مقدمة
تعتبر التجربة الصوفية تجربة إنسانية خالصة، يستطيع الفرد أن يصف من خلالها حالات الوجد، والكشف، والإشراق وغيرها من الحالات التي تتجاوز العقل وتتخذ من القلب نهجا، باعتبار أنها حالات تحدث لحظات الجذب الصوفي، إلاّ إنّ المتأمل في لغة الصوفي وفي تجربته يجد نوعا من المنعرجات التي يصعب اجتيازها باعتبار أنها تجربة خاصة بالإنسان الكامل، هذا الأخير الذي يبلغ فيها أرقى مراتب الإنسانية حين يتسنى له القرب من الذات العلى، وهنا نجد أنفسنا أمام إشكال حقيقة التجربة الصوفية ومدى تأثيرها في البعد العقائدي، خصوصا وأنّ سيلا من الحبر دار حول تحليل هذه القضية وتأرجحت الدراسات بين مؤيد للتجربة متبنيا لكل ما أتت به وآخر مستهجنا ثائرا لم يجد فيها سوى ضربا وهدما للمعتقد الإنساني الخالص، أهمية دراستنا تكمن في تبيان حقيقة التجربة وهذا من خلال تحليل معطيات الصوفي وإخضاعها لمحك النظر، مما ترتب عنها هدف كشف الحجب عن الحق الذي اريد به باطل سواء في المنطلق التأسيسي للفكر الصوفي أو في الأيدلوجيات والفلسفات التي أسست له وكانت نهجا فريدا في إيصال الرؤى وما يختلج داخل الأنفس، وحتى في السلوكيات التي تجسد بشكل أو بآخر تعاليم الصوفية ومدى توافقها لتعاليم الوحي وللفطرة الإنسانية، ونود أن نشير إلى أنّ نظرتنا للسلوكيات المتطرفة للمتصوفة عامة ولمتصوفة الفلاسفة المسلمين خاصة قد شكلت هم ورقتنا البحثية هذه والداع الأساس لكتابتها وهذا لم يمنعنا من توخي الأكاديمية والموضوعية في تبيان ما لهم وما عليهم في هذا الحقل، معتمدين المنهج التحليلي والذي بدوره يتضمن المنهج النقدي والمنهج المقارن وهذا في تحليل ونقد ومقارنة القضايا الصوفية عبر محطات تاريخية متباينة، مما أسفر بنتائج نرى أنها ذات قيمة علمية معرفية في بالغ من الأهمية، خاصة في بناء المعتقد الصافي وهذا بتوخي الحذر مما يبث من مغالطات هنا وهناك –سواء عن قصد أوعن غير قصد- من وراء، وبإسم كل ما هوصوفي هذا الأخير حتى وإن كان يهدف إلى السمو والرقي بمراتب العلاقة التي تربط بين الخالق ومعبوده، إلا أنها قد شكلت بشكل أو بآخر مدخلا لدسائس غير سوية كان لها الأثر السلبي على المعتقد الإنساني الخالص، منوهين عن أنّ التجربة الصوفية تجربة حقيقية قد عايشها مجموعة من ذوي القلوب النقية التي لم تكن لتنتهج هذا لولا سعيها لمرضات الواحد الأحد ولنا في هذا أمثلة عديدة كالصحابة رضوان الله عليهم وغيرهم ممن بقوا على تعاليم الدين الحنيف ولم يمسسوه قيد أنملة، الأمر البين للعام والخاص، وبالمقابل نجد من المداخيل ما أفسد على التجربة صفاءها ونقاءها وهذا ما نود أن نشير إليه بالتحليل التالي :
1. الإنسان والتصوف
الإنسان بالتعريف المنطقي هوحيوان ناطق، أي يتصف بالحياة كما يتميز بالقوة الناطقة الباطنة المراد بها « العقل » الذي يختص به عن باقي الكائنات الحية، والذي استطاع من خلاله أن يتعقل وجوده بشقيه المادي والروحي فتمكن من إرساء صرحا من العلم والمعرفة في مختلف المجالات والميادين العلمية، الإنسانية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية وغيرها، ودراستنا هذه تبحث في أسس جوانبه الروحية وكيف استطاع أن يتيقن من وجود ذات إلهية منها يبدأ وإليها ينتهي كل شيء. فراح يلتمس القرب منها بشتى الطرق والوسائل سواء أكانت شرعية أم مبتدعة بغية تحقيق الغاية المرجوة من الوجود الإنساني في استشعار لحظة القرب من اللامتناهي، حينها فقط يكون الأمن وتكون الطمأنينة، كما يستشعر لذة قصوى فريدة من نوعها هنا انطلقت ممارسات تصف حالات هذه التجربة، فكان علم قائم بذاته له مصطلحاته ومدلولاته، وله مبادئه وأسسه التي ينطلق منها عرف بـ : علم التصوف
التصوف « طريقة سلوكية قوامها التقشف والزهد، والتخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل، لتزكية النفس وسمو الروح، وهو حالة نفسية يشعر فيها المرء بأنه على اتصال بمبدأ أعلى (صليبا، 1982)، والصوفي هو «الغاني بنفسه، الباقي بالله تعالي، المستخلص من الطبائع المتصل بحقيقة الحقائق، عرُفوا بأنهم القائمون مع الله بحيث لا يعلم قيامهم إلا الله، وقيل أنه من صفى قلبه لله وأنهم من الصف الأول بين يدي الله» (الحنفي، 1987)، والمتأمل في هذا يرى أنّ التصوف هوحالة روحية بالدرجة الأولى تتجسد في سلوكيات مغايرة لتلك التي يمر بها الإنسان في حياته اليومية لأنه خاص بفئة المتصوفة دون غيرهم في الزهد والتقشف وكبح جماح النفس عن كل الملذات التي تهرع إليها الطبيعة الإنسانية، هرع يُحقق أسمى درجات اللذة وأعلى مراتبها والمتمثلة في الشعور بالاتصال مع المبدأ الأعلى، لنجد أنفسنا أمام سؤال يطرح نفسه حول مصدر هذه التعاليم إن كانت شرعية أم وضعية قد اختلقها العقل الإنساني وهو يبحث عن غاية وجوده، وعموم ما عرف به سلوك الصوفي هو’الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرا، فيرى حكمها من الباطن في الظاهر، فيحصل للمتأدب بالحكمين كمال’ (الجرجاني، 2004)، أي يمكن القول أنّه مستنبط من الآداب الشرعية، استنباط يتحقق به الكمال الإنساني؛ أما عن أصل التصوف فيمكن القول أنه »الإعراض عن الدنيا، والصبر، وترك التكلّف، ونهايته الفناء بالنفس، والبقاء بالله، والتخلص من الطبائع والاتصال بحقيقة الحقائق، لذلك قيل : أول التصوف علم، وأوسطه عمل، وآخره موهبة من الله (صليبا، 1982)، ومعنى هذا أنّ العلم هو بداية كل تصوف، العلم بوجود اللامتناهي العلم بصفاته والعلم بوجوب الامتثال لأوامره والابتعاد عن نواهيه، هذا الجدل القائم بين الامتثال والاجتناب يتجسد فيما بعد في السلوكيات أي في الأعمال والتصرفات لينتهي المطاف بأمور لا تكون إلا لهذه الفئة، أمورا يخصهم بها المبدأ الأول لما كان لهم من صنيع فاقوا به صنيع الذوات العادية؛ يمكن القول أنّ قضايا التصوف كعلم قائم بذاته لم تكن سوى في الفكر الإسلامي، وأنّ قضاياه ومباحثه قد اعتبرت فكرا أصيلا لم يتأثر بأي موروث سابق، إلا أنّ المستقرئ لتاريخ الفكر الإنساني يجد أنّه لا يكاد أن يخلو أي معتقد كان من هذه الممارسة وحجتنا في ذلك ما يلي :
2. المعتقد كمنطلق أولي للتصوف
يرتبط التصوف ارتباطا لزوميا بالحقيقة التي يعقد عليها الإنسان قلبه، الأمر الذي أدى إلى البحث عن الحقائق التي نشدها في سبل التقرب من الذات الإلهية والتماس رضاها، هذا البحث الذي يتحول إلى مفاهيم تتجاوز المألوف، وهذا ما عرفه تاريخ الفكر الإنساني في معتقدات شتى ومن قبل أجناس بشرية مختلفة فيما بينها في الانتماء والمنشأ، نذكر منها :
1.2. معتقد الأديان الوضعية
يقصد بالأديان الوضعية تلك التي أوجدها الإنسان وقال بها من خلال استنتاجاتها التأملية الإدراكية والحدسية، كالمعتقد الهندي الذي عول وبشكل كبير على الحدس في وضع المبادئ والتعاليم الدينية، ولعلّ الهندوسية أوالهندوكية والبوذية تشكلا أبرزها بإطلاق، وما لفت انتباهنا إلى أنّ العديد من الممارسات التي أتت بها معتقداتهم قد شكلت في غالب الأحيان ما يتميز به الفكر الصوفي، إذا كنا نرى أنّ هذا الأخير ما هوإلا ترجمان لما وقر في القلب فتجسد في سلوكيات شهدتها حياة الصوفي، كالهندوسية التي تمثل « تقاليد الهند وعاداتهم وأخلاقهم وصور حياتهم، والتي أطلق عليها البرهمية ابتداء من القرن الثامن قبل الميلاد نسبة إلى براهما » Brahma«، هذا المصطلح »البراهمانية- Brahman : الذي له معان عديدة منها « الكلمة المقدسة »، « العلم المقدس »و« الرقية » أو« السحر » وهي تنطبق على كلمات وأشعار الريغ- -فيدا كما تنطبق على رقيات وطلاسم الأثارفا- فيدا، وتقابل الريغ-فيدا كلمة فاك Yac ُ بمعنى الخطاب حيث أصبحث مساوية لبراهمان أومرادفا لها واسم فاكا سباتي Vaca spati هوأحد أسماء براهمان سباتي Brahman spati« (السواح، 2017)، وبراهما هو القوة العظيمة السحرية الكامنة التي تطلب كثيرا من العبادات من قراءة الأدعية والإنشاد وتقديم القرابين » ومفردة براهما اشتقت من « البراهمة » وهم رجال الدين الأنقياء المتصلون بالعنصر الإلهي، وكتابها المقدس هو« الويدا » الذي يحوى مجمل المعتقدات والتقاليد، وهي تقوم على عقائد شكلت فيما بعد المنطلق التأسيسي لكل معتقد في الفكر الهندي تمثلت في :
-
الكارما : وهوقانون الجزاء باللغة السنسكريتية، الذي يقضي بتطبيق جزاء عن الأفعال الصادرة عن الذوات الإنسانية، فجميع الأعمال يجازى عليها إما ثوابا أوعقابا، بها تكون الإشارة إلى آليات عواقب الفعل
-
تناسخ الأرواح – تكرار المولد : لم ينفرد الفكر الهندي بقضية التناسخ وإنما كانت شائعة في الفكر الفلسفي في أزمنة ما قبل الميلاد، وتعد أبرز مباحث الإسكاثولوجيا التي تبحث عن مصير الأنفس بعد مفارقتها للأجساد، والمعتقد الهندي عموما يقول بتكرار المولد وهو« حلول روح جسد في جسد آخر بعد أن خرجت منه، وله أسبابه والمتمثلة حسب رأيهم في أنّ الروح خرجت ولاتزال لها أهواء وشهوات لم تحققها بعد، كما يمكن أن تكون عليها ديونا لقضائها فتجني أعمالها وجوبا في حياة أخرى (شلبي، 2000)
وحدة الوجود التي لم تكن كركيزة دينية فحسب وإنما هي قضية أساسية امتاز بها الفكر الصوفي والتي سنتناولها بشيء من التفصيل في عنصر لاحق، فمن بين المعتقد الهندي نجد تعاليم »مهافيرا« (599- 527)ق م فعلى الرغم أنه كان ينتمي إلى تلك المجموعة التي رفضت البرهمية إلا أنّ من بين تعاليمه العديد من المظاهر والسلوكيات التي كانت تقارب سلوكيات المتصوفة وهذا في استنكاره لمجمل الملذات التي كان يتمتع بها (ترونجيبا، 1996) وانضمامه إلى جماعة الرهبان في خلاياهم خارج المدينة، وخلعه كل حلية أوزينة (نلمس هنا الزهد)، فضلا عن انضمامه بعدها إلى طريقة بارشفا والتفت إلى إلحاق الأذى بنفسه وهذا حينما خلع رداءه وانطلق يتجول في رحلة وهو عار تماما، سعيا للتخلص من دورة الولادة والموت التي كان يقول بها هؤلاء.
كما نجد البوذية التي تعد من أكثر المعتقدات انتشارا في الفكر الهندي، فضلا عن الفكر الإنساني إذ امتدت تعاليمها إلى مختلف سطح المعمورة، معتقد تأسس منذ ما قبل الميلاد ولازالت تعاليمه واردة لحد الساعة إذ لقي رواجا واسعا في الساحة الروحية، فما حقيقة هذا المذهب وما سر تأثيره خصوصا إذا علمنا أنّ المدخل البوذي إلى الروحاني يختلف جذريا عن مدخل الأديان، باعتبار أنه مدخل لا يعرف الألوهية! ولا يستمد مبدأ القدسية من الخارج وإنما يرتبط ذلك »ببث اليقظة والصحوة داخل الفرد، وليس بشيء خارج عنه« (السواح، 2017)، فلسفة قادها »سذهاتا ( Siddharta) الذي كان محاطا بظروف فاخرة وذا مستوى معيشي السادة والملوك (شلبي، 2000)، إلا أنّ هذا لم يمنعه من رؤية الوجه الآخر لهذه الحياة ومن الأضداد التي تقابل كل ما هو إجابي فيها : هرم وضعف بعد شباب وقوة، مرض بعد صحة، ألم ولذة، (...) إلخ، وهنا فكّر سذهاتا في هذا وتساءل عن مصدر الشقاء والعناء، فراح يبحث عن سبل الخلاص منه، كيف والشقاء طريقا محتوما على كل إنسان في هذه الحياة، فكل إنسان « لابد وأن يعاني المرض يوما، ولابد أن يعاني سكرات الموت، وكثير من الناس يمتد بهم العمر فيعانون الهرم والشيخوخة (شلبي، 2000)، حينها ترك »سدهاتا« كل شيء وراءه وراح يطلب الحقيقة في معرفة أسرار الكون وخفاياه فخصص نهج التقشف والزهد، وحياة الترهب، متوخيا في ذلك مبادئ الهندوسية التي تصب في العزلة والزهد والتقشف، حتى أنّ من بين الروايات التي جاءت في وصف حالته أنه قد »خلع ثيابه واكتفى برقاع أوأوراق شجر يستر بها عورته، وألقى بجسمه بين الأشواك، والحصا، وأهمل الطعام والشراب والملاذ، ويقال أنه يتبلّغ بمقدار ضئيل جدا من الطعام بلغ أحينانا حبة من الأرز في اليوم، كما قام بألوان من الرياضات النفسية، لتطهير النفس« (شلبي، 2000)، نهجا أراد من خلاله أن يصل إلى أسرار هذا الوجود وحقيقته، ليقف على سبل النجاة، وسنرى لاحقا أنّ كل هذه الممارسات أصبح يتسم بها الفكر الصوفي إجمالا، طريق تجاوزه غوتاما – الراهب- لعدم جدواه، عدول مس الجانب المادي دون الروحي الذي يأبى إلا لأن يدرك أسرار هذا الكون، فكان له ذات يوم وهو »ساكن تحت شجرة أن أشرق في نفسه صوت يقول بكل جلاء وقوة : نعم في الكون حق أيها الناسك، هنالك حق لا ريب فيه، جاهد نفسك اليوم حتى تناله فكانت الإشراقة التي ترقبها دوما« (كريل، 1971)، إذ شعر بأنه يتحرر من كل قيد، تحرر من شر الخطأ ومن شر الجهل، أدرك هذا التحرر فأحس بعالم غير عالم الشهادة فأصبح يحمل اسم : بوذا – Buddha – (563- 483)ق.م -العارف المستيقظ-، والعالم المتنور، حالة عمل على إيصالها إلى الآخر فلقي إقبالا من قبل الكثيرين كما بقيت تعاليمه سارية المفعول إلى يومنا هذا، ونصوص الفيدا فيها ما يثبت مذهب وحدة الوجود وهذا ما لمسناه في نص » قال الرب المبارك : شاهد أشكالي يا أرجونا، هي بالمئات والآلاف، متنوعة في شكلها ومقدسة، ولها ألوان وهيئات مختلفة...، اليوم، شاهد الكون المتحرك والساكن، وكل ما تريد أن تراه، كله متحد في جسدين يا أرجونا، لكنك لاتستطيع أن ترى بعينيك، الإنسانيتين، وسأمنحك أعينا تفوق الطبيعة، شاهد قدرتي المقدسة (شاستري، 1993)
أما الفكر الصيني فهوالآخر اتخذ من الطبيعة منطلقا لمعتقده، ولعلّ أبرز من يمثل الحركة الصوفية في الفكر الصيني هي الطاوية التي تنشد أن تكون جزءا من الطبيعة : طاوtao وهونهج العمل، وعند كونفوشيوس(552-479)ق.م يعبر عن النهج الأنسب والصحيح للعمل في الحياة الأخلاقية، الاجتماعية وحتى السياسية، ليأخذ المفهوم مع الطاويين عمقا فلسفيا يقارب الهيولى في الفكر اليوناني، ذهب الطاوية إلى أنّ مصطلح « طاو » « يعني الأشياء في مجموعها، أي المطلق بالمفهوم الفلسفي الغربي، هي مادة أساسية تصنع منها كل الأشياء، لقد كانت بسيطة لا شكل لها، لا حاجة بها إلى مكابدة، لا تستلزم جهدا في طلبها، تشيع الرضا السامي، خلقت قبل السماء والأرض، وفي خلال تولد الأشياء والأنظمة كلما ابتعد الإنسان عن هذه الحالة البدائية يقل ما فيه من الخير وتقل سعادته » (كريل، 1971)، من هذا المنطلق كان التأسيس لنهج بلوغ الإنسان الكامل، ومنه عرفت بالفلسفة الصوفية في الفكر الصيني وتحديدا الصوفية الطبيعية التي تضع البساطة مثلا أعلى لها ودون أن نخوض في الفلسفة الطاوية ومبادئ « تشوانج زور »(369- 288)ق.م و« لاوتزو’ (604-531)ق.م التي أفاض فيها كريل في مؤلفه »الفكر الصيني من كونفوشيوس إلى ماوتسي ثونج« من التماس البساطة والتعفف عن الملاذ والمناصب التي يلهث وراءها أي فرد في حالته السوية إذ يجب »ألا يبالي بشيء بالنسبة للقوى العالمية وبالموقف الدولي، يجب أن يتوجه إلى البرية للتعبد، وألا يهتم بمواقف من حوله اتجاهه، وأن يلتزم الهدوء، ويظل قانعا بأحط وضع في العالم، وهذا ما نجده في المؤلفات الطاوية عند الحكماء القدامى والمعاصرين، الذين رفضوا الوظيفة كرؤساء وزارة ورفضوا حتى ما عرض عليهم من عروش، لأنّ طبيعة الطاوي أسمى من زهوالحكم المؤقت« (كريل، 1971)، يمكن القول أنّ التجربة الصوفية في حضارات الشرق القديم وتحديدا في الحضارة الهندية والصينية كانت ارهاصاتا إن لم نقل ركائز يبلور لكل ما هوصوفي لاحقا، من مبادئ وأسس لا يمكن أن يحيد عنها كالزهد والابتعاد عن الملاذ والتطلع إلى التقرب إلى اللامتناهي الذي يعد في حقيقته الغاية المرجوة في بلوغ درجة الكمال الإنساني، نهج لايزال يعتد به من قبل هؤلاء إلى يومنا هذا وبالرغم من بعض الحقائق التي نجدها عند هؤلاء كازدراء عالم الشهادة ومحاولة التقرب من القوي المفارقة للذات البشرية، ومدى صدق الرؤى المتجهة نحوتحليل واقع التجربة الإنسانية، ومن المبادئ الإنسانية الراقية كنظرة الطاوية إلى »الفضيلة وإلى الإنسان الكامل« (تسه، 1995)، وغيرها من الأمور التي يتوجب على العقل وعلى المنطق أيضا أن يتفق معها ويقول بها إلا أننا نرى أنّ الكثير من الحقائق التي أتى بها هؤلاء قد بنيت ارتجالا بنهج عفوي حادت عن النهج السليم، فأما البوذية فقد خاضت العديد من القضايا التي تجعل من فكرها يدور في حلقة مفرغة كقضية تكرار المولد وقضايا أخرى جعلتها تعاني وتتكبد العناء واهمة أنها قد أدركت الحقائق دون أن تعلم أنها مخالفة لها، والأمر نفسه بالنسبة للطاوية التي نسجت لنفسها مقدسات من خيوط المخيلة وراحت تركض وراء الامتثال لها عسى أن تحقق غاية الوجود الإنساني، هذا الأخير الذي لا يكون إلا بلذة الشعور التي تكون لحظة وعي المتناهي باللامتناهي، فكيف لهؤلاء أن يحققوا هذا وهم قد أخفقوا في الوصول إلى حقيقة طرف هذا الوعي !
2.2. معتقد الأديان السماوية
يختلف معتقد الدين السماوي عن باقي المعتقدات الأخرى وإن كان جميعها يؤمن بوجود قوة خارجية تتحكم في هذا الوجود، وأنّ هذا الأخير صادر منها كما يعود إليها، وكل قد فسر هذا سواء بنهج عقلي أم حدسي، أي تفسير صادر من الذات الإنسانية وكيف تنظر إلى حقيقة هذه القوى بخلاف ما تنظر إليه الأديان السماوية والمتمثلة في : اليهودية، المسيحية والإسلام الذي يعتبر آخر الأديان الإسلامية في تاريخ البشرية، وإذا أردنا أن نحدد هذا الاختلاف نجد أنه يكمن في أنّ الأديان السماوية تريح العقول من التخبط وراء معرفة الذات الإلهية فترسل إليها أنبياء ورسلا يبلغون رسالة أنّ هناك إله واحد ورب واحد خلق الوجود وفرض نظامه وقواعده الأساسية، تعاليم حفظتها الكتب السماوية كالزبور الذي أنزل على سيدنا داود عليه السلام، والألواح العشر- التورات- التي أنزلت على سيدنا موسى عليه السلام والإنجيل الذي أنزل على سيدنا عيسى عليه السلام وأخيرا القرآن الكريم الذي أنزل على سيدنا محمد عليهم الصلاة والسلام، ومجمل التجربة الصوفية التي عرفتها هذه الأديان بداية مع الفكر الهندي أنه ورد التصوف على أنه »سموالقيم الروحية وهوضروري لأنه مفسر للعديد من قيم الدين، ويعود له الفضل في إبراز النواحي الإيجابية للديانة اليهودية التي يعتبر أنها تقوم على ثلاثة أسس جوهرية هي التوراة، والتصوف واللغة« (موسى، 2007)، وهذا يصب في المعنى المألوف للصوفية التي تسعى دائما لتحقيق القيم الروحية والإنسانية وتجسيدها، لا نسترسل في التحليل دون أن نشير إلى أنّ المصدر الأول للفكر الديني الغربي والمعتمد في استنباط التعاليم الصوفية – العهد القديم من الكتاب المقدس- قد تعرض للعديد من اللمسات التي أطاحت بقدسيته فأي قارئ مبتدئ يدرك أنّه قد خُط من قبل أياد متأثرة بالأساطير القديمة والخرافات التي يرفضها كل عاقل فضلا عن مختلف التناقضات التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصدر عن المطلق كما يزعمون وفي هذا تفطن ابن حزم (994-1064)م في مؤلفه »الفصل في الملل والأهواء والنحل«، إلى هذه التناقضات والأغاليط التي زجت بالتوراة فراح اليهودي يعتقد أنه شعب الله المختار وله أن يترفع على الآخر بمختلف الوسائل كشن الحروب واغتصاب حقوق الغير وفرض السيطرة عليهم بأساليب شيطانية وتدوين كل مصلحة ذاتية، ودون أن نخوض في هذا لأنّ المقام لايتسع إلى ذلك وجب أن نشير إلى »الكابالا« العلم الرئيسي الذي يلبي حاجة المتصوفة اليهود، كما يلبي حاجتهم في التوحد باطنيا مع الله، فيصبح بذلك ينظر إلى هذا الوجود على أنه منظومة رمزية، تجسد انكشافات الله على العالم. وعبر التأمل يحاول الكشف عن الكينونة الإلهية المتخفية في هذا الوجود.
والأمر نفسه بالنسبة للفكر الصوفي المسيحي الذي استقى تعاليم صوفيته من الكتاب المقدس –العهد الجديد – وكان مفعما بتحقيق الفضائل بغية الاتحاد مع المطلق، هذا الاتحاد الذي يتحقق بفضائل ثلاث تشكل جوهر الحياة المسيحية : الإيمان، الرجاء والمحبة، »فالإيمان يجعلنا متحدين بإله الحقيقة غير المتناهية، ويشركنا بالفكر الإلهي لأنه يعرفنا بالله كما أوحى به هوذاته، بذلك يعدنا بالمشاهدة الطوباوية، والرجاء يجعلنا نتحد بالله الغبطة السامية، ويحببنا به كخيرنا الوحيد، به نرجوبثبات وطمأنينة السعادة السماوية والوسائل الضرورية المبلغة إليها، وبه نستعد لامتلاك السعادة الأبدية امتلاكا تاما، أما المحبة فتجعلنا متحدين بالله الصلاح الغير متناهي، وتحببه إلينا كصالح ومحبوب في ذاته للغاية، وتنشئ بيننا وبينه صداقة مقدسة تجعلنا نحيا بحياته، لأننا نبدأ نحبه كما يحب ذاته« (تانكره، 1958)، إنها لغة الصوفي ومصطلحاته التي تتمحور حول الاتحاد، السعادة الابدية، الحياة الحقة التي يتحقق بواسطتها الكمال الإنساني.
وفي نفس النهج، نهج التقرب من الذات الإلهية وتحقيق لذة القرب من خلال أداء الفرائض والشعائر والامتثال التام للأوامر الإلهية واجتناب نواهيها سار متصوفة الفكر الإسلامي، تجربة مستحدثة كانت بعد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ يرى شيخ الإسلام ابن تيمية (1263-1328)م أنّ لقب الصوفي إنما كان نسبة إلى صوفة القفا، وقيل إلى صوفة بن مرّ بن إذ{ بن طابخة، قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك، وقيل إلى أهل الصفة، وقيل إلى أهل الصفا، وقيل إلى الصفوة، وقيل إلى الصفوة، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالىوهذه أقوال ضعيفة، وصار أهل الفقراء، يعني به أهل السلوك وهذا عرف حادث » (تيمية، 2007)، هذا كما ننوه بالتصفية التي أقيمت في الدلالة اللفظية للتصوف وللمتصوفة ذلك أنه قد صنف إلى « شطرين أساسين أمّا الأوّل فهوالتّصوف السُنّي : وهـوالّذي كان أوّل أمـره زهـدا يستنبـط أصحـابه الزهد ومعـالم الحياة الروحـية من القرآن الكـريم ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسـيرة أصحـابه، »كالفضيل بن عياض«، و»معروف الكرخي«، و»الجنيد بن محمّد« و»سهل بن عبد الله التستري« و»عبد القادر الجيلاني« وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين » (تيمية، الرد على المنطقيين، 2003)، والثّاني هوالتّصوف الفلسفي والّذي اتخذ شكلا آخر وطابعا جديدا تمثّل في إدخال عناصر غير إسلامية كالعلوم اليونانية والحكمة المشرقية القديمة الهندية والفارسية كما مزج بديانات أخرى، فكان من أشهر الصّوفية المتفلسفة : « محي الدين بن عربي » و« ابن سبعين » وعُرف عن تصوف هؤلاء أنه تصوف أهل البدعة والفسق والإلحاد لأنه بعد أن كان « الشيوخ العارفون المستقيمون من مشايخ التصوف وغيرهم يأمرون أهل القلوب – أرباب الزهد والعبادة والمعرفة المكاشفة بلزوم الكتاب والسنّة تخللت طريقتهم أقوام ببدع وفسوق وإلحاد، وهؤلاء مذمومون عند الله وعند رسوله وعند أولياء الله المتقين (تيمية، الرد على المنطقيين، 2003)، لذا اختلف النظر في التصوف في الفكر الإسلامي عن غيره ولم يعد ينظر إليه على أنه ممارسة واحدة تهدف إلى تحقيق غاية واحدة وإنما تم وضعه تحت محك النظر ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ليتضح النهج السليم المعتمد من قبل الفطرة الإنسانية دون أن يشوبه أي عارض يتسنى له أن يعكر صفوه، لذا شمل التصنيف في الفكر الإسلامي عموما ثلاث فئات : صوفيّة أهل السنّة : صوفية نقيّة من كل عنصر دخيل أومن أدنى شائبة تشوبها، صوفيّة أهل السّنة اللاّحقين ممن خلط التّصوف بآراء كلامية ولكن دون التّأثر بالنّظريات الفلسفية، وصوفية الفلاسفة المتأخرين الذين استحدثوا قضايا كانت وليدة الإفراط في المعتقد. هذا الإفراط الذي لمسناه خاصة في التصوف الفلسفي وتحديدا في قضية وحدة الوجود وتحليل هذا في مايلي :
أدخل هنا محتوى العنوان الفرعي الثاني، أدخل هنا محتوى العنوان الفرعي الأول، أدخل هنا محتوى العنوان الفرعي الثاني، أدخل هنا محتوى الفرعي الثاني، أدخل هنا محتوى الفرعي الثاني أدخل هنا محتوى العنوان الفرعي الأول، أدخل هنا محتوى العنوان الفرعي الأول.
3. التصوف فكرا - مذهب وحدة الوجود –
تكمن حقيقة التصوف في أنه يستنبط مبادئه من المعتقد أولا، ليبلورها لاحقا في قضايا من نتاج حدسه حتى يتمكن من وصف التجربة الصوفية، الأمر الذي أدي بقوله بعدة قضايا منها : الحلول والإشراق والاتحاد والانجذاب وغيرها من القضايا التي لا يتسع المقام لتحليلها، لنقف مع واحدة منها والمتمثلة في قضية وحدة الوجود والتي لقيت رواجا كبيرا في الفكر الصوفي بمختلف معتقداته
مذهب وحدة الوجود مذهب الّذين يوحّدون الله والعالم، ويزعمون أنّ كلّ شيء هوالله، وهومذهب قديم أخذت به »البراهمانية«، و»الرواقية«، والأفلاطونية الجديدة، و»الصوفيّة«. فالبراهمانيون يردّون كلّ شيء إلى الله ويعتقدون أنّ براهمان هوالحقيقة الكليّة ونفس العالم، وأنّ جميع الأشياء الأخرى ليست سوى أعراضا ومظاهر لهذه الحقيقة، والرواقيون يقولون أنّ الله والعالم موجود واحد، وأنّ العالم لا ينفصل عن الله وفلاسفة الأفلاطونية الجديدة يقولون أنّ الله واحد وأنّ العالم يفيض عنه كفيضان النّور عن الشّمس وأنّ الموجودات مراتب مختلفة إلا أنّها لا تؤلّف مع الله موجودا واحدا، والمتصوّفون يقولون بأنّ الله هو الحق وليس هناك إلا موجودا واحدا هوالموجود المطلق، أمّا العالم فهومظهر من مظاهر الذّات الإلهية وليس له وجود في ذاته لأنّه صادر عن الله بالتّجلّي » (صليبا، 1982)، ولعلّ أنسب من يمثّل هذه الفئة الأخيرة في الفكر العربي الإسلامي « محي الدّين ابن عربي » الذي ذهب في مؤلفه الفتوحات المكية إلى مقاربة صريحة بين وجودي اللامتناه والمتناه، كما ذهب إلى أنّ هذا الوجود كلّه واحد، وأنّ وجود المخلوقات عين وجود الخالق، ولا فرق بينهما من حيث الحقيقة، « فالحضرة الإنسانية كالحضرة الإلهية » (عربي، 1985)، وأنّ لفرق بين وجود الله ووجود المخلوقات إنّما يتراءى للإنسان لأنّه ينظر إلى الله بوجه، وإلى المخلوق بوجه آخر، ولونظر إليهما بوجه واحد ومن عين واحدة لزال ذلك الفرق، ولأدرك الذاتيّة الواحـدة التّي لا جمع فيها ولا تفرقة، فالوجود بأسره حقيقة واحدة ليس فيها ثنائية ولا تعدّد، على الرغم مما يبدولحواسنا من كثرة في الموجودات في العالم الخارجي وما تقرره بعقولنا من ثنائية الله والعالم، على أنّ هذه القضيّة في نظر ابن عربي لا تكون إلاّ عن طريق التجربة الصوفية لا عن طريق العقل، فالعقل عنده غير مؤيّد بالكشف والذّوق وبذلك فهوغير قادر على إدراك هذه الوحدة. فالعالم الخارجي عند ابن عربي ما هوسوى مجموعة من المعاني والمظاهر التّي تتجلّى فيها الذّات، وبذلك فالعالم هومجموعة صفات الله، كقوله :« فسبحان من أظهر الأشياء، وهوعينها »، وقوله :« أنّ الروح روح لبدنه »،، « فكذلك الحق تعالى روح للعالم »، هذه الموجودات التّي تكون أحيانًا معدومة، أوبعبارة أخرى يعبّر عنها « أحيانًا بأنّها موجودة وأحيانًا أخرى بأنّها معدومة على أنّ هذا العالم لم يخرج أبدًا من العدم وإنّما تنقّل في أطواره » (عربي، فصوص الحكم، 1980)، إنّ الوجود كلّه واحد و« ليس غير الحق لأنّه يستحيل أن يكون أمرًا ليس الحق »، لا فرق بين الله الخالق، والإنسان المخلوق، بل والمخلوقات كلّها أمّا الفرق الّذي يبدولنا إنّما يرجع إلى قصور العقل الإنساني وعدم إدراكه لحقيقة الذّات الواحدة، فالخلق عند ابن عربي لا يكون من عدم مطلق كما ذهبت إليه طوائف المتكلّمة « وإنّما هوظهور للغيب أوللباطن، فالتجلّي ظهور » ( وهويخرج الممكنات من الغيب إلى الشّهادة بنور البرق أوالشّمس الّذي يسطع فجأة فيصبح الهواء، ويبدّد الظلمة دُفعة واحدة، فتظهر المبصرات التّي كانت غير مرئية في حال العتمة ( وبهذا نجد أنّ التجلّي « يتضمّن معناه القدم باعتبار أنّ الموجودات كائنة في العلم الإلهي القديم » (عربي، فصوص الحكم، 1980)، فكلّ ما في الوجود الظاهر إنّما هو« صورة لما كان عليه في حال ثبوته الأزلي » (عربي، فصوص الحكم، 1980)، فالله عند ابن عربي مصدر الوجود وخالقه، ووجوده عين ذاته لا زائد عليه، وأنّه تعالى يتفرّد بالوحدانية ومتميّز عمّا خلق، وأنّه يخرج عن دائرة الإحساس والوهم شكلا وحجما ومادّة، لكنّه في الوقت عينه هووما خلق شيء واحد. « أمّا أساس التمثّل الإلهي في صور أعيان الممكنات فهوالاسم الإلهي »الرحمان« المشتّق من الرحمة، ومن هذه الصّفة كان التنفس الّذي نتج عنه العماء الّذي يعتبر أصل العالم وجـوهـره وعنه ظهر العالم، أمّا أجسامه أي أجسام العالم فأصلها العرش الّذي يُمثّل آخر تجليّات وحدة الكلمة الإلهية هذه الوحدة التّي ستبدأ بعد ذلك في التعدّد والتّكثر، والانقسام والازدواج في فلك الكرسي » (زيد، 1998)، وجملة القول أنّ نظرة ابن عربي لهذا الوجود كانت نظرة جديدة ولكنها في نفس الوقت نظرة معارضة لمفهوم الإسلام الّذي ينزّه الله عن الاتحاد « فلقـد رفض الإسلام بمفهـوم العقـل والشرع فكرة وحدة الوجود التّي تعني تأليه المخلوقات واعتبار الكون هوالله، الأمر الّذي أنكره الإسلام إنكارًا شديدًا ولعلّ رفض العقل والشرع لفكرة وحدة الوجود هوالّذي جعل بعض المفتونين بابن عربي يبرّئونه من القول بها أوالذهاب إليها » (الجندي، 1987)/
4. التصوف سلوكا – حقيقة الرقص الصوفي –
إنّ ما يتسم به السلوك الصوفي إضافة إلى الابتعاد عن الملذات والزهد طمعا في الوجد والهيام والوصول إلى الحضرة الإلهية سلوك السماع والرقص الذي تميزت به « الطريقة المولوية » في الفكر الصوفي الإسلامي مقتدين بجلال الدين الرومي الذي خلفها لهم، فالسماع يعد سمة أساسية وهوبمثابة غذاء الأرواح لأهل المعرفة، ومدار العاشقين، فيه يلتقي العاشق بمعشوقه؛ هوسماع بأنين المزمار وهدير الطبول، « يعقدون حلقات الذكر ويرددون خلالها بعض الألفاظ والعبارات الدينية ترديدا موزونا، ثم لم تلبث هذه العبارات أن تطورت إلى نوع من الأناشيد والأغاني الدينية، وبمرور الوقت استبدلت هذه الأناشيد بالأشعار الغزلية التي ينشدها القوالون في حلقات السماع، وقد يصحب ذلك العزف على بعض الآلات، مما يثير الطرب والنشوة في المستمعين فتمتلكهم حال من الوجد، ويفقدون السيطرة على أجسامهم، فتهتز في حركات تشبه الرقص، وكثيرا ما كانت مجالس السماع تنتهي بالصراخ وتمزيق الخرق » (الهجويري، 2007)، وهنا نتساءل أي حضرة هذه وأي قرب من الله تعالى يكون بالصراخ وبشق الثوب ثم ما علاقة هذا بالطاعة الإلهية وبتحقق اللذة التي ينشدونها، فحسب ما هومتعارف عليه وما هووارد في جميع الأديان السماوية أنّ لذة القرب من الله تعالى تكون بالامتثال التام للأوامر الإلهية والابتعاد عن النواهي، وعلى حسب علمنا أنه لم يتم ذكر هذا النهج من التقرب في أحد منها، فالصوفي تجاوز ما هومتعارف إلى طرق استحدثها من تلقاء نفسه كما تصلح –إن كانت تصلح أساسا- له وحده ولا تصلح لغيره، ثم أنّ لذة القرب من اللامتناهي طرقها مشرعة للجميع واللذة التي ينشدها هؤلاء تتحقق في قلب الصادق المخلص، لا مع الطبل والناي والرقص والعجيب أنّ هناك من الدراسات الأكاديمية التي تتبنى هذا وترى فيه رمزا كونيا1، واصفة إياهم بأن يدخلون « لابسين ثيابا بيضا ترمز إلى الأكفان، ملفعين بمعاطف سود فضفاضة، ترمز إلى القبر مُقلنسين بقبعات عالية من اللباد، تصور شاهدة القبر، أما الشيخ الذي يمثل الوسيط بين السماء والأرض، فيدخل أخيرا، يحي الدراويش ويردون الإيماءة، ثم يجلس أمام البساط الأحمر الذي يذكّر لونه بلون الشمس الغاربة التي كانت تضئ السماء عندما توفي الرومي » (فتراي، 2000)، ثم يبدأ المطرب بترنيمة تكريمية للنبي صلى الله عليه وسلم، النعت الشريف وهي من نظم الرومي نفسه.. .يبدأ عازف الناي بالعزف ثم يتقدم الدراويش ببطئ ويدورون ثلاث مرات حول باحة الرقص. الدورات الثلاث ترمز إلى المراحل الثلاث التي تقرب الإنسان إلى الله تعالى : طريق العلم، الطريق إلى الرؤية، الطريق المؤدي إلى الوصال...وأما الحركة التي يؤدونها حول الباحة فتمثل القانون الكوني، ذاك أنّ الكواكب تدور حول الشمس وحول مركزها، وعندما نتأمل في هذا نجد انتباهنا مشدودا لدلالات لا تمت بأي صلة للغاية المنشودة والمتمثلة في حصول لذة القرب من الذات العليا، وكل ما ذكر من رقص، طبل، دوران، الناي، العزف المطرب، نعدها ضلالات وأباطيل تضرب عقيدة التوحيد في أعماقها لذا ننوه بضرورة الاحتراز لمثل هذه الإيديولوجيات التي تسمم صفاء الفكر فما إن نضع هذه القضايا تحت محك النظر إلا ويتبين أنّ العديد منها قد يضرب المعتقد قبل أن يخدمه، وأنها تحيد عن الحقيقة بشكل كبير
خاتمة
التجربة الصوفية تجربة خالصة خاصة ببلوغ مرتبة الإنسان الكامل، والصوفي يعتمد الحدس نهجا في ممارساته التي تهدف إلى الكشف عن حقيقة الوجود، هذه الحقيقة التي تنكشف له انكشافا، ممارسة تختلف عن بقية الممارسات والتجارب الإنسانية إذ تحقق الغاية الأولى المرجوة من الوجود الإنساني والمتمثلة في حدوت القرب والوصال بين الخالق والمخلوق، حدوث لذة ومتعة خاصة بالأصفياء –أي الصوفية- دون سواهم، رغم ما نجد من حقائق في هذه التجربة الإنسانية من معتقد للوجود الإلهي الذي خلق هذا الكون ومسيره بقدرته، إلى مذاهب البحث عنه وعن صفاته إلى الحديث عن لذة القرب منه والتي لا تكون إلا للمخلصين الأتقياء ذوي الصفوة، أمور بينة واضحة لا تحتاج للالتواء الفكري أولتأويلات حتى يتمكن العقل من إدراكها وهذا ما وجدناه ساريا في فكر العديد من الذين انحرفوا بهذه التجربة وأخذوا بها إلى تيار الأغاليط والزيف، واخترعوا أمورا حسبوا أنها من عمق الفكر والتأمل واعتبروها ضرورة لازمة كالرقص والعزف وخرق الثوب وكل هذا سلوكيات غير سوية لا تمت بأي صلة إلى نشوة القرب من الذات الإلهية، اللذة التي لا تكون إلا بالامتثال للأوامر واجتناب النواهي، لذا تدع ورقتنا البحثية هذه إلى ضرورة إعادة النظر في حقيقة التجربة الصوفية التي عرفها تاريخ الفكر الإنساني عبر مراحله المختلفة وأطواره المتعاقبة، ليميز بين التجربة الصوفية الخالصة التي تحقق الغاية المرجوة من السعي وراء تحقق درجة الإنسان الكامل والتجربة المليئة بالأغاليط والزيف والانحرافات البعيدة عن تعاليم الدين والسعي وراء ابتداع أمور ومعتقدات وسلوكيات تقارب - اللاقرب بدل القرب الحق – من الذات الإلهية.