة أداةً عمليةً لتقييم « حيوية » الممارسة عند الانتقال من السياق المحلي إلى منصّات العرض المؤسّسية.
وتأسيسًا على ذلك، يمكن توجيه التوصيات التربوية نحو إدماج وحداتٍ تعليميةٍ تُحاكي البنى الأدائية (الاستجابة الجماعية، التقطيع، ضبط الإيقاع)، بما يحفظ « شرعية » المعنى الجماعي ويحول دون تفريغه من وظائفه الاجتماعية.
4.5. حدود التعميم والاعتبارات المنهجية
تقوم النتائج على متنٍ مُوسَّط بالترجمة، مع غياب الملاحظة بالمشاركة والقياسات اللسانية–الصوتية الدقيقة؛ وهو ما يفرض تحفّظًا عند التعميم. يُستحسن مستقبلاً : (1) توسيع المتن بمادةٍ ميدانيةٍ مُحاذاةٍ بين الصوت والنص، (2) اعتماد اتفاقٍ بين المقوّمين (مثلاً κ) على نسبةٍ معلَنة من العيِّنة، (3) إجراء مضاهاةٍ بين مناطق الأداء لرصد الثابت والمتحوّل، (4) إدخال مؤشراتٍ أكوستيكية (الإيقاع، النبر، الكيفية الصوتية) وربطها بوظائف الخطاب.
5.5 ما الذي يضيفه هذا النموذج التحليلي؟
تؤكّد التجربة أنّ شبكة التحليل الموضوعي المدفوعة بمؤشراتٍ أدائية تُوفّر **أداةً تشغيلية** قابلةً لإعادة الاستخدام في تقاليد مغنّاةٍ أخرى؛ فهي تُحافظ على خصوصية المقام المحلي مع تمكين المقارنة عبر محاور مشتركة (طقس/أخلاق/مجتمع/جماليات). كما تُقلّل من مخاطر القراءة « النصية الخالصة » التي تُسقط الأداء من الحساب. على هذا الأساس، يمكن الإفادة من النموذج في عمليات الصون والتربية الثقافية، وفي بناء « معايير حيوية » تُقاس بها جودة الأداء الجماعي عند تغير السياق.
وبهذا المعنى، ليست « النتائج » بياناتٍ معزولة، بل مدخلًا لإعادة التفكير في كيفية كتابة تاريخ الممارسات الشفاهية بوصفها **نُسُخًا متجددة** من نصٍّ مُؤدّى، لا كمخلفاتٍ نصّيةٍ جامدة.وتفتح هذه الخلاصات الطريقَ إلى « الخلاصة والآفاق »، حيث نلخّص إسهام الدراسة ونقترح مسارات عملٍ عملية لضبط أدوات التحليل وتكييفها مع توثيقٍ سمعي–مرئيٍّ أعمق، وبرامج نقل مهاراتٍ تشاركية
الخلاصة وآفاق البحث
تُبيّن هذه الدراسة أنّ « أهليل قورارة » ليس مجرّد تراث إنشادي، بل ممارسة شعرية-اجتماعية تُزاوج بين الوظيفة الطقسية وبناء المعنى الجماعي. أظهرت نتائج تحليل المحتوى الموضوعي مركزية الثناء والحثّ الأخلاقي، ودور الأداء الجماعي والتناوب الإنشادي في ترسيخ التماسك، وآلية التكرار-التغاير في تشييد معرفة دينية « يومية ». ويساهم العمل في تقديم شبكةٍ تشغيليةٍ للتحليل قابلة لإعادة الاستخدام في دراسة تقاليد مغنّاة مماثلة، مع توحيد المصطلحات وتطبيع نقل الأعلام، وإرساء صلةٍ أوثق بين شعرية الأداء وأنثروبولوجيا الطقس وسياسات التراث الثقافي غير المادي.
على المستوى النظري، تُعيد النتائجُ طرحَ أسئلة الشفاهية/الكتابة من منظور أدائي، وتُبرز وظيفة الصياغات الشعرية (الأنماط الإيقاعية، الأنفورات، البِنى الاستدعائية) في نقل المعرفة وتقنين السلوك داخل الجماعة. كما توفّر الدراسة نموذجًا قابلاً للتعميم الحذر على متونٍ مغاربية متجاورة، شرط مراعاة الخصوصيات المحلية في النص والأداء والسياق الاحتفالي.
تتمثّل حدود هذا العمل في اعتماد متنٍ مُوسَّط بالترجمة وغياب الملاحظة بالمشاركة، وعدم إدماج قياسات لسانية-صوتية دقيقة، إضافة إلى محدودية التغطية المقارنة بين مناطق الأداء. وعليه، نقترح لبحوث لاحقة :
-
توسيع المتن ليشمل نسخًا ميدانية موثّقة بالصوت/الصورة مع تفريغٍ مضبوط ومحاذاة ترجميّة؛
-
إجراء مضاهاةٍ بينيّة (قورارة/توات/زوايا مجاورة) لرصد الثابت والمتحوّل؛
-
إدخال تحليل أكوستيكي-لساني (الإيقاع، النبر، الكِيفية الصوتية) وربطه بوظائف الخطاب؛
-
اعتماد بروتوكول اتفاقٍ بين المقوّمين (مثلاً κ) صراحةً؛
-
وصل النتائج ببرامج الصون والتربية (تجارب نقل المهارات، التوثيق المجتمعي، الأنشطة البيداغوجية).
بهذه الإضافات، تُرسّخ الدراسة إسهامًا علميًّا مزدوجًا : أداة تحليل قادرة على العمل، ومادّة تفسيرية تُعين على فهم أهليل باعتباره فضاءً أدائيًّا لبناء المعنى والعيش المشترك.

