مقدمة
من قضايا الفكر السياسي التي رمت بكل ثقلها في فضاء الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث تلك المتعلقة بالجدل حول رهانات دولة الخلافة أو الدّولة الإسلامية في ظل تحديات الدولة الحديثة الصاعدة ذات الشرعية العَلمانية.
فالحساسية الحادة لموضوع الدولة الإسلامية والدولة الحديثة، وتصدرها قضايا الأمة الإسلامية في العصر الحديث، كانت بسبب ارتباط الموضوع بتفعيل الدّور الحضاري والتاريخي للأمة المسلمة وإخراجها من أبهة الفكر وسحر الكلام وعطالة الفعل إلى استعادة الفاعلية الحضارية في شؤون السياسة العامة والسياسة العالمية. لذلك تصدى لهذا الموضوع العديد من المفكرين والمنظّرين السياسيين على اختلاف مرجعياتهم الفكرانية وآلياتهم المنهجية. تَقدَّمهم في العصر الحديث المفكر والمصلح الإسلامي رشيد رضا بكتابه « الخلافة » (1922)، والشيخ الأزهري علي عبد الرزاق الذي أثار كتابه « الإسلام وأصول الحكم » (1925) ضجة أكبر من ضجة إلغاء العمل بنظام الخلافة ذاته. وكلاهما تزامن صدوره مع قرار كمال أتاتورك حل الخلافة الذي بدأ تدريجيا، بداية بفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية في غرّة (نوفمبر 1922)، ثم الإعلان عن الجمهورية في (29 أكتوبر 1923)، انتهاء عند إلغاء الخلافة نهائيا في (03 مارس 1924) وإخراج الخليفة.
فكتاب « الخلافة » الذي رافع فيه صاحبه عن مشروعية نظام الخلافة، يقف على النقيض من الثاني، لأنّ الأول -الإمام رشيد رضا- هو مسلك الدّيانيين عموما، أي مسلك الاستدلال بالنّصوص الدّينية وما جاء فيها من آيات عن الحكم والسياسة، مع الإجماع وعمل الصحابة، كَيمَا يؤكد على أنّ رأي الدّين في السياسة العامة جاء بالنص القاطع وحائز على إجماع المسلمين الذي لا تأويل فيه.
بينما تسبب كتاب « الإسلام وأصول الحكم » في ضجة هزّت الوجدان المسلم، حيث رافع فيه صاحبه على موقفه الرافض لفكرة الخلافة، متحججا بأنّها نظام عرفي لا ديني قطعي، وعليه لا مشاحة في إمكانية الانفتاح على الدولة الحديثة وتشريعها المدني، وهو على التحقيق لم يكن مجرد استعراض لموقفه حصرا، وإنّما حاول أن يؤكد أنّه موقف الإسلام ذاته.
ولعل علي عبد الرزاق الذي كان مسلكه « اجتهاديا » في المسألة أدرك أنّ منهج « الديانيين » في الاستشهاد بالنّصوص الدّينية، وحصرهم لدور العقل (الاجتهاد) في مجال السياسة العامة وقضاياها بما فيها تلك القضايا غير المشمولة بنص ديني قطعي، جعله ينكر على موقفهم جملة وتفصيلا، حيث فنّد أنّ يكون في القرآن الكريم من الآيات ما ينصّ على الخلافة، كما فنّد أن يكون للنبي دور الحاكم أو السلطان، زيادة على تفنيده للإجماع كمصدر في التشريع، انتهاء لرفضه على أن يكون الدّين الإسلامي سياسة مدنية، بل وزاد في استدلاله توسّله ببعض آراء المعتزلة المتعلقة بموضوع الخلافة.
1. الإطار العام للدراسة
1.1. اشكالية الدراسة
تفاعلا والموضوع المقترح جعلنا صياغة اشكاليات الورقة على هذا النحو:
-
ما هي رهانات الخطاب السياسي الديني لرشيد رضا أمام مستجدات الفلسفة السياسية الحديثة؟
-
كيف كان وقع مطالبة علي عبد الرازق بتحديث الفكر السياسي الإسلامي وقوله بتاريخية نموذج الخلافة على الفكر السياسي الإسلامي الحديث؟ ثم ما مدى حجية مطلبه ذلك ذي الشرعية الحداثية الغربية؟
-
هل كان لمطلب تحديث الدولة الإسلامية عند علي عبد الرازق ضرورته السياسية والتاريخية أم هو مجرد افتتان بمنجزات الغرب وحداثته؟ في المقابل هل بقي من مبرر للحديث عن نظام دولة الخلافة عند رشيد رضا في ظل انهاء العمل بآخر نظام للخلافة في العالم الإسلامي ممثلا في الخلافة العثمانية أم كان مجرد عاطفة دينية؟
2.1. أهداف الدراسة
تهدف الدراسة إلى التأكيد على أهمية موضوع السياسة العامة في الفكر الإسلامي وخطورته كذلك، فقيم الإسلام من غير سياسة عامة يبقى مجرد عبادات وممارسات شكلية، وكونه نظام اجتماعي وسياسي هو ما يكفل له أداء دوره التاريخي.
أيضا إدراك أن الاختلاف المذهبي بين الفرق الإسلامية في التاريخ الإسلامي وحتى في الحاضر، هو اختلاف سياسي ابتداء، لأن مشكلة الخلافة كانت أول سبب يختلف حوله المسلمون بعيد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
الصراع الحالي بين الإسلاميين والعلمانيين في العالم الإسلامين -والذي زادت وتيرته خلال ما يسمى بأحداث الربيع العربي-، وهو على التحقيق يظهر في كل مرة متى حدثت أزمة سياسية أو فراغ في نظام الحكم في دولة ما، يجد امتداداته الفكرية والتاريخية في الجدل الفكري الذي باشره علي عبد الرازق ضد رشيد رضا في منتصف العقد الثالث من القرن العشرين.
3.1. منهج الدراسة
بالنسبة لمنهج الدراسة، فهو منهج مقارن أساسا، حيث ساعد هذا المنهج على الوقوف عند أهم نقاط الاختلاف بين نموذجي الدراسة على المستويين الأيديولوجي والمنهجي. كما تمت الاستعانة كذلك بالمنهج التاريخي بالعودة إلى نصوص الماضين الذين تصدوا لموضوع الخلافة من فلاسفة وفقهاء.
2. السجال الفكري بعد الاعلان عن حل الخلافة
1.2. خلال العصر الحديث
مع إعلان « كمال أتاتورك » إلغاء الخلافة الإسلامية وإعلانه تركيا دولة علمانية قومية. بدأ العقل السياسي يسجل ثاني خيباته في تاريخه. فبعدما سبق له وأن سجل أولى خيباته بتحول الخلافة إلى ملك عضوض على يد معاوية بن أبي سفيان عام 41 للهجري. وهو أول حدث هزّ أركان النموذج السياسي الإسلامي. تكرر الحدث ثانية خلال العصر الحديث بالتخلي عن الخلافة، بداية بفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية في غرّة نوفمبر 1922، والإعلان عن الجمهورية في 29 أكتوبر 1923، ثم إلغاء الخلافة نهائيا في 03 مارس 1924.
بالنسبة لأتاتورك فقد كانت هنالك عدّة مبررات لإعلان التخلي عن العمل بالخلافة؛ أهمها إدراكه أنّ زمن الإمبراطوريات الدينية قد ولى وأن الإمبراطوريات ستتحول تدريجيا إلى ممالك ودول دستورية مدنية يملك فيها الملك ولا يحكم. كما لم يعد من الممكن التحكم في جغرافيات واسعة، فعمليا الأمر يلزمه قوّة السلاح وهو ما لم يكن متوفرا للدولة العثمانية آنذاك. ثم لرغبة في نفسه في التخلص من آل عثمان بشكل نهائي (احمد يوسف 2018).
اعتبر رشيد رضا بدوره، وعلى دفاعه على نموذج الخلافة، أن إزاحة الأتراك لآل عثمان كان له مبرره الديني الذي يتطابق والأعراف الفقهية في السياسة الشرعية، فما هو مقرر أن
« أهل الحل والعقد يجب عليهم مقاومة الظلم والجور والإنكار على أهله بالفعل، وإزالة سلطانهم الجائر ولو بالقتال إذا ثبت عندهم أن المصلحة في ذلك هي الراجحة والمفسدة هي المرجوحة، ومنه إزالة شكل السلطة الشخصية الاستبدادية، كإزالة الترك لسلطة آل عثمان منهم، فقد كانوا على ادعائهم الخلافة الإسلامية جائرين جارين في أكثر أحكامهم على ما يسمى في عرف أهل هذا العصر بالملكية المطلقة » (رشيد رضا دت : 43).
في 14 رمضان 1357 للهجري/ نوفمبر 1938 للميلاد، كتب أبو الحركة الإصلاحية الجزائرية رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين « عبد الحميد بن باديس » بمناسبة وفاة كمال أتاتورك مقالا يثني فيه على أتاتورك، واصفا إيّاه بـ « الرجل العظيم » و« بطل غاليبولي في الدردنيل » لأنّه قهر انكلترا. « وبطل سقاريا » لأنّه قهر انكلترا وإيطاليا واليونان وفرنسا بعد الحرب الكبرى. كما وصفه بـ « باعث تركيا وباعث الشرق ككل » (ابن باديس 1984 : 122).
من وجهة نظر ابن باديس أنّ خليفة المسلمين بعد الحرب العالمية كان في طوع يد الغرب، ووحده كمال مصطفى اتاتورك الذي « خلق الله المعجزة تحت يده » استطاع مقاومة « الخليفة الأسير » و« حكومته المتداعية » و« شيوخه الدجالين » وانهاء عهد « الخلافة الزائفة ». ليس هذا فقط، وإنّما دفع ابن باديس شبهة أن يكون أتاتورك وراء نقض نموذج الخلافة، فالسبب يعود في نظره إلى من كان وراء إضعاف الخلافة من قبل، وهم المشايخ الدجالون والخلفاء المزيفون؛ يقول ابن باديس :
«المسؤولون هم الذين كانوا يمثلون الإسلام وينطقون باسمه، ويتولون أمر الناس بنفوذه، ويعدون أنفسهم أهله وأولى الناس به. هؤلاء هم خليفة المسلمين، شيخ إسلام المسلمين ومن معه من علماء الدين، شيوخ الطرق المتصوفون، الأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطان العثماني خليفة لها. أما خليفة المسلمين فيجلس في قصره تحت سلطة الإنكليز المحتلين لعاصمته ساكنا ساكتا. أستغفر الله لا بل متحركا في يدهم تحرك الآلة لقتل حركة المجاهدين بالأناضول، ناطقا بإعلان الجهاد ضد مصطفى كمال ومن معه، الخارجين عن طاعة أمير المؤمنين »(المرجع نفسه : 123).
لذلك تساءل ابن باديس :
« أين هو الإسلام وراء كل هذه »الكليشيات« كلها؟ [...] لقد ثار كمال حقيقة ثورة جامحة جارفة ولكنه لم يسكن على الإسلام وإنّما ثار على هؤلاء الذين يسمون بالمسلمين. فألغى الخلافة الزائفة، وقطع يد أولئك العلماء عن الحكم [...] وقال للأمم الإسلامية عليكم أنفسكم وعلي نفسي، لا خير لي في الاتصال بكم ما دمتم على ما أنتم عليه، فكوّنوا أنفسكم نتعاهد ونتعاون كما تتعاهد وتتعاون الأمم ذات السيادة والسلطان » (المرجع نفسه : 124).
وليس لأحدنا الاعتقاد في أنّ ضياع الخلافة هو ضياع لحدود الشرع، لأن أحكام الشرع تحت ظل الخلافة الزائفة وجمود علمائها وضيق تحصيلهم كانت معطلة بالأساس، فضاعت الأحكام الشرعية زيادة على رفض القوانين المدنية، يقول ابن باديس :
« نعم ! إن مصطفى أتاتورك نزع من الأتراك الأحكام الشرعية وليس مسؤولا عن ذلك وحده وفي إمكانهم أن يسترجعوها متى شاءوا وكيفما شاءوا ولكنه رجع لهم حريتهم واستقلالهم وسيادتهم وعظمتهم بين أمم الأرض. وذلك ما لا يسهل استرجاعه لو ضاع [...] فأما الذين رفضوا الأحكام الشرعية إلى (كود) –يقصد القانون- نابليون فماذا أعطوا أمتهم؟ وماذا قال علماؤهم؟ » (المرجع السابق : 125).
تُرك المجال مفتوحا على من يخلف الخلافة خارج تركيا، ففتح ذلك الباب على تنافس أربعة أقطاب في العالم الإسلامي؛ و تنافسها لم يكن يخلو من عصبية، ذكرهم « شكيب أرسلان » في إحدى مراسلاته لـ « عبد العزيز الثعالبي »، ذكر له :
« الذي لنا الحق أن ننظر فيه هو مسألة الخلافة بعد أن رفضها الأتراك [...] والذي أراه أنَّ المرشّحين يكونون خمسة : ملك مصر وهو الأولى لأنّ مصر تقدر أن تحمل الخلافة وجميع آمالنا صارت معقودة بها في المستقبل. ثمّ الإمام يحي (ملك اليمن) وهو الثاني لأنه مستقل تمام الاستقلال وعصبيّته قوية في العرب. ثم أمير الأفغان لأنه صاحب دولة وعصبية. ثمّ الملك الحسين الذي لا شك أنه صار الآن يقبل الخلافة وصار حزبه ينادون به خليفة (شكيب أرسلان دت : 16). »
الخامس هو الخليفة المخلوع، إن جرت إعادة بيعته ووجد له مكان في بلاد عربية، مصر أو اليمن
وفي نص مطول بعنوان
« وحدة الإمامة بوحدة الأمّة » كتب الإمام رشيد رضا عن معيقات التنافس على خلافة الخلافة بين هؤلاء الأقطاب والأثر السلبي للعصبية، ثم الوطنية، بعد انقسام البلاد الإسلامية إلى دول، على عودة الخلافة. يقول : « وحدة الإمامة تتبع وحدة الأمة وقد مزقت العصبية المذهبية ثم الجنسية بعد توحيد الإسلام إياها بالإيمان برب واحد، وإله واحد، وكتاب واحد، والخضوع لحكم شرع واحد، وتلقي الدين والآداب وغيرها بلسان واحد، فأنى يكون لها اليوم إمام واحد، وهي ليست أمة واحدة؟ » (رشيد رضا المصدر السابق : 53).
ثم تحدث عن صعوبة حمل البلاد الإسلامية ذات الحكومات المستقلة على الخضوع لرئيس/ خليفة واحد، والحكومات المستقلة هي حكومات الترك والفرس والأفغان ونجد واليمن العليا، وهي النجود وما يتبعها واليمن السفلى والحجاز، أما الدول الإسلامية التي كانت تابعة لروسيا القيصرية واستقلت عنها فليس لها الحق في الخلافة لأنّها ستكون تابعة لتركيا بسبب الجامعة الطورانية.
وعليه بقي الكلام في الحكومات العربية والدول الثلاث الأعجمية؛
-
« فأهل اليمن العليا فيعتقدون أن الإمامة الشرعية الصحيحة محصورة فيهم منذ ألف سنة ونيف؛ لأن أئمتهم ينتخبون انتخابا شرعيا تراعى فيه جميع الشروط الشرعية التي يشترطها أهل السنة مع زيادة مراعاة مذهبهم الزيدي [...] لكن جيرانهم من العرب والمسلمين لا يعتدون بإمامتهم ».
-
وأما السيد الإدريسي فهو على كونه حاكما مستقلا، وسيدا علويًّا، وفقيها أزهريّا، ومرشدا صوفيّا، لم يدع منصب الخلافة فيما نعلم، ولم يدع رؤساء إمارته إلى مبايعته بها، ولكن أهل بيته وجماعته يعتقدون أنّه أحق بها من شرفاء الحجاز، ويلقبونه بالسيد الإمام، ولقبه بعضهم بصاحب الجلالة الهاشمية [غير أنّ] السيد الإدريسي كان يفضل الاعتراف بسيادة الترك السياسية على بلاده في الأمور الخارجية؛ هربا من دسائس الإفرنج وتقوية للروابط الإسلامية.
-
وأما حكومة الحجاز (يقصد الملك حسين) فهي جديدة ولا يعرف لها نظام ثابت وقد بايعه أهل مكة وآخرون من سورية، وكان ولداه (فيصل) ملك العراق و(عبد الله) أمير شرق الأردن، مصران على بسط نفوذهما للبيعة لوالدهما. لكن الملك الحسين توسل في نيل للخلافة بالانجليز، وعليه يكون أبعد عن استحقاق منصب الخلافة.
-
وأما أهل نجد (يقصد آل سعود) فحنابلة سلفيون وهم يسمون أميرهم إمامًا ولا يسمونه خليفة، ولم يبلغني أنه يدعي الخلافة العامة، ولكنهم يعتقدون أنه لا يوجد أمير مسلم يقيم دين لله كما أنزله غيره، وأن بلادهم دار العدل وجماعة المسلمين والهجرة إليها واجبة بشروطها، فلا مطمع في اتباعهم لغيرهم (بمعنى لن يقبلوا خلافة غيرهم عليهم)، وقد اتهموا بانتحال مذهب جديد نفر منهم غيرهم، وهم لا يبالون ما يقال فيهم، ولا يدعون أحدًا إلى اتباعهم إلا البدو المجاورين لهم، الذين لا يعرفون من الإسلام عقيدة ولا عملًا، فيدعونهم إلى التدين وترك البداوة واتباع حكومتهم الإسلامية التي تقيم شرع لله وحدوده على مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل.
-
أما حكومة عمان الإباضية فإنّ نفوذ الانجليز فيها كبير، وهم من الخوارج الذين لا يقيدهم شرط القرشية.
-
أما مصر وسوريا والعراق ودول إفريقيا فهي تحت حكم الاستعمار، فليس لها من أمر في حكمها أو حكومة دينها» . (رشيد رضا المصدر السابق : 52-55).
وعن الدول الأعجمية (تركيا، والفرس والأفغان) فيطلعنا بأحوالهم على النحو الآتي؛
-
أنّ الخليفة المخلوع السلطان محمد وحيد الدين فإنّه ينتفي فيه شرط الحرية والاختيار لكونه منفيا، لذلك لا يعتد به كخليفة ولا يعتد برأيه إن هو سلمها لملك الحجاز. زيادة على التوجه الجديد لأنقرة.
-
أما إيران فمذهبها الشيعي يجعل الإمامة للمهدي المنتظر، فلا تعترف بإمامة أخرى لغيره، وهي ترتبط بغيرها من الدول الإسلامية بنوع المحالفات السياسية ليس إلا.
-
بقيت الأفغان فعلى سنيتها واستقلالها ليس لها إلا طريق «التغلب» ، لكن ذلك لا يجعل من الحاكم خليفة إذ «المتغلب الذي لا يطاع إلا بالقهر لا يجوز لغير من قهرهم الاعتراف له بالخلافة» (رشيد رضا المصدر السابق : 55-57).
ليختتم الإمام رشيد رضا بكلام ملؤه الحسرة والأسى وكأنّما أراد الاعتراف بأنّ زمن الخلافة قد ولى إلى غير رجعة، يقول :
»إن الشعوب الإسلامية المقهورة بحكم الأجانب ليس لها من أمرها إلا ما يجود به عليها الأجانب القاهرون لها، ولا يمكنها أن تساعد على وحدة الأمة، التي تتوقف عليها وحدة الإمامة، إلا من طريق بث الدعوة وبذل المال، وإن الشعوب المستقلة لا مطمع الآن بجمع كلمتها، بترك التعصب لمذاهبها ولجنسيتها، وإيجاد خلافة صحيحة قوية توحد حكومتها، وأقرب منه عقد موالاة ودية أو محالفات سياسية عسكرية بينها، وقد بدأ بذلك الأعاجم منها. وأما العربية فقد عز إلى اليوم التأليف بينها، فإذا يسره لله تيسر اتفاقها مع غيرها، وكان ذلك تمهيدًا للإمامة العامة التي تجمع كلمتها كلها. ومن ذا الذي يطالب بإعادة تكوين الأمة الإسلامية المنحلة العقد المفككة المفاصل، وبإعادة منصب الخلافة إلى الموضع الذي وضعه فيه الشارع؟ أهل الحل والعقد ! أهل الحل والعقد ! ومن هم وأين هم اليوم؟» (المصدر السابق : 58).
كانت تلك الأوضاع السائدة التي أعقبت الإعلان عن إنهاء العمل بالخلافة، صدمة هزّت وجدان علماء الأمة وأهل الرأي فيها، لكنها كانت فرصة لحكام العالم الإسلامي ليتنافسوها، كما كانت فرصة لبعث النقاش الفكري عن المسألة. ففي هذا السياق بالذات ظهر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» ليقطع الطريق على (الملك فؤاد) بخلافة الخلافة.
2.2. في الفلسفة المعاصرة
إن إثارة مسألة الخلافة والدولة المدنية في العصر الحديث، زيادة على السبب السابق وهو سقوط الخلافة، حرّكته الموجة الاستعمارية للقوى الإمبريالية الغربية -التقليدية والحديثة- على العالم الإسلامي بداية من القرن التاسع عشر، ومساعي تلك القوى في طمس معالم التشريع السياسي الديني للعالم الإسلامي وتبديله بتشريع علماني، وتقسيم أراضيه إلى أوطان بدل وطن واحد أو« أمة واحدة» ، تلتها حركات التحرر في منتصف القرن العشرين حيث بدأت معظم البلاد الإسلامية باستعادة استقلالها، فتبلورت مطالب العودة إلى نموذج التشريع الإسلامي كما كان عليه الأمر زمان الخلافة الواحدة. غير أنّ قرار معظم زعماء البلاد الإسلامية المستقلة بتبني النّهج الاشتراكي القومي في ظل قسمة العالم المعاصر إلى ثنائية استقطابية بين المعسكرين الشرقي الشيوعي والغربي الليبيرالي شكّل بدوره صدمة مضاعفة على وجدان الشعوب الإسلامية، ما تسبب بظهور حركات دينية أصولية معلنة الجهاد داخل البلاد الإسلامية ضدّ أنظمتها السياسية الـمُعلمنة لمخالفتها نموذج الخلافة.
ينتاب الإسلاميين شك جذري في الأنظمة الحاكمة فهي في نظرهم امتداد للتواجد الغربي في العالم الإسلامي وامتداد لأجندته الثقافية والسياسية ضد الشعوب الإسلامية حتى أكثر الإسلاميين وسطية منهم.
فالغنوشي مثلا يصف الدولة العربية المعاصرة بـ «دولة التجزئة العلمانية الدكتاتورية» ونظامها بـ«الكهنوت الجديد» التي عاشت أمتنا في ظلها التجزئة والتبعية والتخلف (الغنوشي 1993 : 94). لذلك فإنّ «العمل الدائب الفردي والجماعي، واسترخاص الأموال والأنفس في سبيل إقامة دولة الإسلام واجب شرعي ومصلحة وطنية واستراتيجية» (المرجع نفسه، صفحة نفسها). في المقابل وصف حركة الإسلام المعاصرة في بعدها السياسي بأنّها «امتداد واستئناف لحركات التحرر والاستقلال في أمتنا، لتحقيق ما فشلت فيه الجولة السابقة من استقلال ثقافي وتنمية، ووحدة وعدل وشورى وتحرير بقية الأجزاء المحتلة، خاصة فلسطين» (المرجع السابق، الصفحة نفسها).
إنّ مسألة الخلافة فعّلت حضورها خلال عصر النّهضة و كذا في الفترة المعاصرة، كما الماضي، ذلك ما تعكسه غزارة التأليف سواء في الفقه السياسي الإسلامي أو في الفلسفة السياسية المدنية، بعد الصدمة الحضارية الناجمة عن احتكاك المسلمين بثقافة الغرب ونماذج حكمه، فمثلا تسبب كتاب «الإسلام وأصول الحكم» منذ صدوره عام 1925 لـ »علي عبد الرازق» بضجة هزّت الوجدان الإسلامي حينها، والذي بيّن فيه موقفه الرافض لفكرة الخلافة ليفتح الباب على إمكانية الانفتاح على الدولة الحديثة بمفهومها الغربي وتشريعها المدني، وهو في الحقيقة لم يكن موقفه حصرا، وإنّما حاول أن يؤكد على حقيقة أنّه موقف الإسلام ذاته.
وعلى الرغم من إفادة المفكر المصري «محمد عمارة» -في سياق اعتراضه على (محمد أحمد خلف الله)- من أن علي عبد الرازق قد تنازل عن أفكاره لاحقا (محمد عمارة دت : 05). إلاّ أن ذلك لم يمنع من أن يكون للكتاب وقعه النوعي على الفلسفة السياسية الإسلامية الحديثة. فهو كما يصفه برهان غليون بمثابة إعلان عن تفجير المعركة الفكرية السياسية داخل الإجماع التقليدي الذي حاولت الإصلاحية السلفية الاستناد عليه في مطلبها للتجديد (برهان غليون 2007 : 06). وتأكيده من أنّ
«عبد الرازق، بنقده لمفهوم دولة الخلافة، وتأكيده على طابعها المعرفي، وبالتالي خطأ الاعتقاد بإقامة النظام السياسي على مبادئ الدين وقواعده، نقل المعركة الفكرية إلى مستوى جديد لم يكن الكثير من الناس يدرك في ذلك الوقت خطورته بعد» (المرجع السابق : 07).
ليس غليون وحده من أفاد بمكانة أطروحة علي عبد الرازق، وإنما راشد الغنوشي الذي يمثل أحد منظري ومتمرسي الإسلام السياسي كذلك كتب عن وقع الكتاب ما نصه:
«لقد تدافعت مناكب المفكرين والعلماء حول الكتاب تأييدا ومناصرة أو نقضا وتقييما واستنكارا، ولم تلبث تلك الضجة حول الكتاب أن خبت وفقد الكتاب وهجه نتيجة حملة النقد العاتية التي قامت بها المؤسسات الدينية الرسمية ضد الكتاب وصاحبه، متعاونة في ذلك مع دعاة الحركة الإصلاحية ومفكريها الذين لم يكتفوا بنقد الكتاب وتسفيه الأدلة القائم عليها وتعرية الدوافع الكامنة وراء الكتاب في ظرف اتسم بتمكّن الغزو الغربي من الإجهاز على ما تبقى من الخلافة العثمانية، بل أضافوا إلى ذلك جهودا إيجابية تمثلت في تكثيف الكتابة في النظام الإسلامي لتجلية خصوصياته بين الأنظمة وإبراز معالمه من ناحية، وبعث حركات وأحزاب إسلامية للدعوة إلى إعادة بناء الخلافة وإقامة حكومات إسلامية من ناحية أخرى» (الغنوشي المرجع السابق : 90).
هذه الشهادة تبيّن بجلاء تام وقع الكتاب ليس على تبلور الحركات الإسلامية الذي كان الكتاب سببا في بعثها وإحيائها، بل وإحياء تراث كان شبه ميت بإعادة بعث الكتابة في التراث السياسي الإسلامي1 وربما كانت صدمته الكتاب أشد وقعا من صدمة حل الخلافة ذاته.
تسببت آراء علي عبد الرازق له بإدانة واسعة من مشيخة الأزهر وعلماء العالم الإسلامي، حيث جرت محاكمته من هيئة كبار العلماء في الأزهر ليتم عزله كقاض شرعي، وهذا ما يعكس أمرا في غاية الخطورة، أي خطورة دمج مسألة الخلافة كقضية سياسية بأصول الإيمان، وما صاحب ذلك من غلو في الممارسة السياسية مثلما صاحب العقيدة، وقد سبق لعلي عبد الرازق أن لاحظ خطورة ذلك الخلط بين السياسة وأصول الدين حينما كتب يقول : « ثم أنّ الخلافة قد أصبحت تلصق بالمباحث الدينية، وصارت جزءا من عقائد التوحيد، يدرسه المسلم مع صفات الله تعالى وصفات رسله الكرام، ويلقنه كما يلقن الشهادة » (علي عبد الرازق 1925 : 102)، ويضيف « ثم ضيّقوا عليهم البحث في ميادين السياسة كما ضيّقوا عليهم في فهم الدّين » (المصدر نفسه، الصفحة نفسها).
جرى الحكم على علي عبد الرازق بعدما اسندت اليه الـتهم التالية؛ جعل الدين لا يمنع من أن جهاد النبي كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين ولا لإبلاغ الدّعوة إلى العالمين. اعتبار نظام الحكم في عهد النبي موضوع غموض أو ابهام أو اضطراب أو نقص وموجبا للحيرة. اعتبار مهمة النبي كانت بلاغا للشريعة مجردة عن الحكم والتنفيذ. إنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام وأنّه لا بد للأمة ممن يقوم بأمورها في الدين والدنيا. إنكار أنّ القضاء وظيفة شرعية. اعتبار حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده كانت لا دينية.
هي أحكام فيما نرى ترتبط حصرا بآراء عبد الرازق بالخلافة والقضاء ومهام النبي وصحابته من بعده بين الأداء الروحي والأداء السياسي التي تعد بالأساس مسائل اجتهادية التي لا تمس شيئا من جوهر الدين ولا أركان الإيمان، وعسى أن يمر علينا بعض ما يتصل بهذا الحديث.
3. نظام الحكم في الإسلام، بين الاتجاهين النصي والحداثي؟
1.3. التوجه النصي عند المتقدمين
قبيل طرح فكرة رشيد رضا عن ضرورة عقد الخلافة بالنص الديني والإجماع، استنادا على تقليد السلف، نجد من الضرورة التاريخية والمنهجية عرض أطروحة من سبقه إلى موقفه من التراث الفقهي والسياسة الشرعية الذين أدرجوا مبحث السياسة ضمن أصول الإيمان، وبالتالي فهي عندهم من واجبات الشرع وليست من مسائل الاجتهاد، وهم الذين يستند إليهم رشيد رضا لإثبات حجية موقفه من الخلافة.
رأى الفقهاء أنّ نصب الإمامة واجب بالسماع لا بالعقل، لحملهم إيّاها على مقصد حفظ الدّين في تطبيق الشريعة ومنع وقوع ما يوجب الحدود، ومصالح الدنيا وهي مصالح العباد في شتى شؤونهم الدّنيوية. يختلف عنهم طرف آخر؛ وهم أصحاب الآداب السلطانية – وهم غير الفقهاء والفلاسفة- من أدباء أو مؤرخين أو موظفين إداريين عند السلطان، حيث أنّ دعوتهم بالتزام الشريعة تظاهر يستبطن رغبتهم في تقوية الحكم وتبرير سلطة السلطنة أو الإمارة.
من الفقهاء نجد (ابن تيمية : ت 728 ه) في « السياسة الشرعية »، يقول :
« والمقصود الواجب بالولايات : إصلاح دين الخلق الذين متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدّنيا. وإصلاح ما لا يقوم إلاّ الدّين به من أمر دنياهم، وهو نوعان : قسمة المال بين مستحقيه، وعقوبات المعتدين » (ابن تيمية 2008 : 31).
ويقول في موضع آخر :
« ولاية أمر النّاس من أعظم واجبات الدّين، بل لا تمام للدّين والدّنيا إلاّ بها، فبني آدم لا تتم مصلحتهم إلاّ بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض تعاونا وتناصرا، يتعاونون على جلب المنفعة، ويتناصرون على دفع المضرّة » (المرجع نفسه : 232).
موقف ابن تيمية هو امتداد للمدرسة الأثرية في موقفها من مسألة الإمامة، فقبله (أبي يعلى محمد بن الحسن الفراء الحنبلي : ت 458 ه) أكّد في مستهل كتابه المعروف بـ « الأحكام السلطانية » على وجوب الإمامة، كما أنكر على أن تكون محض مسألة عقل واجتهاد، فالطريق إليها هو « السّماع » حصرا، يقول :
« نصبة الإمامة واجبة، وقد قال احمد رضي الله عنه -في رواية محمد بن عوف بن سفيان الحمصي- : الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر النّاس » [...] وطريق وجوبها السّمع لا العقل [...] وأنّ العقل لا يعلم به فرض شيء ولا إباحته، ولا تحليل شيء ولا تحريمه« (الفراء 2008 : 19).
من الواضح أنّ الفتنة المقصودة هاهنا هي من جنس ما فصّله ابن تيميه لاحقا في القول السابق، أي فتنة الدين كتعطيل العمل بالشرع، وفتنة الدّنيا كضياع المظالم ووقوع الهرج.
أما الإمام النووي فحجته في وجوب الخلافة هو الإجماع معترضا على رأي المعتزلة، رأي أبي بكر الأصم منهم على نحو أخص، في اعتبارهم لها مسألة عقلية توجبها مصلحة الآدميين لا شرعية مفروضة بالنص، يظهر ذلك من خلال قوله :
«إن المسلمين أجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف، وبانعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة، وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة، كما فعل عمر بالستة، وأجمعوا على أنّه يجب على المسلمين نصب خليفة ووجوبه بالشرع لا بالعقل، وأما ما حكي عن الأصم أنّه قال : لا يجب، وعن غيره أنّه يجب بالعقل لا بالشرع فباطلان، أما الأصم فمحجوج بإجماع ما قبله، ولا حجة له في بقاء الصحابة بلا خليفة في مدة التشاور يوم السقيفة، وأيام الشورى بعد وفاة عمر رضي الله عنه، لأنّهم لم يكونوا تاركين لنصب الخليفة، بل كانوا ساعين في النظر في أمر من يعقد له، وأما القائل الآخر ففساد قوله ظاهر، لأنّ العقل لا يوجب شيئا ولا يحسنه ولا يقبحه، وإنّما يقع ذلك بحسب العادة لا بذاته» « (النووي دت : 375).
الغزالي بدوره صنف المسألة ضمن «السمعيات« واجبة التصديق، من بين عشرة أصول؛ حيث الأصول الستة الأولى تخص الإيمان بالحشر والنشر، وسؤال منكر ونكير، وعذاب القبر، والميزان، والصراط، خلق الجنة والنار. جاء في الأصل السابع ما يوجب الاعتقاد بخلافة الأربعة مع انكار القول بالنّص أو الوصية كما ذهبت إلى ذلك معظم الفرق الشيعية : «أنّ الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم، ولم يكن نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إمام أصلا» (الغزالي 2012 : 192). أما الأصل الثامن فينص على فضل الصحابة بحسب ترتيبهم في الخلافة. بينما يخص الأصل التاسع شروط الإمامة؛ وهي الإسلام، والتكليف، والذكورة، الورع، والكفاية، ونسبة قريش. أما الأصل العاشر فقد انفرد بوجوب قبول المغتصب للسلطة درءًا للفتن (الغزالي، المرجع السابق : 193).
بينما خصص الماوردي في «الأحكام السلطانية والولايات الدّينية» بابه الأول «في عقد الإمامة» فأورد عن الموضوع ما نصّه :
«الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدّين وسياسة الدّنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع وإن شذّ عنهم (الأصم). واُختلف في وجوبها هل وجبت بالعقل أو بالشرع؟ فقالت طائفة : لما في طباع العقلاء في التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم [...] وقالت طائفة أخرى بل وجبت بالشرع دون العقل، لأنّ الإمام يقوم بأمور شرعية قد كان مجوزا في العقل أن لا يُرَد التعبّد بها، فلم يكن العقل موجب لها، وإنّما أوجب العقل أن يمنع كل واحد نفسه من العقلاء عن التظالم والتقاطع، ويأخذ بمقتضى العقل في التناصف والتواصل، فيتدبر بعقله لا بعقل غيره، لكن جاء الشرع بتفويض وليِّه في الدين. قال الله عزّ وجل : « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ »» [النساء : 59] (الماوردي 1989 : 03) ».
وهي الآية ذاتها التي يتحجج بها (ابن خلدون) في وجوب نصب الإمامة ما يعني أنّه بدوره ينتصر لحكم الشرع على العقل في وجوب نصب الإمام، و أنّ الإجماع في معتقده حكم شرعي لا عقلي كما توهمه بعض القوم، يقول :
« ثم إنّ نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين [...] وقد ذهب بعض الناس إلى أن مدرك وجوبه (أي نصب الإمام) هو العقل وأنّ الإجماع الذي وقع إنّما هو قضاء بحكم العقل فيه. قالوا : وإنّما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين » (ابن خلدون 2007 : 184).
بيّن من هذا الكلام وغيره أنّ جل علماء الإسلام يتحججون بالإجماع –وعدِّهم له مسلكا شرعيا لا عقليا- على وجوب عقد الإمامة، أمّا رأي أبي بكر الأصم -من المعتزلة- في عدم وجوبها لا بالشرع ولا بالعقل فهو عندهم في حكم الشاذ الذي لا يقاس عليه2 خاصة وأنّ رأي الأخير جاء من خلفية رفض « أمر الواقع » وليس اعتبارا بالمصلحة العامة. ورفضه نصبة الإمام بإطلاق جار على رفض صفاته وهي الظلم والعسف، وهي صفات تناقض أصلا من أصول الاعتقاد عند المعتزلة وهو العدل. هكذا أخذ الأصم ببناء حكم عام انطلاقا من وقائع جزئية جائزة/ ممكنة3
وقد استنكر ابن خلدون مسلك الأصم وممن شاكله في الطرح، فكتب :
« وقد شد بعض النّاس فقال بعدم وجوب هذا النّصب رأسا لا بالعقل ولا بالشرع، منهم الأصم من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم، والواجب عند هؤلاء إنّما هو إمضاء أحكام الشرع، فإذا تواطأت الأمّة على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام ولا يجب نصبه، وهؤلاء محجوجون بالإجماع، والذي حملهم على هذا المذهب إنّما هو الفرار عن المُلك ومذاهبه من الاستطالة والتغلب والاستمتاع بالدّنيا لما رأوا الشريعة ممتلئة بذم ذلك والنهي على أهله ومرغبة في رفضه، واعلم أنّ الشّرع لم يذم المُلكَ لذاته ولا حظر القيام به وإنّما ذم المفاسد الناشئة عنه من القهر والظلم والتمتع باللذات [...] فإذا إنّما وقع الذم للملك على صفة وحال دون حال أخرى ولم يذمه لذاته ولا طلب تركه، وقد كان لداوود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما الملك الذي لم يكن لغيرهما وهما من أنبياء الله تعالى وأكرم الخلق عنده، ثم نقول لهم : أن هذا الفرار عن الملك بعدم وجوب هذا النَصْب لا يغنيكم شيئا لأنّكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشريعة وذلك لا يحصل إلاّ بالعصبية والشوكة، والعصبية مقتضية بطبعها للملك فيحصل الملك وإن لم ينصب إمام » (ابن خلدون المرجع السابق : 184، 185).
2.3. التوجه النصي عند رشيد رضا
بعد عرض رأي المتقدمين نصرف القول إلى رأي رشيد رضا الذي يعد امتدادا لرأي الفقهاء والتكلمين السنيين، كونه الأقرب إلى دائرة اشتغالهم بمسائل الفقه والعقائد، فكتاب « الخلافة » لـ « رشيد رضا » هو مرافعة لأجل مشروعية الخلافة والدّولة الإسلامية، معلنا فيه صاحبه على أنّ الإمامة العامة هي مما حبا به الله نبيه محمد والأنبياء من قبله عليهم الصلاة والسّلام، يقول : « عهد الله بالإمامة العامة لنبيه وخليله إبراهيم، وللعادلين من ذريته غير الظالمين، فوعد بها قوم موسى من بني إسرائيل، وقوم محمد من بني اسماعيل » (رشيد رضا مصدر سابق : 08).
وقد جيِّشً رشيد رضا مجموعة من الآيات القرآنية التي تعضد رأيه ذاك. ومؤكِّدا في الوقت ذاته على أنّ الإسلام هداية روحية وسياسة اجتماعية مدنية فلا يجب فصل الحياة الدنيوية (الشأن الاجتماعي والسياسي للمسلمين) عن الدين (عقيدة وفقها)، يقول :
« أمّا الهداية الدّينية فقد جاء بها تامة أصلا وفرعا، وفرضا ونقلا، إذ مدارها على نصوص الوحي، وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم لها بالقول والفعل [...] وأمّا السياسة الاجتماعية المدنية فقد وضع الإسلام أساسها وقواعدها، وشرع للأمة الاجتهاد والرأي فيها؛ لأنّها تختلف باختلاف الزمان والمكان، وترتقي بارتقاء العمران وفنون العرفان » (المصدر نفسه : 09).
أمّا التحجج بالإجماع فقد أورد رشيد رضا في حكم الإمامة ونصب الخليفة ما نصّه :
« أجمع سلف الأمة، وأهل السّنة، وجمهور الطوائف الأخرى على نصب الإمام- أو توليته على الأمة- واجب على المسلمين شرعا لا عقلا فقط، كما قال بعض المعتزلة » (المصدر نفسه : 14)
إلى آخر الكلام- ما يعني أنّ المعتزلة، إلى جانب الخوارج طبعا، دون غيرهم أقروا بأنّ نصب الخلافة أمر اجتهادي، ومن سار نهجهم من المتأخرين يتقدمهم علي عبد الرازق.
لا شك أنّ مسلك الإمام رشيد رضا هو مسلك الدّيانيين عموما، أي مسلك الاستدلال بالنّصوص الدّينية عن الحُكم والسياسة كيما يؤكدوا على أنّ رأي الدّين في السياسة العامة جاء بالنص القاطع وحاز الإجماع الذي لا تأويل فيه، وهو الذي يخالف طرق الحداثيين من جانبين على الأقل؛ تاريخانية الحداثيين التي تستوجب عليهم القطيعة مع التقليد والتراث من جانب، وتأثرهم بالنموذج الغربي من جانب آخر. من هؤلاء علي عبد الرازق.
3.3. التوجه الحداثي عند علي عبد الرازق
أما علي عبد الرزاق الذي كان مسلكه « اجتهاديا »، حداثيا، في المسألة فقد أنكر على هؤلاء منهجهم في الاستشهاد بالنّصوص الدّينية ووقوفهم على حرفية تعاليمها، وتحجيمهم لدور العقل (الاجتهاد) في مجال السياسة العامة وقضاياها بما فيها تلك القضايا غير المشمولة بنص ديني قطعي، ما حمله على إنكار موقفهم جملة وتفصيلا؛ فزيادة على قوله : « ضيّقوا عليهم البحث في ميادين السياسة كما ضيّقوا عليهم في فهم الدّين » (علي عبد الرازق مصدر سابق : 102)، نجده قد فنّد أنّ يكون في القرآن الكريم من الآيات ما ينصّ على الخلافة، كما فنّد على أن يكون للنبي دور الحاكم أو السلطان انتهاء بتفنيده على أن يكون الدّين الإسلامي سياسة مدنية.
فعن التفنيد الأوّل كتب يقول :
« لم نجد فيما مرّ بنا من مباحث العلماء الذين زعموا أنّ إقامة الإمام فرض من حاول أن يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم. ولعمري لو كان في الكتاب دليل واحد لما تردد العلماء في التنويه والإشادة به، أو لو كان في الكتاب ما يشبه أن يكون دليلا على وجود الإمامة لوجد من أنصار الخلافة المتكلفين، وإنّهم لكثير، من يحاول أن يتخذ من شبه الدليل دليلا » (المصدر نفسه : 14).
وبالتالي أنّ الآيات التي يتحجج بها رشيد رضا وغيره من المدافعين عن مشروعية الإمامة، في نظر علي عبد الرازق هي من الآيات المتشابهات التي تبقى محل اجتهاد وتأويل، وأنّ نصب الإمامة بذلك هو أمر عقلي. وهو ما لا يرفضه رشيد رضا على نحو ما يتّضح في قوله : « وأمّا السياسة الاجتماعية المدنية فقد وضع الإسلام أساسها وقواعدها، وشرع للأمة الاجتهاد والرأي فيها؛ لأنّها تختلف باختلاف الزمان والمكان، وترتقي بارتقاء العمران وفنون العرفان » (المصدر نفسه : 09).
وفي ذلك أشار علي عبد الرازق على أنّ القائلين بالخلافة لما غابت عنهم الأدلة النّصية القطعية من الكتاب والسنة على مشروعية فرضهم، لجأوا إلى التحجج بالإجماع تارة، والأقيسة المنطقية وأحكام العقل تارة أخرى (المصدر نفسه : 14). أي على شاكلة « هدانا الكتاب الحق، والنظر في تاريخ الخلق إلى الاعتبار بخلافة الشعوب بعضها لبعض في السيادة والحكم في الأرض، وبخلاف الأفراد والبيوت في الشعوب... » (رشيد رضا، مصدر سابق : 07) إلى آخر الكلام لرشيد رضا. هذا المنقول الذي يوحي للاحتكام لحكم المنطق والاستدلال العقلي والأخذ بطريق الاعتبار بالتقصي، زيادة أخذه بطريق الدليل النّصي كما تقرر.
لم يكتف علي عبد الرازق عند حدود نفي أن يكون القرآن الكريم قد أورد نصوصا قطعية عن الخلافة، فزاد نفيه ذلك عن السّنة كذلك، يقول :
« ليس القرآن وحده الذي أهمل تلك الخلافة ولم يتصد لها، بل السّنة كالقرآن أيضا، قد تركتها ولم تتعرض لها، يدلك على هذا أنّ العلماء لم يستطيعوا أن يستدلوا في هذا الباب بشيء من الحديث، ولو وجدوا لهم في الحديث دليلا لقدموه في الاستدلال على الاجماع » (علي عبد الرازق المصدر السابق : 16).
هذا كان شأن السّنة النبوية، أما شأن الإجماع، فقد أبطل دعوى الإجماع سواء إجماع الصحابة أو إجماع التابعين أم علماء المسلمين أو حتى المسلمين كلهم على قبول الإمامة ونصب الخليفة، مستشهدا على ذلك بأنّ حظ علم السياسة عند المسلمين كان قليلا مقارنة بباقي الفنون، ما فوّت على المسلمين تشكيل وعي سياسي كالذي عرفه الإغريق من قبلهم. زيادة على استشهاده بحركات معارضة الخلفاء بعد النبي ﷺ على كامل فترات التاريخ السياسي الإسلامي الطويل سواء من طرف جماعات أو حتى أفراد، سواء كانت حركات المعارضة تلك قويّة معلنة أو ضعيفة باطنية، سواء يديرها محاربون أم علماء فقهاء –الخوارج والمعتزلة منهم- (رشيد رضا المصدر السابق : 23، 24). فالمعهود في ممارسة السلطة عند المسلمين أنّ الغلبة هي عماد الخلافة -بداية من حكم معاوية وابنه من بعده- في حين أنّ الأصل فيها هو « بيعة أهل الحل والعقد على الاختيار ». غير أنّهم بدورهم تعاقبت الممالك والحكومات على تعيينهم فلا اختيار لهم. وهو الأمر الذي جعله ينكر على أنّ الأمّة عرفت إجماعا نزيها بعد الإجماع على الخلفاء الثلاثة -أبي بكر وعمر وعثمان- وإن عرفوا بدورهم حركات معارضة، يقول :
« لو ثبت عندنا أنّ الأمّة في كل عصر سكتت على بيعة الإمامة، فكان ذلك إجماعا سكوتيا، بل لو ثبت أنّ الأمة بجملتها وتفصيلها قد اشتركت بالفعل في كل عصر في بيعة الإمامة واعترفت بها، فكان ذلك إجماعا صريحا، لو نقل إلينا ذلك لأنكرنا أن يكون إجماعا حقيقيا، ولرفضنا أن نستخلص منه حكما شرعيا، وأن نتخذه حجة في الدين »(المصدر نفسه : 31).
وعن تفنيده الثاني –أي تفنيده لوظيفة الملك والسلطان عن النبي- فقد تساءل علي عبد الرازق : هل مارس النبي ﷺ الخلافة أم كان صاحب رسالة فقط؟، لقد ميّز عبد الرازق ابتداء بين الرسالة والملك، فكتب يقول : « أنت تعلم أنّ الرسالة غير الملك، وأنّه ليس بينهما شيء من التلازم بوجه من الوجوه، وأنّ الرسالة مقام، والملك مقام آخر، فكم من ملك ليس رسولا، وكم لله جل شأنه من رسل لم يكونوا ملوكا » (المصدر نفسه : 49). استقر رأي علي عبد الرازق عند قوله بأنّ الرسول ﷺ صاحب رسالة لا حكم، وأنّه جاء بالدّين لا لبناء دولة؛ فـ « محمد ﷺ ما كان إلاّ رسولا لدعوة دينية خالصة للدّين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة، وإنّه لم يكن للنبي ﷺ ملك ولا حكومة، وأنّه ﷺ لم يقم بتأسيس مملكة بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها » (المصدر نفسه : 64، 65).
كما أخذ يفصل في معنى « حكم وولاية » الرسول على قومه، فحملها على دلالة روحية أخلاقية لا ملكية تسيدية، حيث أكّد على أنّ « للرسول رعاية الظاهر والباطن، وتدبير أمور الجسم والروح. بمعنى أنّ له وظيفة إلى جانب السياسة العامة، لا شريك له فيها، وهي العلم ما في الصدور » (المصدر نفسه :67) و« تلك -في نظر عبد الرازق- قوة قدسية يختص بها عباد الله المرسلون، ليست في شيء من معنى الملوكية، ولا تشابهها قوة الملوك، ولا يدانيها سلطان السلاطين » (المصدر نفسه : 68). فهذا هو معنى الحكم الذي كان للنبي وليس لها شَبَه الملك والسلطان والحكم الدنيوي.
كما توسل عبد الرازق بالقرائن النصية من القرآن الكريم في تفنيده لصفة الملك عن النبي وأنّ دوره صلى الله عليه وسلم لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان. لقوله تعالى : « فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴿80﴾ » [النساء]. « قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴿66﴾ » [الأنعام]. « وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴿107﴾ » [الأنعام]. « أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴿43﴾ » [الفرقان]. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴿22﴾ [الغاشية]. نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴿45﴾ [سورة ق].
انتهاء عند تفنيده الثالث في أن يكون الإسلام سياسة مدنية، حيث نفى صفة السياسة عن الإسلام بحجة أنّ النبي اختار أن يكون نبيا عبدا لا نبيا ملكا، في تحدٍّ منه لخصومه بحجج من الكتاب والسّنة في أن يأتوا بدليل يثبت بطلان مذهبه، يقول :
« اِلتمس بين دفتي المصحف الكريم أثرا ظاهرا أو خفيا لما يريدون أن يعتقدوا من صفة سياسية للدين الإسلامي، ثم اِلتمس ذلك الأثر مبلغ جهدك بين أحاديث النبي [...] فالتمس منها دليل أو شبه دليل، فإنّك لن تجد عليها برهانا، إلاّ ظنا، وإنّ الظّن لا يغني من الحق شيئا » (المصدر السابق : 76).
أمّا حججه العقلية فقد أورد حجة تنبئ عن فقهه بسنن التاريخ والعمران البشري، فكتب يقول :
« معقول أن يأخذ العالم كلّه بدين واحد، وأن تنتظم البشرية كلّها في وحدة دينية، فأمّا أخذ العالم كلّه بحكومة واحدة، وجمعه تحت وحدة سياسية مشتركة، فذلك مما يوشك أن يكون خارجا عن الطبيعة، ولا تتعلق به إرادة الله » (المصدر نفسه : 78).
وعن تجربة الخلافة بعد وفاة النبي التي شهدها التاريخ الإسلامي وعمرت لقرون وضربت في شرق العالم وغربه وأذعنت لها قوى العالم من ممالك الفرس والروم وإفريقيا وغيرها، فإنّها في نظر علي عبد الرازق تجربة من جنس المملكة الدنيوية لا الخلافة الدينية، يقول :
« طبيعي ومعقول إلى درجة البداهة أن لا توجد بعد النبي زعامة دينية، وأمّا الذي يمكن أن يتصور وجوده بعد ذلك فإنّما هو نوع من الزعامة جديد، ليس متصلا بالرسالة ولا قائما على الدين، هو إذن نوع لا ديني، وإذا كانت الزعامة لا دينية فهي ليست شيئا أقل ولا أكثر من الزعامة المدنية أو السياسية، زعامة الحكومة والسلطان لا زعامة الدين، وهذا الذي قد كان » (المصدر نفسه : 90).
كما ظلّت الدولة الإسلامية -على فضلها- دولة عربية وحكم عربي أمّا الإسلام فهو دين البشرية كلّها (المصدر نفسه : 92).
تبعا لتلك الحجج لم يجد علي عبد الرازق من حرج في دعوته إلى ضرورة الانفتاح على نظام الدولة الحديثة بعدما تبين له تاريخية نموذج الخلافة، وأنّه ليس من الدّين بالضرورة ضرورة العقائد والأصول كما كان يعتقد رشيد رضا.
خاتمة
كانت تلك عموم المواقف التي شغلت العقل العربي الحديث إزاء شرعية الحكم، وقد اقتصر فيه عرضنا لموقفين يقع كل منهما على نقيض الآخر، موقف (رشيد رضا) الذي استقرّ رأيه على القول بوجوب إقامة دولة الخلافة على شرعية دينية، وهو رأي يضرب في عمق تاريخ الفكر السياسي الإسلامي، كونه يمثل رأي غالبية الفقهاء المسلمين. تلاه موقف (علي عبد الرازق) المثير للجدل الرافض لها ليس كواقع تاريخي وإنّما كرهان حالي، كل ذلك بهدف الانفتاح على نموذج الدّولة الحديثة ذات الشرعية السياسية المدنية.
بقي أن نؤكد على أن فكرة الدولة المدنية كتأسيس فلسفي تصورا، وتمرس أخلاقي تطبيقا، هي أحد مكاسب الحداثة والأنوار الأوربي، وذلك بفضل الفتوحات الإنسانية والفكرية التي باشرها فلاسفة التنوير السياسي مونتسكيو (Montesquieu 1689-1755)، فولتير (Voltaire 1694-1778)، وفلاسفة العقد الاجتماعي روسو ( Rousseau1712- 1778) ولوك (locke 1632-1704) وهوبز (Hobbes 1588- 1679) هيجل (Hegel 1770-1831). فالدولة كتقليد أوربي حديث تبلور في سياق ثقافي واجتماعي نوعي، الصراع بين السلطتين الدينية والدنيوية بشكل خاص، تلاه صعود قوى برجوازية كان لها فضل الانتقال السياسي من وضع القوى الملكية والإقطاعية القروسطية إلى الدولة المدنية، سمح هذا الانتقال بتبني نظام ورؤية سياسية ذات شرعية دستورية أو شرعية سياسية، مُحدثة بذلك قطيعة جذرية مع الدولة الدينية الإقطاعية أي الدولة التقليدية. أما الحال والتجربة السياسية العربية، فقد ظلّت ذاكرتها السياسية لقرون طوال مثقلة بمفاهيم سياسية خطّت معالمها متون الآداب السلطانية والسياسة الشرعية كمفهوم الخلافة والإمارة بالنسبة للإسلام السياسي والمحجوب عن الشرعية، أو الدولة التسلطية بالنسبة للأنظمة الحاكمة، التي انفردت بشرعية العسف والقهر.
فخيار تبني العقل السياسي العربي لتجربة « الدولة » دون العناية بمقتضيات الروح والتجربة الأوربية أوقع هذا العقل في أزمة سياسية يكاد ينتفي فيها الجزم بوجود تجربة عربية مكتملة عن الدّولة، إن شئنا قلنا عنها « دولة النصف »، مدار هذه التجربة المجتزأة هو وجود نمط من الازدواجية الملفقة؛ ازدواجية الدولة المستوردة بتنظيماتها وشرائعها وهياكلها ومؤسساتها، لكن الروح هي روح العرق والقبيلة والعصبية الدهرية، أو قليلا روح الخلافة. هذا ما يفسر كذلك كيف أنّ الغرب المعاصر صاحب السبق في نظرية الدّولة المعاصرة بات يفكر في أطر أوسع عن الدّولة، بينما الدّولة العربية لما تزل بعد تعيش تحت ضغط الجغرافيا ومشكلات ترسيم الحدود، الشعوب ومشكلات الهوية والأقليات، السيّادة والتبعية للقوى الغربية، ما يعني أنّها لمّا تزل تعاني حتى في الأركان الثلاثة المشكلة لكيان الدّولة.
إنّ العقل السياسي العربي، وفي كلا تجربتيه؛ تجربة التحول من الخلافة إلى الملك العضوض في العصر القديم، وتجربة سقوط الخلافة وتبلور نموذج الدولة القومية في العصر الحديث، ظل يتخبط وبشكل غير استثنائي في مواقف تشكّك في مدى كمال تجربته عن الدّولة.
ففي كلا اللّحظتين وقع اختيار العقل السياسي العربي على تبني تجارب سياسية ليست من صميم تجاربه ورؤيته وإنّما من تجارب غيره؛ نموذج الحكم الملكي الكسروي والبيزنطي في الحالة الأولى، ونموذج الدولة الحديثة الأوربية في الحالة الثانية، لكن مع فارق رئيس هو تنكر الدّولة العربية لـ « روح الدّولة »، هذه الروح التي تؤكّد على الفصل بين السلطات وحق الشعوب في اختيار مصيرها ومبدأ تداول السلطة وحق المعارضة السياسية، وفق ما تمليه الأخلاقيات السياسية للدولة المدنية، وهو ما يتنافى وإرادة الأنظمة العربية الحاكمة. وعليه فإن أزمة الدولة العربية تتأرجح بين معطيات تاريخية وأخرى بنيوية، أيضا مفهومية وأخلاقية خلعت ضربا من الازدواجية في المعايير على الدّولة العربية على مستوى التصور والتطبيق تضافرت في تجارب مجتزأة مشوهة.