مقـدمة
إنّ التنمية البشرية التي هي توسيع حريات البشر، تفترض وجود موارد طبيعية مشتركة يستفيد منها الجميع، والتنمية البشرية لا تتحقق فعلا مالم يتحقق مبدأ الاستدامة على الصعيد المحلي والوطني والعالمي، وذلك بطرق تستوفي مقومات الإنصاف والتمكين. وفي السعي لتحقيق الاستدامة لا يغيب عن بالنا تطلعات الفقراء إلى حياة أفضل، يتناول هذا البحث مسارات يستطيع عبرها الأفراد والمجتمعات المحلية ترسيخ الإستدامة والإنصاف جنبا إلى جنب، بحيث لا يتحقق أحد المبدأين على حساب الآخر؛ ففي عدم الإنصاف إجحاف، فخيارات البشر في حياة أفضل لا يجب أن تقيدها عوامل خارجة عن سيطرتهم، ومن مظاهر الإجحاف الحالات التي تؤدي إلى أوجه الحرمان تلحق بفئات معينة. لقد أيّد سان أمارتيا فكرة العمل على تحقيق الإستدامة والإنصاف معاً قبل عقد من الزمن، بالقول : « إنّ الانشغال بالإنصاف بين الأجيال وإغفال حجم مشكلة عدم الإنصاف بين أفراد الجيل الواحد إنما هو انتهاك للحقوق الأساسية »(حسين شكراني.2018 :97)، واليوم لازالت المناقشات حول الاستدامة تغفل موضوع الإنصاف، وترى فيه موضوعا مستقلا لا علاقة له بالاستدامة، هذا ما يتطلب منا فهم كيفية التعامل مع ما يعمُّ العالم اليوم من اضطراب، خاصة مع ما نراه من موجة اللامساواة ؛ فكما أنّ عدم المساواة يبدأ منذ الولادة ويحدد حريات وفرص الأطفال والبالغين والمسنين، بل أيضا حريات وفرص الأجيال المقبلة، كذلك يمكن لسياسات مكافحة عدم المساواة أن تغطي دورة حياة كاملة.
يرسم هذا البحث مسارات يستطيع عبرها الأفراد والمجتمعات المحلية والبلدان، العمل على تحقيق الاستدامة والإنصاف معاً، في إطار التآزر والتكامل، ويبيّن مدى الترابط الوثيق بين الإستدامة والإنصاف، فهما متشابهان من حيث الجوهر ؛ إذ يُعنى كل منهما بعدالة التوزيع، واهتمامنا بالاستدامة نابع من اقتناعنا بأنّ أجيال المستقبل لا يجوز بأن تحظى بأقل مما تحظى به أجيال اليوم من إمكانات، ففي عدم الإنصاف إجحاف ؛ فخيارات البشر في حياة أفضل لا يجوز أن تقيدها عوامل خارجية عن سيطرتهم، ومن مظاهر الإجحاف الحالات التي تؤدي إلى أوجه حرمان تلحق بفئات معينة لمجرد الإنتماء إلى جنس معيّن، أو عرق معين، أو مكان معين. يؤكّد هذا البحث أن الاستدامة لا تقتصر على قضية البيئة ولا تتوقف عليها بل هي الأساس نتيجة لخيارنا في أن نعيش حياتنا، مدركين أنّ كلّ عمل نقوم به الآن سيكون له أثر على سبعة مليارات نسمة تعيش على الأرض اليوم ومليارات أخرى ستتوالى على هذه الأرض على مدى قرون من الزمن، فإذا كان خيارنا هو توسيع الحريات أمام أجيال الحاضر والمستقبل، فلابد من أن نفهم الترابط بين الإستدامة والإنصاف ؛ الإنصاف وإتاحة الفرص والخيارات للجميع هو هدف أساسي من أهداف التنمية البشرية المستدامة، وعلينا مسؤولية مشتركة تجاه الفئات المحرومة في مختلف أنحاء العالم، سواء كانت تعيش بيننا أم ستعيش في المستقبل. وعلى عاتقنا إلتزام معنوي، حتى لا يكون الحاضر عدو المستقبل. فكيف يمكن للتنمية المستدامة أن تساهم في تحقيق مبدإ الإنصاف للجميع؟
لأجل التعمق في حفريات هذا البحث ارتأينا إلى بلورة الفرضية التالية:
النُّهج الناجحة التي يعتمدها ويديرها المجتمع المحلي في إطار يضم قيام مؤسسات شاملة لا تسقط الفئات المحرومة من حساباتها، فالعالم اليوم يحتاج إلى إطار إنمائي من مقوماته الاستدامة والإنصاف.
1. الإستدامة والإنصاف؛ المفهوم والمفارقة
1.1. التنمية البشرية المستدامة
يجمع هذا المفهوم بين بعدين أساسيين هما: التنمية كعملية للتغيير والإستدامة كبعد زمني، والدافع وراء ظهور هذا المفهوم إدراك أنّ عملية التنمية في حد ذاتها لا تكفي لتحسين مستوى معيشة الأفراد على نحو يتسم بقدر من العدالة في توزيع ثمار التنمية، (أبر داغر.2008 :414) كما أن التركيز على البعد المادي لعملية النمو قد تراجع ليحل بدلا منه الإهتمام بالعنصر البشري؛ على أساس أن الإنسان هو هدف عملية التنمية وأداتها في الوقت نفسه.( التميمي.2008 :129)
وبين عام 1972 و2002 استكملت الأمم المتحدة عقد ثلاث مؤتمرات دولية ذات أهمية خاصة، الأول عقد، في ستوكهولم (السويد) عام 1972 (البيئة والتنمية.2003 :30) تحت إسم مؤتمر الأمم المتحدة حول بيئة الإنسان، والثاني في ريو جانيرو (البرازيل) عام 1992 تحت إسم مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة والتنمية، والثالث عقد في جوهانسبرغ (جنوب أفريقيا) سبتمبر 2002 تحت إسم مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، وبذلك فقد تغيرت وتطورت مفاهيم التنمية المستدامة. في عام 1972 أصدر نادي روما تقريره (حدود النمو) الذي شرح فكرة محدودية الموارد الطبيعية وأنه إذا استمرت معدلات الإستهلاك فإن الموارد الطبيعية لن تفي بحاجات المستقبل.
عرّف المعهد الدولي للبيئة والتنمية عام1982 التنمية المستدامة بأنها هي التي تتم وتحدث في ظل قدرة البيئة الطبيعية والبشرية على التحمل. (أبر داغر. 2008) أما على صعيد الدول الصناعية فإن التنمية المستدامة تعني إجراء خفض عميق ومتواصل في استهلاك هذه الدول من الطاقة والموارد الطبيعية وإحداث تحولات جذرية في الأنماط الحياتية السائدة. واجتماعيا فإن التنمية المستدامة تسعى إلى تحقيق الإستقرار في النمو السكاني ووقف تدفق الأفراد إلى المدن من خلال تطوير مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها. ( موستيث. 14 :2006)
أما التعريف المتفق عليه فهو ما أوضحته اللجنة العالمية للبيئة والتنمية (لجنة بروتلاتد) في تقريرها الصادر عام 1986 بعنوان: مستقبلنا المشترك Our Commer future « التنمية المستدامة هي توفير احتياجات الأجيال الراهنة من دون حرمان الأجيال القادمة من حقها في الحصول على احتياجاتها ». (مندوي.33 :2003)
2.1. الإنصاف
هو الشعور التلقائي الصادق بما هو عدل أو جور.. ويطلق أيضا على ما يعتاده الإنسان من التوفيق بين سلوكه وشعوره بالعدل، فكلّ من جعل سلوكه مطابقا للمثل الأعلى للعدل كان منصفا. وهو في عرف الحقوقيّين مقابل للتقيّد بنصّ القانون. يقول كوندياك «الفرق بين الإنصاف والعدل، أنّ الإنصاف يوجب الحكم على الأشياء بحسب روح القانون، على حين أنّ العدل يوجب الحكم عليها بحسب نصّ القانون». (صليبيا.163 :1983)
3.1. العدالة الإجتماعية
إنّ العدالة لم يكن لها وجود يومًا، إلا بوجود الجماعة، وأن «المجتمع الذي يفتقر إلى اتفاق علمي حول مفهوم العدالة، لا بد أن يفتقر، أيضًا، للأساس الضروري للمجتمع السياسي»؛ فالعدالة، هنا، ليست حماية المصالح الفردية بشكل مطلق داخل المجتمع المدني، ولا حماية المجتمع المدني على حساب الأفراد بشكل مطلق؛ بل إن الأمر بين هذا وذاك، وهذا البَيْن هو القانون: الذي كما نشاهد اليوم في كل الدول العالمية الموجودة. (جوستيس.283 :2009)
فالاستجابة للقانون تطبيق للعدالة والخروج عن القانون خروج عن العدالة، وقد نجادل، هنا، بالقول: إنّ خضوع الجميع للقانون يرسي قاعدة المساواة، كقاعدة أساسية في العدالة، على اعتبار أن الجميع متساوين أمام القانون في نظر العدالة؛ بحيث أن للمواطنين نفس الحقوق؛ كالاستفادة من ثروات الدولة المادية في فرصة في تحصيل العمل، وتوفير المأكل والمشرب، والأمن والسلامة، واحترام الكرامة الإنسانية. (سن.544 :2010)
4.1. لم التركيز على الاستدامة المنصفة؟!
إنّ السعي إلى تحقيق الإستدامة لا يجب أن يغيّب عن بالنا تطلعات الفقراء إلى حياة أفضل، فتوسيع الفرص والخيارات المتاحة للناس شرط أساسي في نهج التنمية البشرية المستدامة، فعلى الرغم من اختلاف المفاهيم تكاد تكون شواغل الاستدامة هي نفسها شواغل الإنصاف في الواقع ؛ فكل من المفهومين يعنى بعدالة التوزيع، ففي الإنصاف إجحاف هو نفسه سواء أكان بين أفراد الجيل الواحد أو بين الأجيال المختلفة، وفي حالات عدم المساواة إجحاف عندما تؤدي إلى حرمان مجموعات معينة، أو عندما تتسع الفوارق إلى حدّ الفقر الشديد، لقد أيّد سان أمارتيا1 فكرة العمل على تحقيق الاستدامة والإنصاف معا قبل أكثر من عقد من الزمن بالقول : «الإنشغال بالإنصاف بين الأجيال وإغفال حجم مشكلة عدم الإنصاف بين أفراد الجيل الواحد، إنما هو انتهاك لمبدإ الحقوق الإنسانية » (بروسي 16.15 :2003)، ونحن إذ نؤكد على ضرورة تحقيق الاستدامة والإنصاف معاً، ولا ندّعي أنّ المفهومين واحد ؛ فالاستدامة تُعنى بنوع واحد من الإنصاف، وهو الإنصاف بين البشر المولودين في أزمنة مختلفة، وهذا ما يميزها عن مفهوم الإنصاف الذي يعنى بتوزيع النتائج والفرص والإمكانات في الوقت الحاضر، وإن لم يكن كذلك فمن العبث البحث في تأثير الإنصاف على الاستدامة. والأسباب التي تدفعنا إلى التركيز على الصلة بين الاستدامة والإنصاف هي أسباب معيارية وتجريبية أيضا، فالعــوامل التجريبية تساعد على فهم الصلة بين الاستدامة والإنصاف، ومواضع التآزر بينهما، وتساعدنا على فهم احتمالات المفاضلة التي قد تنشأ. (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.19 :2011).
5.1. عدالة جيلية وأمن إنساني
العدالة داخل الجيل نفسه... وبين الأجيال؛ إن العدالة تُقسم في مفهومها الجيلي بين العدالة داخل الجيل نفسه من جهة أولى، والعدالة بين الأجيال من جهة ثانية؛ لكن من الناحية العملية يصعب الفصل بينهما لامتداد فكرة العدالة بين البشر وفي الزمان والمكان (الزمكانية)، فسلوك الجيل الحالي يؤثر في نمط عيش هذا الجيل نفسه، وسيؤثر حتمًا في رفاهية الجيل المقبل. والسياسات العمومية المطبقة في عصرنا الحالي ستؤثر بالضرورة في الجيل المقبل، كما سيكون لاختياراتنا الاقتصادية تأثير في المدى البعيد. (حسين شكراني.80 :2008) فحسب الباحث روبير بيلار يشمل إطار العدالة مختلف الحركات التي تعمل على القضاء على ممارسات التضييق على الإنسان على (الأمن الإنساني) مثل التمييز العنصري في استعمال الأراضي والتخطيط الصناعي والإنمائي والحفاظ على الصحة والخدمات الصحية. نودّ التنبيه إلى أنّ مقاربة الاستدامة في أبعادها الاجتماعية والبيئية والاقتصادية هي أساس بلورة السياسات التنموية العامة لتحقيق العدالة الجيلية، فالمسؤولية مشتركة بين الأجيال لحماية ماهو مشترك، ولن يأتي ذلك إلا بتعزيز ثقافة حماية ماهو مشترك بين الأمم والشعوب بغض النظر عن اختلاف أنظمتها الاقتصادية والسياسية والثقافية وتنوعها. (حسين شكراني.66 :2008)
2. ديناميات عدم المساواة في التنمية البشرية المستدامة؛ تقارب في الإمكانات الإنسانية وتباعد في الإمكانات المعززة
1.2. الإستدامة والأزمات وعدم الإنصاف
في كل بلد من البلدان، الأفق إلى مستقبل أفضل شبه مسدود أمام الكثيرين يعيشون دون أمل أو هدف أو شعور بالكرامة، ويقفون على هامش المجتمع وهم يرون آخرين يمضون إلى المزيد فالمزيد من الإزدهار، في العالم ككل انتشلت أسر من الفقر المدقع ؛ لكن أعدادا أكبر لا تزال محرومة من الفرص أو الموارد التي تتيح لها التصرف في حياتها، وفي الكثرة الغالبة من الأحيان لا تزال مكانة الفرد في المجتمع تتحدد بجنسه أو انتمائه الإثني أو ثروة والديه، فقضية عدم المساواة في التنمية البشرية المستدامة عميقة جدا ؛ ومن الأمثلة حالة طفلين ولدا في عام 2000، أحدهما في بلد من فئة التنمية البشرية المرتفعة جدا والآخر في بلد من فئة التنمية البشرية المنخفضة، تكون فرصة الطفل الأول في الالتحاق بالتعليم العالي 50في المائة، لأنّ أكثر من الشباب في سن العشرين في بلدان التنمية البشرية المرتفعة جدا يلتحقون بالتعليم العالي، أما الطفل الآخر ففرصة بقائه على قيد الحياة أقل بكثير، لأن حوالي 17في المائة من الأطفال المولودين في عام 2000 في بلدان التنمية البشرية المنخفضة معرضون للوفاة قبل بلوغهم سن العشرين، مقابل 1 في المائة فقط في بلدان التنمية البشرية المرتفعة جدا، كذلك فرص الطفل الثاني في الالتحاق بالتعليم العالي محدودة جدا، إذ لا تتجاوز نسبة الالتحاق في بلدان التنمية البشرية المنخفضة 3 في المائة. هكذا بفعل ظروف خارجية عن إرادتيهما وُضع هذان الطفلان على مسارين مختلفين غير متساويين.(برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.1.1 :2019) إنّ أوجه المساواة لا تعكس دائما عالما مجحفا، فقد لا يمكن اجتناب بعضها، كعدم المساواة الناجم عن نشر تكنولوجيا جديدة، ولكن عندما لا تكون لهذه المسارات غير المتساوية صلة بمجازاة الجهود أو المواهب أو روح المخاطرة أو المبادرة،فقد تمسّ شعور الأفراد بالإنصاف وتهين كرامة الإنسان إنّ أوجه عدم المساواة في التنمية البشرية المستدامة، هذه تضير بالمجتمعات إذ تقوض التماسك وتزعزع ثقة الناس بالحكومات وبالمؤسسات وببعضهم بعضا، ويضرّ معظمها بالاقتصاد ؛إذ يبدد ما كان قد يُنجز لو حقق الأفراد كامل إمكاناتهم في العمل وفي الحياة، وكثيرا ما يجعل أوجه المساواة من الأصعب على القرارات السياسية التعبير عن تطلعات المجتمع بأسره أو حماية الأرض إذ تستخدم القلة التي في المقدمة نفوذها لتوجه هاته القرارات إلى خدمة مصالحها الآنية، وعندما يضيق الناس ذرعا يتوجهون نحو الشارع.
تشكّل أوجه عدم المساواة في التنمية البشرية حواجز تحول دون تحقيق خطة التنمية المستدامة لعام 2030، ولا تقتصر هذه على الفوارق في الدخل وفي الثروة، ولا يمكن اختزالها بمقاييس تركز على بعد واحد، بل إنها ستحدد معالم مستقبل من قد تكتب لهم الحياة في القرن الثاني والعشرين ؛ فعندما سئل سان أمارتيا عن أوجه عدم المساواة هو الذي ينبغي التنبه له (المساواة في ماذا؟)، قال : إنّ إمكانات الناس أي حريتهم في اتخاذ قرارات حياتية هي الأساس.(برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.10 :2019) فتتطور الإمكانات بتغير الظروف، كما بتغير القيم وتغير مطالب الناس وتطلعاتهم، واليوم لم يعد كافيا الحصول على الأساسي من الإمكانات المعززة ضرورة حاسمة لتمكين الناس من تملك (سيرة حياتهم).
2.2. أوجه عدم المساواة في التنمية البشرية المستدامة؛ ترابط مزمن
ليس عدم المساواة علة المجريات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بقدر ماهو نتيجة لها رغم أنّ بعض المجريات التي تولّد عدم المساواة تعتبر منصفة، فعدم الإنصاف جليّ وراسخ في مجريات أخرى أصبحت وقود للغضب والسخط المشروعين.إنّ صيغة الروابط بين عدم المساواة في الدخل وعدم المساواة في الإمكانات تشي بالكثير من الاختزال والجمود، يرى سان أمارتيا في مؤلفه حول العلاقة بين الحرية والتنمية ؛(سان.10 :2000) أنّ معالجة أوجه الحرمان في بعد واحد لا تعود بفوائد على هذا البعد فقط إنما يمكن أن تساهم في تحسين الأبعاد الأخرى، فأوجه الحرمان في السكن أو التغذية على سبيل المثال يمكن أن تؤخر محصلات التعليم والصحة. ولا شك أنّ الدخل هو أحد العوامل، إلا أنّ الحرمان لا يرتبط بالضرورة بقدرة الأسر على شراء السلع والخدمات من الأسواق وهذا ما دفع إلى وضع الدليل العالمي المتعدد الأبعاد، المقياس غير النقدي للحرمان الذي يصدر منذ سنة 2010 في تقرير التنمية البشرية ( برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.96 :2010)، كذلك يمكن أن يحد ضعف الحالة الصحية وتدني المستوى التعليمي من القدرة على كسب الدخل أو على المشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية، وهاته الأوجه من الحرمان يعزّز كل منها الآخر وتتراكم على مرّ الزمن، فتتوسع التفاوتات في القدرات، بل وتعمقها أيضا لكن من أين البداية؟ نحاول هنا أن ننطلق من نهج منظور دورة الحياة بمتابعة الأطفال منذ الولادة، وحتى ما قبل الولادة وكيف تحدّد الأسر، وأسواق العمل والسياسات العامة والفرص المتاحة للأطفال، فالوالدان بأفعالهما وقراراتهما ينقلان لأطفالهما صفات إما تثمنها أسواق العمل أولا تجد فيها فائدة ما يفسّر إلى حد ما كيف تحدد الخلفية الأسرية الدخل الشخصي، وبذلك لابد من تحديد آليات تفاعل عدم المساواة مع المجتمع والسياسة والاقتصاد بطرق تولد المزيد من أوجه عدم المساواةو تلحق الضرر بالتنمية البشرية.(برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.10 :2019)
3.2. الثقة والتفاعل الاجتماعي في المجتمعات غير المتساوية
إنّ عدم المساواة يمكن أن يضعف التماسك الاجتماعي في المجتمعات، فالتفاوتات في الدخل مثلا تضعف الثقة والتضامن والتفاعل الاجتماعي، فيتقوّض العقد الاجتماعي (مجموعة من القواعد والتوقعات السلوكية التي يلتزم بها الناس طوعا والتي تقوم عليها المجتمعات المستقرة) (روسو.37 :2012)، لكن هل يضعف عدم المساواة التماسك الاجتماعي فحسب؟ أم أنّ ضعف التماسك الاجتماعي يعيق سياسات إعادة التوزيع؟
من أبرز سمات التماسك الاجتماعي قوة العلاقات الاجتماعية، والقيم المشتركة والشعور بالهوية والحس بالإنتماء إلى مجتمع معين، ومن أكثر المقاييس شيوعا للتماسك الاجتماعي مستوى الثقة بين أفراد المجتمعات؛ فالثقة بالناس تعني القبول بالغرباء كجزء من المجتمع ومشاركتهم القيم الأساسية، فلا شيء أسرع من الثقة. (كوفي.2010 :226).
تقوم الثقة على التفاؤل والمراقبة: فوضع الثقة في الغرباء لا يعتبر مخاطرة، لكن مع زيادة عدم المساواة قد يشعر الأقل ثراء بأنهم مجرّدون من القوة، وتقل ثقتهم في مجتمع يعتبر عموما غير عادل، في حين لا يشعر الناس في أعلى السلم أنهم يتشاركون في هذا المصير أو أنّ عليهم السعي إلى تحقيق هدف مشترك. فعندما ترتفع أوجه عدم المساواة أو يُعتقد أنها مرتفعة، قد ينسحب الناس من بعض التفاعلات الاجتماعية، ما قد يُضعف الثقة والتماسك الاجتماعي، ففي البلدان التي ترتفع فيها عدم المساواة، يقل احتمال اختلاط الناس من مختلف الطبقات الاجتماعية وتفاعلهم، وهم على الأرجح يعيشون في أحياء مختلفة، ويرتاد أولادهم مدارس مختلفة، ويقرؤون صحفا مختلفة، ويشاركون في مجموعات مختلفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد يختلفون في الآراء ولا يعرفون إلا القليل عن مصير شركائهم في الوطن (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.85 :2019)
عندما نوجه مزيدا من حوافز التفاعل نحو التنوع (بما في ذلك الأشخاص من جميع الأعراق والأديان والطبقات الاجتماعية)، يمكن بناء التفاعل والثقة والشبكات والتماسك الاجتماعية، وتخصيص الحصص الإثنية ودعم الأنشطة الثقافية والرابطات المدنية، والمدارس وغيرها قد تكون وسيلة فعالة لتسيير التفاعل في الأجل الطويل؛ في البداية قد يقاوم الناس التفاعل، وقد يحدث تراجع مؤقت في الثقة، ولكن التفاعل على المدى الطويل يحتوي على هذه الردّات السلبية الأولية فيعزز الثقة بل ويحسن المدركات بشأن نوعية الحياة.
ترتبط دورة التماسك الاجتماعي وأوجه عدم المساواة بقوة دورة التعليم وعدم المساواة التي ترتبط بدورها بدورة التدرجات الصحية، فيمكن للتعليم أن ينشئ روابط اجتماعية قوية بين مختلف المجموعات من خلال نشر المعرفة بين الناس حول مختلف الثقافات وتمكينهم من الاتصال مع أشخاص من خلفيات مختلفة، كما أنّ التعلم ينشر قواعدا وقيما، ويعزّز المواطنة الفاعلة القائمة على المشاركة، والمدارس يمكن أن تؤدي دورا في تخفيف تدرجات الصحة وتعليم الأطفال العادات الصحية وكيفية اتباع نظام غذائي صحي ومتوازن.و التقارب في التعليم الابتدائي والثانوي يبعث الأمل في تهيئة حلقات مثمرة للإنصاف في المستقبل. فالمنظومة التعليمية هي داعمة للتعليم إنه أحد المحركات الأساسية للتنمية المستدامة، ويعمل على بناء مجتمع المعرفة ويقوم بتغيير هيكل الثروة في المجتمعات إلى امتلاك لعناصر الإنتاج والثروة. (المطيري.07 :2019)
4.2. هل العدالة كإنصاف سياسية بطريقة خاطئة؟!
لنتذكر أولا أنّ العدالة كإنصاف مفهوم صيغ لمجتمع ديمقراطي؛ يقول جون رولز2 في هذا الإطار:
» إنّ نظرية العدالة كإنصاف، هي تصور موائم للديمقراطية، وهي في ذات الوقت تصور ممنهج ومعقول بشكل كاف ومؤهل لأن يقدّم بديلا عن النفعية التي هيمنت في إطار تقليد فلسفتنا السياسية، ولهذا فإنّ المهمة الأولى لهذه النظرية هي تقديم أساس أكثر يقينية ومقبولية للمبادئ الدستورية وللحقوق وللحريات الأساسية مما تبدو النفعية قادرة على توفيره» (رولز.99 :2004)
إنّ المنفعية تؤكد على أنّ التمييز بين فعل الخير والسيء، يتحدد بحسب معيار الرفاهة أو المنفعة المترتبة عليه، وهي في الغالب الأعم، لا تهتم لا بالتوزيع ولا بالعدالة إلاّ إذا كان ذلك في صالح أكبر عدد ممكن من الأفراد من داخل المجتمع الإنساني؛ وبهذا فهي تضحي بحقوق الأقليات من أجل تحقيق ما يسمى بالرفاه العام، يقول جون رولز في هذا المنحى : إنّ المنفعية لا تأخذ بعين الاعتبار الطريقة التي يتم بها توزيع المجموع الإجمالي للإشباعات بين الأفراد، كما أنها لا تأخذ بعين الاعتبار الحريات والحقوق الأساسية للأفراد، بل هي تضحي بها في سبيل تحقيق أكبر قدر من النجاعة الاقتصادية،( دياني،89 :2014) وسحب مبدإ الاختيار العقلاني الفردي على الاختيار الاجتماعي، لأنّ ما يهمها في المقام الأول هو تجميع المنافع وحسابها وتأويجها، إلى جانب التركيز على اللامساواة التي تخدم الفئات الأقل حظا من داخل المجتمعات الإنسانية (كالنساء مثلا، اللواتي يتعرضن للإقصاء والاستبعاد السوسيوسياسي نظرا لهيمنة الثقافة الذكورية من داخل المجتمعات الإنسانية)، وبهذا فإنّ المنفعية عطلت في تقدير رولز عودة مسألة العدالة التوزيعية ومنعتها من أن تكون فضيلة في المؤسسات الاجتماعية.( علوش.د.ت :د.ص).
يمكننا النظر إلى العقائد الشمولية المختلفة الموجودة فعليا في المجتمع وننشئ فهرسا لتلك الخيرات قريبا من مركز ثقل العقائد إذا جاز الكلام ؛ أي إننا سنسعى للحصول على معدل ما يطلبه أولئك الذين يؤكدون تلك النظرات من حقوق دستورية ومطالب ووسائل شاملة للأغراض وسيبدو هذا العمل أفضل طريقة للتأمين بأنّ الفهرس يوفر العناصر الأساسية اللازمة لتقديم مفاهيم الخير ذات العلاقة بالعقائد الموجودة وبالتالي احتمال تأمين إجماع متشابك، فليس هكذا يتشكل مفهوم العدالة كالفهرس يوفر العناصر الأساسية اللازمة لتقديم مفاهيم الخير ذات العلاقة بالعقائد الموجودة وبالتالي احتمال تأمين إجماع متشابك، فليس هكذا يتشكل مفهوم العدالة كإنصاف، والنشوء على ذلك المنوال سيجعلها مفهوما سياسيا بطريقة خاطئة، وعوضا عن ذلك فإنها تنشأ مفهوما سياسيا على صورة نظرة حرة قائمة بذاتها صادرة عن فكرة أساسية هي أنّ المجتمع نظام منصف من التعاون والأفكار المرافقة له. ( رولز.2019 :377) العدالة كإنصاف تعتبر الموضوع الأولي للعدالة السياسية التي هي البنية الأساسية للمجتمع، أي مؤسساته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكيف تجتمعو بشكل ملائم في نظام تعاوني موحد، وطبيعة البنية الأساسية ودورها يؤثران تأثيرا مهما على ظواهر اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية ويتدخلان في تحديد المبادئ الملائمة للعدالة، العدالة كإنصاف تحاول أن تصوغ مجموعة من القيم المهمة الأساسية العالية (الأخلاقية) التي تنطبق بنحو مميز على المؤسسات السياسية والاجتماعية للبنية الأساسية، فهي تقدم وصفا لهذه القيم في ضوء ملامح خاصة معينة للعلاقة السياسية المختلفة عن العلاقات الأخرى الجمعية منهاو الأسروية والشخصية، فهي علاقة أشخاص في داخل البنية الأساسية للمجتمعات وهي البنية التي لا ندخل فيها إلا بالولادة ولا نغادرها إلاّ بالوفاة، والمجتمع السياسي مغلق كما يفترض أن يكون، فلا ندخله ولا نغادره، والواقع أننا لا نستطيع ذلك وذا بإرادتنا.
3. نحو تقارب في الإمكانات؛ من تعميم الأساسي إلى تعميم المعزز: «الخيــــار لنـــــــا»
1.3. النهج الـأساسية للحد من أوجه عدم المساواة في التنمية المستدامة في القرن الحادي والعشرين
إنّ التقدم في تقليص الفوارق في الإمكانات الأساسية، يدل على أنّ السياسات المناسبة تأتي بنتائج إيجابية، ومع أن السياسات لم تكن كافية لسد كل الفجوات في الإمكانات الأساسية، لازال بالإمكان المضي على المسار المفضي إلى القضاء على أشد أشكال الحرمان على النحو المنشود في خطة التنمية المستدامة لعام 2030. لكن التطلعات تنشد الأكثر، فلم يعد النظر في سبل مجاراة الإمكانات الأساسية كافيا في ظل الأهمية المتزايدة التي يكتسبها عكس مسار التباعد في الإمكانات المعززة، وتوجيه الانتباه نحو هذا المسعى قد يؤدي إلى تجنب ترسيخ أوجه التباعد. إنّ الإمكانات تتراكم مع التقدم في العمر، ولكن كذلك تفعل أوجه الحرمان، سيشهد العقد الثالث من الألفية ولادة أطفال يتوقع أن يعيشوا حتى القرن الثاني والعشرين، والفجوات التي قد تبدو صغيرة في السنوات القليلة المقبلة يمكن أن تتضخم على مدى العقود، ما يضاعف أوجه عدم المساواة الكبيرة أصلا في الدخل والنفوذ السياسي، لذا علينا أن نتصرف، ولكن كيف؟
نقترح إطارا لسياسات يربط بين توسيع نطاق الإمكانات والدخل وتوزيعهما، والإطار هدفه معالجة أوجه عدم المساواة في الإمكانات الأساسية والمعززة، ومن المهم هنا تحديد الوقت المناسب للعديد من هاته السياسات على مدى دورة الحياة، أي متى يكون أثرها أفضل على مسار حياة الناس، وتشمل السياسات مجموعتين : (المجموعة الأولى) السياسات الرامية إلى تقارب الامكانات وتوسيعها من منظور يتجاوز الدخل، وتشمل (المجموعة الثانية) السياسات المتعلقة بتوسيع الدخل ليشمل الجميع ؛ هذه السياسات العامة في إطارها هو النهوض القائم على المشاركة بالإنصاف والكفاءة في الأسواق، وذلك بزيادة الإنتاجية بحيث تُترجم إلى تَنام في المداخيل يشمل الجميع، بما يفضي إلى تصحيح عدم المساواة في الدخل. ويستند الإطار إلى نهج متكامل لأنّ المجموعتان مترابطتان. (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.244 :2010) فالسياسات الرامية إلى النهوض بالإمكانات إلى ما يتجاوز الدخل تتطلب في كثير من الأحيان موارد لتمويل برامج حكومية تموَّل بدورها من الضرائب. وترتبط الموارد الإجمالية المتوفرة بدورها بالإنتاجية التي ترتبط جزئيا بإمكانات الناس، وهكذا يمكن للمجموعتين أن تعملا معاً في دورة حميدة من السياسات العامة
هذا الإطار متعدد الأبعاد، يؤكد على محورية الحريات الإنسانية غير القابلة للتجزئة، والغاية الطموحة المنشودة منه هي تصحيح أوجه عدم المساواة في الإمكانات الأساسية والمعززة، وهاته الغاية لا تتحقق بمجرد خفض عدم المساواة في بعض الإمكانات بينما يتصاعد في أخرى، ولا مع نُهج تخفض مستويات المعيشة، فتلحق الضرر بالنمو المستدام من خلال سياسات توزيع سيئة التصميم، أو تسعى ببساطة إلى توليد الثروة، بينما تنتهك حقوق الإنسان وتمس باستدامة الكوكب.(عثمان محمد.09 :1993) ولابد من التأكيد أنّ المشاركة في سوق العمل ليست السبب الوحيد لأهمية الإمكانات، فتعزيز الإمكانات يمكنه مثلا أن يعزز المشاركة السياسية في السوق على توزيع الدخل، والفرص دما يكون الأفراد عاملين مشكّلة نواتج يمكن أن تكون أكثر أو أقل شمولا للجميع.
إنّ نظم التعميم المعززة (التي تتجلى في الخدمات المرتبطة بالتعليم والصحة)، يمكن أن تكون أنجع في خفض أوجه عدم المساواة في التنمية المستدامة إذا ما استندت على عدة ركائز من بينها:
-
خدمات اجتماعية شاملة تضمن المساواة في الحصول على خدمات عالية الجودة تماشيا مع متطلبات القرن الحادي والعشرين وتطلعاته : فأبعاد عدم المساواة في التنمية متعددة، وتختلف مسارات انتشارها، فتشمل الأسواق والشبكات الأسرية والاجتماعية، ويمكن أن تتفاقم بفعل العنف مثلا لكنها تتحدد اجتماعيا ايضا، ومن شأن النظم العالمية أن تدمج هاته الأبعاد.
-
سياسات خاصة تكميلية تستهدف الفئات المستبعدة : فرغم أنّ الفقراء والمهمشين قد يستفيدون من سياسات التعميم، إلا أن هذه وحدها قد لا تكفي للوصول إلى أشد الفئات تعرضا للتهميش بمن فيهم من يتعرض للإهمال بسبب التمييز القائم على المجموعات.
-
ضمان حصول الجميع على المعرفة والتعليم مدى الحياة : تؤدي النهج التي تكفل المساواة في الحصول على تعليم جيد في مرحلة الطفولة المبكرة إلى نتائج إيجابية على الأمد البعيد، على الصحة والتنمية وفرص العمل.( سان.2014 :د.ص) فلضمان ممارسة الحق في التعليم فلابد من وجود تكافؤ الفرص وتمتع الجميع بالتعليم، وتوضع الصكوك الناظمة لمنظومة الأمم المتحدة ولليونيسكو تعهدات قانونيو تقر بحق كل إنسان في التمتع بفرصة نيل تعليم جيدة وتطوره.( اليونيسكو. د.ت،د.ص)
-
تمكين الجميع من عيش حياة طويلة وصحية : يجب على الحكومات اتباع نهج تدريجية لوضع وتوسيع برامج التغطية الصحية الشاملة بتوفير أمن صحي لموظفي الخدمة المدنية والعاملين في القطاع النظامي، ويلي ذلك توسيع التغطية لتشمل الفقراء والمعرضين للفقر ما يتطلب التزاما سياسيا قويا.( الأمم المتحدة.25 :2013)
2.3. دمج الإنصاف في البرامج التنموية
إحدى الأفكار الأساسية في هذا البحث هي ضرورة دمج الإنصاف في البرامج التنموية، فكثيرا ما تكون الأساليب التقليدية في تقييم السياسات والبرامج صامتة، لكن الجوانب المتعلقة بالتوزيع تتطلب بحثا صريحا، لأنّ الآثار على الفقراء أو الأغنياء قد تختلف عن الآثار المتوسطة، فلطالما اعتبر دمج مسألة التوزيع في تحليل التكاليف والفوائد قضية هامة، ولكن ذلك نادرا ما يحدث، مما أدى إلى إهمال الإنصاف في تحليل المشاريع والسياسات. (الأمم المتحدة.85 :2011).
3.3. التقدم عبر الإنصاف
بين اللامساواة والتنمية البشرية علاقة سلبية قوية، فغياب المساواة في مجالات الصحة والتعليم والدخل يؤثر سلبا في دليل التنمية البشرية، فالحد من المساواة يؤدي إلى تحسين في التنمية البشرية، فليس من الصعب فهم هاته العلاقة القوية، فالتقدم في الصحةو التعليم كثيرا ما يكون نتيجة لتحسين إمكانية حصول الفئات المحرومة على الخدمات وفي معظم المجتمعات، يحظى الأطفال بفرصة لإتمام السنوات الدراسية،و للحصول على خدمات الرعاية الصحية مما يسمح لهم بالنمو بصحة سليمة، إلا أنّ الفقراء لا يحظون بالفرصة نفسها، وكلما أتيح الحصول على خدمات صحية وتعليمية لتشمل هؤلاء كلما تعززت التنمية البشرية وقلّ التفاوت وعدم المساواة.( برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.54 :2010).
4.3. لعدالة والعالم؛ مساواة وإنصاف بين الشعوب
هل العدالة مثل أعلى بعيد المنال، أم أنه شيء يمكن أن يرشدنا فعلا في قراراتنا العملية ويجعل حياتنا أفضل؟ عندما قال كوندروسيه وسميث: إنّه من شأن إلغاء العبودية أن يجعل العالم أقل ظلما بكثير، كانا يؤكدان إمكانية ترتيب العالم مع وبدون عبودية (سان.2014: د.ص)، أي إظهار أنّ العالم يكون أسمى وأعلى دون عبودية، وفي توكيدهما هذه النتيجة لم يكونا يفكران أيضا في تخطي ذلك، إلى زعم أنّ كل البدائل التي يمكن توليدها بتبادل المؤسسات والسياسات يمكن ترتيبها ترتيبا كليا مقابل بعضها البعض. فالعبودية كمؤسسة يمكن الحكم عليها دون تقييم سائر الخيارات المؤسسية الأخرى التي تواجه العالم، بالدرجة نفسها من الوضوح؛ فنحن لا نعيش في عالم (نستطيع أن نقول فيه)، إمّا كل شيء أو لا شيء، فما ثمّ هاهنا افتراض أنّ كلّ من ملك عبدا لابد له أن يختار التنازل عن حقوقه في امتلاك غيره من عبيد، وهي حقوق أعطته إياها قوانين البلاد القائمة، لذلك تتطلب تغييرات تعزيز العدالة أو الإصلاحات تقييمات نسبية لا مجرد تعريف نظيف ل : « مجتمع العدالة »، يوضح هذا التفكير أن تكون مقاربة العدالة مقبولة تماما نظريا وصالحة تماما للتطبيق عمليا، فالعدالة فكرة عظيمة الشأن حرّكت الناس في الماضي وستواصل تحريكهم في المستقبل وأنه في استطاعة النقاش والتدقيق النقدي تقديم الكثير وشحذ هذا المفهوم. ثمّة سببان أساسيان للمطالبة بأن يتخطى لقاء الجمهور الذي يناقش العدالة حدود الدولةأو الإقليم، يقوم الأول على مصالح الناس لتجنب الانحياز وإنصاف الجميع، ويقوم الثاني على صلة آراء الآخرين بتوسيع بحث المبادئ التي نبحث لتجنب ضيق أفق القيم والافتراضات في المجتمع المحلي الذي قلما يتناول هاته القيم والافتراضات بالتدقيق والنقد. (سان.2014: د.ص)
.