رواية زينب لمحمد حسين هيكل :دراسة من منظور النقد الأدبي البيئي

Muhammad Hussein Heikal : Exploration des représentations environnementales dans la littérature arabe précoce – Analyse écocritique du roman « Zainab »

Muhammad Hussein Heikal: Exploring Environmental Representations in Early Arabic Literature – An Ecocritical Analysis of the Novel Zainab

فريد عوف Farida Aouf

Citer cet article

Référence électronique

فريد عوف Farida Aouf, « رواية زينب لمحمد حسين هيكل :دراسة من منظور النقد الأدبي البيئي », Aleph [En ligne], mis en ligne le 10 mars 2025, consulté le 02 avril 2025. URL : https://aleph.edinum.org/13949

يهدف هذا البحث إلى دراسة رواية « زينب » لمحمد حسين هيكل، التي تُعتبر أول رواية عربية حديثة، من خلال استخدام منهج النقد الأدبي البيئي. وهو منهج نقدي حديث ظهر في القرن العشرين لدراسة تمثيلات البيئة في الأدب من خلال علاقة حوارية مع الطبيعة. لم يكن اختيار هذه الرواية عشوائيًا، بل لأنها تقدم صورة حية للحياة الريفية في أجمل مظاهرها، التي برع هيكل في وصفها، مجمعًا بين تجربته الشعورية والتحليق في أجواء الطبيعة الساحرة. تستكشف هذه الدراسة تمثيلات البيئة في الرواية وتفاعل الراوي معها. كما تقدم مفاهيم رئيسية للنقد الأدبي البيئي، وتفحص محتوى الرواية، وتدرسها وفقًا للآليات المعترف بها في هذا الفرع من النقد الأدبي، مثل تمثيلات البيئة، والتناص البيئي، والخيال البيئي.

Cette recherche vise à analyser le roman « Zainab » de Muhammad Hussein Heikal, considéré comme le premier roman arabe moderne, à travers l’approche de la critique littéraire environnementale, une méthode critique moderne apparue au XXe siècle. Cette méthode étudie les représentations de l’environnement dans la littérature à travers une relation dialogique avec la nature. Le choix de ce roman n’est pas fortuit, car il offre une image vivante de la vie rurale dans ses aspects les plus beaux, que Heikal a su décrire avec brio, combinant son expérience émotionnelle avec l’évocation d’une nature enchanteresse. Cette étude explore les représentations de l’environnement dans le roman et l’interaction du narrateur avec celles-ci. Elle présente des concepts clés de la critique littéraire environnementale, examine le contenu du roman, et l’étudie selon les mécanismes reconnus dans cette branche de la critique littéraire, tels que les représentations de l’environnement, l’intertextualité environnementale, et l’imagination environnementale.

This research aims to analyze the novel « Zainab » by Muhammad Hussein Heikal, recognized as the first modern Arabic novel, through the lens of environmental literary criticism, a modern critical approach that emerged in the twentieth century. This approach studies the representations of the environment in literature through a dialogical relationship with nature. The choice of this novel is not random, as it provides a vivid depiction of rural life in its most beautiful aspects, which Heikal excelled in describing, combining his emotional experience with the evocation of an enchanting nature. This study explores the representations of the environment in the novel and the narrator’s interaction with them. It presents key concepts of environmental literary criticism, examines the content of the novel, and studies it according to the recognized mechanisms in this branch of literary criticism, such as representations of the environment, environmental intertextuality, and environmental imagination.

مقدمة

تمتدّ العلاقة العريقة بين الأدب والبيئة إلى تاريخ طويل من الترابط والتناغم لا يخص أدبا بعينه؛ ففي الأدب العربي كما في غيره تتجلى الفكرة البيئية كملمح مركزي أحيانا وهامشي أحيانا أخرى، ومن أدبنا العربي القديم المحتفي بالطبيعة والبيئة زمانا ومكانا وحيوانا وصحراء، إلى الرومانسية الغربية مع مقدمتها الباستورالية الرعوية، وصولا إلى التنظيرات الراهنة المنادية باستعادة صوت الطبيعة، فيها فصول من المحاورة والإفضاء الحميمي، كاشفة عن علاقة تتخطى المستوى السطحي العابر، وتتجاوز فكرة أنّ الطبيعة هي مجرد فضاء متخيل يتم توفيره لنص أدبي ما، استكمالا لشروط التصنيف وإملاءات الجنس الأدبي. 

إنّ علاقة الأدب بالبيئة هي ولا شك علاقة عميقة، مرتبطة أساسا بالوعي الإنساني ومتصلة بخيارات الذات الإنسانية في تحولاتها الوجودية، وأسئلتها المربكة المتعلقة بوضعيتها في العالم وعلاقتها به، ومما يؤسس لهذه العلاقة طبيعة الروابط التي تجمع الذات بمحيطها الفيزيائي والطبيعي، لما في ذلك من تأثير حتمي وبديهي على مستوى تشكيل الوعي الفردي والجمعي، ومن ثم تحكّمها الفعلي في مسارات تشكل الثقافات ورسم معالم الهويات. فليس لأحد أن ينكر أنّ الشعوب وعلى مرّ التاريخ وعلى امتداد الجغرافيات تمثلّت روح أمكنتها وأفضيتها وبيئاتها في صياغة ضميرها الجمعي، وتشكيل هويتها وصك ثقافتها بميسمها الخاص الذي هي عليه. وهنا يبرز المكوّن البيئي كتيمة موضوعاتية، وعنصر جمالي ومعطى نسقي ينبغي الالتفات إليه ومساءلته واستنطاقه، استجابة لدعوات راهنة متصاعدة تطالب بإشراك الطبيعة وتبيئة نزوعاتها في سياق التجربة الإنسانية المعاصرة. ومن أكثر ما يقف مسوّغا لهذه المطالب ملاحظة مأساوية الوضع الذي آلت إليه الإنسانية من وراء العصف بقوانين الطبيعة، وخرق سننها الكونية بدعوى خدمة العلم وتطوير التقنية، وتمكين الإنسان من الارتقاء إلى أعلى درجات التقدم والرفاهية. 

تتعلق الإشكالية إذن بالإنصات إلى صوت الطبيعة المنبعث من قلب النصوص الأدبية، وتسعى إلى اصطناع مقاربات نقدية تؤسس لعلاقة حوارية بين الإنسان ومحيطه الأخضر، ومن هذه المقاربات النقد الأدبي البيئي الذي ولد من رحم الدراسات الثقافية الخضراء، فهو منهج بيني ينفتح على سياقات ثقافية وتاريخية واجتماعية وتأويلية متعددة، لنحاور من خلال هذه السياقات تمثلات البيئة في النص المدروس من خلال التحليل والسياق والتناص والتأويل بالإضافة إلى أدوات السرد التي تحيلنا إلى الكشف عن المنظومة البيئية.

إذًا، هذه الورقة البحثية هي إجابة عن تساؤلات حول هذه المقاربة النقدية الفتية، حديثة النشأة، مفهوما، وخصائص، وآليات اشتغالها على الخطاب الأدبي، وعلى قلّة الدراسات لحداثة هذا المنهج، سيكون الجزء التطبيقي على رواية تعدّ الأولى عربيا كنموذج للقصة الفنية الحديثة، نشرها محمد حسين هيكل أول مرّة سنة 1914 م باسم مستعار (بقلم مصري فلاح)، وأعاد نشرها سنة باسمه الحقيقي بسبب اشتغاله في ميدان (المحاماة). واختيارنا لها لما في هذه الرواية من علاقة حوارية بالطبيعة والجو الرومانسي، فتظهر الطبيعة الريفية في أحسن حللها، وأبهى جمالها، إلى جانب البيئة الاجتماعية التي تتحكم فيها العادات والأعراف. ومن هنا كان هدفنا استنطاق هذه البيئة الطبيعية والاجتماعية، والبحث عن تمثّلاتها من خلال دراسة هذه العناصر : التناص البيئي، الخيال البيئي، المعجم البيئي، جماليات المكان، واستجلاء القيم الأخلاقية والإنسانية البيئية.

1. النقد الأدبي البيئي؛ المصطلح، الماهية، ومهاد التأسيس

ولد النقد الأدبي البيئي في القرن العشرين كفرع للنقد الأدبي في مرحلة ما بعد الحداثة ليهتم بدراسة تمثيل الطبيعة أو البيئة داخل العمل الأدبي، أو بالأحرى دراسة « الأدب الأخضر »، ظهر كردّ فعل للجرائم التي انتهكت الطبيعة : فمن ويلات الحروب، وحرائق الغابات، والتلوث، وانتهاك المساحات الخضراء للمدّ العمراني، إلى التجارب النووية، وقد اتّخذ النقاد من اللون الأخضر شعارا لهم لنشر وعي بيئي بأهمية الطبيعة، وضرورة المحافظة عليها من الاستنزاف والتخريب.

1.1. مفهوم النقد الأدبي البيئي

ظهر النقد الأدبي البيئي في تسعينات من هذا القرن في الغرب، واشتهر بعدد من التسميات كـ« الدراسات الثقافية الخضراء » “green cultural studies”أو الشعرية أو البويطيقا البيئية” “ ecopoetics والنقد البيئي الأدبي« environmental literary criticism » ، و « النقد الإيكولوجي « Ecocriticism »  ».

وقد تعدّدت مفاهيم النقد الأدبي البيئي، لكنّها تتفق إجمالا في دراسة الأدب الذي يعنى بالبيئة، وكانت المرجعيات الأساسية للاهتمام بالنقد البيئي ظهور فلسفات إيكولوجية، ومنظمات بيئية تنادي بإعادة النظر في علاقة الإنسان ببيئته الجغرافية من أجل تعزيزها، والتقليل من حدّة ما تتعرّض له من تخريب واستنزاف للثروات. ومن هنا فمن الطبيعي أن يأتي تعريف النقد البيئي قرينا لتلك العلاقة بين الإنسان وبيئته، فهو

«  فرع من فروع النقد الأدبي المعاصر، ونسق من أنساق الدراسات الثقافية التي تُعنى بدراسة البيئة، والأرض، والحياة في الخطابات الإبداعية؛ لرصد رُؤى الكتّاب تجاه البيئة، بعد أن فقدت كثيرا من مزاياها بسبب التلوث الصناعي، وقسوة الرأسمالية، وتنامي الفوقية البشرية على التمثّلات الطبيعية » (Naess. (1987)).

ويتبيّن من هذا التعريف بأنّ النقد البيئي منهج نقدي انحدر من شجرة النقد والدراسات الثقافية التي تهتمّ بدراسة البيئة، وهو منهج بيني، منفتح على سياقات مختلفة : نفسية واجتماعية وثقافية وتاريخية موضوعه البيئة وتمثلاتها.

2.1. نشأة النقد الأدبي البيئي في النقد الغربي

نشأ النقد الأدبي البيئي في أحضان الجمعيات والمنظمات البيئية، و كانت الإرهاصات الأولى له من قبل المهتمين بعلم البيئة،حيث كان أول اهتدى إلى فكرة « الإيكولوجيا الأدبية » « جوزيف ميكر »” “ Joseph Becker في كتابه (كوميديا البقاء : دراسات في علم البيئة الأدبية) عام 1972م، وكذلك ريموند ويليامز«  Raymond Williams » (القرية والمدينة)، وشهد عام 1978 ولادة مصطلح (النقد البيئي) عن طريق (ويليام روكيرت) «  William Rueckert  » في مقالته (الأدب والبيئة : تجربة في النقد البيئي) « ، وكتابه  »النقد الأدبي البيئي«  الذي أصدره سنة 1994م، تناول فيه أعمالا أدبية إبداعية من زاوية طبيعية وبيئية.

هذا، و قد اشتهر العلماء والباحثون في الثقافة الأميريكية بدراسات البيئة نذكر منهم (لورانس بويل) Lawrence Buell » «  وكتابه (الخيال البيئي)، و(مايكل زيمرمان) » Michael Zimmerman«  في كتابه (الفلسفة البيئية). وكذلك في الثقافة الألمانية، حيث ظهرت دراسات بيئية وُسمت بالخضراء، كـ(جوست هيرماند) في كتابه (اليوتوبيا الخضراء في ألمانيا)، وشاع عندهم استخدام مصطلح (الدراسات الثقافية الخضراء) و(النقد الأخضر).

3.1. تلقي النقد العربي الحديث للنقد البيئي 

عرف النقد البيئي في الساحة النقدية العربية خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، وكانت بدايته عن طريق الترجمة مع الباحث السوري (معين رومية) الذي ترجم مقالة (النقد الإيكولوجي) لـ (مايكل برانش) عام (2007م). وهي محاولة برزت كفاءة المترجم فيها، ودرايته بالنقد البيئي، إلى جانب ترجمته لنصوص بيئية بعنوان (مختارات من الشعر البيئي) عام (2009م). وهي دراسات نقدية تطبيقية على المتن الشعري بمنظور نقدي بيئي، نلمس فيها وعي المؤلف البيئي، هذا إلى جانب ترجمته لقصيدة غاري سنايدر (صلاة من أجل العائلة الكبرى).

أمّا التأليف في مجال النقد البيئي فكان (محمد أبو الفضل بدران) أوّل ناقد عربي مهّد له الطريق بكتابه الذي أصدره سنة 2010م (النقد الأدبي البيئي، النظرية والتطبيق)، و دراسة أخرى موسومة بـ (أهمية النقد الأدبي البيئي في الدراسات النقدية) سنة 2015م، وصابر محمد الجويلي في دراسته : (صورة الضب في المثل العربي القديم، مقاربة في مرآة النقد البيئي)، وأسماء إبراهيم حسين (النقد الإيكولوجي وتجلياته في روايتي (حرب الكلب الثانية لإبراهيم نصر الله، إسكندرية 2050 لصبحي الفحماوي)، ومحمد فاضل المشلب (البيئة ظهورا شعريا، مقاربة نقدية في أشعار طالب عبد العزيز)، كما أصدر الباحثان جميل حمداوي وأحسن أعراب دراسة بعنوان (النقد البيئي أو الإيكولوجي في الأدب والفنّ) سنة 2020. وهذه الدراسات على تفاوتها في القيمة والجودة سعت إلى البحث عن تمثّلات البيئة ووصف الأخطار المحدقة بها، ونشر ثقافة بيئية تكّرس مبدأ المحافظة عليها ضمانا للبقاء.

4.1. النقد الأدبي البيئي وآليات اشتغاله 

لكل منهج نقدي أدواته الإجرائية، فإذا كانت الأسلوبية تعتني بدراسة الأسلوب، فإنّ النقد الأدبي البيئي يعكف على البحث عن تمثّلات البيئة في العمل الأدبي، واستجلاء موقف المبدع منها.

ولظهور هذا المنهج المتأخر في النقد العربي خلال فترة ما بعد الحداثة، فإنّه ما يزال في بداية التأسيس، إذ لا يمتلك أدوات أو آليات محددّة باستثناء ما أشارت إليه بعض الدراسات التطبيقية التي لا تعدو أن تكون جهودا فردية في محاولة مقاربة النصوص الأدبية وفق هذا المنهج.

وقد قدّم الباحثون مقاربة لمجال اهتمامات النقد الأدبي البيئي، يمكن أن نلخصها في النقاط الآتية :

  • الاهتمام بمركزية المناظر الطبيعية في الخطاب الشعري أو السردي وتأثيرها في الذات.

  • كيفية تقديم وتصوير المبدع لتلك المشاهد، وموقفه الأخلاقي منها,

  • أن يبين علاقة الأديب بالمكان من زاوية تفاعل الشخصيات مع بيئاتهم.

  • أن يبين الناقد علاقة الأديب بالبيئة الطبيعية، بحيث نلمح الوعي البيئي والخيال البيئي في النص.

  • أن يحلل الناقد الجوانب الثقافية والأدبية المؤثرة في رؤية الكاتب.

  • أن يكشف الناقد الوظيفة البيئية المتوارية خلف الصفة الجمالية من خلال الصور البلاغية باعتبارها أداة للتصوير الفني، ولها وظائف أخرى، ويبت في مدى عمق الوصف أو سطحيته.

  • أن يبحث عن التعالقات النصية للخطاب مع خطابات بيئية أخرى (التناص البيئي).

  • أن يقوم بدراسة القيم الجمالية والأخلاقية والإيكولوجية التي يتضمنها النص البيئي.

  • أن يدرس الذوق الجمالي في التعبير عن مظاهر الطبيعة.

وقد أشارت الدراسات إلى أنّ النقد البيئي هو إجابة عن التساؤلات الآتية : 

« ما إمكانية التداخل الخصب بين الدراسات الأدبية والتداخل البيئي؟ كيف تمّ تصوير الطبيعة ومظاهرها في هذه القصيدة؟ ما أثر المكان في حبكة الرواية؟ وتفاعل الشخصيات فيها؟ هل القيم التي تحملها المسرحية تتفق مع الحكمة البيئية؟ هل نجحت اللوحة في لف الانتباه إلى ظاهرة طبيعية معينة؟هل عالجت قصيدة شاعر، أو قصة كاتب، أو لوحة رسّام مشكلة بيئية». (السلطاني. 2021. صفحة 26).

هذه هي الأسئلة التي يضطلع الناقد البيئي الإجابة عنها من خلال دراسته للنص الأدبي البيئي. حيث ينصب اهتمام النقد البيئي على حضور تيمة البيئة في الخطابات الأدبية، باستكشاف أنواعها، واستجلاء مشاهدها، والتركيز على التخييل البيئي، البحث عن القيم الأخلاقية والدينية المتعلقة بالبيئة، وتبيان اهتمام الإنسان بالبيئة، ورصد مختلف الحلول الممكنة للحد من المشاكل والأخطار التي تواجه البيئة التي يعيش فيها الإنسان بصفة عامة، والمبدع بصفة خاصة.

وإجمالا فإنّ النقد الأدبي البيئي يضطلع بدراسة العناصر الأآتية :

  • تمثّلات البيئة (البيئة الطبيعية، الاجتماعية، السياسية، الثقافية، الدينية....).

  • المعجم البيئي.

  • جماليات المكان.

  • الخيال البيئي.

  • التناص البيئي.

  • قيم أخلاقية وإنسانية بيئية.

مع الإشارة إلى ضرورة ربط الناقد هذه العناصر بذات المبدع وبيئته، لهذا يجب أن يستعين بعلمي النفس والاجتماع والنقد والدراسات الثقافية.

2. النقد الأدبي البيئي وتطبيقاته على الخطاب السردي (رواية زينب لمحمد حسين هيكل)

1.2. مضمون الـرواية

رواية (زينب) لـ (محمد حسين هيكل) قصة رومانسية عاطفية تجري أحداثها في إحدى قرى الريف المصري بطله زينب، كانت فتاة بديعة الجمال، طيبة السريرة، رفيعة الأخلاق، كانت تعمل في مزرعة القطن، وتمضي وقتها هناك شأنها شأن شباب وفتيات قريتها، فربطت بينهم أواصر قويّة، وعلاقات متينة إلاّ أن حدث ذات يوم و سقطت (زينب) في حقل من حقول القطن مغشيًا عليها لشدّة ما نالها من الإعياء و التّعب، فأسرع إليها شاب اسمه (إبراهيم) و صبّ فوقها بعض الماء حتى عادت إلى وعيها. و ما كادت تفتح عينيها حتى ألفت نفسها بين أحضان هذا الشّاب الغريب عنها، فكانت تلك اللحظة فاتحة قصّة حبٍّ بينها و بينه.ومنذ ذلك الحين قويت الصلة بينهما، حيث كانا يتشاركان الأعمال، و يبنيان سويًا أحلام المستقبل، إلاّ أنّ هنالك ما كان ينغّص صفو هذه العلاقة. فقد كانت (زينب) محط أنظار شابان آخران : الأول اسمه (حامد) و هو ذو ثروة و جاه و له حظوة عند أهل القرية، لكنّ قلبه كان متعلّقًا أيضًا بابنة عمّه التي هجرته و تزوجت برجل غيره، و ما لبث بعدها أن قطع رجاؤه من (زينب) بعد أن صدّته عنها بالرغم من علاقة غابرة جمعتهما في الماضي. أما الثّاني فهو (حسن)، شاب حسن الخلق، ينتمي إلى عائلة طيبة السّمعة، ميسور الحال. و لم تنشأ بينه و بين (زينب) قصّة حب أبدًا، إلا أنّ أهله و أهلها أرادوا تزويجهما و ألحّوا عليه و عليها بذلك، فكان لهم ما أرادوا، حيث زُفّت (زينب) عروسًا إلى (حسن) و كان نعم الرّجل لها، و نعم الزّوج معها، فلم ترَ منه إلا كبر القلب، و علوّ النّفس، و رفعة الأخلاق، لم تستطع أن تمسح صور (إبراهيم) الذي يمثّل لها الماضي الجميل الذي قضته برفقته من مخيلّتها. ولم يزد ذلك (زينب) إلا حبًّا و هياما و تعلّقًا بإبراهيم، إلاّ أن وصله ذات يوم استدعاء من العسكر يأمره بالالتحاق بصفوف الجيش لتأدية الخدمة العسكرية.

وقد نزل هذا الخبر كالصّاعقة عليه و على (زينب)، فكيف للواحد منهما أن يصبر على فراق الآخر ساعات و أميالاً؟ ما هي إلّا ساعات معدودة حتى ركب (إبراهيم) القطار متّجهًا إلى الحدود بين (مصر) و (السّودان) و بالتحديد إلى (أم درمان) ليلبي نداء الوطن.

ومنذ رحيل (إبراهيم) ساءت حالة (زينب) الصحية كثيرًا، فأتاها زوجها بالطّبيب، لكن قد فات الأوان، فقد أُصيبت بمرض السلّ الذي أسقطها طريحة الفراش، و ماتت (زينب) دون أن تُفصح عن سرّها لأيّ كان، ماتت حزنًا و كمدًا على حبيبها الذي فرّقت بينهم الأعراف و التّقاليد، وحالت بينهما قساوة الشّرائع التي سنّها الإنسان ليظلم الإنسان.

2.2. تحليل الروايـة وفق إجراءات النقد البيئي 

1.2.2. تمثّـلات البيئة في رواية زينب

يتميّز الأدب البيئي بإعلاء الانتماء إلى العلاقات الطبيعية باعتبار الإنسان يعيش وسط بيئته الطبيعية والاجتماعية، وبقدر احتفاء الأديب بها، بقدر ما يمكن أن نطلق على نتاجه الأدبي (شعر أو سرد) بأنّه  »أدب بيئي« .

وتتّفق المعاجم اللغوية على أنّ البيئة تدلّ على  »المكان الجغرافي« ، وهي من أصل لاتيني « Ecologia »مركبة من جزئين : الأول : Oikos وتعني البيت أو المنزل، والثاني : Logos ويعني العلم أي علم دراسة المنزل أو الوسط المعيشي أو المحيط البيئي، حيث وردت في (معجم اللغة العربية المعاصرة) في مادة ( ب و أ) بمعنى  »مكان تتوافر فيه العوامل المناسبة لمعيشة كائن حي أو مجموعة كائنات حيّة خاصة، كالبيئة الاجتماعية، والطبيعية، والجغرافية...تبوّأ المكان/ تبوّأ بالمكان : توطّنه، نزله وأقام به ((والذين تبوءوا الدار والإيمان))...«  (عمر. 2008. ص258). ومعنى هذا أنّ البيئة حيّز جغرافي تتوفر فيه الظروف المناسبة وشروط المعيشة للإنسان وكلّ الكائنات الحيّة.

وإذا أمعنا النظر في رواية زينب ألفينا تمثيل البيئة الطبيعية بصورة ملفتة، إلى جانب البيئة الاجتماعية والثقافية والدينية، يمكن توضيحها فيما يلي :

  1. البيئة الطبيعية :وفي رواية زينب لمحمد حسين هيكل صور نابضة بالحياة، طافحة بالحيوية لمشاهد حيّة من الطبيعة الساحرة التي تأسر القلوب، والعقول وكأنّها تمتثّل أمامك، إذ يفتتح هيكل روايته بتقديم الحيّز الجغرافي الذي تجري فيه أحداث الرواية وهو قرية من قرى الريف المصري موطن  »زينب« ، وما يؤكّد ذلك الطابع الفلاحي لسكان القرية ممّا جعل علاقتهم بالطبيعة تتوطّد، لأنّها مصدر رزقهم وحياتهم، يقول هيكل :  »ويقطع الصمت المطلق الذي يحكم على قرى الفلاحين طول الليل أذان المؤذن وصوت الديكة ويقظة الحيوانات جميعا من راحتها«  (هيكل. 1992.ص13 ). وواضح من هذا القول الطابع البدوي للحياة لدى سكان القرية، وتربيتهم للحيوانات، فهم يستيقظون على أنغام صياح الديك، ويسترزقون على ما تدره الأرض في مزارع القطن، وغرس الأشجار والاعتناء بها  »ارتفعت الشمس حين نقوا خطين، وأرسلت بشعاعها تغمر هاته الشجيرات التي ما تزال في مبتدأ حياتها، ومع ذلك يعني بها الفلاح والمالك أكثر من عنايتهما بأبنائهما..«  (هيكل، ( 1992).ص15 )، وقدّ أثّرت تلك الطبيعة في هيكل، ونال إعجابه تلك المناظر الريفية  »في هاته الليالي الساهرة، هاته الليالي البديعة يموج في جوها نسيم الصيف البليل وتتلألأ في سمائها الكواكب اللامعة...«  (هيكل، ( 1992).ص18 ). كما أثّرت أيضا في بطلة الرواية  »وقد أبدعت الطبيعة في زينب، وأعطتها بذلك تاجا معترفا به من كلّ صويحباتها«  (هيكل. ( 1992).ص18 ).

  2. البيئة الاجتماعية : وإلى جانب البيئة الطبيعية تتمثّل للقارئ البيئة الاجتماعية، وتتراءى صور الفقر والحرمان في القرية، وطابع الحياة التي تتميّز بالاستغلال من قبل ملاّك الأراضي في مزارع القطن، فعلى الرغم من الأيام والأوقات الطويلة التي يقضونها في عملهم في مزارع القطن عند  »إبراهيم«  فإنّهم يتقاضون راتبا زهيدا لا يسدّ رمق حياتهم غير أنّ من شيمهم الصبر والجدّ والقناعة والأمل  »انصرف الأكثرون منهم مقتنعين أنّهم في صباح الغد سيقبضون، وآخرون رجعوا إلى الكاتب يسألونه عن قيمة مالهم، فإذا لخليل أبو جبر ستة أيام، أي ثمانية عشر قرشا. أمّا عطية أبو فرج فقد أمضى أكثر أيام أسبوعه مريضا فخرج منه بستة قروش، وهو يعول امرأة وبنتا صغيرة، ويساعد أمّا له دفّتها الأيام..«  (هيكل. ( 1992).ص16 ). ويرقبون بعيونهم نتائج عملهم زاهرة ناضرة، ثم يقطف ثمرتها سيد مالك كم فكّر في أن يبيع قطنه بأعلى ثمن ويؤجر أرضه بأرفع قيمة، وفي الوقت نفسه يستغل الفلاح نظير قوته الحقير... » (هيكل. ( 1992). ص21 ).
    هذابالإضافة- إلى قساوة العادات والأعراف والتقاليد التي جعلت حياة المرأة تعاسة وشقاء، فهي مجرد آلة للنسل، « العيش عندنا شقاوة ومرارة، ولكن ذلك لفساد تربيتنا. .هل تحسب الشاب الذي يشغل نفسه بكبير الأمر وهو في السادسة عشر من عمره إلاّ عجوزا في العشرين، فإذا ما جاءته زوجة طفلة لا تعرف في الوجود إلاّ حيطان دارها، لم يكن بينهما من الصلة إلاّ ما يقضى به الحديث  »تناكحوا تناسلوا«  (هيكل. ( 1992). ص130 )، وماتت زينب وهي تشكو نوائب الدهر، ومرض السل ينخر جسدها، وفي قلبها حرقة حبّها لإبراهيم الذي كان فارس أحلامها، لكن العادات والتقاليد كانت جدارا منيعا بأن تقول كلمتها، ويكون الخيار خيارها  » وكلّ يوم تشعر بانحطاط ابنتها أكثر من اليوم الذي قبله، فتزداد حزنا وألما. وابنتها لا تجيب شيئا عمّا عساه يكون سبب مرضها إلا تنهدات وزفرات.وإذا ما أحست بشيء من السكون والقوة، خرجت إلى صحن الدار وبيدها منديل محلاوي تضعه على فمّها من حين لحين وتقبّله حين تعلم أنّ ليس عليها من رقيب، فتجد فيه من أثر إبراهيم ما يزيدها لوعة...«  (هيكل.( 1992). ص295). وكانت آخر كلمة قالتها زينب عند دنو أجلها  »ثم طلبت زينب إلى أمها أن تأتيها بمنديل محلاوي موضوع في صندوقها، وأخذته بيدها فوضعته على فمها، ثم على قلبها. وكانت آخر كلمة لها أن يوضع المنديل معها في قبرها...«  (هيكل.( 1992). ص310 ).

  3. البيئة الدينية : في رواية زينب ملامح البيئة الدينية، حيث تعلو أصوات المآذن في أوقات الصلاة، ويستيقظ أهل القرية مع آذان الفجر، وصياح الديك، لأنّ طبيعة العمل في الريف تقتضي الذهاب باكرا إلى العمل في المزارع قبل شروق الشمس، في ذلك الوقت  »يقطع الصمت المطلق الذي يحكم على قرى الفلاحين طول الليل أذان المؤذن وصوت الديكة...، دخل أبوها راجعا من الجامع، وقد قرأ الورد وصلّى الفجر...، وكان الإيمان يملأ قلوبهم بما قدّر الله عزّ وجل لهم من حظّ في الحياة سعادة وشقاء

«  ولكن هذا الإله العادل الرحيم يعلم شقاءها الذي احتل نفسها، ولم يبق لها من أثر السعادة التي كانت ترجو في الزواج...، هذه الشعلة الإيمانية القوية التي كانت تخفّف عنهم أعباء الحياة القاسية، تقول عزيزة في رسالة إلى حامد  »إنّي يا أخي بحياتي قانعة راضية أو مضطرة لأن أكون..فدعني دعني... إليك يا الله أضرع أنت وحدك الذي تقبل التوبة من التائب. أنت سند الضعيف، وأنا في حاجة اليوم إلى سندك، فاملأ قلبي من حبّك أنت وحدك...فإذا انقضت صلاة الصبح رجع الكلّ إلى بيوتهم، فمنهم من أكل فيها لقمة وانصرف إلى الغيط...دخل خليل وأخذ مكانه الذي تعوده والإمام يرفع أصابعه إزاء أذنيه وينادي : الله أكبر فترتفع من ورائه أصوات المؤمنين. ..«  (هيكل. ( 1992) ).

2.2.2. المعجم البيئي في رواية زينب

ويرتكز النقد البيئي على توظيف الأديب للمعجم البيئي بمهارة وإتقان، لأنّ الأدب البيئي يستدعي حضور البيئة بكلّ عناصرها الحيّة والجامدة.

وفي رواية زينب ألفاظ الطبيعة بشكل مثير لطابعها الرومانسي، فكان الكاتب يحلّق في أجواء الطبيعة خريفا وشتاء وصيفا وربيعا في سرد الأحداث، ويرسم الأجواء النفسية لأهل القرية التي تتغيّر تبعا لتغير الفصول؛ وكان معجم الطبيعة في مقدمة المعاجم التي وظفّها السارد، لا يحصيها عدّ، نذكر منها (الليل، النهار، الظلام، الطبيعة، مزرعة، الشجيرات، القطن، الكواكب، القمر، القمح، الماء، الزرع، النسيم...)، وتتعالق هذه المشاهد الطبيعية مع البيئة الاجتماعية وكأنهما صنوان، فمن ألفاظ المعجم البيئي الاجتماعي : (العمال، العمل، الفلاحين، التعاون، الجماعة، الطوائف الفقيرة، ضيافة، الكتاب، المدرسة، التربية...)، و تجدر الإشارة إلى أنّ المعجم البيئي الاجتماعي كان يترجم صورة الفوارق الاجتماعية والطبقية في القرية و الثورة الزراعية، و الاستغلال الفاحش من قبل أرباب الأراضي وملاّكها لأهل القرية شبابا وشيوخا ونساء وأطفالا.

كما حضر المعجم الديني إلى جانب الاجتماعي، فالقرية التي تجري فيها أحداث الرواية بلدة محافظة، ملتزمة تحكمها الضوابط الدينية والعرفية، فمن المعجم الديني : (آذان، الله، الاله، العادل، المأذون، الحمد لله، الدين، التوبة، التائب، صلى الفجر، الشيطان، ووسوس لحواء...).

وقد هذّبت الطبيعة، والوازع الديني طباع أهل القرية، وغرست في نفوسهم قيم الصبر والأمل والتفاؤل رغم حجم المعاناة التي لا تُطاق، وهم يعملون صباحا مساء في مزارع القطن والأرز فرحين مستبشرين مقابل أجور زهيدة.

3.2.2. جماليات المكان في رواية زينب

يعدّ المكان علامة متميّزة في الأدب العربي، وأصبح له دوره في التشكيل الجمالي للنصوص الشعرية والسردية، وتحقيق شعريتها، فلا يمكن أن نتصور خطابا سرديا مجردا من المكان، فالأدب العالمي –حسب غاستون باشلار- »هو ذلك الأدب الذي يستطيع أن يتبناه الإنسان. أي ذلك الأدب الذي تقول لنفسك حين تقرأه : ((هذا ما كنت أريد أن أقوله، لكن هذا الكاتب سبقني إليه)).و مثل هذا الأدب يشقّ الطريق إلى العالمية، ولكنه يفعل ذلك –وهذه مفارقة-عبر ملامح بارزة وقوية، وأحدها المكانية...«  (باشلار.1984.ص6).ومعنى هذا أنّ الأدب الجدير بأن يوصف بالعالمية هو الذي يعبّر عن بيئة صاحبه، أي موطنه، ومسقط رأسه، هو المكان الأليف الذي يبدأ من البيت الذي ولدنا فيه، أي بيت الطفولة الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة، وتشكّل فيه خيالنا.

ورواية زينب من الروايات التي عبّرت عن جماليات المكان، إذ تجعلك تتعايش مع أحداثها، وتثير أحاسيسك إعجابا ودهشة بـ  »مناظر وأخلاق ريفية« ، فالمكان الرئيس  »قرية مصرية« ، أمّا الأمكنة الفرعية فتمتدّ الأحداث إلى  »المزرعة« ،  »الشارع« ،  »الدار« ،  »الضياع« ، »البلد« ،  »شاطئ الغدير« . وتميّز هيكل بقدرة فائقة على التصوير الفني والجمالي للمكان، حيث تظهر لك الطبيعة في أبهى حلّة،  »جاء الخريف، وجاء معه على آخر أيام المسامحة السنوية، وسافر حامد مع إخوته، ودخل مع الأيام في عمله، وشغل به عن كلّ ما سواه، وجعل ذكر القرية وما فيها ومن فيها يدخل تحت ستار من النسيان...« ،  »ما كان أشبههما كل واحد بصاحبه. غطى النسيان على تلك الأيام...فإذا ما خلا حامد بنفسه، وجاءت فرصة ذكر فيها الريف وجماله، ارتسمت أمامه المزارع بكلّها، وغدرانها الساكنة تشقّ الأراضي الواسعة، ويقوم عن جانبيها الشجر بكسائها الأخضر البديع...«  (هيكل. ( 1992). ص35 )،  »تركهم وسار تحيط بهم خضرة المزارع من كلّ جانب، فلمّا وصل إلى شاطئ الغدير ووجده خاليا جافّا، ينتظر التطهير، وقف فحدّق إليه مدّة، ثم رفع رأسه، فإذا السحب تنقشع واحدة بعد الأخرى، وتظهر الشمس خلال ذلك لحظة تبعث فيها بأشعتها على الأرض فتغيّر من عبوسها. ثم تختقي ثانية ويرجع للجوّ قتامته، وتدخل الموجودات في ذلك الحزن المستسلم الذي هي فيه من الصباح، ويتكرر هذا المنظر، ويتلهّى به حامد عن همومه«  (هيكل. ( 1992). ص44 ).

4.2.2. الخيال البيئي في رواية زينب

والخيال البيئي نوع من أنواع الخيال، وسُميّ بهذا الاسم لاتّصاله بالطبيعة، وهو مصطلح صاغه الناقد الانجليزي  »لورنس بويل«  « Lawrence Buell »صاحب كتابي :  »الخيال البيئي/ The Environnemental Imagination« ، و »مستقبل النقد البيئي : الأزمات البيئية والخيال الأدبي« .، ويُراد  »التمثيل الأدبي للطبيعة« .

وبناء على ما سبق، فإنّ وظيفة الناقد في الأدب البيئي هو دراسة الصورة الفنية التي قدّم بها الأديب البيئي مادته كالمكان، حيث يتناول الناقد الخيال البيئي في الخطاب الأدبي ليس كما هو مرسوم في الطبيعة، أو محاكاة له، و إنمّا هو استجلاء للإحساس الذي يثيره فينا كوصف العش مثلا –حسب باشلار- ليس كما هو، بل هو استعادة الدهشة التي كنّا نشعر بها حين نعثر على العشّ.

والتصوير الفني من الأدوات التي اعتمد عليها هيكل في روايته، حيث جعلنا أمام مشاهد طبيعية حيّة تثير فينا الدهشة والإعجاب بالمناظر الريفية، إذ يستنطق الجماد، ويبث فيه الحياة، ويصف الحياة في الريف، ومظاهر السعادة والتفاؤل التي تملأ قلبوبهم رغم حجم المعاناة، والحزن والألم على فراق الأحبة. ويعدّ التشبيه والاستعارة من الصور الفنية الأكثر حضورا في الرواية، فمن التشبيهات :  »وأصبح الوجود الذي كان من قبل معطرا بالزهور وبسكرات الحبّ وجودا هادئا ساكنا ألذّ ما فيه العمل والفكر..،. .والآفاق البعيدة كأنما تموج بسكان الأرض، وتبعث الشمس إليها بلجة أشعتها فتظهر بلونها الترابي كاسفة كأنما تحس بما تحويه من قلوب جازعة، لكم جمال الوجود، لكم السماء والزرع والماء والليل والقمر، فاحيوا متمتعين بهاته الأشياء وذرونا في صوامعنا وسجوننا، هل تظنّ أخي حامد أنّنا معشر البنات سعيدات في ذلك السجن العتيق،. .. فقبضوا بشمالهم على سيقان القمح النائم بعضه فوق بعض كأنّه نشوان طرب بتلك العوامل الكثيرة التي تبعث في قلب المحزون ما يستحقه ويستهويه، واتّخذك القمر رفيقا، وتظهر كأنّها جرح دام أي المصابيح في جسم ذلك الجان...«  وغيرها من التشبيهات التي جاءت في شكل لوحات فنية تعبّر عن صدق الإحساس، وبتأثير المنظومة البيئية في حياة الفلاحين، وأهل القرية بصفة عامة. أمّا التركيب الاستعاري فقد نمّى فينا الإحساس بالجمال، وصقل أذواقنا وجعل الطبيعة تأسر وجداننا وعقولنا، نذكر منه :  »تألقت نجومه وخفّفت من سواد الليل، ويرقبون بعيونهم نتائج عملهم زاهرة ناضرة، ثم يقطف ثمرتها سيد مالك...، ويبقى العامل والفلاح لذلك في ظلمته، وفي رقه وشقائه، لكن الطبيعة العادلة تعلم أن ذلك ليس ذنبها، جادت عليهم الطبيعة ببعض الراحة، مدّ الظلام رواقه على الوجود العظيم، يشقون عباب الظلام، يتنفس عنه الربيع...وغيرها من الاستعارات التي نفثت الحركة، وبعثت الحياة في الجماد، وجسّدت المحسوسات.

5.2.2. التناص البيئي في رواية زينب

والتناص البيئي هو أن يقتبس الأديب في عمله الأدبي من نصوص بيئية سابقة، تحتفي بالبيئة والطبيعة، ومن هنا فقد انتقل مصطلح التناص إلى مستوى البيئة.

وفي رواية زينب كثير من التعالقات النصية البيئية، إذ يشاطر محمد حسين هيكل تصورات أدباء احتفوا بالبيئة الريفية إلى حدّ يمكن عدّ نصوصهم بيئية، وخاصة الرومانسيين، وهذا التقاطع لم يكن اختلاسا أو سرقة بل كان عفويا سببه الشعور المشترك بين الأدباء واتّفاقهم في وجهات نظر واحدة حول « الريف » أو « القرية »، فجلّ الأدباء يجمعون على أنّ الريف فيه من مظاهر الحسن ما يريح النفس، و يطمئن القلب، وينظرون إلى الطبيعة نظرة قداسة، لأنّ فيها من الجمال الذي يسحر عيوننا في الشتاء، والصيف والربيع والخريف، كما في الريف من العادات والتقاليد ما لا نجده في المدينة « ، ولا يخفى علينا تأثر هيكل أثناء مساره الدراسي في فرنسا بالأدب الغربي وخاصة الرواية الرومانسية العاطفية في شكلها. أمّا مضمونها فجاء بذوق عربي، وفكر شرقي في وصف الحياة الريفية العربية، وإن كان ينتقد العادات والتقاليد التي تكبح حرية المرأة في اختيار شريك حياتها، وتسلب حقوقها المادية والمعنوية.

إنّ استحضار الريف والفلاحين في رواية زينب هي ثمرة التأثر بالأدب الفرنسي، حيث تعود الجذور الأولى إلى ما قبل القرن التاسع عشر، و  »تجلّى ذلك في المشاعر الرومانسية المتأثرة بالاتجاه « الروسوي » (نسبة إلى روسو) (الاتصال بالطبيعة يجعل المرء فاضلا). هذه اللوحة لعالم الفلاحين باعتبارها عالما من المشاعر النقية والنبيلة ظهرت أساسا في الروايات « البيريكية » (Berricons) نسبة إلى بيري لـ« جورج صاند »والتي كتبت بين عامي (1845) و (1853 ) حيث ظهر فيها التمثيل الدائم لعالم الريف، وفيه يمضي الزمن بطيئا على إيقاع العمل في الحقول والحفلات التي تقام في القرية«  (بتقة. (2010).ص23). وقد أطلق هيكل على روايته (مناظر وأخلاق ريفية)، واستحضر كثير من النماذج تمتزج فيها الطبيعة مع المجتمع نذكر منها قوله :  »جاء الخريف على كلّ ذي ساق، ولم يبق إلاّ النبت الأخضر يغطي وحه البسيطة وقد انكشف لمقدم الشتاء. ومزارع البرسيم تذهب أمام البصر إلى اللانهاية. وأقفرت الأرض من بني آدم، جماعة العمال وأصبحت مرعى للنعم التي شاركتهم أيام نصبهم. وهاهي ذي ترتاح أن جادت عليهم الطبيعة ببعض الراحة، فتراها في رعيها وكأنّها في شهور عيدها ترفع رأسها ما بين آونة وأخرى، ثم تزعق فتملأ أذن الطبيعة الصامتة...«  (هيكل. ( 1992). ص36 ).

6.2.2. قيم أخلاقية وإنسانية بيئية

الطبيعة أمّنا الحنون، وخير مدرسة ومعلّم لا يحدّها زمان ولا مكان ؛ لأنّها تعلّمنا القيم الأخلاقية والإنسانية، فهي تعلّمنا الحبّ، والخير، والجمال، والعدل، والكرم، ولا تعرف الجور، والشرّ، والكراهية، وتجود بخيراتها على الجميل والقبيح، والسامي والوضيع، على خلاف بني الإنسان الذي لا يعرف إلاّ مبدأ  »استغلال الإنسان لأخيه الإنسان« .

وفي رواية زينب امتزجت الطبيعة بمحاسنها مع الأخلاق الريفية كالحبّ والخير وروح التعاون والجمال والصفاء والنقاء، والأمل والتفاؤل، وممّا لاشك فيه أنّ الحياة الريفية استمدّ ت نورها وقيمها من هذه الطبيعة، فشبّ أهل القرية على مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال، لأنّ طبيعة الحياة فرضت عليهم التعاون لمواجهة مصاعب الحياة، ويظهر ذلك في الرواية كالعمل الجماعي في المزارع، والتآزر في المواسم والأعياد، وفي وقت الشدّة، والحبّ العذري الذي يربط الأنا بالآخر، والجمال الذي هو انعكاس لجمال الطبيعة؛ ولهذا كان محمد حسين هيكل يسهب في تصوير المشاهد الطبيعية، ويربطها بالواقع الاجتماعي، وكأنّ تقلبات الحياة تأتي تبعا لتقلبات الفصول، فالربيع غير الشتاء، والخريف غير الصيف، فإذا ما جاء الخريف والشتاء استودّت الحياة وعمّت الأحزان، ثم لا يلبث أن يأتي الربيع والصيف فتعمّ الفرحة والابتسامة والسعادة في القرية، وفي الرواية أمثلة كثيرة نذكر بعضها –على سبيل التمثيل لا الحصر- قوله :  »ولكن الأيام المملوءة بالعمل الجد، وأحلامه الطويلة للمستقبل، جعلت تقضي على هذه الفكرة رويدا رويدا، وأصبح الوجود الذي كان يتخيله من قبل معطرا بالزهور وبسكرات الحبّ وجودا هادئا ساكنا ألذّ ما فيه العمل والفكر...، هاهي زينب في تلك السنّ ترنو إليها الطبيعة، وما عليها بعين العاشق، فتغض طرفها حياء، وترفع جفونها قليلا قليلا لترى مبلغ دلها على ذلك الهائم، ثم تخفضها من جديد، وقد أخذت مما حولها ما ملأ قلبها سرورا، وأضاف إلى جمالها جمالا ورقّة..، وقد أبدعت الطبيعة في زينب وأعطتها بذلك تاجا معترفا به من كلّ صويحباتها..." (هيكل. ( 1992).

خاتمة

وفي نهاية هذه الورقة البحثية توصّلنا إلى النتائج الآتية :

  • -يعدّ النقد الأدبي البيئي من المقاربات الجديدة التي ظهرت –في نقد ما بعد الحداثة-، و هي تتعامل مع الأدب البيئي وتكشف عن العلائق التي تربط الأديب ببيئته.

  • -لحداثة النقد الأدبي البيئي لا توجد آليات محدّدة سلفا، وإنمّا ما وصل إلينا من الغرب هي جهود فردية تلقاها العرب بالترجمة.

  • رواية زينب من أشهر الأعمال الإبداعية في الخطاب السردي التي تجسدّت فيها البيئة بكلّ تمثّلاتها، وامتزجت الطبيعة بالأخلاق الريفية.

  • -تحتوي رواية زينب على كثير من القيم الأخلاقية والإنسانية كالحبّ العذري، والخير، والجمال، والأمل والتفاؤل، والتعاون.

A.Naess. (1987). Ecology community and life style. Cambridge university press.

أ. م عمر. (2008). معجم اللغة العربية المعاصرة.القاهرة.عالم الكتب.

سليم بتقة. (2010). الريف في الرواية الجزائرية- دراسة تحليلية مقارنة-.باتنة. جامعة الحاج لخضر.

غاستون باشلار.(1984).جماليات المكان.بيروت. لبنان. المؤسسة الجامعة للنشر والتوزيع.

محمد حسين هيكل.( 1992). زينب مناظر وأخلاق ريفية. القاهرة. دار المعارف.

فريد عوف Farida Aouf

جامعة محمد الصديق بن يحي جيجل

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article