مقدمة
يقول « نيشه » في كتابه (العلم المرح) « أفكارنا يجب أن تولد دائمًا من الألم، وعلينا، بما يشبه الأمومة، أنّ نشاركها بكل ما لدينا من الدّم والقلب، والحماسة والبهجة والهوى والوخز والتأنيب والضّمير والقدر والشؤم ». (يانكوف 1973 : 11). ويقول « إريك قايون » : « الألم هو غير الذّات الموجوعة، فليست الذّات إلاّ وعيًا بالألم ». (Eric 2006 : 125).
يمكن اعتبار المسار الرّوائي، في افتراض نظري خالص، إنضاجًا لقدرات التّمثيل العاكسة للخلل في التّوازن بين مكونات الجسد والوعي والوجدان، ومحاولة لفهم ماهية الألم، وتحويله لوعي يفارق العلة الغامضة إلى عمقها القيمي والإنساني الخفي. ثم التّشوف إلى الارتقاء من قاعدة الألم الموضوعي إلى صوره المفارقة، التّي تكتسب تدريجيًا تكوينًا ذهنيًا يحمل وظائف وسمات، ويولد معجمًا، وينشئ بلاغة تنهل من الإمكانيات الماتعة للتخييل الروائي.
بناءً على هذا الافتراض، يمكن لقارئ الرّواية وناقدها اعتبار الإنجاز الرّوائي، في جملة مجازية مقتضبة، « ذاكرة للألم الإنساني »، مادام تراث هذا الجنس التّعبيري لا يمثل في العمق إلا تصويرًا للهم البشري إزاء الحاضر والمحيط، واستبطانًا لمأساته الأبدية في مكابدة الحب، ونشدان السّعادة، واستبعاد الموت، والتوق إلى حرية أكبر؛ بيد أنّ مثل هذا التّعريف لا يعفي النّاقد من ضرورة التّمييز بين « سمة الألم » التّي باتت مكونًا رئيسًا في أي نص روائي، وبين « الألم » بما هو خطاب مركزي يتأسس على موضوعات بذاتها كـ : « المرض » و« السّجن »، و« المنفى » و« الإعاقة » و…، وغيرها من الموضوعات التّي يتقاطع في بنيتها التّخييلية الحكي الذّاتي، بالعالم الهامشي، بالسّعي إلى التأريخ، والاستعادة التّأملية لوقائع تجربة فريدة واستثنائية.
فهذا عرض بعنوان : سميائية الألم وتمثلات المعاناة في رواية : « مَيْ/ ليالي إيزيس كوبيا، ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية » وسأقف عند تجليات الألم كونه النّسق الطّاغي على فصول الرّواية بكاملها، والذّي عانته مي زيادة طيلة الحكاية أو لنقل الفصل الأخير من حياتها.
-
كيف اشتغل نسق الألم في رواية « مي زيادة »؟.
-
ما واقع المرأة في ظل الهيمنة البطريركية؟.
-
وكيف تواطىء الإعلام والدّين والمجتمع في معاناة مي زيادة؟.
1. العنوان مرآة عاكسة للألم
يستوقفنا في البداية عنوان الرّواية « مي ايزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية »، هذه العتبة النّصية المكونة من ثلاث عناصر دلالية، وهي المكون الفاعل المتجسد ب « مي » وإيزيس كوبيا« ، والمكون الآخر للعنوان هو الزّمني المتمثل بـ » ليالي« و »ليلة وليلة« ، كما تعين لفظتا جحيم و » العصفورية« ، المسبوقتان بحرف الجر » في« الدّال على الظّرفية المكانية، المكون الفضائي.
فالعنوان يحيلنا إلي العذاب والمأساة المريرة والجحيم القهري الذّي كابدته »مي زيادة« التّي تعد صورة مصغرة لواقع المرأة التّي كانت ولا زالت الموضوع الأول المرتبط بالجحيم بكل أنواعه، وكانت ولا تزال خاضعة للهيمنة الاجتماعية التّي رسختها الثّقافة الذّكورية والمجتمع الأبوي، ففي كل المجتمعات وعبر كل العصور كانت المرأة مهمشة، ووضعت كينونتها على هامش المجتمع.
يأتي العنوان أيضًا مقترنًا بجملة، »إيزيس كوبيا« هو لقب مرتبط بـ » مي« كونه الاسم المستعار الذّي أطلقته على نفسها في ديوانها الأول » زهرات الحلم« والذّي كتبته بالانجليزية وصدر في القاهرة مارس 1911 وهو أولى الأعمال الأدبية لهذه الكاتبة، وإطلاقها لهذا الاسم المستعار بالذّات يلقي الضّوء على مدى عمق فهمها للدّور الذّي كانت تعد له نفسها في مجال الكتابة، فضلا عن وعيها الدّقيق بعظائم الأمور، فالنّصف الأول من الاسم »ليالي إيزيس« يرمز إلى الإله الخصب والأمومة عند قدماء المصريين، والنّصف الثّاني من العنوان » كوبيا« يعني الوفرة والغزارة، وهذا بالضّبط ما تتميز به هذه الكاتبة التّي كانت تتمتع بالخصوبة والوفرة والعطاء في شتى المجالات.
أما العنوان الفرعي تكون من عدد مركب وتمييز »ثلاثمائة ليلة« ، جاء تناصًا مع أشهر كتاب في سرد القصص والحكايات »ألف ليلة وليلة النّص السّردي التّراثي« الذّي يعد مركز جذب بالنّسبة للكاتب »واسني الأعرج« لأنّه مَارس عليه فِعل الغواية، لقد أغراه مكتوب ألف ليلة وليلة بالسّفر عبر مخطوطه. « مي ليالي ايزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية« المقترن بليالي ألف ليلة وليلة من حيث احتكار شهرزاد الكلام المباح.
غير »واسني الأعرج« في هذا العمل الأدوار فبدل أن تتوجه »شهرزاد حكاياتها إلى « شهريار » أصبحت تحكي عنه، وشهريار هنا هو ابن عمها « جوزيف » السّبب الأول في مأساتها المرتبطة بـ« جحيم العصفورية » وهو وصف لليالي الثّلاثمائة واللّيلة الأخرى التّي قضتهم في العصفورية، وهو مستشفى بيروت للأمراض العقلية. إنّها ليالي عذاب وألم وظلم الذّي عانت منه الأديبة « مي زيادة »، فليس الألم خاصًا بليلة واحدة قد يشفى منها المتألم، بل إنّها بتكرارها رسخت ألمه.
لقد تصرف الرّوائي في العنوان ليمنحه لمسته الخاصة وليبين لنا حجم الثّقل والظّلم والألم والمعاناة والأذى الذّي تعرضت له « مي » في حياتها، فيسرد لنا مأساتها في لحظات الضّعف التّي بدت فيها عاجزة عن مواجهة الحياة بعد سلسلة من الصّدمات النّفسية الحادة التّي أصابتها، بدءا بوفاة أبيها فتقول « ليس سهلاً أن تفقد من تحب، لكن أن تفقد أبًا، شكل عالمك، حياتك« . (الأعرج 2018 : 117) وتعبر عن فقدان حنان الأب كذلك « مات أبي وأنا جوعانة إلى حنانه« (الأعرج 2018 : 119)ثم ملاذها الرّوحي جبران « لحقه جبران، حبيبي وأخي الذّي يعرف جراحاتي« (الأعرج 2018 : 119)وبعدها أمها فتضيف معبرة عن حزنها « ثم ختمت درب الآلام بفقدان أم، كانت كلي وقلبي(...) وفاة أمي كانت قاصمة للظهر« (الأعرج 2018 : 119) أكبر فاجعة تعيشها مي هي فقدان الأم.
وقد وقع اختيار الرّوائي الجزائري لهذا العنوان من أجل استرجاع روح واحدة من أبرز الأدبيات في تاريخ الأدب العربي الحديث، وقد أرفق هذا العنوان بعنوان فرعي تحت العنوان الأصلي الموسوم ب « ثلاثمائة ليلة وليلة » لتبيان حجم وضخامة المعاناة، ومن خلال القراءة تبين أنّ الرّوائي تمكن فعلاً من استيراد روح الكاتبة الفلسطينية « مي » التي رحلت بعد مأساة دامت طويلا.
2. الهيمنة الذكورية/ الألم الاجتماعي
تروي « مي » زيادة ما حل بها بدقة وتفاصيل وكيف وقعت في فخ الاحتيال الذّي نصبه لها ابن عمها « جوزيف زيادة » الذّي أحبته ووثقت به
« حياتي كلّها كانت محصورة في ابتسامة جوزي، (...) في كلماته التّي ينتقيها بدقّة من قواميسه الفرنسية (..) التّي تهّزني من الأعماق، أهو الحب الأعمى الذّي سكنني بقوة؟ أم الحاجة الماسة إلى حائط أتكئ عليه« (الأعرج 2018 : 70) تلاعب بمشاعرها استعمل خبث الذّكورة ودهائه للإيقاع بها والاستيلاء على أملاكها « يلح على حساباتي في بنوك أخرى غير المصرية بل واللبنانية المعروفة (...) وهل حدثني والدي عن أراضي امتلكها غير تلك المعروفة (...) كنت أجيب بعفوية وصلت إلى درجة البلدة. ياااااه، كم كنت غبية« . ؟ (الأعرج 2018 : 71)
الثّقة العمياء لبدت العقول النيرة، وتواصل « حينما استكمل برنامجه في أمري، أرسلني إلي « العصفورية« (الأعرج 2018 : 70) فاستغل تلك الثّقة والمحبة ليستكشف أعمالها وأموالها ليقف على سرائر مصالحها وشؤونها وعقاراتها ليرسلها إلي مستشفى العصفورية أو بالأحرى إلى سجن العصفورية فتقول :
« ظلموني يا بلوهارت، ظلموني إلي درجة أن حولوني إلى مجنونة (...) ترتيب جوزيف لم يكن عبثًا، لقد استولت العائلة على كّل شيء. لو غادرت العصفورية، لن أجد ما آكله. كّل شيء أصبح محرمًا علي، الحجر الذّي وقعت عليه، لا يمنحني أي حق « (الأعرج 2018 : 160)وصلت بهم الجرأة إلى تجريدها من كل شيء والإمضاء على الحجر « جوزيف كان قاتلي، ومقتلي من دمي ». (الأعرج 2018 : 102)
غدر الدّم كما يقال في المثل الشعبي »همي جاني من دمي« .
إنّ « العنف (...) يمكن أن يصبح عنفًا »روحيا خالصا« » (بيير 2009 : 61)مثلما حدث مع مي زيادة « استولى على كل شيء في حياتي (...) غبية أنا شبهة ظننت أنّي أصبحت فوق الصّغائر ! في النّهاية لست إلا امرأةّ صغيرة سقط متاع أمام ذكورة متجبرة وقوانينها، فيم نفعتني ثقافتي في عمق عفن الطّمع والكراهية ؟ لا شيء .« (الأعرج 2018 : 88) ما قيمة الثّقافة؟ في مجتمع جاهل أعمى طغت المادة فيه على الإنسانية فسقط القناع وظهر الباطن المكرس في لاوعي ذكورة متجبرة بقوانينها المتوارثة عبر الأجيال في تكريس دونية المرأة واستلابها على جميع الأصعدة العاطفي والمادي.
تكشف الرّواية كذلك كيف أنّ كل معارفها من رجال الثّقافة والأدب تنكروا لها في محنتها فسقطت أقنعتهم مما جعلها تتألم داخليًا لذلك تقول :
« قلبي يؤلمني كلّما تذّكرت أحبابي في مصر، لا أنسى جحودهم سأظل أقول هذا الكلام أكرره بلا توقف. ماذا لو أثار »طه حسين« زوبعة، وهو سيدها وقادر عليها ؟ألم أقف بجانب قضيته ضّد الظّلم الذّي تعرض له يوم حوكم بسبب كتابه في الشّعر الجاهلي؟ » (الأعرج 2018 : 249)
جحود ونكران للخير من طرف أحد عمالقة الأدب العربي ونسيان وقفة مي الأبية معه في محنتيه، كان موقفهم يشكل ألمًا فوق ألمها « حتى أصدقائي تخلّوا عني، وبدل أن يدافعوا عني، راحوا يكيلون لي التّهم القاسية، وجعلوا من كآبتي مادتهم لذبحي ». (الأعرج 2018 : 160)فقد قهروا قلبها، وهم من كانوا يتنافسوا على حبها وعشقها
« ماذا لو ركض نحوي محمود عباس العقاد(...) ألم أكن حبيبته التّي ألهمته بكتاب(...) معركة على السّفود بين »عباس محمود العقاد« و »مصطفى صادق الرافعي« ، لم تكن ثقافية، وأدبية بالمعنى الدّقيق للكلمة، في عمقها كانت الغيرة (...) من كل المنافسين (...)بالخصوص جبران(...) كنت أقول له (...) أي حب هذا (...)لا أصلح له، ولا أعتقد أنّه يصلح لي(...) أنا امرأة حرة ولست أمة أي رجل ». (الأعرج 2018 : 200، 201)
مشاعر مزيفة تختبئ وراء عقدة جنسية ذكورية ترفضها مي، وترفض أن تكون أمة أي رجل وتواصل « جبران (...) كان يريدني قريبة منه (...) لكّنى رفضت أن أكون مجرد رقم في حديقة نسائه ». (الأعرج 2018 : 140)على الرّغم من كل الحب والمعزة التّي تكنها لجبران لكنها رفضت أن تكون مجرد رقم، مجرد جسد وفقط، تقول كذلك « امرأة شرقية، أريد رجالاً لي وحدي، أموت وأحيا من أجله (...) لا أقبل الشّريكة في الحب، الشّراكة في الحب في صف الجريمة، أمر قاتل، مصدر كل الأحزان الثقيلة » (الأعرج 2018 : 141)
اعتراف »مي« بأنّ ما كان يطلبه منها جبران أمر قاتل ومهين للمرأة بصفة عامة وللمرأة الشّرقية بصفة خاصة. تصف الرّجل فتقول : « الرّجل حيوان بلا رادع نفسي، المرأة هشاشة مفرطة عند بعض الّذكور، لا يمكن تفادي غريزة التّعدد ربما نتجت من الإحساس التّاريخي بالقوة والحق في كل شيء والحق المطلق في المتعة القصوي« (الأعرج 2018 : 141) الرّجل حيوان غريزي متسلط توارث عبر الزّمن المركزية الأبوية الذكورية فهو القوة وهي الهشاشة والجنس الآخر « العقلية الذكورية في التّاريخ هي العقلية الثّقافية المهيمنة على المجتمع« (مناصرة 2008 : 13) إذ يمكن إحالة « الخلفية الثّقافية الذّهنية العربية المعاصرة في تعاملها مع المرأة إلى أفكار العصر الجاهلي الأبوية، تؤكد على ثبوت نمطية شخصية المرأة في الواقع (...) منذ ذلك الزّمن المؤسس إلى الآن« . (مناصرة 2008 : 13).
السّلطة الذّكورية مكرسة في الخلفية الذّهنية العربية من قبل ظهور الإسلام ومازالت طاغية على المجتمعات العربية إلى عصرنا هذا « على الرغم من المسافات والثّقافات المتباينة والتّقاليد، أشعر بي في دوار كامي، أن رودوان جوزيف من طينة ذكورية واحدة ويقين واحد« (الأعرج 2018 : 130)الهيمنة الذكورية أزلية عبرت الحدود الجغرافية والزمنية فالرجل رجل طينته واحدة مهما تعددت الأجناس والألوان. على الرّغم من إطلاق عدة أوصاف على »مي« فـ :
« لقّبني »ولي الدين« بملكة الإلهام، خليل مطران بفريدة العصر و »مصطفى صادق الرافعي« بسيدة القلم (...)ومصطفى عبد الرّزاق بأميرة النّهضة الشرقية (...) يمكنني أن أعّد الألقاب التّي انطفأت فجأة يوم سرقوا مني قلبي (...) لقب من هذه الألقاب لماذا لم ينفعني أي لقب من هذه الألقاب لماذا تخلّى عني الجميع (...) بهذه السّرعة الغريبة« (الأعرج 2018 : 146).
إلاّ أنّها بقيت في نظر المؤسسة الأدبية الرّجالية مجرد امرأة حتى أطراف أصابعها مجرد أنثى مثقفة ذات شخصية محببة، فظلموا عقلها وفكرها وإبداعها وإنتاجها الفكري فما فائدة الألقاب؟ في مجتمع ذكوري ظالم مزيف يسيطر الخبث فيه، وهمه الوحيد السّيطرة والغريزة ونسوا معنى الإنسانية والرّحمة.
3. أزمة الحداثة
طرح واسني في روايته أزمة الحداثة من منظور المثقف العربي يقول على لسان مي
« منذ البداية أدركت أنّ صراعي سيكون كبير مع رجال شاخوا قبل أن يكتبوا، ولدوا مخربي الأدمغة في غمار حداثة أكبر منهم لأنّهم رفضوا كسر كل معوقاتهم الدّاخلية. كلّهم بلا استثناء، صّناع الحداثة، كلّما تعلق الأمر بامرأة مّزقت الشّرنقة مقابل ثمن غاٍل دفعته من أعصابها وراحتها، أخرجوا سكاكينهم « (الأعرج 2018 : 229)
تحدت مي مجتمعًا ذكوريًا يتنفس السّيطرة والهيمنة بأدبها وصالونها الأدبي الذّي كان يتوافد عليه صناع الحداثة، فالشّكل حداثي والباطن لم يتغير بكل مكبوتاته وعقده، « شجاعتها وإصرارها على أن تكون في مجتمع ذكوري متخلف ومصاب بالمازوشية« . (الأعرج 2018 : 17) وتكون بذلك مزقت الشّرنقة التي سجنت فيها المرأة العربية منذ عصور غابرة لكن دفعت ثمن ذلك غاليا. تواصل حديثها؛
« أزمة الحداثة العربية امرأة، هزيمة الخروج من التّخلّف، امرأة أيضا... حتى أسمائي المستعارة لم تنفعن للتخفي منهم، كانت رغبتي لا تحد، في نقد المجتمع الشرقي الذّي يري في الغربي كّل شيء، فاستعرت من ماري البداية والنّهاية، مي تصغير ماري عند الانجليز، إيزيس كوبيا (...) التّرجمة الحرفية لماري زيادة، ايزيس أخت الإله وعروسه(...) كوبيا اللاتينية مرادفة لزيادة (...) التخفي زاد من هياجهم« (الأعرج 2018 : 229)
عقدة الذّكورة أمام تحرر المرأة وثقافتها فهي في نظرهم مجرد كائن ثقافي اقتحم عالم الإبداع الذّي نسبه إليه الرّجل فهو عالمه الخاص، فاضطرت المرأة المبدعة للتخفي تحت أسماء مستعارة لتطلق العنان لقلمها. « لا شيء في هذا الشرق، الذّي أخفق في كل شيء، حتى في أن يكون، هو، خسر شرقيته، وأخفق في أن يكون غربا ». فـ »واسني الأعرج« طرح هنا نسق الهوية، مشكلة الأدباء بصفة خاصة والمجتمع العربي بصفة عامة الذّي أراد الانسلاخ من كل ما هو شرقي لانبهاره الشّديد بالغربي لكن هيهات فقد هويته وشرقييه ودفع ثمن ذلك.
4. المؤسسة الإعلامية/ ألم التواطئ
تصور لنا الرّواية كذلك كيف تنافست الصحف على ظلم »مي« ومساعدة ابن عمها في مخططه « الصّحافة ذبحتني، كلّها سارت في ما خططه الدّكتور جوزيف ».تعبر مي عن الظّلم القاهر الذّي شعرت به لما طعنتها الصّحافة والصّحافيون، هي وأبوها « كان كرهي لهم أشد، يوم نشروا خبر جنوني، وأوجدوا عند النّاس في الشّرق والغرب(...) »مي« مجذوبة (...) كان على الصحافيين (...)أن يدافعوا عّني لا لأني زميلتهم ولكن لأني مظلومة.« (الأعرج 2018 : 213) تنافس الجرائد للتشهير ب »مي« بلا شفقة ولا رحمة بل أسوء من ذلك تزيد في تعظيم الأمر والكذب عليها « حبل الكذب قصير يا آنسة مي » (الأعرج 2018 : 204)وتواصل في فضح بعض الصّحف والجرائد التّي أهانتها « بعضها أهانني بقوة، وفي مقدمتها صحيفتا »الحديث« صوت الأحرار » اللتان أفرغتا في سمومهما وظلمهما، وقبحها العميق، رائحة المال العفن أنا صحفية وأعرف صعوبات المهنة، لكن ليس بهذا الشّكل من البؤس والانهيار « (الأعرج 2018 : 213) بيع الضّمير وانتشار الفساد والانهيار في المؤسسة الإعلامية والاشتراك في استلاب حق المرأة ودعم المؤسسة الذكورية وتكريس سيطرتها.
5. النسق الفلسفي/ ألم الوجود والضياع
يثير « واسني الأعرج » مسائل وجودية ويطرح أسئلة فلسفية، على رأسها قضية الإيمان بالقدرة الإلهية والرّحمة، لماذا يسكت الله على الظّلم ولا يستجيب لعباده المتضرعين إليه ساعة الشّدة على مرأى منه وهو على كل شيء قدير؟ يقول « واسني الأعرج » على لسان « مي » « ماذا حدث يا رب؟ كيف تركتهم ينكلون وانزويت تتأملني كأنّك لم تكن معني بآلامي؟ لماذا تركتني وحدي أواجه عاصفة الّذل والضغينة والطمع؟« (الأعرج 2018 : 136)مي زيادة تعاتب الله وتلومه لعدم تدخله لحمايتها وبقائه يتفرج على آلامها وعذابها، فبعد أن تخلى عنها جميع من ظنت بهم خيرًا من عائلاتها وأصدقائها وأحبابها، وحتى الرب الذّي طالما ناشدته بالعبادة والتّراتيل لم يستجب لندائها، فوجدت نفسها في غرفة بيضاء خالية لا يقرأ من جدرانها إلاّ الضّياع الأبدي، وتأكد ذلك بقولها للممرضة « يا خالة، وين نحن وين الرب؟ منسيون في هذا الظّالم الفادح » (الأعرج 2018 : 57) فالرّب بالنسبة لها لا وجود له لأنّه تخلى عنها في محنتها « كيف للرب أن يتواطأ مع القتلة ». (الأعرج 2018 : 140) تتهم الله سبحانه وتعالى بالتّواطؤ مع القتلة، فما جدوى الدّعاء من أعماق الرّوح والنّفس المتألمة إن كان لا يسمع؟. فمن الصعب أن نضيع بين وهم الأحبة والأصدقاء بل والأقارب والعائلات بل والرّب المعبود، إنّه ألم الضّياع بعينه.
تواصل « مي » تساؤلاتها التي تعبر عن تمزقها الدّاخلي من شدة الألم الذّي تعرضت له من جراء دخولها إلى مستشفى المجانين وعن تخلي الرّب عنها في وقت محنتها
« تقول لي بأنّ الله يعطف على المظلمين وأنّه طيب الخ... لنسأل إلهك الذّي ترك بريئة تتعفن في مستشفى المجانين؟ لما يسلط هذا القدر المشؤوم على الضّعفاء على الرّغم من ذلك تواصل ماري الصّراخ ولا تنقطع عنه في غمرة الوحدة والألم فلم يكن يسمع صُراخها إلاّ أشجار العصفورية الكثيفة، والعملاقة التّي تنحني بسهولة كلما هبت الرياح ». (الأعرج 2018 : 59).
لم تكن « مي » قادرة في ألمها إلا الصّراخ الجريح المنهزم روحًا وجسدًا، لأنّ الخيانة والنّفاق والغدر والطّمع والظّلم الوحشي الذّي تعرضت له في آخرها جعلها ترضخ للمصير والقدر المسلط عليها وتقبلته وكفت عن الصّراخ وفقدت الأمل في أن ينقذها الله « قبلت تقريبا بالقدر المشؤوم قبل المسلّط علي، لم أعد أصرخ لكي ينقذني الله، لقد فعل في البشر ما أرادوه، على مرأى من جبروته وسلطانه، لم يعد يسمعني مطلقا » (الأعرج 2018 : 105) فـ« مي » قنطت من رحمة الله واستهانت بسلطانه وقدرته كما فعل ذلك واسني على لسانها، كأنّما هو أيضًا فقد الأمل من رحمة الله سبحانه وتعالى ومن وجوده وقدرته بالرّغم من أنّه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الكافرين.
تواصل عتابها للرب وتقول : « حرااااام يا ربي، حرااام أن تنظر كمن يتسلى« (الأعرج 2018 : 142) واسني على لسان السّاردة ينسب لله تعالى صفة التّسلية واستهانة بعباده وعدم الرأفة بهم، وهو الرّحمان الرّحيم الرؤوف بعباده، فلم يعد الاستهزاء بالدّين وبصفات الله وأسمائه الحسنى غريب لدى المبدعين. فتفكر في الانتحار للانتقام من الرب وتسبب الألم فتقول « أفكر في الانتحار الانتحاااار. أسمع صوت الأخت الكبيرة في داخلية عينطورة : لا يوجد أكثر ألما للرب مثل الانتحار ». (الأعرج 2018 : 136) كيف لعبد أن ينتقم من خالقه والتّفكير في أذيته ووجعه، تواصل عتابها فتقول : « أنّ الرّب يعاقبني عن طريق الخطأ ». (الأعرج 2018 : 55) هل واسني واعي؟ بما ينسب لله تعالى على لسان مي الخطيئة هل خالق الكون يخطئ؟ الخطاب المعلن يخفي في طياته نسقًا مضمرًا ألا وهو التّشكيك في وجود الله وعظمته ورأفته ورحمته وتنزهه عن صفة الألم وارتكاب الخطيئة وبقية الصّفات البشرية المنسوبة إليه.
إنّ الألم في الرّواية يتجلى في أبشع صور ما قد يحدث للإنسان أيا كان، فأن يستفيق المرء ويجد نفسه وحيدًا والعالم ضده، ربًا وعبدًا، قدرًا وقضاءً، كل من حوله متخل عنه وهو منزو لوحده لا يرى إلا السّواد والضّياع الكلي، بعدما كان نجمًا يتهافت النّاس عليه حبًا وإعجابًا من كل حدب وصوب، فلا يمكنه حينها إلاّ الانهيار، وتلقائيا سيجد نفسه سابحًا في بحر الألم الدّاخلي الذّي لن يفارقه طيلة الحياة، ولعل هذا نفسه ما قوى صورة الألم النّفسي لدى مي حينها، كما يتضح من مجمل الرّواية.
6. النسق الديني/ ألم الحريّة
تناول « واسني الأعرج » في الرّواية مسألة المدارس الدّينية وسلطتها ومدي تأثيرها في تكوين شخصية الفرد خاصة المرأة،
« لقد قتلني أهلي، ومحو جسدي بتربية دينية، هم من اختاروها لي(...) طفولتي المعاندة سرقتها مدارس الرّاهبات التّي صلبت جسدي حتّى حولته إلى حجر أصم، يابس (...) على الرّغم من الغوايات التّي كانت تحيط بجسد كنت أكتشفه في كل التفاتةٍ، أو على مرايا الحمام مرتسمًا كالغيمة الشّهية التّي لا أملك القدرة على وضع حدوٍد لها، ولا أن ألمسها أو يلمسها غيري، في كل مراحل حياتي.« (الأعرج 2018 : 143).
فوالدها يتحمل المسؤولية الأعظم تجاه ما أثرت به هذه المدارس على مي، فقد قمعت كل ما هو فطري وجنسي في الإنسان فتأكد ذلك السّاردة قائلة
« كان يدرك جيدا أنه كان يحاصر قلبي بالمعادن الخشنة، وبلغة الموت والاستغفار الدائم. وبدل أن يضع في جسدي نورا سخيا، منحه مساحة من الموت والظلمة القاسية، لم أكن في حاجة لها لأستقيم وأقي نفسي من مزالق الأخلاق« . (الأعرج 2018 : 107)
تصور مي آلامها بآلام المسيح عليه السلام « أشعر كلما عفوت قليلا، أن تجربتي في الألم كلها، كانت كأنّها من طعم سيدنا المسيح ودمه، وهو يقطع درب الآلام حالا على ظهره صليبه ومساميره« . (الأعرج 2018 : 183) وكأن مي بآلامها امتداد لآلامه، عليه السلام، وكأنها تسير مقتفية خطاه.
يفضح »واسني الأعرج« خطورة التربية الدّينية المنحرفة على المجتمعات على لسان »مي« قائلة :
« لم تكن مدرسة الرّاهبات العذريات في الناصرة مخيفة فقط، ولكن متحّكمة في مصائر الأطفال الآتين إلى الدّنيا بفرح، فيغلق عليهم في علبة. أهل الناّصرة عادة يسجنون أبناءهم في الدّين، وهم لا يدركون أنّهم يقتلون جزءا من حريتهم وعفويتهم وحتّى إنسانيتهم، قبل أن يكبروا.« (الأعرج 2018 : 143)
قتل البراءة والعفوية والفرح والإنسانية في أطفال المستقبل سينتج عنه جيل معقد وسجين، دين محرف يخدم المصالح ويوصل خطابات رجال الدّين فطغت بذلك سلطة المؤسسة الدّينية التّي أصلا حرفت ما جيء في الكتب السّماوية.
يواصل »واسني الأعرج« الحديث على لسان مي « مع أني لم أفعل في حياتي ما يغضب الرّب أبدًا، دين أمي كان جافًا، ودين أبي لم يكن أّقل. في كليهما لم أجد ما ركضت وراءه طوال حياتي : الحرية. ما تتشابه الأديان كلّها في هذا » (الأعرج 2018 : 143) سياسية الترغيب والتّهديد بغضب الله وعقابه وقمع الحرية وفرض الاضطهاد، على الرّغم من أنّ دين الحق لم يبخس ولم يستلب حقوق الإنسان وخاصة المرأة « إنّ موقف الدّين بوصفه وحيًا منزلاً وبوصفه دين فطرة يعطي المرأة حقها الطبيعي.« (الغذامي 1996 : 17) لقد طرح واسني قضية شائكة ألاّ وهي العنف المعنوي الممارس على الأطفال باسم الدّين منذ نعومة أظافرهم، والذّي ترسخ في اللاوعي ليكبر يوما بعد يوما، وتحميل الآباء مسؤولية ذلك. كما يدعو المجتمع إلى التفطن لمكر وخداع المؤسسة الدينية التي تختبئ وراء كلام الله تعالى لتمرر ما يخدم منافعها، وهذا ما نجده في كل المجتمعات وكل الأديان المحرفة لدين الحق الذّي نزل لنشر العدل ورفع الظلم عن البشرية.
إن هذا التدين، بحسب وداد سكاكيني، قد جر عليها الويل، بالإضافة إلى أمور أخرى، فالتّربية الدّينية « كانت من أشد العناصر قسوة عليها في سبب محنتها ».(سكاكي 1969 : 175) فقد
« وضعت نفسها بين جدران صفيقة في حبس النّساء المتبتلات، فلو لم تنشأ في ظلال الرهبانية وتعاليم الدّير لما قست على نفسها بالحساب العسير، ولو أنّها أخذت في صباها بضرب من المرح والحرية لكان لها شأن آخر في مقاومة محنتها والتغلب عليها ». (سكاكي 1969 : 175).
على الرّغم من الألم والمعاناة الذي عاشته »مي« فإنّ دينها لم يضعف بتتابع المصائب، بل زادت متنانة فـ « لم تزعزع الأحداث الأخيرة التّي اصطلحت عليها شيئًا من ثبات إيمانها إيمانا وثباتا » (عبد الغني 1941 : 67) على أنّ « مصباح إيمانها، وإن لم يقو على حذف قلقها أو تعديله فإنّه بقي قلبها ويدها لا ينطفئ وكانت الشّعلة تموج مع رياح عمرها، وحوادث حياتها » (سكاكي 1969 : 33)بل على العكس فقد كانت الكنيسة « تهدهد نقمتها في طويتها، فما تخلت عن صلاتها وإن لم تجد في الاعتكاف راحة وأمنا »و(سكاكي 1969 : 178)كانت مي « في أيام مرضها أشد إيمانا ولهجا بموضوعات الدّين من سائر أيامها » (عبد الغني 1941 : 191)وفي الرّواية يتجلى هذا عندما آمنت بأنّ الله معها ولن يخذلها وعندما عادت إلى الكنيسة مجددا.
خاتمة
لقد تجلت صورة الألم بوضوح في الرّواية، حيث أصبح الألم مركزا لكل النشاطات الأخرى والمواقف والأحداث السردية، ولا نكاد نجد حدثا حكائيا إلا والألم حاضرًا فيه ومعه منغمس، فكل حدث إلاّ وكان مشحونا بنوع أو بآخر من هذه الصّورة التّراجيدية، حيث إنّ القارئ لا يبرح لحظة حتى يتفاعل ومي زيادة ويصبح جسدًا وروحا واحدة.
رواية » مي ليالي أيزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية« عبارة عن فسيفساء من الأنساق المؤلمة (الهيمنة الذكورية، العنف المعنوي، الغدر، الظلم) وتمثل »مي« نموذج مصغر لصور معاناة المرأة العربية من القمع المسلط عليها، والنظر إليها كمجرد رقم.
طرح واسني الأعرج من خلال مأساة »مي" زيادة قضية شائكة جدًا وخطيرة بدأت في الانتشار مع بداية القرن المنصرم إلى يومنا هذا ألاّ وهي وضعية المرأة في المجتمعات العربية الشّرقية التّي يمكن اعتبارها تعيد معتقدات وأفكار القرون الوسطى في سيطرة الدّين والهيمنة الذّكورية عليها.
لقد استطاعت الرّواية أن تمرر خطابات خفية لمتلقيها، كخطاب تحرير المرأة، وصراعها مع مناهضة المنظور السّلبي إليها كونها مفرغا للشهوة فقط، ومواجهة الأنماط التّقليدية في المجتمع العربي.