مقدّمة
تمثل اللغة واقعنا الاجتماعي المسؤول عن تشكيل التفكير في القضايا والمتغيرات الاجتماعية، فالفرد يعيش في كنف اللغة التي يعبر بها في المجتمع ويحقق تكيفه من خلالها، وفي المقابل تؤثر الثقافة على طريقة تفكيرنا من خلال اللغة التي يستخدمها الأفراد في ثقافتهم، لأن الثقافة تشكل رموز راسخة في مضامين المعاجم والتراكيب النحوية اللغوية. فضلا عن استخداماتها في ثنايا التعابير الاصطلاحية التي تعكس وتوجه طريقة التفكير.
لأجل ذلك، تتجسد وظيفة الخطاب الثقافي في البناء والجمع والتنوع للإثراء وتحقيق المنفعة المجتمعية، في إطار الحرية والاستقلالية والرؤية المستقبلية القائمة على طمس كل أشكال الفساد والانحراف. وقياسا على ذلك، يسعى التنوع الثقافي إلى ما يوصل هويته المتجددة والمتنوعة بعيدا عن مراكز الهيمنة العالمية، بما يوصله ذلك إلى تحديد هويته وإثراءها من خلال خطابات التنوع البشري المتبادلة والحوار المتكافئ بين الثقافات.
إن الاهتمام بما هو ثقافي في عصرنا الحالي أمر يتجاوز نطاق الشكل، حيث تتأكد العلاقة بالجوهر والعمق، وهو شرطا ضروريا لتأكيد الانتماء والوجود، لذلك فإن إعادة العلاقة مع التراث على أسس جديدة، أمر جوهري للثقافة في إقامة جسور التواصل مع الحاضر والاستفادة من المنجزات العلمية والفكرية.
فالتحدي الذي تمثله لنا الثقافة الغربية على الصعيد الحضاري والثقافي، هو كيف نتمكن من تقديم رؤية لإعادة التوازن في العلاقات الثقافية التي تستند بالضرورة على أسس التنوع الثقافي وتعايش الثقافات والتفاعل الحضاري.
وبناء على هذا الطرح، يظهر لنا الوجه الثقافي للعولمة على شكل محاولات لاختراق ثقافة الآخر، من خلال السيطرة الإدراكية وتشويش نظام القيم وقولبة السلوك. فهي بذلك عملية تكريس للاستتباع الحضاري والاعتداء على الخصوصية الثقافية بفضل وسائل الاتصال الحديثة. وهنا يبرز دور المفكر المثقف الذي يمثل العقل المحدث المتحرك بصفة آنية ومتكيفة مع مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية والعلمية، في إطار بعدها الإنساني والاجتماعي والتقني التطبيقي.
ومن خلال الربط بين مصطلح الثقافة وبين الظروف السياسية والاجتماعية التي أدت إلى ظهوره، نحاول تحليل بعض المضامين الثقافية العربية وإبراز دور المثقف ضمن الفضاءات الثقافية، والتأكيد على أهمية بنية اللغة في التأثير على طريقة التفكير والسلوك. كما نسعى في موضوعنا إلى الكشف عن قيمة التنوع الثقافي في التجديد المعرفي وإخراج الثقافة العربية من ضعفها وتبعيتها، لتتمكن من استيعاب ثقافة عصر المعلومات والاندماج في القنوات التواصلية المعرفية ضمن مفهوم ثقافي متجدد ومتنوع.
1. المثقف والمضمون الثقافي
ارتبط مفهوم الثقافة بالمفكرين العرب وبتطور العلوم الأنثروبولوجية الحديثة الناتجة عن مشاريع الاستعمار الأوروبي، والتي عملت على بث السيطرة والتوسع في العالم، الأمر الذي جعل من دور المثقف يشكل فعلا حداثيا قائما على أساس الوعي والقصد بتغيير ما هو قائم بعقلانية ومنطقية، بحيث يرتقي برأيه وبالآخرين من التبعية والتخلف إلى الاستقلالية والتقدم، مع وجود رغبة في التغيير والتنوع، من أجل الحصول على شخصيات متحركة ضمن روح الحداثة.
1.1. الدور المميز لتفاعل المثقف
تشير مختلف الأدبيات المعرفية إلى أن بدايات استخدام مصطلح المثقف قد تزامنت مع استخدام مفهوم الايديولوجية عام 1976مc وهو بداية تحديد الحقل المعرفي المعبر عن العقيدة المذهبية العامة للأفكار، ثم توالت استعمالاته من قبل نابليون بونابرت. وقد جاء بهذه الأفكار كل من كارل ماركس وأنجلز اللذان أضافا إليه معاني اجتماعية ونظرية وسياسية، خاصة في وصف المثقف وتمثيله بأحد أوجه البرجوازيين. ثم أضافت العقيدة الألمانية الحديثة لمضمون مفهوم المثقف البنية الفكرية، إلى أن أعطى علماء الاجتماع الصفة المعرفية ودور المعرفة والعلوم في تكوين شخصية المثقف ودوره في تحقيق التنمية الاجتماعية وعلم اجتماع المعرفة.
فالأساس المعرفي لمصطلح المثقف، يجعله مرتبطا بتنوع المواضيع المقروءة من قبله وتشكيله رأيا خاصا أو صورا مستخلصة عن قراءاته. فالقراءة وحدها غير كافية، بل يتطلب التفاعل مع المفردات والأفكار والأحكام أو البراهين للحكم عليها من خلال قناعاته الشخصية. فالشخص المثقف هو الذي يرتبط بظروف تنشئته الأسرية والمدرسية والمجتمعية، والتي بدورها تغرس فيه بذور الثقافة وتسقيها وتثريها بمعارف الأحداث الجارية لتكوين ثقافة المثقف. (العمر، 2008م)
إن تفاعل المثقف مع الأفكار والثقافات المختلفة، يجعله يقترب أكثر من قاعدة فروع علم الاجتماع السياسي والتحليل الطبقي وعلم اجتماع المعرفة. فيبرز بذلك لدينا نوعان من النخب الثقافية: نخبة ثقافية مدركة للمتغيرات العالمية في كافة المستويات، ونخبة ثقافية غير مدركة لهذه المتغيرات.
وعليه، فإن المثقف يتأثر بالضرورة بأفكار الجماهير ونزعاتهم وشبكات الاتصال والمعلومات، مما يفرض عليه الدخول في صدام مع مختلف التحولات السياسية ومحاولة التصدي للأفكار والإيديولوجيات المتشددة.
وتتسع بذلك دائرة المثقفين لتشمل كل من يعمل في حقل إنتاج المعرفة ونشرها على قيم الحرية والعدالة والمساواة. فالمثقف بهذا المعنى، يسعى جاهدا للمحافظة على استقلاليته وتنمية كفاءاته في اتجاه تطوري وواقعي. وهو ما يخطأ فيه أغلبية المثقفين، نتيجة إنكار الواقع ومعطياته والتأكيد فقط على معتقداتهم الفكرية، بمعنى التعصب لفكرة التغيير والتعديل لتحقيق تلاؤمهم مع الواقع. وبذلك يقع المثقف نتيجة أوهامه النظرية في دائرة العزلة الهامشية.
وفي المقابل، يسهم المثقف بالعديد من الأدوار الإرشادية والتوعوية لأجهزة الدولة والمجتمع وترقية المصالح الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعرفية، بفضل ما يملكه من إمكانيات ثقافية، يعمل على تسخيرها لخدمة المجتمع، فهو يتمتع برؤية مستقبلية، ووعي موضوعي وأخلاق وكل ما يؤهله للاستعانة بملكاته المعرفية، خاصة في تطوير المناهج الدراسية لتواكب عجلة التطور والتغيير. وتزداد قدراته الإبداعية عندما تزيد حاجة المجتمعات لحل مشاكلها التربوية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، نظرا للإسهامات التي يبذلها لحل المشكلات وتوجيه مسارها بما يحقق المصلحة المجتمعية.
ومن المقومات الأساسية للمثقف، التحرر من ضغوط السلطة ورجال الدين، فهو شخصا متحصنا باختصاصه الثقافي ومركزه الاجتماعي، يمتلك حرية التعبير عن ميوله الثقافية، وبذلك فهو يستغل كل خبراته ومواهبه كقاعدة للاتصال بين السياسي والجمهور. لذاك فهو يبتعد عن التعصب للتعامل مع الأحداث الاجتماعية والتاريخية بموضوعية وحيادية وبنظرة علمية مستحدثة ومواكبة لتطور المجتمع. وبفضل ما يمتلكه المثقف من الصفات العلمية والأخلاقية والثقافية والجمالية والاجتماعية والذهنية المنطقية، كل هذه الصفات تجعل له دورا متميزا في إنتاج ودعم المعرفة وتوجيه وقيادة المجتمع. (الصفّار، 2016م(
وكما يقول الجابري
«الثقافة التي يحيل إليها مصطلح مثقف في خطابنا المعاصر، ليست هي الثقافة كما تفهم من هذا اللفظ في الخطاب العربي القديم، وليست هي الثقافة بمعناها في اللغات الأوروبية بكيفية خاصة. فنحن لا نعني بالمثقف في خطابنا السياسي السوسيولوجي المعاصر: لا الحاذق الماهر، ولا: من اكتسب بالتعلم ملكة النقد والحكم، بل نعني شيئا أكثر من هذا أو ذاك». (الجابري، 1995م)
2.1. بعض الإسهامات العربية في تحديد المضمون الثقافي
يتجسد المفهوم الثقافي في مجموع القيم والأفكار والمبادئ التي تتبلــــور لــدى الأفراد، وفـــي تلك القـــدرات
والمهارات الفنية المكتسبة. فالثقافة هي مزيج من مجموعة مكتسبة سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، نتيجة التفاعل والاحتكاك بين الأفراد، لأنها تمثل ما يتعلمه الإنسان ويشاركه فيه أعضاء المجتمع بشكل عام، بفضل الخبرة المكتسبة والناتجة عن التفاعل المستمر مع البيئة المحيطة. وبهذا المعنى، فإن الثقافة هي عملية مكتسبة، إنسانية، متغيرة، وتسهم بدور كبير في تحديد نمط الحياة للفرد، فضلا عن قابليتها للانتقال من جيل لآخر، فهي تكتسب من خلال التفاعل والاحتكاك بين الأفراد في بيئة معينة، وقد تكتسب في المؤسسات التعليمية والمهنية. لذلك يعتبر العنصر الإنساني المصدر الرئيسي للثقافة، وبدونه لا تكون هناك ثقافة.
وكما سبق، فإن الثقافة متغيرة بتأثير المتغيرات البيئية والتكنولوجية، بحيث أن الفرد يواجه صعوبات في تقبلها، لكونه تعوّد على سلوك معين وقوانين وأنظمة معينة.
وعلى هذا الأساس، تختلف الثقافة من شخص لآخر ومن مكان لآخر، حيث تختلف الثقافة في المدينة عن الثقافة الريفية أو في البادية، وحتى سلوك الفرد في المناطق يختلف عن الآخر حسب البيئة المحيطة. (محمود، 2005م)
وفي كتاب «المسألة الثقافية في الوطن العربي»، فإن مضمون الثقافة بالمعنى العربي يضمن العلاقة العضوية بين كلمتي ثقافة ومثقف. بينما اللغات الأوروبية لا تضمن هذه العلاقة، بحيث تحدث انفصالا بين «Culturel et Intellectuel»، وكما أشار مؤلف الكتاب محمد عابد الجابري إلى أن الثقافة هي كل ما يجعل الإنسان مثقفا بالمعنى الاصطلاحي المعاصر للكلمة. وبهذا فإن المثقف في المجال التداولي العربي الراهن هو من مهمته استهلاك المواد الفكرية والمساهمة في إنتاجها ونشرها. (الجابري، 1999م)
كما ربط الجابري الثقافة بالجغرافية، خاصة عند تحليله للوظيفة التاريخية للثقافة العربية. وخلص إلى ضرورة التعامل مع الثقافة العربية، لأنها من أهم مقومات الوطن العربي.
ويشير الباحث العربي نبيل علي للثقافة كمفهوم نسقي اجتماعي يتضمن مجموع القيم والمعارف والعادات التي تحقق الانتماء والشعور بالهوية، بما في ذلك العملية التواصلية التي تتم عن طريق التربية ونقل الخبرات، فهي نتاج للإبداع والتراث وكل أشكل الفنون الثقافية. (علي، 2006م)
أما المضمون الثقافي الذي أدرجه الباحث والمفكر العربي الكبير السيد ياسين، فهو ينحصر لدى فئة المبدعين والعلماء الاجتماعيين الذين عملوا على إعادة بناء الأنساق الفكرية الحديثة بديلا عن الأنساق الفكرية المغلقة بفعل المخرجات العولمية. ومن هنا بدأت تسيطر الأفكار القيمية على كل ما يتعلق بالقضايا الثقافية من تحديث وتجديد وتنويع. خاصة فيما يتعلق بالصدام الثقافي بين القيم السائدة في المجتمعات العربية الإسلامية والمجتمعات الغربية. لأن التوجه الثقافي الغربي عمل على خلق فجوة ثقافية عربية إسلامية وإفراغها من محتواها الأصيل، الأمر الذي أوقعها في قوالب التبعية الاقتصادية والثقافية.
وقياسا على ذلك، أصبحت المواجهة الثقافية ترتكز أساسا على إعادة البناء وفهم الماضي واستغلال الدروس منه، من أجل إعادة الحصانة والقضاء على مختلف التهديدات ومصادر الخطر.
وفي هذا السياق الفكري المميز بالمواجهة الثقافية، تظهر أعمال المفكر طه عبد الرحمن في مؤلفه«الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري»، والذي تناول فيه ضرورة إعادة بناء مفهوم ثقافي جديد ضمن مفاهيم الثقافة العربية الإسلامية، من خلال إحداث التغيير في الثقافة الغربية التي تسعى دائما إلى إبقاء المجتمعات العربية تابعة لها، من خلال ما فرضته من سياسات تربوية وتعليمية عززت بفضلها قوة استعمارها للمجتمعات العربية، مما انعكس ذلك على استمرارية تبعية الثقافة المحلية ومنعها من التحرر وتحقيق التنمية الفكرية التي تعرضت لمختلف أشكال التخريب والطعن في الحقائق التاريخية للحضارة الإسلامية، وذلك بما شوهته في الكتب والروايات ووسائل الإعلام.(عبد الرحمن، 2005م)
وعلى خلاف الكثير من المفكرين والباحثين العرب، فقد طرح الباحث المفكر نصر محمد عارف العديد من القضايا ذات الدلالات اللغوية لمفهوم الثقافة في اللغة العربية، من خلال عرضه لقوة المعاني والدلالات التي تسمح باختيار فكرة الثقافة كتأسيس أولي للمفهوم الثقافي، بحيث ركز بقوة على تأصيل مفهوم الثقافة في اللغة العربية في إطار مرجعي أسماه «أسلمة المعرفة».
فالثقافة في اللغة العربية، كلمة تعنى بتقويم الاعوجاج وتنقية الفطرة البشرية، والحث على تحرير الطاقات الكامنة وتوليد المعاني، لتشكيل الأنساق المعرفية.
إن مفهوم الثقافة في اللغة لا يختص بفئة واحدة، بل يشمل الفرد والجماعة والمجتمع ومختلف الممارسات الإنسانية الخالية من الأحكام القيمية الإنسانية، وما تكتسبه من مبادئ التهذيب والتقويم. فضلا عن ارتباط البعد المعرفي للثقافة بما يحتاجه الفرد في تعاملاته من معارف ومعاني الخير والعدل والقيم الايجابية. (عارف، 1995)
ولو بحثنا في مضامين ثقافية عربية أخرى لتحديد استعمالات المفهوم الثقافي، خاصة المرتبطة بالمنظومة التربوية، تظهر لنا مباشرة مؤلفات حامد عمار، المفكر الذي عمل على تقوية رباط العلاقة بين التربية والثقافة، لاشراكهما في التحديث والتجديد والتنويع وفقا لاحتياجات المجتمع أو ضمن السياق المجتمعي العام. بمعنى تحقيق التكيف في التنمية البشرية للتعامل والتفاعل والمواجهة للمتغيرات المجتمعية الداخلية والخارجية، وما يتبعه من تجديد وتطوير في الفكر والسلوك والفعل والقيم كمخرجات للنسق الاجتماعي للمنظومة التعليمية الثقافية.
لأجل ذلك، يتضح هدف المنظومة التربوية الثقافية حسب ما طرحه الباحث حامد عمار، في التحرك نحو المستقبل عن طريق التحديث والتنويع في المناهج العلمية بطريقة عقلانية تسمح بالتكيف وأخذ الحذر من المستجدات. ويقتضي ذلك الاستخدام الواعي في تكوين رؤية استراتيجية تكاملية في التفكير والوعي بالواقع وفق القدرات اللازمة والكفاءات والمؤهلات الملائمة لإعادة تشكيل وبناء الواقع. (حامد، 1998م، ص14،13،12)
2. الدلالات اللغوية والفضاء الثقافي
تشمل اللغة نسقا من العلامات ذات قيمة ثقافية، يعبر من خلالها المتحدثين عن هويتهم وهوية الآخرين
بما يجعلها ترمز إلى واقعا ثقافيا، خاصة وأن سلوك الفرد ينشأ عن الآداب الاجتماعية واللغة المهذبة، من خلال الأوامر والتعليمات التي يقرها المجتمع ويتعلمها الطفل في منزله، والطالب في مؤسسته التعليمية، والعامل في مكان عمله. وهذا في حدود ما تسمح به الأعراف الثقافية للمجتمع التي كانت من أهم ثمار مجتمعات مستخدمي اللغة، بما يتضمنه من معايير الموائمة الاجتماعية.
فاستعمال أعضاء الجماعة الاجتماعية للّغة، يعكس طبيعة مواقفهم ومعتقداتهم وقيمهم المشتركة. ومنها انبثقت فكرة الجماعة اللغوية التي تتألف من أفراد يشتركون في استخدام شفرة لغوية واحدة. كما طرحت فكرة مجتمعات الخطاب، للإشارة إلى الأساليب المشتركة التي تميز استخدام أعضاء جماعة اجتماعية واحدة للّغة بالشكل الذي يكفي احتياجاتهم الاجتماعية. وما يميز استخداماتهم للغة عن غيرهم، هي الملامح النحوية والمعجمية والصوتية للغتهم، وكذا اختيارهم للموضوعات التي يتناولونها في حديثهم، والطريقة التي يقدمون بها هذه المعلومات والأسلوب الذي من خلاله يتفاعلون. (كرامش، 2010م)
وتنصب النظرة التاريخية للثقافة على الطريقة التي تقدم بها جماعة اجتماعية ما نفسها والآخرين، من خلال ما تنتجه عبر الزمن من تقانة وآثار فنية وثقافة شعبية بما يؤكد تطور هويتها التاريخية. وفي المقابل تعمل الآليات المؤسساتية الثقافية على إعادة إنتاج هذه الثقافة المادية والمحافظة عليها، مجسدة في المتاحف والمدارس والمكتبات العامة ومختلف وسائل الإعلام. وهو ما يعطي قيمة جوهرية للغة كشفرة لا تفتح بعيدا عن الثقافة، لأنها وثيقة الصلة بتفكير الجماعات وتصرفاتهم وفي تخليد ثقافة المجتمع.
وإذا تعمقنا في تحليل بنية اللغة التي يستعملها الفرد، فهي تؤثر بالضرورة في طريقة تفكيره وتصرفاته. وهذا ما يعرف بالنسبية اللغوية، بعد النهضة التي حققتها العلوم الاجتماعية، بما سهّل ذلك ترجمة ثقافة غلى لغة ثقافة أخرى.
لكن الإشكال الذي يطرح في هذا التحليل، أن الصعوبة التي قد يواجهها المتحدثون من لغات مختلفة في تحقيق الفهم لا يمكن إرجاعها إلى صعوبة الترجمة بين لغاتهم، فالترجمة ممكنة على الأقل في حدها الأدنى. لذلك فالسبب يكمن في أنهم يتقاسمون الطريقة نفسها في النظر إلى الأحداث وتفسيرها، ولا يتفقون فيما بينهم على معاني المفاهيم والقيم. بمعنى أنهم لا يفككون الواقع ولا يصنفون الثقافة بالطريقة نفسها، لأن الفهم عبر اللغات لا يستند على المعادلات البنيوية، ولكنه يعتمد على أنساق مشتركة من المفاهيم. وهناك نظرة مغايرة لهذا التفسير العلائقي للثقافة واللغة، والتي تتمثل في وجود اختلافات ثقافية في العلاقات الدلالية التي تستدعيها مفاهيم تبدو مشتركة في ظاهرها. وأن الطريقة التي تحول بها اللغة الخبرة إلى رموز دلالية، لا تجعل هذه الخبرة متاحة إلا لفئة خاصة من المجتمع. (Schultz, 1990)
بمعنى أن هناك اعترافا بأن اللغة توصفها شفرة، فهي تعكس هموم ثقافية وتضع قيودا على الطريقة التي يفكر بها أفراد المجتمع، وفي المقابل، ضرورة إعطاء أهمية للسياق الدلالي في إتمام المعاني التي تنطوي عليها الشفرة اللغوية. وعلى هذا الأساس يسعى المشاركون في التفاعلات اللفظية لإيجاد فضاء ثقافيا من الدلالات اللغوية، يمارسون من خلاله أدوارا اجتماعية متباينة.
والجدير بالذكر، أن اكتشاف الكتابة واختراع الطباعة يعد إيذانا بتغير جذري في العلاقة بين اللغة والثقافة. فقد كانت الكتابة عونا في الحفاظ على التراث التاريخي للأمم وتوجيه الذاكرة الجمعية، وعونا على تفسير الأحداث وتقييمها. ومن ثم أصبحت الثقافة النصية هي السائدة في البحث العلمي والمؤسسات العلمية.
كما أن عدم وجود علاقة تطابق كامل بين اللغة التي يتحدثها أي فرد وهويته الثقافية، يثبت أن اللغة هي من أكثر الإشارات أهمية في العلاقة بين الفرد والجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها. فالتماثل أو عدمه بين الفرد ولغته إنما يتجلى في سلوكه وينعكس على حياته بشكل واضح، لأن اللغة هي جزء من تركيبنا العضوي بحيث تهيمن على وجداننا وتفكيرنا ورؤيتنا للعالم من حولنا. فاللغة هي الميدان الحقيقي لمختلف الانتماءات.
وعليه، فإن العلاقة بين اللغة والثقافة، هي من أكثر القضايا جدلا في الدراسات اللغوية، لأن العلاقة وطيدة الصلة بين اللغة والطريقة التي نفكر بها ونتداولها ونؤثر بها على الآخرين من أجل فهم إحساسنا بالواقع الاجتماعي.
مما سبق، تتضح المصطلحات المستخدمة الدالة على التواصل، ومن أهمها مصطلح «عبر الثقافي»، «بين الثقافي» و«متعدد الثقافي». بالنسبة لمصطلح عبر الثقافي أو بين الثقافي فهو يشير عادة إلى التقاء ثقافتين أو لغتين عبر الحدود السياسية للدولة المستقلة. أما مصطلح متعدد الثقافي فهو أكثر استخداما، سواء بالمعنى المجتمعي، لأنه يشير إلى التعايش بين الناس على اختلاف أصولهم، مثل المجتمعات المتعددة الثقافات. أو بالمعنى الفردي، لأنه يصف الأشخاص الذين ينتمون إلى مجتمعات خطاب متباينة، وبالتالي لديهم طرائق مختلفة في استخدام اللغة. (كرامش، 2010م)
3. المزيج الثقافي بين الحداثة والأصالة
إذا انطلقنا من الثقافة العربية، نفهم بوضوح أن السياسة سلطة والثقافة حرية، والسلطة تقتل الحرية وتكبّلها
وتلغيها. وبالرجوع إلى عملية إشاعة الديمقراطية في المجتمعات العربية، فهي تسمح بالمشاركة السياسية وبروز الفكر المستقل، لأن الديمقراطية في هذا الحيز المفاهيمي توفر العديد من مجالات الحوار وتحفز عملية التنوع الثقافي، بحيث تنشأ إطارا ملائما يجعل من الاتصال والتواصل مع الثقافات الأخرى عنصرا خصبا وثريا، بعيدا عن الاستغلال والاستسلام. وهذا هو معنى تحرير الثقافة من السياسة كاستراتيجية فاعلة في عملية التنوع الثقافي. لكن هذه الاستراتيجية تلازمها استراتيجيات اقتصادية واجتماعية، بحيث تستلزم ضرورة التفتح على المكتسبات ذات الطابع العلمي والإنساني في تشكيل الحضارة الحديثة. وفي المقابل ضرورة التعامل مع الغرب تجاريا واقتصاديا بهدف الخضوع للتبعية والاستغلال والاستسلام، فضلا عن تقليص الفوارق الاجتماعية، خاصة القائمة بين الريف والمدينة.
أما الاستراتيجية الثالثة فهي تضم بناء ثقافة عربية حديثة تتمازج فيها الحداثة مع الآصالة. حيث تتأسس على إعادة بناء بيداغوجيات تعليمية تمس كل المستويات والتخصصات، وتعمل على إقصاء الإيديولوجيا من عالم المعرفة وإشاعة الروح النقدية. كما تسهم في تعزيز الوحدة الثقافية بين البلدان الغربية إعلاميا، أكاديميا وعلميا، واستحداث محطات إرسال سمعية بصرية مشتركة. دون إغفال تعميم المنجزات الثقافية العالمية ذات الطابع الإنساني. (الجابري، 1999م)
إن التنوع الثقافي هو عملية بنائية تسعى إلى إخراج المجتمعات العربية من حالة الانغلاق المفروضة عليها إلى التفاعل مع مكتسبات الحداثة، لكن دون الخضوع إلى أشكال التهميش والاستغلال، لأن التنوع الثقافي مركب من مكونات محلية داخلية تشتق من الثقافة العربية، وليس بمقومات خارج هذه الثقافة. كما يؤثر التنوع الثقافي في الثقافة بصفتها تشكل مضمونا يستهلك معرفيا، ويؤثر عليها بصفتها أداة للإنتاج الفكري والإبداع. وبهذا تتضح قيم هذا التنوع الثقافي في الحرية، الديمقراطية والفكر المستقل. بمعنى أن التنوع الثقافي هو عملية بنائية جماعية، قائمة على تصورات استراتيجية، تعمل على تحقيق كل ما هو مرغوب فيه ضمن التقاء مجهودات المجتمعات العربية. (أمقران، 2015م)
إن الغاية الرئيسية لإثراء التنوع الثقافي، هو من أجل النهوض وطمس الثقافة الغربية التي قيدت مجتمعاتنا العربية والإسلامية القائمة على التمييز وخلق الفجوة بين الماضي والحاضر، وكل ما يتعلق بالحداثة والأصالة. وهذا ما أدرجه المفكر العربي طه عبد الرحمن الذي أقام تصورا شاملا لمختلف الأبعاد الثقافية، وذلك في إطار ما أسماه بالتثقيف الإسلامي الذي يتجسد ويتحقق بفضل ما يمتلكه العرب والمسلمون من مؤهلات ثقافية تعادل الثقافة الغربية، خاصة وأن المجتمعات الغربية لم يعد بإمكانها الاستغناء عن العقول الغربية والإسلامية.
وقياسا على ذلك، يؤكد طه عبد الرحمن على ضرورة استعمال العقل في المحتوى المفاهيمي الذي استحدثه الغرب والاستغلال الرشيد لقيم التحرر الثقافي، لتفعيل التثقيف الإسلامي الذي يتحقق من خلال تخطيط وتنفيذ مشاريع ثقافية تهدف إلى توحيد تراثنا الثقافي الإسلامي. (Gaillard & Elame, 2009)
ويشير جان بيار وارينيه في كتابه عولمة الثقافة، إلى أن الثقافة ليست متجذّرة في تراث ثابت، بل هي سيرورة من التكيف العضوي مع المستجدات التاريخية المتسارعة في ظل الحداثة. (طرابيشي، 2000م، ص102).
كما يؤكد حليم بركات على وجود ثقافة عربية عامة مشتركة ومتنوعة في آن واحد وفي شتى مجالات الحياة اليومية. وهذه الثقافة مستمدة في الأساس من البنى والروابط العائلية، أنماط الإنتاج، المعيشة، الدين، اللغة العربية وأدائها، البيئة الطبيعية، النظام العام السائد وتشابك التجارب التاريخية. لذلك ينظر إلى الثقافة العربية في وضعها الراهن، أنها امتداد للحضارة العربية الإسلامية، حيث أخذت عنها تطورها وإبداعاتها وتأثيرها. واليوم نلمس تراجع إبداعاتها ومحدودية فاعليتها، حيث تحولت إلى كيانات لا وزن لها ولا تأثير. (بركات، 2000م)
وقياسا على ذلك، فقد أعطى الإسلام المضمون الثقافي لهوية الأمة القومية، حيث تشكل اللغة العربية العمود الفقري لهذه الثقافة، فهي الأداة التي صاغ بها العرب أفكارهم وإبداعاتهم وتميزهم. إنها لغة التراث المشترك، لغة العلم والثقافة، لغة التحديث والحداثة، فهي الأداة الوحيدة التي من خلالها يتمكن العرب من الدخول في العالمية وتحقيق الحداثة موازاة مع الآصالة. (الجابري، دس، ص304)
ويؤكد ألبورت في قوله «إن اللغة تحتفظ بالتراث الثقافي جيلا بعد جيل، وتجعل للمعارف والأفكار البشرية قيمها الاجتماعية بسبب استخدام المجتمع للغة، للدلالة على معارفه وأفكاره. (عبد العزيز، 1961م)
ومن بين الإشكالات التي تعاني منها الثقافة العربية، هي الإزدواجية الفكرية بين التمسك بالموروث الثقافي من جهة، والحرص على التحديث من خلال تبني الأفكار العولمية من جهة ثانية. وبهذا فقد ظل المثقف العربي يحمل في داخله وصفا متناقضا ومتصارعا بين ما يشكل تراثا وبين ما هو عصري. وأمام قوة الاختراق العولمي لثقافتنا القومية، ينبغي التحول إلى الأنا الثقافي، لتجديده وتحصين ذاتية المواجهة والمقاومة.
4. اندماج التنوع الثقافي في عصر المعلومات
يعتبر الباحث العربي نبيل علي من أهم المفكرين الداعيين إلى اندماج المجتمعات العربية فــــي عصر المعلومات، خاصة من خلال مؤلفاته. «الثقافة العربية وعصر المعلومات»، «تحديات عصر المعلومات»، « قضايا عصرية-رؤية معلوماتية، نموذج للكتابة عبر التخصصية- ». حيث يؤكد في هذا السياق الثقافي المتنوع على ضرورة والتجديد، فهما مقياس تخلف المجتمعات العربية عن فكر عصر المعلومة. خاصة في استدلاله بفكرة أن الفكر الثقافي الإسلامي غير قادر على استيعاب ثقافة عصر المعلومات، مما يتطلب ذلك تجديد وتنويع مواده المعرفية لمنع وتجنب التخلف رقميا والتعرض إلى الانسحاق الثقافي والفكري. (علي، 2006م). ووفقا لذلك، يتحقق الوضع المرغوب فيه لتفادي الوضع السيء. لكن مع استهداف الأبعاد المعرفية للفكر الإسلامي، ومن أجل بلوغ مسايرته لثقافة عصر المعلومات. والجدير بالذكر، أنه من الضروري الاهتمام بمحورية اللغة العربية وتيسيريها، بحيث تخضع الرقمنة لمطالب هذه اللغة. فضلا عن الاهتمام بالتربية وجعلها مرادفة للتنمية بالمفهوم الحديث.
فالتنوع الثقافي بوصفه تجديدا معرفيا، فهو يخرج الثقافة العربية من ضعفها وتبعيتها، لتتمكن من استيعاب ثقافة عصر المعلومات والاندماج في قنواتها التواصلية المعرفية ولتحقيق الأبعاد التنموية للمفهوم الثقافي المتجدد والمتنوع، والذي يعتمد على مجموع التخصصات العلمية المتكاملة والمتفاعلة في دوامة العولمة الفكرية.
لقد فرضت العولمة على المفكرين وعلماء الاجتماع إعادة صياغة توجهاتهم النظرية بما يتوافق وتدفقاتها العولمية التي احتكرت مختلف المجالات السياسية والاقتصادية، وعملت على إسقاط الأنساق الفكرية المغلقة مثل النسق الرأسمالي والنسق الماركسي.
وإذا حللنا التراث الفكري للمحرر الصحفي العربي السيد ياسين، فقد اعتمد كثيرا على أعمال الباحث والمفكر العربي نبيل علي، خاصة في كتابه حول: قضايا عصرية-رؤية معلوماتية، نموذج للكتابة التخصصية- والذي وضّح فيه أهمية الحاجة إلى تنظيم جديد في ظل العولمة. حيث أكد على محورية الثقافة في منظومة التنمية الإنسانية، من خلال إقامة جسور التواصل والوفاق، وإبراز التناقضات الكائنة بين ما هو محلي وعالمي وبين العام والخاص، الرسمي وغير الرسمي، الفئة النخبوية والجماهيرية. وذلك بقصد التعمق في معرفة أصل الأشياء، فضلا عن تأكيده لأهمية هذا التجديد والتنوع الثقافي والموجه بصفة خاصة لذوي الممارسات الفكرية الإبداعية المميزة لدى المفكرين الاجتماعيين.
فالتنوع الثقافي هو ممارسة فكرية، تعمل على سد الفجوة العولمية التي تسببت في إسقاط الأنساق الفكرية. لذلك يعتبر عصر المعلومات السمة الرئيسية المميزة للمجتمع المعاصر. وبالتالي فإن التنوع الثقافي، هو بمثابة توجه عالمي جديد للخروج من مخلفات التبعية والاستغلال والاستسلام لمخرجات العولمة الفكرية بصفة خاصة. وباعتبار السيد ياسين من أهم المفكرين العرب الكبار الذين ركزوا أبحاثهم في إعداد مشروع حضاري كبير، فقط لوحظ أن توجهاته الفكرية قد تجاوزت الأبعاد الثقافية لتصل إلى عمق الأبعاد الحضارية ودراسة مشكلات المشروع الحضاري العربي. (ياسين، 2006م)
إن سعي السياسات الغربية في فرض سيطرتها الاقتصادية والثقافية، كان نتيجة ما تتميز به من ثراء كبير في التنوع الثقافي كخصوصية مميزة للثقافة الأمريكية. والتي ساعدتها على النهوض حضاريا وطمس ثقافة المجتمعات العربية الإسلامية والتخريب الثقافي الذي أحدثته بفضل الشبكات الاتصالية ومختلف القنوات الفضائية.
وفي خضم هذه الأحداث المتميزة بالتنميط والتدنيس والطمس والتبعية والاستغلال وكل أشكال التمييز والتخريب، كان من الضروري إعطاء مضمون ثقافي جديد ومتنوع يقضي على الاختلالات الكائنة بالمجتمعات الغربية الإسلامية. لأجل ذلك، فقد أعطى الإسلام العروبة محتواها الثقافي، حتى أصبح من الصعب الفصل بين ما هو عربي وإسلامي. فالثقافة العربية ترتكز على استمرار التراث العربي الإسلامي القديم، والمتمثل في الدين، اللغة، والإحساس بوحدة الهوية التاريخية. لأن اللغة العربية عبر تاريخنا الطويل، قد حافظت على تراثا ثقافيا متنوعا، وفتحت مسالك ومنافذ بحث وجدل بين المثقفين العرب.
لقد أيقنت مختلف المجتمعات عبر دول العالم، أنها لا تملك من الخيارات لمواجهة العولمة بمختلف مجالاتها الفكرية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، غيّر خيار الاستثمار في رأس المال البشري، لكن عملية استثماره تختلف من مجتمع إلى آخر، لكون هذا العنصر البشري مركبا ثقافيا متنوعا ومتميزا بتحقيق طموحاته وأهدافه. لذلك فإن الفضاء الثقافي يتنوع بتنوع اهتمامات الإنسان وميادين تطور ملامحه المستقبلية. وهذا ما ساعد على بروز سياسات واستراتيجيات حديثة في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدماتية، مثل تجديد السياسات التعليمية، إصلاح المنظومات التعليمية بما فيها مؤسسات التعليم العالي التي تعتبر مركز ومنبع الإنتاج الفكري الثقافي.
وبالرغم من هذه التحولات الاستثمارية في رأس المال البشري، تبقى المخرجات الثقافية في حالة تذبذب غير واضح وغير موجه لتحقيق المنفعة العامة وترقية الإنسان بالمستوى الفكري الثقافي المطلوب.
ويندرج سبب تذبذب هذه المخرجات في التعيين الخاطئ للتوجهات الثقافية المناسبة للميول والرغبات والقدرات والكفاءات الحقيقة. الأمر الذي فرض حتمية التغيير الهادف في الإنتاج الثقافي ومحدودية تنوعه بما يخدم المنفعة المجتمعية بصفة دائمة وليس مجرد تحقيق منفعة خاصة مؤقتة مرتبطة فقط بظروف آنية. (Warnier, 2003)
وتكمن أهمية هذا الطرح التوجهي للفضاء الثقافي، في الكشف عن إسهامات المثقفين والمفكرين في مشاريع التجديد والتنوع الثقافي في ضوء عصر التحولات والتغيرات التي قفزت بالإنسانية إلى مراحل تقدميه وتطورية، جعلتها تدخل في عالم اللايقين وتفكيك الخصوصيات المجتمعية. وفي المقابل أخذت الحركة الفكرية في مختلف المجتمعات تنحو توجهات مختلفة في تنوع المواقف الفكرية. خاصة في مواجهة التصادم والاختلاف بتبني استراتيجيات التغيير والتحسين والتجديد والتحديث.
وعلى هذا الأساس، يتصف التنوع الثقافي بحركة هجومية غير مرخصة لاحتلال الفضاءات الثقافية وإحداث التأثير المرغوب في تحقيقه، خاصة بعد التقارب الملحوظ بين الاكتشافات العلمية والتطبيقات التكنولوجية.
إن ما يميز ثقافة عصرنا هو تسويق الأفكار وفق جاذبية ثقافة العصر، وتداولها بصيغ جمالية وفنية تجعل مستهلكيها في وضعية إدمان يصعب الاستغناء عنها. وهنا تظهر أهمية التنوع الثقافي كاستراتيجية مضادة لهذه الجاذبية الفاقدة للوعي بالمستقبل. لكن في المقابل، يتطلب الأمر تقليص الفوارق الاجتماعية بين مختلف النخب المجتمعية. فضلا عن ضرورة التفتح على المكتسبات ذات الطابع العلمي والإنساني، وأيضا ضرورة توسيع التعاملات الأجنبية سواء على المستوى الاقتصادي أو التجاري، بهدف تحقيق توازن المصالح. ولن تتحقق هذه التوجهات الثقافية إلا من خلال استحداث منجزات ثقافية ذات طابع إنساني، من شأنها تعمل على تعزيز الوحدة الثقافية. دون إغفال سياسات إعادة بناء البيداغوجيات التعليمية التي تمس كل المستويات والتخصصات. (أمقران، 2015م)
وتبين النظرة الفاحصة لبعض الباحثين في مجال الثقافة، أنها مجرد مجال من مجالات العولمة، بسبب فرض قيم الثقافة الأمريكية وترويج الإيديولوجيات الفكرية الغربية بفعل الضغوط السياسية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية. (السكارنة، 2017م)
ولهذا عملت إيديولوجية العولمة على تجسيد الهيمنة الثقافية على الثقافات الأخرى، بما يهدد ثقافتنا الوطنية ويعرضها للتشويه والتزييف. وتصبح بذلك مهددة بالانهيار بسب هذا الزحف العولمي وتهديداته لتمزيق النسيج الثقافي الوطني. كما أسهمت العولمة في إفراغ مضمون الهوية المجتمعية، بما سبب ذلك في التشتت وفقدان الانتماء وغرس أساليب الصراع داخل الجماعات، أو بما يسمى انقسام النخب إلى فئات متصارعة أفقدت روح الثقافة العربية ووحدة الهوية القومية.
ولأجل ذلك، فان المثقف العربي مدعو للقيام بدوره في مراجعة الثقافة السائدة والتأسيس لثقافة محتوى وطني وقومي يتواءم والحياة المعيشية المجتمعية. فمن الضروري بذل كل الجهود لمقاومة العولمة الثقافية عن طريق استخدام مختلف ممارسات التحديث القائمة على مواد العلم والتقنية ومختلف الإمكانيات المتاحة.
وستظل العولمة وجها من وجوه الهيمنة الامبريالية، فهي تجسيدا لسيطرة أمريكا على العالم، ورغبتها في تعميم نموذجها الثقافي على المجتمعات، مستخدمة في ذلك التطور الهائل في منظومات التقنية والاتصالات.
خاتمة
تمثل الثقافة طريقة الحياة بكل تفاصيلها، فهي تجسد خصوصية المجتمعات. وأمام التحديات العولمية التي تواجهها الثقافة العربية، فقد برزت جهود المثقفين العرب في تحليل إشكاليات الثقافة العربية والتعامل بالمنطق والعقلانية اتجاه الموروثات الثقافية، وذلك من أجل تطوير السلوك الثقافي العربي من استهلاكي إلى إنتاجي، يعتمد أكثر على التحديث والتجديد والتنويع، بهدف خلق التوازن بين الثقافة والعولمة، والحفاظ على خصوصية الثقافة العربية.
وباعتبار التراث ركيزة أساسية عند البحث في الثقافة العربية وعلاقتها بالعولمة، فمن الضروري دراسة إشكالية التراث والحداثة، لأن الثقافة هي معنى تاريخي نأخذه كما هو كائن، نفهمه، نفككه، ونتجاوزه بتحديد الوعي القائم على فهمنا لموروثنا التاريخي. لذلك فالثقافة كمعطى تاريخي لا تكون تقليدية أو حديثة، بل الأمر يتطلب الرجوع إلى وعينا الذي يكون تقليديا أو حديثا.
ويبقى مفهوم الثقافة شأنه شأن المفاهيم الأخرى والعلوم الاجتماعية لا يخلو من الالتباس والتداخل، فهو يرتكز على المعتقدات والقيم والتصور والرموز والإبداعات، لكونه يمثل تصور دينامي داخلي قابل للتواصل والتفاعل. وتبقى اللغة العربية عصب هذه الثقافة، لكونها أداة تعليم السلوك وحفظ التراث وصياغة الأفكار.
وأخيرا تشكل الثقافة نسقا للقيم والمعايير التي تشتمل على المفاهيم والتصورات التي تساعد الفرد على ترتيب الأشياء المادية وغير المادية في علاقتها ببعضها البعض. كما تصنع حدود العلاقات، سلوك الفرد والعلاقات مع الآخرين. وهنا يكمن الجوهر الأساسي للثقافة العربية.