مقدمة
إن تطور الدراسات اللغوية والإنتقال من بلاغة المضمون إلى بلاغة الشكل، وإبراز ظواهر العلاقة بين المرسل والمستقبل، قد لفت النظر إلى الخصائص اللغوية للخطاب النقدي المعاصر، فلم يعد النقد المعاصر يهتم بالمضمون فقط بل أصبح يهتم بوسائل أو آليات إيصال الخطاب للمتلقي.
لذا، يتسابق النقاد إلى صناعة وإنتاج أنماط جديدة من الكتابة مغايرة تماما للكتابات النقدية المتداولة؛ فالممارسات النقدية في المرحلة الحداثية وما بعدها تنزاح إلى استخدام لغة نقدية ذات ميزات معينة في بلاغتها أو تشكلاتها.
لقد سعت المقاربات النقدية على إختلافها وتعددها، إلى تحديد هوية النص الأدبي وتحليل بنيته، لكنها لم تصل إلى نتيجة تطمئن إليها، فما تزال هذه المقاربات في توالد، وما يزال النص الأدبي عصيا على الدراسات؛ فكل ظاهرة «غامضة » بحاجة إلى نص واصف يقوم بمحاولة إزالة الغموض عنها.
وكنتيجة للتطورات الثقافية والتاريخية الحاصلة على مستوى الفكر، أخذ النص الأدبي تمظهرات عدة تعكس رؤية الأديب للواقع انتهت إلى ما يسمى بما بعد الحداثة.
ومن ملامح المؤسسة الأدبية في عصر ما بعد الحداثة:1
-
الإنفتاح على المطلق: إنها أهم ميزة تميز الكتابة المابعد حداثية، فهي كتابة دون حدود تسعى إلى أن تشمل كل شيء. فليس هناك أمور مقدسة أو ضوابط تمنع فعل الكتابة بل تصبح في هذه المرحلة كل الأشياء عرضة للتحليل والمناقشة. إنها ثقافة اللامحدود ورفض التقوقع.
-
التشظي: بمعنى الإنفجار، فليس هناك وجود للثابت في الكتابة المابعد حداثية، إنها كتابة عابرة للأجناس؛ وبالتالي تسعى إلى هدم مركزية الجنس الواحد؛ فقارئ مثل هذه النصوص يلحظ نقدا للبنية من خلال تراسل الأشكال والخطابات اللغوية وغير اللغوية وتلك التناصات الحاضرة سواء على مستوى المعنى أو المبنى. إن مثل هذه الكتابات تدل على اتساع مفهوم الحرية، فليس هناك حدود حمراء أمام المثقف، كما تدل كذلك على الرغبة في التجريب التي تسكن ذات المبدع، فالتجريب ممارسة تحدث على مستوى الشكل والرؤية وتهدف إلى إنتاج أشكال أدبية مغايرة ومختلفة2أي التمرد على الإنتماء.
-
اللامركزية: غياب المرجع «L’absence de référence»، الكتابة المابعد حداثية ضد المركز وضد الثابت اللذين يحددان طريقة ممارستنا الإبداعية، بل وتجعلانها مغلقة على رؤية واحدة ونمط واحد. المابعد حداثة تسعى إلى خلخلة الجدر الفاصلة ليصبح الهامش متنا والمتن هامشا، إن هذا اللاتوازن هو الذي يحقق الإنسجام والجمال للنص الأدبي المابعدي.
-
إنقطاع المتوالية الإتصالية: تسعى هذه الحركة إلى الإنفصال عن المفاهيم السابقة، وإقامة قطيعة بينها وبين هذه السرديات الكبرى3 للحداثة، وقد جاءت مع فلاسفة العلوم مثل غاستون باشلار الذي نادى بالإنقطاع عن الماضي، وبالتالي فإن مثل هذه التوجهات قد غيرت مفاهيمنا حول المؤلف والجمهور والنص نفسه، إنها بنية متفجرة تحاول أن تصنع هوية خاصة بها وأن تخط لنفسها معالم جديدة.
-
الهرطقة: حينما يكون للمجتمع شيء مقدس فهذا، وفقا لمابعد الحداثة، قيد يكبل الكاتب ويمنعه من ممارسته النقدية بكل حرية، لذا سارع الإتجاه المابعد حداثي إلى إلغاء المقدس سواء أكان دينيا أو مدنيا، بحثا عن فرصة أكبر للتحرر، تمنح للكاتب، وللمحافظة على صيغة الإنسجام الذي تسعى إلى تأسيسه إعتمادا على موت الهوية والسيرورة وميلاد القطيعة.
-
إرجاء المدلول: إن البحث عن معنى واحد للأدب المعاصر مغامرة لن تنتهي إلى شيء فلا وجود لمعنى واضح، المابعد حداثة تقوم على الغموض المزدوج «double» (باعتبار الغموض ظاهرة صحية في النص الأدبي) كقيمة ثابتة في كل النصوص، ما بعد الحداثة لاتؤمن بالتمركز لذا فهي تقبل بالكناية باعتبارها « نصا مفتوحا، المعني = معنى 1+ معنی2 +... »؛ حيث يظل المعنى معلقا بسيرورة تأويلية، أي إحتمالات لاغير، على حساب الإستعارة « نص مغلق يقترب من أن يكون مباشرا ».
هذه هي، إذا، بعض ملامح المؤسسة الأدبية المابعد حداثية التي أدت إلى خلخلة موازين الكتابة الأدبية والنقدية أيضا.
وبما أن العلاقة بين النص والنقد علاقة حوار متواصل، دائما ما ينتهي بالنقد إلى التجدد؛ في محاولة لمحاصرة الظاهرة الأدبية وملاحقة أسرار النص، فقد أدى هذا الى ظهور دوال مختلفة واصفة لمدلولات متعددة.
النقد الواصف المابعد حداثي للنسق الأدبي هو ما سنسلط عليه الضوء في هذا المقال من خلال كتاب « جماليات التجاور » للناقد كمال أبو ديب.
إن التطور الذي حدث على مستوى النص الأدبي في المرحلة المابعد حداثية صاحبه تطور في النقد الأدبي تأسس على فلسفة مبنية على سلسلة من القطائع « الإنتقال من ..... إلى ......... »؛ فكل شيء في ثقافة العولمة يوحي بالإنتقال من الإنساني Humanisme إلى المادي Matérialisme4 أي الإنتقال:
-
من هيمنة الواقع إلى هيمنة اللغة.
-
من هيمنة المعنى إلى هيمنة العدم.
-
من هيمنة العام إلى هيمنة الخاص.
-
من هيمنة المنسجم إلى هيمنة الفوضى.
-
من هيمنة المعروف إلى هيمنة المجهول.
إن من خصائص الثقافة المؤسسة للخطاب النقدي في العصر المابعد حداثي هيمنة منظومة فكرية تترجمها فكرة « موت .... ميلاد...... »؛ فما يزال الغرب يمارس دور القاتل الرمزي الذي امتد من نيتشه « قتل الإله » إلى هيجل « موت التاريخ » إنه نفس العمل الذي تقوم به العولمة فهي تقتل لتحيا، أي أنها تلغي أشياء وتخلق أشياء أخرى، وتمحو قيما وتنشئ أخرى.
-
موت الهوية ميلاد التحرر.
-
موت المرجع ميلاد النص.
-
موت المركز ميلاد الهامش.
موت الجنس ميلاد الاجنس. أي موت السيرورة وميلاد القطيعة. بعد أن كان على النقاد إتباع قواعد سابقة في وصفهم أو شرحهم للظاهرة الأدبية، ها هم اليوم ينتجون قواعد لاحقة.
فالنص النقدي الناتج عن هذه الثقافة – المابعدية – يكون نصا هجينا، متمردا على جميع الكتابات. والنص النقدي، والحال هذه، هو:
-
على مستوى البنية كناية.
-
على مستوى المعنى نص مفتوح.
-
على مستوى العلاقة جامع للنصوص.5
هل تساءلنا ذات يوم لماذا لا يكتب النقاد شكلا واحدا؟ لماذا لا يكون هناك نوع نقدي واحد متداولا؟ هل تساءلنا ذات يوم: لماذا نعيش تعدد الأشكال النقدية في لحظة ثقافية واحدة؟
إن الحداثة حالة حضارية عابرة كانت ترى في التركيز على المتن النقدي تحقيق لجمالية النص، ونتيجة لتغير القناعات الراسخة «الدوغمائيات» ظهرت هوية نصية جديدة ذات خصوصيات بنيوية ودلالية متجاوزة لأنظمة الكتابة السابقة ليصبح فيها الهامشي، الامعنى، الفوضى، العبث والإختلاف معادلات للقيمة الجمالية. إذ تعتبر النزعة الجمالية مقوما من مقومات الحضارة بعد الإنسان والتراب والزمن.6 فالكتابة النقدية المابعدية ماهي إلا هروب من سلطة الواقع إلى فتنة اللغة.
1. الاستراتيجيات الواصفة
يطرق كمال أبو ديب في نصه النقدي «جماليات التجاور» مناطق معرفية وجمالية لم تكن على لائحة النقد في مراحل سابقة، فالنقد عنده «عملية إبداعية حضارية متقدمة تزامنت مع انتشار المابعدحداثة في الأدب»7. تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك مقولات مابعد الحداثة في كتاب «جماليات التجاور» وتبيان التأثر العميق بها ومن جهة أخرى ستبحث في هوية الخطاب النقدي الجديد وستعمد إلى طرح مقولاته المركزية.
إذا، يتأسس الخطاب النقدي لكمال أبوديب على انقطاع المتوالية الإتصالية وهو مفهوم مابعد حداثي يقع على النقيض من مفاهيم الحداثة، ففي ظل طموحات مابعد الحداثة في تفعيل كل طاقات الناقد وعدم حبسه في رؤية واحدة إرتأت الاعتماد على مفاهيم جديدة ومغايرة لما هو مألوف أساسها القطيعة والتحرر من القيود السابقة وتفكيك البنيات الكبرى للفكر الحداثي. ويبدو أن الإختلاف والفوضى والتبعثر والانظام ولانهائية الدلالة .... هي المقولات التي ستقوم بالثورة على مقولات المرحلة الحضارية السابقة، فتلغيها لتخلق مرة أخرى خطابا غامضا وذوقيا ومتعاليا ومفارقا – لعله يضيق من القدرة على التواصل ويصرح أبوديب بأن الحياة المعاصرة قد اتسمت ابتداء من سبعينيات القرن العشرين بسمتين رئيسيتين هما:
-
إنهيار مفهوم المركز عامة ونشوء تعدد المراكز.
-
إنهيار العقائديات الشمولية الكليائية وبزوغ عقائديات الأقليات والهامشية.8
1.1. اللغة الواصفة للعتبات
1.1.1. اللغة الواصفة للعنوان
يتمرد كمال أبوديب على قواعد الكتابة النقدية الحداثية ليحرر الناقد والقارئ من تلك القيود، ورفض أبوديب لمقولات الحداثة يبدأ من عنوان الكتاب «جماليات التجاور أو تشابك الفضاءات الإبداعية» إذ يتلاعب باللغة ليخلق الفوضى؛ إنه يعيد كتابة العنوان الأساسي والفرعي للكتاب بطريقة عبثية تفكيكية توحي بالإنشطار والتشظي واللاإنتظام. وفعله هذا دلالة على رفضه طريقة الكتابة التقليدية محاولا تجاوز تلك الكتابة بخلق نمط جديد له مميزات معينة.
2.1.1. عتبة الإهداء
الإهداء تقدير من الكاتب واعتراف منه بجميل الآخرين، وإهداء الكتاب تقليد عريق على امتداد العصور الأدبية بأشكال مختلفة، موطدا مواثيق المودة والإحترام والعرفان وحتى الولاء، أما الآن فهي تسجل حضورها الرسمي والشكلي في النص المحيط كملفوظ مستقل، وهو يتموضع في الوقت الحالي من الكتابة في الصفحة الأولى التي تعقب صفحة العنوان مباشرة.9 ولكنه يختل عند أبو ديب، ليصبح موضع الشكر والإمتنان الصفحة الأخيرة من الكتاب وهو يأتي بصيغة احتمالية لا تجانسية تهدم أفق توقع القارئ وتصدمه بنوع جديد غير مالوف من الكتابة، نصه التالي:
مسك الختام
لوكان /ت لهذا الكتاب مقدمة تقليدية لكانت مايلي:
«.. لولا الرعاية المدققة، والجهد البصير، اللتين/اللذين أحاطت بهما الصديقة خالدة سعيد أولا، ودار العلم للملايين، هذا ال ك ت ا ب لاستحال أن يكون على ما هو عليه. إن امتناني لهم يكفي لملء فضاءات لكن، ليس له.»
لقد انهارت التصنيفات المتوارثة وتغيرت الملامح المميزة للنشاط النقدي، فلم يعد هناك طريقة محددة تسم العملية الكتابية في العصر المابعد حداثي، إذ سرعان ما سلمت الوحدة والنمطية والأفكار الكلية لإنشاءات الذات الحرة، فأصبحت سمة الإنتاج التناثر، اللاانسجام، الإختلاف.
3.1.1. عتبة الهامش
الهوامش أو الحواشي عبارة عن إضافات تقدم للنص قصد تفسيره أو التعليق عليه أو توضيحه، وهي ترد في «أسفل صفحة النص، أو في آخر الكتاب تخبرنا عما ورد فيه»10. لقد اعتدنا أن تتخذ الهوامش لنفسها موقعا معينا، سواء أسفل صفحة الكتاب، أو في آخر النص، ولكن بعد ظهور التيار المابعد الحداثي أصبح الإهتمام يشمل مجموع المظاهر الكتابية ومحاولة التمرد على التصورات التي تعلي من شأن اللوغوس. لذا أعيد تفكيك المقولات الحداثية في محاولة لإنشاء خطاب نقدي جديد يتحرر من مثل هذا المسلمات.
2.1. السواد والبياض
يقول كمال أبو ديب في أحد حواراته «إننا مجتمع» سلطوي «نمارس الوصاية باسم التراث والسلطة، فأصبحت النتيجة الحتمية تدمير طاقات الإبداع لدينا»11. لذا سعى جاهدا إلى خلق لغة نقدية وفكر نقدي يتخذ موقفا من التحديات الحالية إنه يطمح إلى «تحرير النقد من جماليات الوحدة والتناغم والتجانس وسيطرة اللغة النقدية السائدة والمفاهيم الدارجة ومحتمات التناسق والاكتمال والمعنى الواضح والإفصاح الدقيق عن معنى وعن معنى واحد متناسق»12. إن مرجعيات الكتابة النقدية عند أبوديب تفكيكية دريدا لذا يفكك، بل لنقل، يتمرد على نظام الكتابة القديم ليحرر الكتابة من هذا النوع ويتجلى في كتابته بالبياض على السواد بعد أن كان متعارفا أن يكتب النقاد بالسواد في فضاء أبيض، إنها طريقة تفكيره المابعدية؛ فالكتابة عنده تفجير وإلغاء وقطيعة إنها خلق وإبداع وحرية. وهذه نماذج من الصفحات الأولى لكتابه «جماليات التجاور» التي تعزز ما ذهبنا إلى تفسيره.
3.1. الكتابة بالمقلوب
يقوم أبو ديب بقلب النظام الترتيبي للحروف فيكتب بالعكس من اليسار إلى اليمين. إننا بقراءتنا له نلحظه مؤسسا لنهج جديد في الكتابة يسعى إلى إنتاج قواعد هذا الجنس النقدي الهجين؛ فكتابته تؤكد نفسها بنفسها وتبوح بكل شيء للقارئ كما أنها تقوم بتوزيع الموجهات «البلاغة البصرية: كالتلاعب باللغة» على طول سيرورة هذا النص النقدي وتكشف طريقة تفكيره وأسلوبه في الكتابة ويتجسد ذلك في إقامة خطاب نقدي متطور ومتحرر ذي ملامح خاصة وسمات فنية وفكرية معينة. إنه ناقد تفكيكي مبدع يحاول ابتكار جماليات للنقد تكون بديلا عن جماليات المشابهة والإنصهار والوحدة إنها جماليات المجاورة، جماليات الانفتال و«تتضمن جماليات المجاورة طبعا ما سأسميه الآن جماليات اللقطة وجماليات الفتلة أو الإنفتال، أما الأولى تتمثل في نمط من التناول الشعري يحل العين محل الأنا تماما ويعتبر اللقطة البصرية تكوينا جماليا مكتفيا بذاته في غنى استدخال الذات المحللة أو المعلقة أو المنفعلة – أي أنه يقف نقيضا للتناول الرومانسي.13
يقوم الخطاب النقدي لكمال أبوديب على الحوار لأنه يسمح بمعرفة الذات الأخرى للكاتب والتي لا تظهر في الكتابة الرسمية بفعل القمع المنهجي الذي يمارسه الكاتب ضدها، وبما أن النص النقدي العربي فاقد لوعي التفضية «صناعة الفضاء» أو بلاغة الفضاء يسعى أبوديب جاهدا إلى خلق فضاء نقدي قائم على الإختلافات لا على الإئتلافات لذا يبدأ في إنشاء فضاء صالح للبوح بما لاتسمح به الفضاءات الأخرى وهو ما تظهر ملامحه إبتداء من الصفحات الأولى للنص النقدي.
عندما يكتب أبوديب نصه النقدي فإنه يتدخل ويعلق ويصنع لغة فوق لغة الكتابة أو خطابا نظريا عن طبيعة النقد إنه يعلن بأنه
«يسعى إلى تحويل النشاط النقدي من كلام على كلام إلى أمر يسمح بأن يكون كلاما أولا، ويطمح إلى منح النشاط النقدي حرية جديدة وتحريره من وحدانية المنظور وإلى جعله قادرا على التعاون مع الإنشطار والتشظي والجنون بجنون مطابق وتشظ مضاه وفقدان الوحدة مماثل وإنشطار منافس» 14.
إن الزمن الجديد هو «زمن الإكتناه والإبداع الحر زمن الخلخلة والتقويض والسقوط» 15.وهذه هي النظرة الحداثية للنشاط النقدي عند كمال أبوديب.
لم يول النقاد الحداثيون أهمية وضع الرأي والرأي الآخر ولا اصطناع ذوات مرافقة تتدخل أحيانا بوصفها أفكارا نقدية في نصوصهم النقدية بل كل اجتهاداتهم كانت أحادية المنظور موجهة نحو دلالة معينة. ولكن كيف يبقى النص النقدي قادرا على تسمية الشيء إسما واحدا ونسبة معنى محدد في مرحلة حضارية تتعدد فيها اللغات والأصوات والدلالات؟ أو بعد كل هذا التطور الحاصل على مستوى المعارف والعلوم يظل الناقد يمتلك لغة واحدة جافة ومتماسكة واضحة الدلالة لا يأتيها الباطل لا من الأمام ولا من الخلف؟
في ظل هذه الإبدالات الجديدة؛ ونقصد ظهور التيار المابعد حداثي؛ «التي رأت في إنطلاقة الحداثة وحريتها تحديدا للحرية؛ فدعت إلى ممارسات فكرية لا تحكمها القاعدة ولا يضبطها القانون» 16 فرفعت شعارات الفوضى، العدم، الغياب، الانفتاح واللعب وأعيد الإعتبار للأنا والآخر «الإيمان بالإختلاف» في النقد الأدبي؛ وهو ما يعد ظاهرة في كتاب جماليات التجاور » ويعلل ممارسته هذه فيقول:
« إنني أسعى إلى تأسيس كتابة نقدية لا تكون كلاما على كلام فقط، بل تكون أيضا إفصاحا عن الذات الناطقة للنص النقدي أيضا، ففي عالم يتداعى ويتشظى، وفي لجة الإنهيارات التي تعصف بعالم بأكمله، عالم يعيش فيه سعدي يوسف وجابر عصفور وأدونيس وكمال أبوديب الحياة ذاتها، هل يمكن للتشظي أن يجلد بسياطه الأول دون الثاني من كل من هذين الثنائيين ».17
إن هذا الصوت المصاحب في متن النص النقدي لأبوديب يتيح الفرصة للبوح أكثر ومعرفة الذات التي لا تظهر، إن مثل هذه الممارسات النقدية تسمح بتنشيط الذاكرة فتعدد الأصوات يوفر مجالا لتذكر المعرفة المنسية من خلال الإستدراكات والتصويبات التي يقوم بها أبوديب نفسه على كتابته نفسها، أو ما يمليه عليه الآخر من إقتراحات .يقول أبوديب:
«ولقد حدد ابن جني وغيره من النحاة هذه القوة الزا-نصة الزا-لغوية بأنها مما يقتضيه الجوار، لا على المستوى اللغوي بل في فضاء آخر تماما لا علاقة له بالعبارة اللغوية، هو فضاء الحياة الحقيقية، حياة الإنسان في المجتمع الذي يعيش فيه، فالجوار الذي يعنيه ابن جني هو الجوار المكاني بين البشر أنفسهم، أي وجود الإنسان جار الإنسان الآخر .... ثم يعلق على هامش الصفحة على يمين النص النقدي وفي نفس مستواه» هل أنت واثق من أنه يفعل ذلك؟ أم أنك أنت من يعلل» 18.
وفي موضع آخر:
«في النص القصير التالي، مثلا، يفجؤنا سؤال فوري: ماهي العلاقات التي تربط بين مكونات البنية على مستوياتها المتعددة .... في بداية الفقرة وقبل الخوض في غمار القضية النقدية يورد أبوديب تعليقا على اليمين دائما، نصه» لماذا ترقم كل شيئ؟ أترك لهم أن يرتبوا أو لا يرتبوا كما يشاؤون.» 19
وكأن هناك ذاتا أخرى تتابع عمل الناقد وتقوم بتوجيهه من خلال طرح التساؤلات العديدة واقتراح صياغات علها تكون الملائمة. في هذا الكتاب النقدي، تجتمع ملاطفاته واستطراداته ونقده الشارح وإبدالاته المقترحة، ما يجعل من هذا النص متشظيا ومنشطرا، فتلك الإستدراكات الواصفة تكسر غلظة المتن وتجلي غوامض النص وتتيح للذات الناقدة مساحة واسعة من حرية الكتابة.
بالعودة إلى نص «جماليات التجاور» نلاحظ أن الناقد يحاول أن يملأ فضاء النص باعتماده الكتابة على يمين أو على يسار الصفحة وجعله هامشا مصاحبا للكتابة الأصلية إنها كتابة رافضة تقوم بالهدم لتعيد بناء نفسها بنفسها ويمكننا أن نصنف هذه الأصوات المصاحبة في ثلاث فئات.
.2. أنواع ووظائف الاصوات المتجاورة وظائف
1.2. أنواع الاصوات المتجاورة
1.1.2. أصوات مغايرة
وهي تلك الأصوات التي تمثل الأنا الأخرى «ناقد آخر، متلق، ...» وتتابع فعل الكتابة النقدية وتتدخل في بعض المواضع للتعليق مثل:
«يفصح إنهيار جماليات الوحدة الإنصهارية عن ميل بازغ إلى صياغة جديدة للعالم الذي نعيش فيه وإلى تأسيس قيم مختلفة تحكمه، ويعلق على يسار الصفحة صوت مغاير: «فلتقل صياغات لكيلا تعود إلى الوحدانية.»20
كما يقول:
«لنسأل الآن سؤالا حاسم الأهمية حتى لو لم نستطع الإجابة عليه إجابة مقنعة: ما السبب في هذا الإنفصال بين النشاط الإبداعي العربي في النقد من جهة وفي مجالات الكتابة الأخرى من جهة ثانية؟ والتعليق الوارد على يسار هذه الفقرة بالذات» لاحظوا كيف يرى ما يقوله لكم حاسما ومثيرا؟ هه..هه..هه. «21
وكذلك تعليقه على قضية أن كليلة ودمنة تنظم حكاياتها تبعا لمبدأ التجاور لا لمبدأ الوحدة بقوله: «هل أنت واثق من سلامة هذا الكلام لماذا لا تؤجل معالجة هذه النقطة إلى مناسبة أخرى»22.
نشير إلى أن هذه الذات الثانية المصاحبة لفعل الكتابة قد تكون حقا ذاتا أخرى منفصلة تماما عن كمال أبو ديب وقد يكون هناك تلاعب باللغة يسمح لأبوديب باستعمال صيغ كلامية يتوارى وراءها لتمرير بعض التعليقات.
2.1.2. أصوات مطابقة
هي أصوات كمال أبوديب نفسها عندما يتدخل للتعليق لتصبح الذات الكاتبة =الذات المصاحبة مثل قوله: « ومن الدال جدا أن العرب القدماء لم يستخدموا الشعر اليوناني أو أو الهندي مادة لصياغة شعرياتهم وأن ما تمثلوه من مادة نقدية جاء مصفى مقطرا في أنابيق صاغها النتاج الإبداعي العربي أي أنهم تقبلوا المادة النقدية التي بدت ذات علاقة وشيجة بإنتاجهم الأدبي ولم ينقلوا المناهج النقدية في معزل عن هذا النتاج ليعلق على يمين الصفحة كهامش أي قلب موقع عتبة الهامش فيقول:
«وقد أكون نسيت جملته دون أن أدري أو فهمتها خطأ؟ لكن هل هناك فعلا شيء إسمه «فهم خاطئ» أو قراءة خاطئة «كما يتوهم هارولد بلوم أم أن هناك فهما فقط؟ وكل فهم هو فهم (فقط) صحيح»23. أو في قوله: «ها أنتذا تعود إلى تناقضاتك من جديد. لقد قلت ما يناقض هذا من قبل، وسأظل أناقضني. ما هم»24 وكذلك:
«وقد أخبرني صلاح حويلة أن نموذج صحیح التجاور يصدق حتى على الإتجاهات التكنولوجية المعاصرة. فقد ساد في بداية تطور الكمبيوتر حلم تأسيس كومبيوتر خزان مركزي mainframe يمتاح منه الجميع، لكن آخر التطورات هو آلية الشبكات Networking التي تسمح لكل مستخدم بالعمل المستقل في الوقت الذي يرتبط فيه تجاوريا (لكن من على بعد) بالآخرين أو هكذا فهمت الأمر وسوء الفهم ذنبي لا ذنب صلاح.»25
وكتعقيب على نمط من الوجود التجاوري لتشكيلات عديدة يقول: «الآن فقط فهمت لماذا قمت أنا وضياء العزاوي بوضع لوحات رسمها لنص عذابات المتنبي في صحبة كمال أبوديب والعكس بالعكس في فصل مستقل اسمه «فصل الرسوم» 26 وفي موضع آخر: «وأضيف إليهما وليد اللحظة وحدة قديمة كشف عنها جابر في بحثه أمس هي «وحدة المعمورة» كما أسماها كتاب عرب قدماء.27
3.1.2. أصوات حيادية
تنتشر وتتشظى في النص النقدي لكمال أبوديب أصوات مجاورة حيادية لا يمكننا أن تحدد هويتها، إنها عبارة عن تعليقات وهوامش مصاحبة عامة لا يمكننا تحديد الذات فيها، مثل: «العرب لا يحبون إرسال البطاقات» (ص 64). «ومعظم الدراسات البنيوية العربية» (ص 85) «ولكن هذا ذاته يثبت الوجود التجاوري للحالات والنماذج والعمليات التاريخية المتعارضة» (ص 96). «أو هي بؤرة سيميائية وفضاء لاكتناهات اللغوي والصوفي والميتافيزيقي منطوقة بلغة الجسد، لكن الجسدية فيها تراكم لغوي يزداد الجسد معه نايا وغيابا على مستوى الدلالة بقدر ما يزداد حضوره على مستوى الدال» (ص 277 )إن حضور هذه الأصوات المصاحبة لفعل الكتابة النقدية عند أبوديب يأتي رغبة في تحقيق وظائف معينة يمكن إجمالها في التالي:
2.2. وظائف الصوت المجاور
1.2.2. التعليق والنقد
تأتي الهوامش المصاحبة للنص النقدي أحيانا للتعليق على الكلام الذي يورده الناقد ليصبح أمام ذاتين ناقدتين واصفتين: الأولى الناقد كمال ابوديب باعتبار خطابه خطابا واصفا للنصوص الأدبية المعاصرة، والثانية ذات مصاحبة تقوم بإنشاء خطاب على خطاب أي تقدم تعليقات ونقود واصفة على خطاب أبوديب. ومن أمثلة ذلك:
«لماذا ترقم كل شيء؟ أترك لهم أن يرتبوا أو لا يرتبوا كما يشاؤون» (ص 14)، و«لماذا تندفع هذا الإندفاع كله لتقرر مبدأ هائلا كهذا بهذه السرعة وأنت لم تدرس سوى نص واحد؟ « (ص 17)، «أولا تخجل أن تقتبس نفسك؟ وبإسهاب أيضا» (ص 25)» لكن هل لما تريد أو لا تريد كل هذه الأهمية؟ القارئ يتخذ قراره حول الموضوع في معزل عن إرادة حضرتك، حقا لا شك أنك تمزح»(ص 43). «أي قفز فوق الجسور هو هذا لارتب الأمور قليلا يا رجل(ص 47) «لماذا المبالغات أشطب هذه العبارة واحترم مركزك العلمي». «أريد أن ألغي التعميم وأقول «في معظمه لكنني لا أعرف أين أولج العبارة أولجوها أنتم إن شئتم.» (ص 247)
2.2.2. الاستدراكات
وهو الخطاب الواصف الذي ينشئ تداركا لفكرة نقدية ما. إنه الكلام الذي يرد استجابة لتحد يمارسه نص أصلي سابق يستدعيه بوصفه استكمالا أو تعديلا أو نقصا أو ربما تقريضا وثناء28 وهذه بعض الأمثلة على ذلك:
وأضيف إليهما وليد اللحظة وحدة قديمة كشف عنها جابر في بحثه «وحدة المعمورة» كما أسماها «كتاب عرب قدماء» )(ص 22). تعليق كمال ابوديب على الذات المصاحبة: «الجسور؟ أنا ابني نصا ولا أبني أوتسترادات ما دهاك؟ (ص 47). ولكن هذا ذائه يثبت الوجود التجاوري للحالات والنماذج والعمليات التاريخية المتعارضة(ص 96)
3.2.2. اقتراحات وتصويبات
يتابع «الآخر» كمال أبوديب متابعة متواصلة ما سمح له بالتدخل لاقتراح صيغ كلامية علها تكون الأفيد في مواقع مختلفة، وفي أحايين أخرى يقوم بتصويب المعلومات التي يوردها الناقد ويشوبها بعض الخلل؛ سواء عن عمد ليصدم الآخر ويستفزه ويلاحظ مدى متابعته له، أو عن غير وعي وربما عن سهو منه. وهذه مقتطفات تمثل الوظيفة الثالثة للذات المصاحبة في نص «جماليات التجاور».
تناقض مثير لكن في التغيرات أيضا إلغاء الذات واحتجابها حسنا. إذن؟ لماذا لا تلغي هذه الفقرة كلها «(ص 24. «فاجعة» أفضل وأكثر درامية فأبدلها». (ص 74)، بل هو القرن الثالث عشر. (ص 76،» أليست يقنع أجمل هنا (ص 83)» الأدق أن تقول بعض الكلمات العربية ص 89. «فلتقل صياغات لكيلا تعود إلى الوحدانية» (ص 97) «لماذا لاتضيف والجنسية أيضا إمعانا في اللعب». (ص 131).
4.2.2. إثارة الانتباه
إنها تقترب من مفهوم وظيفة إقامة الإتصال لحاكبسون، يريد الناقد من إيرادها توجيه القارئ إلى أن يركز على تلك القضية، ويوليها اهتماما خاصا. مثل: «لاحظوا تعلقي بصلابة المعنى وحضوره» (ص 29) - اميز «لاحظوا أنني أمارس فصلا قاطعا الآن كأنني لم أتعلم شيئا بعد من عصر الهلام التداخل إلغاء الحدود لكن على زمنا يحين أتقن فيه اللعبة التي أتهجاها الآن» (ص 40)، «لاحظ الميل إلى استعمال عناوين تحكمها آلية التجاور، أدونيس: كتاب القصائد الخمس تليها المطابقات والأوائل، عباس بيضون زوار الشتوة الأولى مسبوقا بصيد الأمثال يليه مدافن زجاجية» (ص 133-34).« هل لاحظت مثلا شدة إنشغال وديع سعادة بجسده وأعضائه » (ص 280.)
5.2.2 استخفاف
وهي عبارة عن تعليقات تهكمية استفزازية يوجها الآخر كتعقيب على ما آورده کمال أبوديب، والملاحظ أن هذه الذات المصاحبة تأخذ تمظهرات مختلفة، وتساير فعل الكتابة عند أبوديب لذا تتعدد وظائفها. ومن أمثلة ذلك: « الوحدة من جديد؟هه/هه/هه» (ص 31) . «عودة الى الوعظ واللابد والينبغي كل ما فعل وقال المسكين عالق في الشراك لا ينفك» (ص 268) «والصلاح المسرح ههههه.» (ص 18) .
6.2.2. الاحالة
يقوم الناقد يتضمين خطابات إحالية في نصه النقدي مهمتها بناء النص وتشكيله وتماسكه، ووصل النص اللغوي بالسياق، والإهتمام ببيان عناصر التماسك بين أجزاء النصّ، وذلك سعيا منه إلى تقريب المعنى المتفجر للقارئ، وتأييدا لأفكاره المطروحة.
أمثلة على الوظيفة الإحالية:
«واقرأوا كذلك شعر المنصف الوهايبي ومحمد الغزي لتروا بعضا من أجمل ما كتب في هذا المدار» ، ص 39 «وراجعوا تعليقي على امير في مكان آخر لا داعي للتكرار (ص 66) ، وراجع أيضا جسدية إدوارد الخراط في الكتابة الروائية في حجارة بوبيللو كلها لكن خصوصا حجارة رقم 42- 54 وحتى 75 وهي أيضا في الملحقات» (ص 260) .
إن هذه الأصوات المصاحبة للخطاب النقدي عند كمال أبوديب تتخذ أشكالا مختلفة، فكما درسنا سابقا، تجدها على يمين أو يسار الصفحة أي أنه يبني خطايا هامشيا على خطابه النقدي، ولكنه في مواضع أخرى؛ ونظرا لتبنيه مقولات من مثل: التبعثر. العبث، اللعب، التشظي، يضمن متنه النقدي خطابا واصفا داخليا عادة ما يقع بين قوسين لنصبح في مواجهة نوعين من الخطابات الواصفة من الدرجة الثانية:
-
خطاب واصف هامشي خارج نصي.
-
خطاب واصف هامشي داخل نصي.
وكلاهما يؤكد النزعة التفكيكية التي تجعل من الهامش متنا ومن المتن هامشا وتدمر المعنى وتحاول خلق عالم من الأصوات.
يقول الناقد:
«وعلى هذا المستوى تقدم الإبداعية العربية مادة غنية لتأسيس جماليات غنية، غير أنني لا أرى أحدا يمارس هذا النمط من النشاط النقدي فيما أرى الكثير ممن يهرعون بكثير من الببغائية أؤكد لكم أنه شطب هذه الكلمة الساعة الثالثة صباحا قبل تقديم بحثه خوفا من الألسنة اللاذعة التي تتسقط هفواته وزلاته الكثيرات، إلى ترديد إسم دريدا ومصطلحاته ثم إلى وسم الكتابة العربية الآن بها دون أن يكون في عملهم ما يشعر أنهم يفهمون عمل دريدا...» 29.
وفي موضع آخر:
«إنهيار جماليات الوحدة يتجسد أيضا في انهيار مفهوم الوحدة وبزوغ الدعوات إلى التخلي عن الفكر الإنصهاري والإعتراف بتعددية الأعراق واللغات والديانات والمذاهب والعقائد وإقرار حضورها في فضاء ما ولقد تجلب أن يقول قضاء واحد« ذكاء منه، لأن ذلك كان سيمثل إعترافا بوحدة الفضاء ! ! ! ! الملعون! ! ! بالقدر نفسه..»30.
«أي أن النص النقدي ينبغي لكن من أنا لأقرر بضربة ريشة - بل ينبغي أن أقول بكيسة مفتاح فأنا لا أكتب بالريشة ولا أرسم بها بل أكيس على مفاتيح الماكنتوش الكلاسيك ولاحظوا هذا التعريب السخيف لاسم الكوالحاسب أو الحيسوب أو ماشئتم وهو بالإنجليزية Macintosh Classic – ما ينبغي أن يتحرر من واحدية الصوت ويسمح « بتعدديات» الأصوات والرؤى ويتناقض المقولات والقراءات للنص الواحد الذي يدرجه في سياق ممارساته لفاعليته وسل تشكله سواء أوعي التناقض أو لم يعه وستقولون لكن إذا لم يكن يعيه فهل يصح أن نقول إنه يسمح به وأنا فعلا لا أعرف - كما ينبغي عدت إلى ينبغي رغم محاولاتي سلخها عن لساني لكن ما أنا سوى نتاج ثقافة يتورع كل ما في وجودها وإفصاحها بين ما يلبغي وما لا ينبغي فهل اقدر على التحرر منها كما ينبغي أن أفعل ل ---- أن يسمح....« 31.
يجد قارئ كمال ابويب نفسه في دوامة من الخطابات المتداخلة والمتشابكة على مستوى الفضاء النصي وهو ما يعطيه خصوصية على مستوى البنية، وعلى مستوى الآليات الموظفة في إنتاجه، وعلى مستوى تلقيه، «فتلقي هذا النوع من الخطابات يثير لذة القراءة بشكل خاص لا تثيرها خطابات أخرى »32.
يحاول الناقد كمال أبوديب أن يخترق كل التقاليد المتعارف عليها فهو يجعل من المتن هامشا ومن الهامش متنا على خلاف العادة ليكون الهامش أحق بالتكبير والإكبار من المتن في الصفحة السادسة والأربعين يجسد قلبا لعتبة الهامش الذي ينبغي أن يكون في الذيل ولكنه يضعه كما يقول «موضع ابن الرومي لواسطة العقد» ويقوم بطباعته بحرف أسود كبير على هذه الشاكلة:
«هامش/ وابتكر أدونيس بنى شديدة التميز من «هذا هو اسمي» إلى قبر من أجل نيويورك » إلى « السماء الثامنة » إلى « المفرد بصيغة الجمع » إلى « إسماعيل ».... في السماء الثامنة «ابتكر أدونيس نص التداخلات النصية حين لم يكن غربي واحد قد تأمل بعد أسرار التناص والتصمين والاقتباسات المحورة وغور في تراث السحري والخارق العربي في مدائن الغزالي قبل أن نسمع بشيء إسمه الواقعية السحرية...»33. ثم يعود إلى المتن معلقا على يمين الصفحة «عودة إلى المتن؟ ولكن متى تركنا المتن؟هه هه.»
وفي أحايين أخرى يعتمد الطريقة التقليدية في التهميش يضع رقما أمام اللفظة التي يريد بشرحها ثم يعود ليضع سطرا أسفل الصفحة ويقوم بتدوين الملاحظات التي يريد إضافتها مثل:
»للعشب نداوة عينيك
ولعينيك لون العشب.
ويدي تتسلق 2 نهديك
نحو فضاء الموت الرحب.
ويعلق أسفل الصفحة:
(2 التسلق يمكن أن يكون نحو الأسفل، لأنه يعتمد على اتجاه الحركة ونقطة البدء.» ص.110
من هذا المنطلق يسعى كمال أبوديب إلى ابتكار جماليات ما يسميه» البنية المفتوحة
«ليكشف أن النص النقدي متعدد البنيات وأن من بين هذه البنيات بنية لا تنغلق أبدا بل تستمر في التشكل ويظل النص قابلا للنمو والدليل على ذلك التمظهرات المختلفة للهامش. يبدو أن الثقافة المابعد حداثية الهادمة للمركزيات والمؤمنة بالفوضى» تشكل النبذ النهائي المنطق والتعليل العقلي وإنهاء لسيادتهما الطويلة في عالم الهرمنبوطيقا وكما كان غادامير، فإن دريدا يحيل إلى مبدأ اللعب» 34.
3.الكتابة بالشطب
إن مصطلح الشطب أو المحو من المصطلحات المرتبطة بالفكر التفكيكي عند دريدا الذي إنحدر إليه من هيدجر وهو يشير إلى عدم كفاية العلامات ونقصها؛ فهي مكتوبة لكنها مع ذلك مشطوبة، فنحن نشطبها لنشير إلى نقصها. ولهذا السبب يقوم كمال أبوديب شطب جمل أو حتى فقرات للدلالة على أن هذا المعنى هو الحاضر الآن في ذهن الناقد ولكن ليس هو المعنى المطلوب الذي يريد أن يقوله الناقد زمن الكتابة ربما في مرات قادمة، إنه يقوم ب »إرجاء المدلول« ولعله يجد اللفظة أو الكلمات التي تؤدي المعنى الذي يراوده، إنه بهذا العمل يصرح بأنه يومئ للمعنى ولا يقربه إنها حلول إحتياطية »، يقول غادامير: « إنه سيكون من الصعب علي أن اعترف هنا بأي معنى نقدي وإلا لأمكننا أن نتساءل ماهو نقيض مصطلح فينومنولوجي »35 وهو ما يعزز فكرة اللايقينية التي يكتب بها كمال أبوديب، وهي مبدأ من مبادئ الفكر المابعد حداثي.
وينبغي الا نأخذ فكرة تشطيب العلامة على نحو حرفي، بل على نحو إيحائي فقط. فهذه العملية لا توحي بنقص العلامات وعدم كفايتها، بل عدم قطعيتها، إذ لا توجد علامة يمكن أن نقول عنها أنها دال لشيء أزلي، فهي لا تتمتع بأية قيمة مطلقة.
ومن أمثلة الكتابة بالشطب في كتاب ابوديب المقتطفات التالية:
«وقد بلور كمال أبوديب سلسلة من المقالات امتدت من 1990,1984. وكانت إحداها تحمل فعلا عنوان الإيديولوجيا وتحرير الشعر.( ص )24.
« ...وليس ابرع في تجسيد ذلك من تركيب الحوار الذي أنتجه الشاعر فعلا، فهو منقطع الروابط،تنتمي عباراته إلى عوالم لا علائق بينها ولا تنتج منها مقولة منسجمة متواشجة،
وهو يذكر بحدة بنمط الحوار الاإيصالي الذي انتجه صامويل بيكيت في أعماله المسرحية، هو ذا الحوار من جديد مكتوبا بصورة أبلغ عن انعدام الو جائش وعدم تشكل المنطوق الموضل، ص 58.
ولقد بزغ في الشعر عبر العقد الأخير نمط من الكتابة بنقص مفهوم الشعر والشعور، ويعيد ربط الشعر بالمربوط العربي القديم له وهو الفطنة والحساسية والذكاء ويؤسس لشعريات جديدة تشتق من الذهنية والبراعة الفكرية وتلجم الذات الفياضة لتبرز لنا ذاتا معاينة أقرب إلى الحياد المتحيز - من نمط الحياد العربي السياسي قبل سقوط الاتحاد السوفييتي وبزوغ الهيمنة الإمبراطورية الأمريكية على العالم - وحلت العين محل الأنا في شعر زمن بأكمله؛ ومع ذلك لم يسع النقد العربي إلى استقصاء هذه المكونات الجديدة الشعرية وبلورة جماليات جديدة نابعة منها ».( ص )72.
وحين بدأت الدراسة النقدية العربية تتخذ منحى بنيويا، في أعمال عدد من النقاد بينهم كمال أبوديب الذي أستطيع الحديث عنه بقدر من الإطلاع والثقة لا بأس به.( ص )85.
يظهر جليا تأثره بمقولات التفكيكية وتمثيلها في نصه النقدي أصدق دليل. الناقد يناهض الكتابات النقدية السابقة ويسعى إلى خلق نمط من الكتابة النقدية جديد، ونظرا لإحتكاكه بالثقافة الغربية التي تمثل فيها التفكيكية موضة النقد استمد أبوديب ملامح خطابه النقدي من التيار المابعد حداثي خاصة الفكر الدريدي التفكيكي.
4. الفواصل النصية
تتعدد التوقفات التي تحددها الإختلافات الطباعية، سواء تلك التي تفصل بين الفقرات بياض أو فراغ، أو تلك التي تفصل بين الحروف بعضها عن بعض أو التوقف الذي يحدث نتيجة إنشاء الناقد لسطر فاصل بين خطابين36. إنه تنويع تعبيري صوري في فضاء النص النقدي لا يخلو من الدلالة على التمرد على قواعد الكتابة النقدية السابقة التي تجير الناقد على صب كل أفكاره دون انقطاع بهذا الشكل. إن مثل هذه الكتابة التصويرية تمثل ساحة الحرية التي بات يمتلكها الناقد في ممارساته النقدية ألا تصر الحركة المابعد حداثية على تأكيد ولعها بالتفكيك الذي يلامس حد العدمية.37
والحق أن النص المعاصر يبدو فوضويا وعبثيا ولكن «كل فوضى وراءها نظام، وإن الفوضى نفسها جميلة ومفيدة، وليست قبيحة وحشوية، وإنما هناك نقص في المفاهيم لإبراز جمال النص المعاصر وتماسكه واتساقه وانسجامه».38 فيمككنا والحال هذه أن نتحدث عن الفوضى الخلاقة في النص النقدي المعاصر
1.4. الفراغات والبياضات
أما بياضات النص فهي تسجل على مستوى الكتابة، تلك الفوارق التي تفصل الكلام والفقرات النصية.
يقول أبوديب:
«أميز (لاحظوا أنني أمارس فصلا قاطعا الآن كأنني لم أتعلم شيئا بعد من عصر الهلام التداخل إلغاء الحدود لكن عل زمنا يجيء أتقن فيه اللعبة التي أتهجاها الآن بين نوعين من المقتربات للإبداع الأول هو نمط المسارات المتوارية والثاني هو نمط الفضاءات المتشابكة ثمة نمط آخر ممكن هو نمط الكتابة الحلولية… أترك بياضا هنا لأملأه في زمن قادم حين اعرف كيف أكمل الفكرة لو أنني فقط أستطيع تحرير نفسي من هذا القيد اللعين الخبيث الذي إسمه إكمال الفكرة لتركت البياض بياضا دون أن أعلق عليه فأفسده ولا يعود بياضا ولا شيء كامل في هذا الوجود فلماذا أقيد روحي بضرورة إكمال الفكرة قد أتشجع فيما بعد فلا أكملها ولا أقدم إعتذارا عن ذلك أو توضيحا له.»( ص )40.
وفي موضع آخر
بعد أن كان «التكرار في النظرية النقدية عيبا من العيوب التي حاربها النقد وحاول أن يقنن لها بما يخفف من قبحها، كان يجعل التكرار مقبولا في القافية إذا فصل بين المتكررين سبعة أبيات مثلا.
تعبت، توجل بقية العرض إلى ماشاء ربك.
وبعد تعليله لترك البياض بتعبه على أمل هو ذا يعود إلى كتابته النقدية الإبداعية بـ:
|
|
|
|
|
|
||||
|
|
|
|
«19
فراغ إحتياطي من أجل حلم مقبل / إذا أتي».( ص 111.)
إن النقد كنشاط نصي إبداعي ذاتي حر هو هاجس كمال ابوديب، وهو الذي يوجـه مرتكزاته الفكرية التي تقوم على جماليات الإنتهاك كأطروحة أساسية ولعل اعتبـار الحرية شرط للكتابة عند كمال أبوديب هو ما ولد هذا الفضاء النصـي المتـداخل والمتشابك، إنه يسعى إلى التحرر من القيد الذي اسمه إكمال الفكرة ويعلـق علـى طريقته الجديدة في الكتابة «فلماذا أقيد روحي بضرورة إكمال الفكرة -قد أتشجع فيما بعد فلا أكملها ولا أقدم اعتذارا عن ذلك أو توضيحا له» .
2.4. الفصل بين الحروف والكلمات:
يعمد أبوديب إلى ترك فواصل كتابية بين الحروف والكلمـات متخـذا طابعـا تشتيتيا تفكيكا يعكس رؤيته حيال النص،ومن أمثلة ذلك:
لن
يك..............
بداية مشتركة (بل بدايات مشتركة
ل تشابك الفضاءات
و
شعر اللحظة الراهنة
والا
فما معنى التشابك؟
آه، هه.40
« وأصوات (ه)
(ال) متشاجرة
متشاجرة
تشابك الفضاءات الإبداعية».41
|
|
|
|
||
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
||
|
|
|
|
|
تتضح إستراتيجية التفكيك النظرية كنشاط نقدي يتجه نحو بنيات التمس القوم بهدمها وبذلك يسمح لعدد لا نهائي من المدلولات والنصوص المبدعة من قبل القراء بالتدخل في إعادة نتاج النص وفقا لرؤى مختلفة. إن الفجوات التي يتركها أبوديب تخدم القارئ أيضا لا تسمح له بالتدخل في القضايا التي تركها أبوديب أو أجل معالجتها مثل الفراغات والبياضات ليقوم بملئها وهذا دليل على الأهمية التي يوليها الناقد للطرف الآخر – سواء أتم استدعاؤه مباشرة كأن يقول للآخر عن طريق التحاور « ما رأيك في، اطلع على كذا،... » أو من خلال الفواصل الكلامية التي يتركها الناقد. فالنص النقدي « جماليات التجاور » فضاء لأبعاد ومرجعيات متعددة تتنازع فيه الكتابات والقراءات المتعددة.
5. ضمور المصطلح النقدي
إن العملية النقدية ليست تطبيقا آليا لمنهج مرسوم، ولا تنظيما عقليا لمقدمات تحددت نتائجها مسبقا، ولا تبريرا مزينا لأحكام تعسفية، وإنما هي مغامرة محسوبة، ومحاولة منظمة لاكتشاف عالم النص الأدبي والقوانين التي تحكم حركته.43 إذا، قوة الإبداع ترفض قوة الوصاية.
من هذا المنطلق يبدو أن الناقد التقليدي بإجراءاته المستهلكة يتقوقع حول نفسه باعتماده على منظومة من المصطلحات والمفاهيم النقدية التي تقيده وتمارس سلطتها عليه.
والملاحظ على أسلوب الكتابة النقدية في كتاب «جماليات التحاور» - ضمور المصطلح مقارنة بالحضور الهائل عند الناقد محمد مفتاح وبدرجة أقل عند الدكتور عبد الملك مرتاض إن غياب المصطلحات النقدية يؤكد ما ذهبنا إليه سابقا بأن المصطلح النقدي من الضوابط التي تحصر فعل الكتابة. أبوديب يكتب دون حدود ويسعى بكتابته هذه أن يشمل كل شيء، إنها ثقافة اللامحدود والتحرر من القيود. إن المصطلحات النقدية تمارس عليه سلطة بأن تضعه في قفص من قواعد الكتابة لذا يسعى إلى خلق مجال متسع من الحرية مبني في الأساس على إقامة القطيعة مع المتوالية الاتصالية إن النص النقدي الإبداعي الذي يكتبه كمال أبوديب يرفض أن يكون تحت وصاية اي كان حتى المصطلح- لذا خلق لنفسه مجالا خاصا يتحرك فيه كما يشاء دون رقابة من أحد وهو ما يؤكد تأثر العميق بالأسس الفكرية للتيار المابعدي.
6. الملحقات
بما أن رفض وسائل البنيوية التقليدية هي السمة الأساسية للنقد في عصر ما بعد الحداثة44، فإن أي ممارسة نقدية في هذه المرحلة لا بد أن تتخذ تعريفا يكون متعارضا مع ما هو مألوف، لذا لجأ كمال أبوديب إلى زعزعة القناعات الراسخة حول النقد الأدبي منتهجا أسلويا جديدا في الكتابة يتقاطع مع أفكار وآراء العديد من النقاد والشعراء والمفكرين خاصة منهم أدونيس.
يضمن الناقد كمال أبوديب كتابه جماليات التجاور ملحقات متعددة ومختلفة، مثل أهم المحطات التي يتقاطع معها في رؤيته الجديدة للنص وطريقة المغايرة في التعامل مع هذا النص.
« واقرأ الآن هذا النص لأدونيس لترى عجائب الأمور ومنها أنه في الشهرين اللذين كنت أكتب فيهما هذه الصيغة الأولى للبحث بكل ما فيه من نقص ورقص للإكتمال، كان ادونيس يكتب - دون علم من أحدنا بما يفعل الآخر - القصيدة غير المكتملة ويبدأها كذا كما في نصي: «ممزوجا بالأنقاض بكل عبار منثورا في كون يتفتت بين يدي.. »45.
ان النصوص المضمنة في الملاحق والتي تأخذ أشكالا متعددة «الكتابة باليد، الكتابة الحاسوب، الكتابة أفقيا، عموديا، الأشكال، الرسومات....» والتي تأتي بلغات متعددة «العربية، الفرنسية، الإنجليزية» وتمظهرات عديدة «نصوص شعرية، نثرية، نقدية،» تؤكد الرغبة في التحرر وخلق مساحة أوسع للإبداع من طرف الناقد.
خاتمة
جماليات التجاور مقام البوح46: في الصفحة التاسعة والعشرين بعد الثلاثمائة، يورد كمال أبوديب نصا أخيرا ويعلق عليه بـأصل أخيرا على الإلحاق بغيره كما هو غني عن أن يلحق به، فيتيح الكلام لنفسه فقط في معزل عن الذات المصاحبة له سابقا إنه يتجرد منها ليعود إلى الذات والصوت الفردي، وهو شكل آخر من الكتابة علها تكون الأفيد للبوح فتعود مفردات الذات وقاموسها للبروز في هذا النص النقدي. وعن سمات هذه الذات العائدة:
-
ذات تعاين العالم أحيانا معاينة باردة تجريدية الطابع تلتقط منه ملامح هاربة فقط ولا تسعى إلى إبرازه ناصعا باهرا.
-
ذات حادة الوعي بالطاقات التشكيلية للغة وأقل افتتانا بالطاقات الصوتية والإيقاعية والتعبيرية لها.
-
أكثر ما يجسدها هو أنها لا تسعى إلى تمثيل العالم الخارجي، لا على مستوى الشيء ولا على مستوى الوجود الفكري والعقائدي، إنها ذات لا تقول العالم بل تقول حضورها في العالم.
-
هذه الذات المتشظية جوهريا، ليست في حالة تناغم مع الوجود لا في بعده الطبيعي ولا في بعده الاجتماعي، إنها لا ترى نفسها في حالة حلول مع العالم كما هي الصوفية»، رغم بزوغ مفردات وتصورات صوفية فيها. إنها انشراخ وانفصام وقلق داخلي وتشتت وتشظ في زمن هو زمن اللحظة الراهنة.
-
وهي أخيرا ذات تخلصت مما أسميته «سلطة النموذج»، فلم يعد ثمة نموذج تسعى إلى تجسيده.
وهكذا يسعى أبوديب جاهدا إلى خلق فضاء نقدي قائم على الاختلافات لا على الائتلافات لذا أنشأ أبوديب فضاء صالح للبوح بما لا تسمح به الفضاءات الأخرى.