مقدمة
يعتبر الجسد موضوعا فكريا ثقافيا اجتماعيا، حيث لقي اهتماما في إبداعات الكتاب والمفكرين والرسامين والنحاتين متطرقين إلى الجسد وتحرره من كلّ الزوايا؛ إذ استطاعوا إخراجه من دائرة المسكون عنه واللا ّمفكر فيه إلى مجال القول والوعي والحقيقة. (فريد الزاهي 1998 : 30).
لقد تناول الباحثون والأدباء الجسد وأهميته في مواضيع كثيرة، وقدّموا فيه كتبا تبرز قيمته، كونه لا يمثّل فقط مجرد صورا أو شكلا، وإنّما وفق ما يضمره من تأويلات كثيرة كالهويّة، والرغبة والإثارة والقوة والتسلط والقيادة، والإشهار به لغاية ما.
وعليه فإنّ مهمّة الجسد تظل متّصلة بالهويّة التي تضمن له الوجود؛ حيث أنّ «التفكير في الجسد مرتبط إلى حد كبير في الذات والهوية » ( بوشيبة عبد السلام : 2004 : 12)، و متصلا « في علاقة وثيقة مع مفهوم الذات sujet ومفهوم الذاتية بوصفها مفهوما لامنزعا والهوية والاختلاف» .( فريد الزاهي 1999 :8.)
قبل أن نغوص في تحليل نص تلك المحبة سيميائيا، علينا أولا طرح إشكالية للموضوع ماهو الجسد ؟وما علاقة الجسد بالهوية والدّين و الإلتزام في نص تلك المحبة؟ وهل الجسد يتقبل الحرية والانفلات ويخشى القيد؟
إنّ الجسد لغة يشير ضمن كلّ المعاجم العربية أو الأجنبية على «جسم الإنسان » ( ابن منظور جزء 3 : 120.)
أمّا في معجم بورديو يدّل على مفهوم شكل الحياة أي مفهوم « بيو-أنثروبولوجي»( ستيفان شوفالييه 2013 : 115)
أمّا اصطلاحا
لقد كان الجسد -عبر الحضارات القديمة خاصة الفرعونية -يرمز إلى الخلود في حين يرى الصوفيون إلى أنّ الجسد يوحي إلى الفناء، والروح هي التي تبقى لأنّها أطهر، معبّرة على الأزلي والأبدي .
وعلى هذا المنحى يعرّف الدكتور مصطفى محمود بأنّ الجسد « هو الضد الذي تؤكّد الروح وجودها بقمعه وكبحه وردعه والتسلّق عليه » ( مصطفى محمود : 23 ) .إذ يتبيّن لنا من هذا المفهوم أن هناك تقابل بين الروح / الجسد أي بين الطهارة، الصفاء وبين مصدر الشهوة والرغبة والتحرر من القيود والالتزامات .
وعليه فإنّ الحديث عن الجسد يؤول مباشرة إلى الشهوة وغريزة الجنس، فهو مستودع للشهوات والخطايا، عكس الروح التي تشير إلى النقاء والصفاء؛وهو بذلك يتمثل على أنّه «كينونة رمزية وإيحائية و إشارية و علاماتية و أيقونية تضاف إلى الأجسام من خلال تمثيل الإنسان. » (عدنان حسين.)
سيميائية الجسد ألذكوري (دراسة وتطبيق)
عند تصفّح رواية تلك المحبة للحبيب السائح يتبيّن لنا حضورا مكثّفا لتيمه الجسد « الجسد ألذكوري والأنثوي »، بارزا ملامح هذا الجسد والعلاقة الحميمة والمشاهد الإباحية. ليأخذ الجسد في الرواية طابعين أو صورتين جسد الطهارة والنقاء والصفاء، وجسد الرذالة والمدنّس. فالجسد هنا»هو الذي ينتج خطابه عن ذاته وجنسه وآخره ».(حسن المودن 2009 : .103). معبرا عن آلامه وأفراحه، وحبه وأحلامه وعن تجاربه و جنو نهو مغامراته وعن انعتا قه ورغباته.
ليمثل جسد الدناءة في كلّ من جسد تبو، لدياري، سلو / بليلو...إلخ.أمّا عالم الطهارة فتمثله كلّ من إسماعيل الدرويش، وجبريل.ليأخذ كلّ من المسارين هذا الشكل التالي :
يظهرالجسد في رواية « تلك المحبة »منفتحا ومنفلتا أحيانا ومتعدّد الدّلالات، فهو لا يحمل المعنى الجنسي فقطوالرغبة والإغواء ؛ بل يرمز للفكر وللهوية، والحضور، والقيادة والإرادة، والسلطة.
حيث تعتبر ثنائية الجسد/الهويّة الركيزة الأساسية التي ينطلق منها الكاتب، ليتضح الحضور القوي للغة الجسد والمشاهد الجنسية ولغة الإغواء، لتنفلت اللغة والسرد« وتنهمك في رسم تفاصيله، وتوجهاته واستيهاماته، فيكون مثارا للإعجاب، والحفاوة والرغبة، وهي حفاوة تقود إلى ظهور نوع من السرد الكثيف الذي ينشغل بالجسد ورغباته وخفاياه. » (إبراهيم عبد الله : 19.)
يعالج الكاتب الحبيب السائح حالات كثيرة في الرواية متعلقة بالجسد مستخدما التورية والتلميح في سرد المشاهد الجنسية، موضحا فيذلك أنواع الجسد .كما أنّه يكثر في وصف الجسد االذكوري وانصهاره وراء الملذات والغواية.
نلتمس من قراءتنا لنص تلك المحبة عدة ثنائيات نخص بالذكر الجسد بين الطهارة / الرذالة، أو بين عالمين عالم الدناءة /وعالم الطهارة (السمو)، أو بين الجسد / الدّين، إذ يخضع الجسد أيضا إلى سلطة الدّين والمجتمع، ويمكن أن نصوغ ذلك ضمن المربع السيميائي باعتباره مجموعة منظمة من العلاقات المبرزة لتمفصلات الدّلالة :
يبقى كلّ من المصلحين الطهارة والرذالة(النجاسة)« حاملين شحنتين متعارضتين تخولان أحدهما أن يجدب والآخر أن ينبذ وتجعلان الأول شريفا يبعث على الاحترام والحب والتقدير، والثاني خسيسا يثير النفور والرعب والاشمئزاز. »( روجيه كايوا ترجمة سميرة ريشا 2010 : 66.)
حيث يمثّل جسد الطهارة في كلّ من شخصية إسماعيل الدرويش، وجبريل، والطالب باحيدة في حين يمثّل جسد الرذالة كلّ من جسد لدباري، وتبو، وسلو.
والملاحظ لنص تلك المحبة يدرك تماما أنّ محور السرد هو الاحتفاء بالجسد « ألذكوري / الأنثوي » كونه محمّلا بإشارات كثيرة (الإغراء، اللذة، الرغبة، الشهوة، الانصهار، التلاحم، المحبة. العشق..)
لتمثل المقابلة بين الطهارة والرذالة المولّد لمقابلات أخرى تهدف إلى تنظيم الدلالة والمعنى عبر نص تلك المحبة، لتشمل تيمة الطهارة على النبل والشرف والمودّة، والحياة والاحتواء والاستمرار .ولتشمل تيمة الرذالة على موت الجسد، والألم، واللاّشرف، والمكر والخداع واحتقار الذات واللاّانتماء والمثليّة الجنسية، والاغتراب.
الجسد الذكوري
يوحي عالم الذكورة- على مرّ التاريخ الإنساني وعبر الدّيانات القديمة- إلى عالم السلطة والقوّةوالسيطرة من جهة، ومن جهة أخرى ينظر إليه على أنه روح سامية (أنظر نوال السعداوي : 41 )والمرأة أذنى منه، والتي تعتبر المخلوق الشيطاني التي تغويه بجسدها وبدهائها الخارق .في حين تتميز العلاقة بين الذكر والأنثى بثنائيات انفعال/انتصار، سيطرة/ رضوخ، كر/وفر، حرب/سلام ؛ممثلا إياها جورج الطرابيشي وفق قوله « فالحرب رجولة والسلام أنوثة، والقوة رجولة والضعف انوثة. »( جورج الطرابيشي : 6.)
أمّا على مستوى التركيبة النفسية والبيولوجية فــ « يظهر الرجل باعتباره مكمّلا لمقتضيات الأنوثة، ويلعب دور رفيق الدرب الذّي يغذّ يمعنى الأنوثة لدى المرأة. » (عبدالله إبراهيم : )37 محاولا إثبات رجوليته انطلاقا من فرض سيطرته وتحكمه وقوته، إذ منذ الطفولة توجّه الأنظار إليه، على أنّه الحامل والحامي لاسم العائلة، وتسند إليه كلّ المسؤولية، وفي الوقت نفسه يكمّل المرأة فهو «يريد الجسد والمتعة واللذة» ( نوال السعداوي والدكتورة هبة رؤوف : 160)، واستمرارا لاسمه، فيمنحها صفة المرأة ويكسبها معنى الأمومة.
يتّسم عالم الذكورة في رواية تلك المحبة بالغموض وباللا وضوح والارتباك، حيث يقوم الرّوائي بتعريه هذا العالم ؛ ليأخد بعدا لا أخلاقيا وأسطوريا أحيانا، يصوّر فيها التركيب النفسي والفيزيولوجي لكلّ شخصية . كما يبرز من خلال النص نوعا من الأمراض النفسية (المثلية الجنسية)التي تتعارض مع الحياة والدّين، اي خاضعة لسلطة الجسد ولرغباته ونزواتهم المستمرة.والتي تنعت أيضا بالانحراف الأخلاقي.
يأخذ عالم الذكورة في نص تلك المحبة بين عالمين أخلاقي / واللا أخلاقي، فنلمح الشدود في شخصية لدباري وتبو وسلو، وبعدا آخر القلق والحيرة والارتباك وقمع الجسد (الرغبة) في شخصية القسيس جبريل، حيث يتنوعحضور الجسد إلى التالي متمثلا في :
الجسد الذكوري / والسلطة
: نقصد بالجسد المتسلّط بأنّه يتعامل ويتصرّف مع الآخرين بالقوةوالعنف في اكتساب المواقف، ومن بين الشخصيات المتسلطة هي شخصية لدباري.
يمثّل لدباري_الذي يوحي من دلالة اسمه إلى شخصية مهووسة بالجنس« الدبر والمضاجعة » الشخصية الغير السويّة، يستغل البعض من الشخصيات لصالحه ولنزواته المستمرة، محكوما بالشهوة لا يهتم للدّين ولا للعادات و لا القيّم، إذ تغريه أجسام الرجال أكثر من جسد المرأة، فيسعى إلى إخضاع كلّ من تبو وسلو تحت سلطته وأوامره . فهو شخصية مثليّة يفتقد إلى الضمير والأخلاق، منغمسا في ممارساته الجنسية، محاولا إشباع رغباته بطرق إباحية مع الذكور.
لقد أبدع الحبيب السائح فيطرح العقد النفسية والجنسية وإزاحة الستار عن واقعنا الحقيقي المعاش؛ الذي نرى فيه حرجا وتخوفا وعيبا للحديث عن عالم الجسد والسرير والجنس في الأماكن الخاصة (الغرفة) اوالقوس وبين المملوكة وصاحبها..إلخ .هذا العالم الذي يستغل ويهان فيه المخنث، ويهضم حقوقه، وينكر فيه اللقيط الذي ليس له الحق في البحث عن هويته؛ بل يتّجهون إلى أنّ هذا الفعل خطيئة وعار، وفضيحة وأشياء قذرة وبديئة. وهذا ما نلمحه فيما بعد في شخصية سلو وتبو.
تمتاز علاقة لدباريبـ (تبو، وسلو) بالسرّية، إذ يستجيب لملذاته، ذلك وفق إرغام كليهما على الممارسة دون أن يكون لهما الحق في الرفض .وهذا ما يشير الى سلوكه الغير الطبيعي والسّوي. « أحس فيها وعيدا ذكّره تلك القساوة البالغة الحادّة المهينة التي تشعر شخصا ما بحقارته وبتفاهته وانعدام رجولته، منذ ان لمستها زوجته مبروكة في غرابة علاقته بتبو فأخبرت السيدة ميله إلى المداعبة وهو على صدره .فإن الأمر وصل به ليلة عاد فيها مزطولا أن طلب إليها أن تساحقه دبرا... »( تلك المحبة : 126.)
يوحي هذا الملفوظ السرديالمحمّل بلغة الجسد والشهوانية والهمجية إلى رغبات لدباري الحيوانية، والتي تبرز نزعته الى الجنس الفنتازي و المثلية والتحرش بالآخرين بسلو وتبو. فرغباته التي تحدّد نوع شخصيته الغير الطبيعية المائلة إلى التصنّع في كسب الآخرين وإظهار رجولته بالعنف والقوة.فهو شخصية مريضة فاسدة متسلّطة ويمكن أن نوضحه في الشكل التالي :
أمّا زواج لدباري من مبروكة لم يكن هروبا لتخلصه من واقع المثلية ؛وإنّما ليخفي عن الناس ممارسته السرّيةواللاأخلاقية مع سلو وتبو، وفي الوقت نفسه ليبيّن للجميع أنه انسان اجتماعي صالح طبيعي يكوّن أسرة- أي يختبئ تحت علاقة شرعية صورية فقط -لا يعاني من أمراض نفسية ؛ إلا أنّ مبروكة تصدّت له وهدّدته بالفضيحة عند السيدة لأنها اكتشفت سرّه مع تبو« فتوعدته ليلتها أن تفضح شذوذه عندها، فهددها ثم أغراها فأصرت ولم تهن. »( تلك المحبة : 127. )
من خلال هذين المشهدين نتوصّل إلى أنّأفعال لدباري واقعة تحت الثنائية الضديةبين السر و/ العلنية من جهة، وبين التستر /و الفضيحة من جهة أخرى .إذ يسعى إلى التستر عن أفعاله المشينة ويعمل العكس على فضح البتول والإعلان عن خباياها وعلاقتها مع مكحول مستعملا المكيدة والفخ للايقاع بها .ويمكنأن نحدّد شخصية لدباري التي تعيش بين التهديد (الفضيحة) وبين اخفاء لشدوده وفق الترسيمة التالية التالي :
الجسد الذكوري/بين التهميش والقمع
سلو / بليليو
إنّ هذه الذات المستلبة الإرادة والمتعثرّة في شباك العجز، والقهر والضعف تعيش غربة مع جسدها وعقدة الذات (لقيط)، متخوّفة من مستقبل مجهول؛فهو مجهول الهويّة والعائلة والنسب، ضائع بين نصف ذكر ونصف أنثى (مخنّث) ؛إنّه« ابن السيد » تربّى في أحضان رجل غريب اعتبره والده« لا أعرف سوى أني ابن لأم لا تعرف لي أبا »( تلك المحبة :126 )؛ إذ وجوده كان نتيجة علاقة رجل من الأشراف مع أمه التي تنتمي إلى طبقة الخدم « فلما حملت من سيدها وهي في يمينه زوّجها جدي لأنهما مملوكان له، وكان جدي حتى بعد ذلك الزواج كثيرا ما يجد لدى عودته، عند عتبة بيته نعلي سيده إشارة إلى أنه يواقعها فيعود من حيث أتى فلا يرجع إلا بعد أن يتأكد أن سيده قضى منها وغادر . »( تلك المحبة : 82)
أمّا أمه فكانت مملوكة لأحد الأحرار« ..ولأن السيد كان مصابا .. ونصحه الطلبة بأن يشرب كمية من حليب الناقة وأن يقضي ليلة مع عبدة أو حر ثانية عزباء لم تبلغ العشرين »( تلك المحبة :98 )
تدّل هاته المقاطع السردية_ المحمّلة بالهموم والحزن والسلبية واللاانتماء على احتقار الذات والتيهان (ابن من دون أب) وفضلا عن ذلك فإن تصرفات سلو تثبت على عدم القدرة على الفعل، في كونه مملوكا لا منتمي، وهذا ماأدّى به إلى عدم امتلاكه الكفاءة التي تأهله على عدم الانصياع لرغبات الآخرين.
إذ يعاني هذا الجسد« سلو » المستغل الكثير من المشاكل النفسية، والت يترجع إلى طفولته اليائسة ليتعرّض الى التحرّش من طرف رجل يزور بيت أمّه « ..وكان في غيابها يأخذني في حجره ويضغطني به ويقرصني ويقبلني .وفي إحدى القيلولات عراني ومرّر على جسمي بالصابون وأدراني أمامه وبرك على ركبتيه وبدا .. فهددني وقال لي إن أنت أخبرت أمكقتلتها وقتلتك. »’( تلك المحبة :116 .)
يحيل هذا الملفوظ إلى القلق/ و/الحيرة /والتعاسة، /والتخويف/و الاضطراب؛والذي يعبّر عن وضعية في غاية الصعوبة كونه طفلا لا يستطيع المعارضة ولا المقاومة ؛ليتّجه إلى السكوت كحل وحيد حتى ينقذ والدته.
ولقد كان التحرش الجنسي من الأسباب الأولى التي حوّلته من طفل بريء لا يعرف ما يجري من حوله إلى شاب مخنث شهواني « ..يهز أفضل من النساء، يكّحل مثل الخودات الجيدات، ويتحطّط كما البايرات، لا يسمع صوت امرأة إلاّ وقلّده ... » (تلك المحبة (68 :، كما أنّه تعلم المثلية الجنسية إجباريا من لدباري « لدباري واحد منهم، والله ما ذاقها مني برغبتي .قلت له خطرة بخطرة سبني وجلدني وكتفني وفعلها بالقوة . » (تلك المحبة : 69 )
وبناء على ذلك، نلتمس في هذا الملفوظ المشحون بصوّر الشهوانية /واللاإرادة / واللاسلطة على الجسد، إلى أن سلو يفتقد للحرية في الرفض أو الاختيار وفي تقرير مصير حياته؛حتى في جسده ورغباته، فهو يسلّم نفسه للدباري ليس رغبة في ذلك؛ بل لأن جسده تعوذ ذلك، واللاإرادة في كبح رغباته المستمرة.ومع ذلك تكتشف والدته أمره وسرّه؛ ولكن بعد فوات الآوان، بعد احساسه باللذة والمتعة فينزلق إلى مستوى رخيص مستسلما لأهوائه وغرائزه متحوّلا إلى شاب منحرف راض بالمثلية .«...فقد صرت أستشعر لذة من ذلك، ويكون هو الذي اشاع خبري فصرت مطمع الكبار والصغار في رقان » (تلك المحبة : 117).
يبدو سلو/ بليليو في هذا الملفوظ السردي قلقا ويائسا، ومقتنعا بأن الوضع قد ساء نتيجة اكتشاف أمه والآخرين حقيقة وضعه ومعرفة.
نقاط ضعفه من خلال بلوغ اللذة /واحتقار الذات، والتي افقدته توازنه ليصبح مطمع الكبار والصغار. وهكذا تظهر شخصية سلو من خلال المخطط التالي :
انطلاقا من هذه الترسيمة يظهر أن سلو شخصية مستلبة ومسلوب الإرادة وهامشية، تعيش شخصيتين في جسد واحد مرة ذكر، ومرة انثى ضائعة بين لدباري ورغباته التي لا تنتهي، فهو شخصية غير منتمية ليس لها هوية « لقيط » ومقموعة :
وعلى الرغم منحياته التعيسة المليئة بالأحزان والأشجان، إلاّ أنّ قلبهينبض بالحب والعشق لماريا، التي تشعره بالهدوء والطمأنينة« فإن شيئا ما يقترن في صدره بين انجذابه نحوها كما ينجذب نحو أمه وبين تلك الصعقات تهزه كلما قاطع الزهرة بنت الطالب في الجنان، مختزلا طريق عودته، أو كان ينفذ مأمورية الطالب لدى زوجته ... » (تلك المحبة :157 )، وفي مقطع سردي آخر يقول « كنت أبغي أن أكون حيث تكون ماريا » (تلك المحبة : 153 ) وفي مقطع سردي آخر « باحثا عن يد ماريا قبض عليها منذ ليلة، ليلتين، ثلاث، لا يذكر، في ضوء البدر خفية من كل عين أخرى عليها، وعين ذلك الفرنسي يتباهى بلباس الكاكي العسكري الأنيق يلتصق بها تارة ويتبعها حيثما حيثما درجت تشعره بلفتاتها أنها تنتظر غيره، ولو كان يدري من هو لأرجأ الجلاء ضمن فرقته بأيام تكفيه أن يدخله السجن في تلك اللحظة فيؤدبه جلدا، إلى أن اختفت عنه فجأة .. » (لك المحبة 741 :).
تظهر رغبة سلو/بليلوفي التمسك بماريا من خلال الملفوظات الثلاثة، ممّا يؤكد على أنّها مصدر سعادته، فهو يسعى جاهدا للاحتفاظ بها في ذاكرته وقلبه باحثا عنها في كل مكان ذهبت اليه، إلى الكنيسة والقوس والقصر ؛ « فقد جرى بها إلى دار القصر التحتاني وأدخلها أحد أقواسها فنسلها من ألبستها الأوربية وأسبل على جسدها العامر ذراعيه ودوّر شاشا أزرق على رقبتها ورأسها، وهي مفعمة بالنشوة، منبهرة بلباقته في تعريتها مهدهدة بنشوة من حركات أصابعه على بشرتها ... » ( تلك المحبة )741 :
يقدم لنا الرّاوي، في هذا الملفوظ صورة العشق والوله والذّوبان، وذلك بوصف الوضع الذي يعيشه بليلو تجاه ماريا، وإظهاره كشخصيةسويّة عادية، يعبّر عن مشاعره وعن متعته، وليمارس سلطته على من حوله .فهو شخصية مستلبة من جهة وثائرة من جهة أخرىمتغيرة لا تستقر على حال .
ويواصل الرّاوي في نقل قمة المتعة والنشوة لبليلو مع ماريا؛ ليظهر الجانب الرجولي في شخصيته، وكأنه يريد الهروب بها من عالمه الدنيء، الذي يحتقر فيه بسببأنه لقيط إلى عالم جديد مفعم بالفحولة« ..ولكن الناس لا يعرفون شيئا ذا بال عن بليلو وماريا، وإن عرفوا فهم لا يصدّقون »( تلك المحبة : 152 ) « فنظر إليه من طرف عين مرتابا :ألاإني محتقر؟.. » ( تلك المحبة 152 )
يحيل الملفوظا لسردي الأول والثاني على النظرة الدونية، والاحتقار والاستهتارالملتصقة ببليلو كونه ابن السيد الغير المعترف به .وهذه النظرة التي لم تفارقه طوال حياته تظل ملازمة له.فهو بحبه لماريا يسعى جاهدا إلى البحث عن ذاته التي وجدها معه اهي فقط منذ الطفولة .ويمكننا أن نبرز ذلك على النحو الآتي :
تتوضح صورة الإذلال و الإهانة في حق بليلو، والتي تحيل على أنّه شخصية منبوذة مرفوضة اجتماعيا، فكان هروبه إلى أحضان ماريا ليس إلّا البحث عن الجانب الآخر من شخصيته، ينسيه هذا العالم الدنيء، الذي لم يكن له الحق في اختيار قدره .
إنّ حب بليلو لماريا أنساه عالمه السيّء المتردي، ليرتقي بحبها إلى عالم الحياة والتفاؤل مما جعله متمسكا بها وحمايتها من مكائد النساء والعفاريت :« إنه يعرف كيف يرعاها من شرّ العفاريت ومن مكائد النساء، كما يرعى حرز فلا يضيبه بلل عرق أو ضياع أو سرقة. » '( تلك المحبة : 161.)
يحيل هذا الملفوظ السردي إلى التضحية في سبيل حبّهما، حتى جعله يفكر في كيفية رعايتها والتمسك بها، لتكون ماريا في وضع خطير بين عالم العفاريت وعالم مكائد النساء ويمكن أن نبرز ذلك على النحو الآتي:
ويمكن أن نصوغ ذلك ضمن النموذج العاملي :
تبّو
يدل هذا الإسم على المحرّم اتوكسر الطبوهات، هذه الذات التائهة لاهويّة لها، المنتمية إلى عالم الدناءة والخيانة المتسترة على أعمال لدباري الدنيئة، و لتتحقق صورة اللؤم فيه وفي تدبره المكائد وفي سلوكاته الجنسية« المثلية الجنسية » التي تحيل الى مدى قذارته ووساخته كونه رجلا منحرفا يتقرب من البتول ويرغب بالزواج بها؛ إلا انها تعلم عن علاقته بلدباري في المقطع السردي التالي« لولا مثل هذه البدع الإباحية ماكنا الآن لنساوم على اعراضنا »( تلك المحبة:121). تبدو هذه الشخصية مستفزة لذاتها وصولية مسلوبة الإرادة وتابعة لخدمة لدباري ولرغباته ولنوضحه وفق الترسيمة التالية:
جبريل
رجل عسكري متخفّي في لباس ديني؛ليدّل اسمه على« الملاك »؛ يمثّل في النص الجسد الطاهر« رجل دين مسيحي »، معتبرا الرغبة وإرضاء ملذات الجسد خطيئة، فالتزامه بالدّين جعله انسانا متمسّكا بأفعاله وبسلوكياته، فهو مرشد ديني يسعى إلى ضبط النفس وكبح رغباته وإصلاح المجتمع عن طريق النهي والمنع والسلام.
وعلى الرغم من التزامه وتشبّته بمبادئ الدّين المسيحي إلاّ أنّه أمام الحب لم يستطع التصدي للمشاعر ولقلبه؛ ليقع في شباك مبروكة لم يقدر على كبح أحاسيسه، فاكتفى بالنظر وملامسة يديها ومقابلتها .
إنّ جبريل الآن في وضعية فاعل محرك، يقدّم النصح ويد المساعدة للفقراء .ويسعى إلى تحقيق السلام في بلد إسلامي، وفي الوقت نفسه لا يملك القدرة على تحقيق موضوعه وهو الزواج بمبروكة والتحول من مسيحي ملتزم الىم سلم .
إذ نجده متردّدا في هذا الموضوع ليتبين أنهبين الالتزام بالدين من جهة والتجاوب مع الحب من جهة أخرى .اي بين ثنائيتين الدين/الحب، وبين الظاهر« رجل دين ملتزم، والباطن » قلبه ينضخ بالحب «...فاقترب منها وجلا إذ مرر بأصابعه على وجنتيها شرودا تحركت يدها تسند يده فطوقها بذراعه الأخرى يضمها إليه» ( تلك المحبة :165 )، وفي مقطع سردي آخر «قال لها ونفسه بين لهب رغبة جماع وبرودة نشوة سماع لولا خوفي من الردة لحفظت كتابكم، فإنه لا باب للسماء نحو الرب ..» ( تلك المحبة :166)
يحكم هذه الوحدات السردية عالمان دلاليان :عالم الدين والالتزام به وعالم آخر عالم التحرر وانعتاق الجسد، ليصبح جبريل بين نارين نار الجسد الذي يحيل الى خيانته لمبادئ الدّين المسيحي بوصفها خطيئة لا يغتفر لها وبين نار الردة، وتظهر تجلياتها في مسارين صوريين يمكن توضيحهما على النحو الآتي:
ينفتح المسار الصوري أ ضمن سياقات مفتوحة على الانعتاق وتحرر الجسد وخرق القيم والمبادئ وعقد الالتزام الذي ينصّ على عدم ارتكاب الخطيئة، والخضوع إلى رغبات الجسد ولهيبها، وليتجانس دلاليا أيضا مع التردّد والخوف من الرّدة، و التحوّل إلى عالم مجهول يحيل إلى الخطورة والتيهان والضياع أمام حب مبروكة.
وتجسّد صوّر التحّول وفق الملفوظ السردي الآتي : « ولم يفت البتول ان تكون أول من تدرك تحول تلك العلاقة من حال إعجاب إلى حال من المحبة المذنبة الآيلة غراما قاهرا .مرده إلى قدر معلوم محتوم.» (تلك المحبة :168)
يتحوّل جبريل من إنسان غامض -لا يأبه لمشاعره -إلى انسان آخر؛ تنفلت مشاعره حيث يريد التحرر من اللباس الذي يرتديه القسيس والفوز بمبروكة، إلا انّه ملزم بتنفيد ما ينص عليه الدين المسيحي كونه قسيسا لا يسمح له بالانسياق وراء الملذات ؛فهو عمله مضبوط مثمثلا في افشاء السلام والاستماع لمشاكل الآخرين ويهتم لأوضاعهم ويحث على التآخي والحب. ومهمّته أن يقدّم صورة جيدة للدّين المسيحي على أكمل وجه، وليس له الحق في تكوين أسرة ومن ثم فهو مقيّد بعقد إلزامي. » (Greimas et Courtès 1979 : 189) تكون فيه رغبة الجسد خطيئة وجريمة في حق الدّين.
تتجسّد صورة الازدواجية في شخصية جبريل، بارزة صوّر التحوّل الاتصالي في امتلاك قلب مبروكة لشعوره بالأمان والمحبة معها، ولتظهر صوّر أخرى انفصالية تتمثل في التشبت برسالته السامية التي جاء من أجلها الى صحراء الجزائر وهو نشر الدين المسيحي ؛ممّا يوحي على كفاءة جبريل في القدرة على الفعل لتظهر في الرسم التالي :
تتوفر وحدة الرغبة في الفعل لدى جبريل، وهذا ما نلتمسه في سلوكه والتزامه بمبادئ الدّين ومن جهة أخرى لا يريد خسارة حب مبروكة مما ينتج ضرب من التردد لديه.