مقدمة
يعد الاستدلال من أهم الآليات العقلية التي يتفاعل بها الإنسان مع العالم ومن خلالها يدرك كثيرا من المعطيات، فهو عملية منطقية، وحركة الفكر الذي به يكتسب معرفة جديدة من معرفة سابقة انتهجها الفكر الإنساني منذ القدم، وفيها تتم عملية الاستنتاج، من أجل حل معضلة، أو من أجل إصدار فتوى، أو من أجل برهان أي شيء، من قضية معينة واردة مثبتة، ومن هنا فهو انتقال العقل من أمر معقول إلى أمر آخر معقول أي من المعلوم إلى المجهول، ويقف على أمور جديدة إما باكتشاف حقيقة جديدة غير متوقعة كما هو الشأن في الاختراع والاكتشاف، وإما بإثبات حقيقة سبق اكتشافها وبقيت في حاجة إلى التيقن منها.
ولما كان الاستدلال من أول الأدوات التي سخرها الإنسان للوصول إلى المعرفة فليس مستغرباً أن يتصدر موضوعات هذه المعرفة التي وضعها الإنسان تحت مجهر التأمل والتفكر من أجل إدراك طبيعتها واستبيان طرائق اشتغالها.
1. الإطار المفاهيمي
1.1. تعريف الاستدلال
الاستدلال لغةً معناه تقديم دليل أو طلبه لإثبات أمر معين أو قضية معينة، وجاء في كتاب التعريفات أنّ الاستدلال: هو تقرير الدليل لإثبات المدلول 1، وعرفه التهانوي قائلا: «الاستدلال في اللغة طلب الدليل»2.
يقال استدل فلان على الشيء: طلب دلالة عليه، واستدل بالشيء على الشيء: اتخذه دليلا عليه، واستدل على الأمر بكذا: وجد فيه ما يرشده إليه.
وقد عرف المناطقة الاستدلال بأنه: استنتاج قضية مجهولة من قضية، أو من عدة قضايا معلومة3 وهو التوصل إلى حكم تصديقي مجهول بواسطة حكم تصديقي معلوم، أو بملاحظة حكمين فأكثر من الأحكام التصديقية المعلومة، يقصد به الدليل الذي يعتمد على الصيغ الصورية المنطقية التي تتضمن مقدمات ونتيجة والرابط المنطقي بين المقدمات والنتائج4.
أما في علم النفس المعرفي يشير لفظ الاستدلال للدلالة على معانٍ مختلفة منها:
-
التعقل أو التفكير المستند إلى قواعد معينة مقابل العاطفة والإحساس والشعور.
-
الدليل أو الحجة أو السبب الداعم لرأي أو قرار أو اعتقاد.
-
العملية العقلية أو الملكة العقليّة التي يتمّ بموجبها التوصل إلى قرار أو استنتاج.
-
توليد معرفة جديدة باستخدام قواعد واستراتيجيات معيّنة في التنظيم المنطقيّ لمعلومات متوافرة5.
ويعرف باير الاستدلال بأنّه مهارة تفكيرية تقوم بدور المسهِّل لتنفيذ أو ممارسة، وإنّه مجموع العمليات العقلية المستخدمة في تكوين وتقييم المعتقدات، وفي إظهار صحة الادعاءات والمقولات أو زيفها6.
وفي عرف الأصوليين فقد عرفه الباقلاني بقوله «فأما الاستدلال فقد يقع على النظر في الدليل والتأمل المطلوب به العلم بحقيقة المنظور فيه. وقد يقع أيضا على المساءلة عن الدليل والمطالبة به»7، وهو عند ابن حزم
«الاستدلال طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه أو من قبل إنسان يعلم8، كما ظهر لديهم بمعنى النظر فلا فرق بين لفظ الاستدلال ولفظ النظر فالنظر عبارة عن التصرّف بالعقل في الأمور السابقة بالعلم والظنّ، المناسبة للمطلوب بتأليف خاص قصدًا لتحصيل ما ليس حاصلا في العقل، وهو عام للنّظر المتضّمن للتّصور والتصديق والقاطع والظني، وهو منقسم إلى ما وقف الناظر فيه على وجه دلالة الدليل على المطلوب، فيكون صحيحا إلى ما ليس كذلك فيكون فاسداً»9.
أما في الدراسات اللغوية الحديثة نجد مثلا سيرل (searle ) يعرف الاستدلال بأنه عملية منطقية لربط المعطيات الملفوظية والسياقية والمحادثية والتداولية من اجل إنشاء الدلالة10، كما نجد لايكوف ( George Lakoff) يؤكد على أنّ الاستدلال يجري داخل الألسنة الطبيعية بقوله إنّ معظم الاستدلالات مما يجري في عالم الناس تتمّ صياغتها في اللغة الطبيعية 11، ويُعرّف في نظرية المناسبة ل بأنّ الاستدلال هو العملية التي بواسطتها نأخذ بافتراض ما، على أنّه صادق أو محتمل الصدق على أساس قوة احتمال أو صدق افتراضات أخرى، فهو شكل من أشكال الاعتقاد أو ترسيخه12.
ومن التعريفات السابقة يلاحظ أنّ الاستدلال بشكل عام هو عملية ذهنية برهانية، تتألف من أحكام متشابهة، إذا وضعت لزم عنها بذاتها حكم آخر بالضرورة، بمعنى هو الانتقال من قضية أو قضايا إلى قضايا أخرى تلزم عنها بمقتضى القواعد والقوانين المنطقية، وتسمى القضية أو القضايا التي نبدأ منها بالمقدمة أو المقدمات، وتسمى القضية اللازمة عنها بالنتيجة، فآليات الاستدلال تمكننا من ضبط العلاقة بين المقدمات والنتائج هو ارتباط مقدمات بالنتائج، وعليه كل استدلال إنّما يتوقف على الخصائص المنطقية للعلاقات ومن ثمّة فإنّ تصور العلاقة تصور أساسي جدًا في كل استدلال13 .
2.1. أنواع الاستدلال
يقسم الفلاسفة الاستدلال14 إلى:
-
الاستدلال بالقياس : وهو من أهم أنواع الاستدلال غير المباشر، لأن الغرض منه هو الانتقال من معلوم إلى مجهول بواسطة معينة، وهو ما يوفره القياس15، وفي اللغة التقدير إذا قدرته على مثاله16، وعرفه الجرجاني بأنه قول مؤلف من قضايا إذا سُلمت لزم عنها لذاتها قول آخر17، فهو هنا يشمل الكلام الملفوظ، والتصورات الذهنية، وبهذا يكون تركيب قضايا ودمج مقدمتين الأولى تسمى المقدمة الأولى( كبرى ) والثانية تسمى المقدمة الثانية (صغرى) وإذا سُلم محتوى المقدمتين نتج قول أخر يمثل النتيجة، وهو عند الأصوليين حمل فرع على أصل في بعض أحكامه بمعنى يجمع بينهما18، ومن أنواعه القياس التام، والقياس المضمر وقياس الخلف.
-
الاستدلال بالاستقراء: الاستقراء لغة تتبع الشيء، وينطلق الاستدلال الاستقرائيّ من الجزء إلى الكل أو من الخاص إلى العام19، ومجالات الاستدلال الاستقرائي واسعة، بحيث يمكن أن ينطلق من أمثلة الواقع طبيعية اجتماعية أو تاريخية ومن المعطيات والتجارب وغيرها.
-
الاستدلال التمثيل: وهو من طرق الاستدلال غير المباشر، ويعني عملية فكرية تقوم على تشبيه أمر بأمر آخر في العلة التي كانت هي السبب في حدوث ظاهرة من ظواهره، واعتبار هذا التشبيه كافيًا لقياس أمر على آخر20.
-
الاستدلال السببي: هو حركة فكرية تقوم على ربط الأسباب بالمسبِّبات وبالاستدلال بالعلة على المعلول أو السبب على النتيجة أو الوسيلة على الغاية21.
وهذا النوع من أقدر الاستدلالات على التأثير على المتلقي لأنه يقوم على وجود علاقة سببية يربط بها المتكلم بين أجزاء الكلام، وبين الأفكار والقضايا، والأحداث كما يكثر في الخطاب الرامي إلى الإقناع.
2. الاستدلال عند طه عبد الرحمن
من أهم المجالات التي يتناول فيها طه عبد الرحمن الاستدلال نجد المنطق والحجاج، والمناظرة، وقد زاوجّ في دراسته بين علوم تراثية متداخلة، فنجد علوم الأصول وعلم الكلام كما نجد علوم البلاغة وغيرها وهو يخوض في هذه العلوم سمى هذا المجال «بالمجال التداولي الإسلامي العربي العام» وهي جملة من المبادئ والقواعد العامة التي تقوم بها الممارسة الإسلامية العربية، وتتميز عن سواها من الممارسات غير الإسلامية وغير العربية22.
1.2. المنطق والاستدلال
خصّص طه عبد الرحمن أكثر أعماله العلمية الجادة للدراسات المنطقية الحديثة وعلاقتها بالنسق التأويلي الإسلامي، وقد دافع طه عبد الرحمن عن آليات الاستدلال التراثية بسلاح أحدث النظريات المنطقية، وأهتم بتحديد الصلات بين المنطق والأصوليات.
وأن الغرض من المنطق هو التمييز بين الصدق والكذب23، وقد وضع طه عبد الرحمن مفاهيم للمنطق يجمع فيها بين مقتضى التأصيل أي ما جاء في التراث ومقتضى التحديث وهذه المفاهيم هي القول، والانتقال، والطلب. ويرى أن نظّار المسلمين تفطنوا لهذه المفاهيم الثلاثة وجمعوها تحت مسمى واحد هو اللزوم، ويمكن تمثيلها بالشكل التالي :
أي يسمى القول الذي لزم منه قول آخر هو الملزوم ويسمى هذا القول الآخر باللازم .اللزوم يفيد معنى الاقتضاء ويتضمن معنى الطلب: اقتضاه هذا الشيء وطلبه .ومنها أطلقوا عليه تسميات عديدة منها علم الاستلزام وعلم الاستنتاج وعلم الدليل24.
كما استخرج طه عبد الرحمن من معجم المناطقة المسلمين مصطلحا آخر يدل علة فعل الانتقال وأثر هذا الانتقال هو مصطلح الاستدلال.
فالاستدلال هنا يفيد معنى الاستنتاج كما يفيد معنى الدليل وصيغته التي على وزن «استفعل» تفيد معنى الطلب، ومن هنا اعتبر طه عبد الرحمن المنطق هو الاستدلال.
ولا يرى طه عبد الرحمن فرقًا بين لفظ اللزوم ولفظ الاستدلال إلا في كون اللزوم يتضمن معنى الاقتضاء وهو أقوى من معنى الطلب الذي يدل عليه الاستدلال، والاستدلال يتضمن معنى حاصل الاستنتاج25.
وبما أنّ المنطق ينظر في الاستدلال وأنّ الاستدلال هو طلب الدليل، فيرى طه عبد الرحمن أنّ الدليل كان مناط اهتمام أغلب العلماء المسلمين من متكلمين وأصوليين أو بلاغيين ونحويين أو غيرهم لأنه يرى أن الاستدلال هو أصل أصول المنهجية وأنّ هذه العلوم تأثرت ببعضها البعض فانتقلت أوصاف الدليل من المنطق إلى علوم الكلام ومنهما إلى علم الأصول وعلم البلاغة، وتلون بلون كل علم من هذه العلوم. ولذلك اتسع مفهوم الدليل، فالدليل يمتلك قوته (وسلطته) من إعمال الفكر، ويطلب منه إقناع الغير، والحاجة إليه في عملية التدليل، وغايته التبرير26.
2.2. الحجاج والاستدلال
مفهوم الاستدلال الحجاجي أنه بناء مكوّن من قضيتين أحدهما الاستدلال وهو اسم معنى كلي، أما الثاني فهو الحجاجي وهو نعت يضمر مفهوم الحجة والحجاج، لكن مفهوم الحجاجي بياء النسبة المشددة هو ملحق على الاستدلال وصفة تخصيصية له أيضا27،
يأخذ الحجاج عند طه عبد الرحمن نفس أبعاد الدلالية للاستدلال ودليل ذلك استناده على المعاني المعجمية، فالحجاج يأخذ معنى القصد ومعنى الاستدلال ومعاني ذلك متضمنة في الفعل «حجّ» الذي يفيد «قصد » مثلا (حجّ البيت الحرام ) ويفيد «غلبه بالحجة» « في قولنا «حاجه فحجّه» 28.
وحدُّ الحجاج في كتابه اللسان والميزان أنه كلّ منطق به موجّه إلى الغير لإفهامه دعوى مخصوصة يحق له الاعتراض عليها، فهذا يعني وجود علاقة مع الغير تقتضي الادعاء والاعتراض، بمعنى أنّ الذي يحدد ماهية الخطاب هو العلاقة الاستدلالية وليست العلاقة التخاطبية وحدها، ولذلك يرى انه لا خطاب دون حجاج ولا مخاطِب من غير وظيفته كمدعي ولا مخاطَب من غير وظيفته كمعترض، فالأصل في الخطاب هو الحجاج، كما أن حقيقة الاستدلال في الخطاب الطبيعي أن يكون حجاجيا وبرهانيا29.
إنّ العلاقة الاستدلالية هي البانية للخطاب وتتحدد من جانب المخاطِب بالادعاء فيكون (مستدِلا) ومن جانب المخاطَب بالاعتراض فيكون (مستدَلا).
وبالنسبة لطه عبد الرحمن أنّ جوهر الخطاب يقوم على هذه العلاقة الاستدلالية، التي تشترط قصدين هما قصد الادعاء، وقصد الاعتراض، غير أنّ هذين القصدين قد يجيئا على مقتضى التجريد أو التفريق أو الجمع، مما يجعل العلاقة الاستدلالية تقوم على أصناف ثلاثة30 :
-
الحجاج التجريدي: وهو الاستدلال الذي يتعاطى فيه المحتج تقليد البرهان وهو الإتيان بالدليل.
-
الحجاج التوجيهي: وهو الاستدلال الذي يقتصر فيه المحتج على اعتبار وجهة المدعي وحدها.
-
الحجاج التقويمي: وهو الاستدلال الذي يأخذ فيه المحتج بوجهة المعترض ووجهته الخاصة. ويرى طه عبد الرحمن أنّ هذا التوجه تشهد عليه نظرية الأفعال اللغوية التي جعلت من مفاهيمها القصد والفعل. ويمكن القول أنّ الحجاج عند طه عبد الرحمن ينبني على مبدأ الاستدلال على حقائق الأشياء مجتمعة إلى مقاصدها، يقصد العلم بالحقائق والعمل بالمقاصد، أي معرفة الوقائع وطلب الاشتغال بقيمته31.
ويشترط في النص الاستدلالي شروطا هي32 :
-
النصية: كل نص هو بناء يتركب من عدد من الجمل السليمة مرتبطة فيما بينها بعدد من القضايا.
-
الاقترانية: هو ما كانت جميع عناصره مرتبطة فيما بينها.
-
الاستدلالية: النص الاستدلالي هو ما كانت عناصره مقترنة بعلاقات استدلالية.
ويعرف العلاقات الاستدلالية بأنها بنية تربط بين الصور المنطقية لعدد معين من جمل النص.
3.2. المناظرة والاستدلال
يعتبر طه عبد الرحمن المناظرة لون من ألوان الإنتاج الفكر الإسلامي هو علم الكلام، ويعرفها بأنها فعالية استدلالية خطابية، مبناها عرض رأي أو الاعتراض عليه، ومرماها إقناع الغير بصواب الرأي المعروض، أو ببطلان الرأي المعتَرض عليه استنادا على مواضعات33.
وكل خطاب بالنسبة إليه يقوم على المقابلة والمفاعلة الموجهة يسمى مناظرة، وقد ظهرت فيما يسمى بعلم الكلام، وهو العلم الذي يسلك فيه سبل الاستدلال والإقناع حتى سمي بعلم النظر والاستدلال34. وهي من التحاور، وبرى أنّه مدام التحاور يرتكز على نموذجين هما التبليغ والتفاعل كان لزاما أن يتسع لصور وأساليب استدلالية.
ويعتبر المناظرة من الحجاج الفلسفي وهي فعل تداولي لأنّ من شروطها أفعال تكلمية، وهي عرض الدعوى ويسمى الادعاء، وعرض الدليل على الدعوى ويسمى التدليل، والاعتراض على هذه الدعوى يطلق عليه المنع35.
4.2. القياس والاستدلال
يمثل الاستدلال بالشاهد على الغائب عند طه عبد الرحمن قياسا، هو قياس التمثيل وهي من الأساليب التي عرفها علماء الكلام36 . ويعرفه بأنه البنية الاستدلالية لكل قول طبيعي حقيقة كان أو مجازا37.
ووظيفة القياس هي الربط بين شيئين على أساس جملة من الخصائص المشتركة، وصور هذا القياس هو المقيس والمقيس عليه، وجملة من الصفات المشتركة، والقيمة العملية التي تترتب على الربط القياسي.
فهناك علاقة المشابهة بالمقيس والمقيس عليه وهي المحددة للاستدلال.
3. الاستدلال عند شكري المبخوت
تنطلق مقاربة شكري المبخوت للمفهوم الاستدلالي في التراث العربي من فرضية أساسية مفادها أنّ البلاغة العربية في تحديدها لموضوعها ولمنهج تناولها للمسائل تقوم على تصور استدلالي38. ويشير المبخوت إلى أن الاستدلال يمثل مفهوما مشتركا في المنظومة المعرفية القديمة بين علوم المنطق والكلام وأصول الفقه والبلاغة، كما أنه مشترك أيضا في العلوم الحديثة بين اللسانيات والمنطق والدلاليات والتداولية والمعرفيات.
ويأخذ مفهوم الاستدلال عنده عدة مقابلات وهي الدليل والدلالة والاستنباط واللزوم والاقتضاء والبرهان والقياس والحجة، وهي مصطلحات وردت، كما يقول، عند القدماء. ويشير إلى التهانوي مثلا، ويستند في ذلك إلى صيغة عربية هي طلب الدليل، التي تفترض معطيات ثلاثة: هي الدليل والمطلوب والنتيجة وعملية الاستدلال التي تمثل العلاقة الرابطة بين الدليل والنتيجة39.
ويتعرض لمفهوم الاستدلال بمحاولة اختباره بواسطة مشروعين يراهما متكاملين وحاسمَين في تاريخنا البلاغي هما مشروع عبد القاهر الجرجاني من خلال كتابه «دلائل الإعجاز» بالخصوص، ومشروع أبي يعقوب السكاكي من خلال كتابه «مفتاح العلوم» 40.
1.3. خصائص الاستدلال البلاغي
يُبرِز المبخوت أهم مميزات الاستلال البلاغي بأنّه41 :
-
واقع بين الأقوال باعتبارها أعمالا لغويّة يحقّقها المتكلم في مقام تخاطب وليس استدلالا رابطا بين قضايا تقتضي صورًا من الترتيب ليكون اللّزوم بيّنا منتجًا للمطلوب.
-
يقوم على النّظر في دلالة الالتزام أساسا.
-
ينبني على قصد المتكلم وإرادته أي المعنى المدروس في البلاغة هو مراد المتكلم لا المعنى مطلقا.
-
يعتمد على ضمنيّات القول لينبني ولا يحتاج الى التصرريح.
-
لا يقتضي تلازما خارجيًّا أو ذهنيًّا إذ يكفي لتحقيق الاستدلال أن يعتقد فيه المتكلم لعُرف أو لغير عُرف.
-
لا يتطلب ما يسّميه المناطقة باللّزوم الكلي أي امتناع انفكاك العلم باللّازم من العلم بالملزوم.
-
يؤدي وظائف تتصل يتماسك القول والخطاب وتحقيق الغرض منهما أكثر مما يعبر عن اكتشاف المجهول من المعلوم أو ضمان صحّة الاستنتاج وصدق النّتائج.
والاستدلال الذي يهتم به البلاغي إنما هو الاستدلال الذي تقتضيه الملازمات بين المعاني الأولى والمعاني الثواني بحيث يتخذ معنى اللّفظ دليلا على معنى آخر يمثل الغرض42.
2.3. معنى المعنى والاستدلال
لقد خصّص شكري المبخوت فصلا من كتابه لمفهوم الاستدلال بالمعنى على المعنى للجرجاني، وعمل على بيان وحدة التحليل الاستدلالي عند الجرجاني، مفترضا أنّ الاستدلال في نص الجرجاني هو الاستدلال في المعنى، واعتبر أنّ مصطلح معنى المعنى هو من وضع الجرجاني في كتابه «دلائل الإعجاز» واستقرّ عند البلاغيين بعده.
ويسوق المبخوت أمثلة الجرجاني التي يفرق فيها بين المعنى ومعنى المعنى وكيفية وصول السامع إلى الغرض من الكلام ومن ذلك43 :
-
خرج زيد.
-
عمرو منطلق.
هذه الجمل هي إخبار على الحقيقة والذي يفهم ظاهر اللّفظ، أي المعنى.
بينما هذه الأمثلة :
-
كثير رماد القدر.
-
طويل النجاد.
-
رأيت أسدا.
ففي (1) و(2) كنايات عن صفات منها الضيافة وطول القامة لا يدل عليها اللّفظ بل يعقل السامع من اللّفظ معنى يتخذه دليلا على معنى آخر.
أما في (3) حملت على الاستعارة، والاستلال على الشجاعة من الأسدّية من باب إثبات الشجاعة بإثبات دليلها والشاهد على وجودها (الأسد).
يقول المبخوت أن الجرجاني هنا يفرق بين المعنى الذي يعني المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، ومعنى المعنى أن يعقل من اللّفظ معنى ثمّ يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر، ويرى شكري المبخوت أنّ في الصنف الأول دلالة وضعيّة، وفي الصنف الثاني استدلالية عقليّة، فدلالة التركيب إما تستخلص من معاني الألفاظ وإما أن يُستدل السامع بدلالة الألفاظ على معنى ثانٍ غير ظاهر44.
وهو انتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني وهذا آلية استدلالية بحكم أنّ الاستدلال هو أيضا انتقال.
وأنّ هذه الأمثلة التي يردها الجرجاني يراها المبخوت تدل بإثبات الدليل والشاهد أو الادعاء الذي يُتخذ واسطة للوصول إلى المعنى الذي تدل عليه.
ويشير إلى أننا أمام معنى مقول يفضي إلى معنى آخر ضمني على وجه الاستدلال، وهو عين مفهوم معنى المعنى كما صاغه الجرجاني45. ومن خلال هذا الشكل:
نستنتج أنّ الاستلزمات نصل إليها باعتبار التلازم العرفي، كما أنّ المعنى الثاني في الكناية هو معنى لم يتّم الاستدلال عليه من الألفاظ المكونة للكناية مستقلا بعضها عن بعض بل تمّ الاستدلال عليه من تركيبها وترتيبها وهذه عمليات ذهنية في تصور الجرجاني46، وان عبارات استدلال ودليل وأدلة عند الجرجاني ترتبط بالمعنى والنفس والقلب والنظر والرّوية ومن ذلك مثلا (تناسق الدلالات يكون على وجه يقتضيه العقل...) و(المعاني ترتب في النفس ..)47.
ولم يكتفي شكري المبخوت بمقاربة الاستدلال عند الجرجاني، بل تعداه إلى من قاموا بقراءة كتاب الجرجاني وشرحه، ونقصد هنا فخر الدين الرّازي في كتابه «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز»48، ومن خلاله يبرز المبخوت تأويل الرّازي لمفهوم معنى المعنى الذي جعله أصلا من الأصول التي بنى عليها تصنيفه لمسائل البلاغة وربطه بأقسام دلالة اللفظ على المعنى، والجديد في ذلك بأنّه في مستوى الاصطلاحات والمفاهيم التجاؤه إلى تقسيم الدلالة إلى وضعية وعقلية، وفرع الدلالة العقلية الى :
-
ما يكون دخلا في مفهوم اللفظ كدلالة البيت على السقف الذي هو جزء من مفهوم اللفظ.
-
ما يكون خارجا عنه كدلالة لفظ السقف على الحائط.
-
دلالات الألفاظ على المعاني التي هي موضوعة بإزائها كدلالة الحجر والجدار والسماء والأرض على مسمياتها.
كما يعيد المبخوت تأويل معنى المعنى بالتمييز بين دلالة وضعية (المعنى) ودلالة غير وضعية يسميها دلالة استدلالية. وأنّ الاستدلال علاقة بين معنيين متلازمين أحدهما مقول منطوق والآخر مستلزم منه بوجه من الوجوه.
ويشير المبخوت إلى أنّ اتخاذ الجرجاني للكناية والاستعارة مثالا في تحديد المعنى ومعنى المعنى عائد إلى أن آلية الاستدلال فيهما أوضح من بقية الظواهر البلاغية، وهو ما يَسّر له إبراز العلاقات التلازمية بين الدليل والمدلول49.
3.3. الملازمات بين المعاني
ونراها في مشروع أبي بكر السكاكي في كتابه مفتاح العلوم حيث يشير شكري المبخوت أنّ السكاكي خصّص بابا للاستدلال في كتابه، وربط بين علم المعاني وعلم الاستدلال إلى درجة التسوية بين عمل البلاغي وعمل صاحب الاستدلال وأنه يعتبر بأنّ تمام علم المعاني بعلمي الحد والاستدلال50. كما يشير إلى أنّ السكاكي جعل الاستعارة والكناية من ضروب القياس المنطقي ومن الأساليب المعتمدة في إقناع المتخاطبين.
ويسوق شكري المبخوت مثالا لاستدلالات السكاكي :
ففي المثال (1) أن المقام الذي ورد فيه هو مقام أخبار على الابتداء، وفي (2) مقام نفي الشك، وفي (3) مقام في الأصل هو رد الإنكار.
ويرى المبخوت هذه الجوانب المختلفة قائمة على أساس ملازمات بين خواص التراكيب ومقتضيات الأحوال، وهذا نجده مبثوثا في كتاب السكاكي.
ويبيّن المبخوت أنّ السكاكي اعتبر العلاقة بين النحو والمعاني علاقة يتمِم فيها الثاني الأول، وهي علاقة مبنية إما على الخطية، وإما على الاحتواء*، وأن تَتمِيم الحديث في علم المعاني يحتاج إلى حديث في الاستدلال، ومن هنا يؤكد على أنّ العلاقة بين الكلام الاستدلالي والبلاغة علاقة جزء بكل، فمعرفة خواص تركيب الكلام الاستدلالي جزء من معرفة خواص تراكيب الكلام عامة51.
وبالنسبة للمبخوت أنّ المعنى البلاغي المقصود هو الحاصل من استدلال بالآثار والقرائن والعلامات الموجودة في القول، والمعنى البلاغي هنا معنى استدلاليا يستند إلى العلاقة اللازمة بين مقتضى الحال وخصائص التركيب، وأنّ العلاقة الضمنية تستخلص بالاستدلال التي أشار لها السكاكي أيضا بمصطلح الاعتبار الزائد.
يشير شكري المبخوت إلى أنّ التصور العام للمعالجة البلاغية المعنوية قائما على افتراض مفاده، أنّ كلّ بنية تركيبية إذا استعملت كانت حاملة لعدد من الإمارات والقرائن النحوية الدالة على الحد الأدنى من الدلالات التي يستلزمها المقام، ويعبِّر بها المتكلم عن اعتقاداته وتصوره لمخاطبه وعن مقصده وغرضه من عملية التخاطب في ذلك المقام، أما المعالجة التي تكتفي بالنظر في التركيب ودلالته الوضعية الملازمة له بصرف النظر عن الخصوصيات المقامية والاعتبارات التخاطبية فهي المعالجة النحوية52.
الخاتمة
من خلال التعرض لمحاولة كل من طه عبد الرحمن وشكر المبخوت في تناولهما لمفهوم الاستدلال بمقاربة الموروث العربي الإسلامي يمكن الخروج بالنتائج التالية:
-
ركّز طه عبد الرحمن على مفهوم الاستدلال في المنجز الأصولي وعلم الكلام أكثر وذلك من خلال ما جاء في كتبهم، محاولا بيان وعي الأصوليين وعلماء علم الكلام بدور الاستدلال في الفهم والتأويل، ووقوفهم على طبيعته العقلية، وعليه يضع انجازهم في صلب النظريات اللغوية الحديثة ويضاهي لما يعرف اليوم بنظريات التخاطب وغيرها.
-
حاول طه عبد الرحمن بناء نظرية استحضر فيها الفكر الإسلامي العربي.
-
ركز شكري المبخوت على مفهوم الاستدلال في المنجز البلاغي أكثر من خلال كتابي دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، ومفتاح العلوم لأبي يعقوب السكاكي، حيث يشير إلى أنّ دلائل الإعجاز محاولة للبرهنة على أنّ موضوع البلاغة هي الاستدلالات الممكنة المتولدة عن النَظم، وأنّ مشروع السكاكي هو بيان أنّ الاستدلال المنطقي صورة من صور الاستدلال عموما.
-
إشارة شكري المبخوت إلى كبت الشروح موضحا أنّ هذه الشروح هي إضافة وتوضيحا للنص الأصلي وتبرز القضايا الثاوية وراء النص الأصلي، كما تكمن أهميتها أيضا في ترسيخ المفاهيم البلاغية
-
كلاهما نظرا إلى الاستدلال على أنه مرادف للزوم وطلب الدليل والاستلزام.
-
كلاهما قاما باستثمار النظريات اللغوية الحديثة في مقاربة التراث الإسلامي العربي.