مقدمة
إن ظاهرة العجائبيّة من العناصر التي ترتكز عليها الآداب خاصة الشعبيّة منها، وهذا راجع إلى المخيّلة الجمعيّة الفتيّة التي تعتمد في قصصها على الشفاهيّة في النقل والرواية، التي كانت السَّبب الرَّئيس والمباشر في انتشار هذه الظَّاهرة؛ كون هذه الشفاهيّة تُبقي للمتلقّي/المستمع حرِّية الإضافة –إن قصدا وإن سهوا-؛ وبالتالي إعادة الإنتاج والإبداع، ويمكن أن نستدلَّ -في موضعنا هذا- بالمغازي وما نسجته من قصص حول شخصية الإمام علي (كرّم الله وجهه)، والأمر نفسه يمكن أن يقال عن السِّيَر الشعبية ومثال ذلك السيرة الهلالية.
وتتمثل القضية الأساسية لهذه الدراسة في التعرف على جماليات التوظيف العجائبي وتمظهراته في أدب الرّحلة وأثره فيها، وعليه فإن الأسئلة التي يمكن طرحها هي :
-
هل كانت العجائبية حكرا على الآداب الشعبية فقط، أم أنها فعل تعدّى مفعوله الشعبي لينتقل إلى الآداب الرسمية؟ وإن انتقل إليها فكيف تمظهر العجائبي فيها؟
-
هل العجائبية بوصفها قيمة جمالية تُخلُّ بالقيمة العلمية؟
-
ما هو مدى تأثر الرّحالة العرب بهذا الموروث العجائبي؟ وإلى أي مدى ساهم كُتَّاب هذا النوع من الرحلات في إثبات الحقائق الجغرافية والتّاريخية؟
وتتمثل أهمية هذه الدّراسة في البحث عن الأثر العجائبي في النصوص الرسمية/ الفصيحة ممثّلة في أدب الرّحلة الأندلسيّة، ومدى نجاعته –نقصد الأثر العجائبي- بوصفه قيمة جمالية في شد متلقي النص، وجعله ينخرط في لعبة النص التخييلية لما توفره عوالم العجائبية من متعة قرائية ولذة فكرية، إضافة إلى القيمة العلمية المتأتِّية من كمّ المعلومات والمعارف التي يقدّمها أولئك الرحالة في نصوصهم، ما يؤهلها لأن تكون مادة غنيّة وجديرة بالدّرس من مختلف الجوانب. وقد قسّمت هذه الدراسة على قسمين اثنين، حمل الأول منها عنوان في حدود المصطلح، وقد عرضنا فيه للمفهومين اللغوي والاصطلاحي لكلمة العجيب وأسباب وقوعه في النفس، أما القسم الثاني فقد تتبعنا فيه تمظهرات العجائبي في رحلة الغرناطي محاولين في خضم ذلك الإجابة عن مختلف الإشكالات التي سبق وأن طرحناها.
1. في حدود المصطلح
العجائبية من مادة عجب، وإذا أردنا تتبع جذرها اللغوي وجدنا ابن منظور يعرفها قائلا:
«العُجب والعَجب إنكار ما يرد عليك لقلة اعتياده... والاستعجاب شدة التعجب... قال الزجاج : أصل العجب في اللغة أن الإنسان إذا رأى ما ينكره ويَقِلُّ مَثلُه، قال قد عجبت من كذا... العجب النظر إلى شيء غير مألوف ولا معتاد » (منظور، 1992، ص580.581)،
هذا بالنسبة للمعاجم العربية، أما المعاجم الغربية فيعني هذا المصطلح فيها كل ما له علاقة بالمخيلة إذ أن العجيب هو «ما يبعد عن مجرى العادي المألوف للأشياء فيبدو معجزا غير طبيعي [كما أنه يعني] تدخل وسائط وأشخاص غير طبيعيين في الآثار الأدبية» (علاوي، 2005، ص32)، وهذا المفهوم يتفق مع التعريف الذي أورده حسين علام لكلمة العجيب في كتابه العجائبي في الأدب حين قال: «وهو ذلك النوع من الأدب الذي يقدم لنا كائنات وظواهر طبيعية تتدخل في السير العادي للحياة اليومية، فتغير مجراه تماما. » (علام، 2010، ص32).
ويرى لطيف زيتوني أن العجيب يتميز بكونه: «ينتمي إلى عالم لا يشبه عالم الواقع بل يجاوره من دون اصطدام ولا صراع، رغم اختلاف القوانين التي تحكم العالمين وتباين صفاتهما. » (زيتوني، 2002، ص87)، أما شعيب حليفي فيرى أنّ العنصر العجائبي « يتطور لتصبح رؤيته مشروعة تمتطي المفارقة والتناقض، وهتك الواقعي الحقيقي بما هو فوق طبيعي لتمرير خطاب معين استناداً على المخيلة التي تتغذى من فصائح العقل والواقع » (حليفي، 2003، ص3). وقد ذهب الرماني إلى البحث في علة وقوع هذا الإحساس في النفس فرأى أن « من شأن الناس أن يتعجبوا مما لا يعرف سببه، فكلما استبهم السبب كان التعجب أحسن » (التهانوي، 1972، ص941). وعليه فإن التعجب يكون من الشيء الغامض والمستبهم، لذا يقال في الثقافة العربية « إذا عرف السبب بطل العجب ».
ويحصي الدارسون أربعة أصناف للعجيب وهي : العجيب المبالغ فيه، واسمه يدل عليه إذ أن ميزته الرئيسة تجاوز الظواهر لأبعادها المألوفة في الطبيعة، والصنف الثاني هو العجيب المجلوب ويتصل هذا النوع بما يثير الانتباه من ظواهر غير مألوفة لدى الأمم، وهناك العجيب الأدوي واسمه مشتق من الأداة؛ ذلك أنّ سمته الأساسية وصف أدوات لا تسمح تكنولوجيا العصر بإنتاجها، أما الصنف الرابع فهو العجيب العلمي؛ وهو الذي يفسر الخارق تفسيرا عقليا اعتمادا على قوانين لا يقرها العلم المعاصر (القاضي، 2010، ص285. 286) للحظة تلقي الظاهرة الخارقة.
ويشترط تزفيتان تدوروف ثلاثة شروط منجزة ليكون الأثر عجائبيا
« أولا يجب أن يحمل النّصُّ القارئَ على اعتبار عالم الشخصيات كعالم أشخاص أحياء وعلى التردد بين تفسير طبيعي وتفسير فوق طبيعي للأحداث المروية. ثمّ، قد يكون هذا التردد محسوسا بالتساوي من طرف شخصية، على ذلك يكون دور القارئ مفوّضا إلى شخصية وفي نفس الوقت يوجد التردّد ممثلا، حيث يصير واحدة من موضوعات الأثر؛ ويتوحد القارئ مع الشخصية في حالة قراءة ساذجة.» (تودورف، 1993، ص54)
وفيما يأتي تتبع لتمظهرات عناصر العجائبي في أدب الرحلة العربي الذي عرف
«اهتماما بالغا بسبب تنوعه وغنى مادته، فهو تارة علمي وتارة شعبي، وهو طورا واقعي وأسطوري على السواء، تكمن فيه المتعة كما تكمن فيه الفائدة. لذا فهو يقدم لنا مادة دسمة متعددة الجوانب لا يوجد مثيل لها في أدب أي شعب معاصر للعرب.» (كراتشكوفسكي، 1963، ص25).
ونموذجنا في التطبيق رحلة أبي حامد الغرناطي الأندلسي (473هـ -565هـ) المسماة « تحفة الألباب ونخبة الإعجاب »، التي بدأها سنة 508هـجرية، وروى فيها غرائب وعجائب كثيرة رآها وسمعها أثناء قيامه بهذه الرحلة.
2. تمظهر العجائبي في رحلة تحفة الألباب ونخبة الإعجاب
1.2. الشخصيات العجيبة
إننا نتفق مع ما يذهب إليه سعيد يقطين في كتابه « قال الراوي » من أن عجائبية الشخصيات تكمن في تكوينها الذاتي وطريقة تشكيلها المخالف للمألوف؛ وعليه فإن هذه الشخصيات قد تكون لها مرجعيات نصية (يقطين، 1997، ص99) تعطيها قوة وشرعية تستمدها من التاريخ والدين (حليفي، الرحلة في الأدب العربي : التجنس، آليات الكتابة، خطاب المتخيل، 2002، ص455)، ومن هذه الشخصيات نجد المسخ الذي يعني « تحوّل صورة إلى صورة أخرى أقبح، وتحول الإنسان إلى صورة أخرى أقبح، أو إلى حيوان » (علي، 1993، ص143)، وهذا النوع من الشخصيات العجيبة المرجعية ذكره الغرناطي في رحلته ونموذجه فيه « قوم وبار » الذين يقول فيهم :
«وعند صنعاء اليمن أمة من العرب قد مُسِخوا، كلُّ إنسان منهم نصف إنسان، له نصف رأس ونصف بدن ويد واحدة ورِجل واحدة، يقال لهم وبار وهم ولد إرم بن سام إخوة عاد وثمود، وليس لهم عقول يعيشون في الآجام في بلاد الشحر على شاطئ بحر الهند، والعرب تسميهم النسناس ويصطادونهم ويتكلمون بالعربية ويتناسلون ويتسمون بأسماء العرب ويقولون الأشعار. » (الغرناطي، 1989، ص42).
إن هذه القصة تضعنا –بوصفنا متلقين- في حيرة؛ لأنّ فيها من العجائبية الشيء الكثير، ولا يمكن أن ندخلها في أي باب من أبواب الحقيقة بالمعنى الدقيق؛ لأن هذا الخبر لم يره بأم عينه فيتأكد من صحته وإنما سمعه، ونحن نعرف ما للنقل الشفاهي من دور في التحريف والتزييف عن طريق الإضافة، وقد صدق المثل القائل « ليس من رأى كمن سمع »، هذا من جهة، من جهة أخرى أنَّى للعقل أن يتقبل فكرة وجود قوم بهذا الشكل، وعلى هذه الصفة وفوق هذا يقولون الشعر وهم فاقدون لنعمة العقل. ومن هذا الموقف المتردد يتولد الفانتاستيكي عبر تردّد المروي له إزاء هذه «الظاهرة الخارقة، أينسبها إلى الواقع أم يرفض نسبتها إليه؟ وعندما يثبت لدى القارئ أنّ بالإمكان وجود قوانين طبيعية تقبل الظاهرة الخارقة يكون الخلاص من التردد وتلاشي الفانتاستيكي » (القاضي، 2010، ص285)
وفي هذا المسعى ينخرط أبو حامد الغرناطي في محاولة منه إزالة هذا التردد الذي يفترض وقوعه في نفس المتلقي حين نجده يقول : « فلا تكن مكذبا بما لا تعلم وجه حكمته، فإن الله عزّ وجلّ قال : ﴿بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتيهم تأويله﴾ فهذا ما أردنا تقديمه خشية أن يسارع الإنسان إلى تكذيب ما لم يشاهد، فيلحقه الذّم لعدم الفهم » (الغرناطي، 1989، ص34) إن أبا حامد يستشرف حيرة القارئ وتردده وحتى تكذيبه لما سيورده في ثنايا رحلته من قصص وأخبار؛ لذا نجده في موضع آخر يلح ويؤكد قائلا : « فالعاقل إذا سمع عجبا جائزا استحسنه، ولم يكذِّب قائله، ولا هجّنه. والجاهل إذا سمع ما لم يشاهد، قطع بتكذيب وتزييف ناقله، وذلك لقلة بضاعة عقله» (الغرناطي، 1989، ص30). انطلاقا من هذا النص استمد الغرناطي شرعية قصصه ومصداقيتها حين ربطها بالعقل ومدى قدرته على تقبُّل هذه الغرائب، فانطلق يورد عجائبه ويسهب في ذكرها على سبيل الرواية لا المشاهدة، ومن ذلك هذا الخبر الذي نصه:
« وفي السودان أمّة لا رؤوس لهم ذكرهم الشعبي في كتاب سير الملوك. وذكر أن في فيافي بلاد المغرب أمة من ولد آدم كلهم نساء، ولا يكون بينهم ذكر ولا يعيش في أرضهم وأن أولئك النساء يدخلن في ماء عندهن فيحملن من ذلك الماء وتلد كلُّ امرأة بنتا ولا تلد ذكر البتة... وأولئك الأمة الذين لا رؤوس لهم، أعينهم في مناكبهم، وأفواههم في صدورهم. وهم أمم كثيرة، وهم كالبهائم يتناسلون، ولا مضر على أحد منهم والله أعلم. » (الغرناطي، 1989، ص43-45)
وهذا لعمري قمَّة العجب والغرابة؛ لأن هذا يتنافى مع الحقيقة العلمية التي أقرَّها الله عزَّ وجلَّ في قوله : ﴿يا أيُّها النَّاس اتَّقوا ربَّكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثَّ منهما رجالا كثيرا ونساء واتَّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا﴾ (سورة النساء الآية1). ومع ذلك فقد برَّر أبو حامد وجود هذه القصص بعدم قدرة الإنسان على الإحاطة بكل شيء، واستدلَّ – هو بدوره - على ذلك بقدرة الله عزّ وجلّ، وأمره سبحانه وتعالى عبادَه بالتفكر في روائع صنعه؛ لذا أورد العديد من الآيات القرآنية ليعزِّز بها موقفه، ومن ذلك قوله تعالى :﴿قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق﴾ (سورة العنكبوت الآية 20)، وقوله جلَّ شأنه وعزّ : ﴿وكأيّ من آية في السّموات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون﴾ (سورة يوسف الآية 105). إن هذه النصوص القرآنية المقدسة يؤسس بها الغرناطي لوجهة نظره القائمة على إزالة الحيرة والتردد.
وعلى كل فإن المسخ بوصفه تحولا من حال إلى حال بغض النظر عن نوعه « يغذّي العجائبي بدم جديد ويملأ شجرة الغيبي وفوق الطبيعي بعناصر غريبة تحير وتقلق أحيانا » (حليفي، الرحلة في الأدب العربي، 2002، ص453) إنه نفق للإثارة والدهشة التي تولد وتتخلق كونها مفارقة للواقع، ولكن هذه الحيرة تتلاشى عندما يقبل القارئ الانخراط في هذا المسار العجيب ويؤسس له مرجعيا بالعودة إلى الدين، فقد ذكر المسخ في القرآن الكريم في مواضع عديدة ومنها قوله عزّ وجلّ : ﴿وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ﴾ (سورة يس الآية 67). إن هذا التوظيف المرجعي المتكئ على التاريخ والدين يذيب ذلك التردد الحاصل في نفس المتلقي تجاه هذا المحكي؛ ويجعلنا نشاطر شعيب حليفي فيما ذهب إليه من رأي حين قال: «فالعجائبي بهذا الحضور هو مسار استراتيجي في النص الرحلي متجذر في الثقافة العربية ومرتبط بعناصر/محفزات تستمد قوتها من التاريخ والدين لتدعيم الرؤية والخطاب.» (حليفي، الرحلة في الأدب العربي، 2002، ص455)
ويستمر أبو حامد الغرناطي في الاتكاء على المرجع الديني ليعطي قوة يدعم بها رؤيته وخطابه، إذ يستدعي قصة خلق الجان ثم يدعم الخبر بآيات قرآنية حتى يعطي له الشرعية، كما تحدَّث عن يأجوج ومأجوج، وروى أخبارا عن مدن غابرة في التّاريخ كمدينة النحاس التي بنتها الجن لسيدنا سليمان عليه السلام، والبحيرة التي سجن فيها النبي سليمان عليه السَّلام مردة الجنِّ، ويروي عن هذا الخبر أن موسى بن نصير وجنوده وجدوا هذه البحيرة العجيبة فغاصوا فيها
« فأخرجوا حبابا من النُّحاس، عليها أغطية من الرَّصاص مختومة، قال ففتح منها حبا فخرج منها فارس من نار على فرس من نار، في يده رمح من نار، فطار في الهواء وهو ينادي يا نبيَّ الله لا أعود. وفتح حبا آخر فخرج منها فارس آخر كالدخان في يده رمح كالدخان وهو يقول يا نبيَّ الله لا أعود... فقال الأمير ومن معه ليس من الصَّواب أن نفتح هذه الحباب لأن فيها جنّا قد سجنهم سليمان عليه السلام، لتمرُّدهم فأعادوا بقية الحباب إلى البحيرة. »(الغرناطي، 1989، ص64).
إن المتلقّي يقوم من بداية القصّة بترك
«عالمه الواقعي وينتقل بالفكر إلى عالم آخر، مسلّما بقوانينه ومنطقه ففي حكايات الجان لا يثير حضور الجني وعمله وطاقته وطاعته لمالك القمقم استغراب شخصيات القصة ولا قرائها بسبب تواطؤ القارئ مع ما يخالف منطقه، وتخلِّيه مؤقتا عن حسِّه النقدي، وقبوله بدخول اللعبة الفنية، ومما يساعد على هذا التواطؤ أن القارئ يستسيغ العودة إلى تصوُّرات الطفولة التي سبقت اكتساب التّفكير العقلاني.» (زيتوني، 2002، ص87)
وعليه يكون مستمتعا بهذه الأخبار والروايات. أضف إلى ذلك عقد القراءة الذي يقتضي «استجابة الأثر لمعايير مخصوصة تؤلف في جملتها نظام التلقي» (القاضي، 2010، ص289) وهو ما يجعل القارئ يستسيغ هذه القصص العجيبة، فالغرناطي من البداية لا يغالط قرّاءه؛ إذ يضبط لهم إطار القراءة في مقدمة الرحلة ويوجههم بصورة صريحة قائلا:
«اعلموا رحمكم الله أن الله تعالى فرّق بين العالمين في العقول ومنحهم منه من شاء من كثير وقليل، وكما فضّل بعضهم على بعض في الرزق وسعة المال، كذلك فضّل بعضهم على بعض في العقل. فعقول الملائكة والأنبياء أكثر من عقول جميع العلماء، وعقول العلماء أكثر من عقول جميع العوام في الدنيا، وعقول جميع العوام أكثر من عقول النساء، وعقول النساء أكثر من عقول الصبيان، وبقدر هذا التفاوت يكون الإنكار لأكثر الحقائق من أكثر الناس؛ لنقصان العقول.» (الغرناطي، 1989، ص33)
إن هذه المقدمة توطئ لقبول عوالم العجيب والخارق، ومدى القبول يستلزم بالضرورة علاقة طردية بالعقل، فكلما اتسع القبول كبر العقل وكلما ضاق استلزم نقصا في العقل وهو ما يجعله منكرا للحقائق.
وعلى هذا النحو يمضي أبو حامد الغرناطي في سرد أخبار السابقين وحتى المعاصرين معللا لهم وموجها للقرّاء، ومن ذلك قوله موطئا لمرويات أبي العباس الحجازي الذي لقيه بمصر، وطلب إليه أن يقص عليه عجائب ما رآه في الصين بقوله:
«يا أبا العباس إني سمعت عنك أشياء كثيرة من العجائب والآن أريد أن أسمع منك شيئا من عجائب خلق الله، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الفهري حاضرا فقال أبو العباس : -قد رأيت أشياء كثيرة ولا يمكنني أن أحدّث بها لأن أكثر الناس يحسبون أنها كذب. فقال الشيخ أبو بكر: يكون ذلك من العوام الجهّال. وأما العقلاء وأهل العلم، فإنهم يعرفون الجائز والمستحيل. وذكر عجائب خلق الله يستحبّ التحدّث بها إظهارا لقدرة الله تعالى في عجائب مخلوقاته.» (الغرناطي، 1989، ص129)
2.2. الراوية ودورها في تخليق عوالم العجائبي
تناط بالراوي مجموعة من الوظائف المهمة التي يحصرها لطيف زيتوني في خمس وظائف هي : الوظيفة السردية، الوظيفة التنظيمية، وظيفة التحقق من الاتصال، وظيفة الشهادة والوظيفة الإيديولوجية (زيتوني، 2002، ص96-97) وإن كانت الوظيفة الأولى على غاية من الأهمية فإن الوظائف الأخرى لا تقل عنها أهمية فوظيفة الشهادة والإقرار لها أيضا دور مهم ذلك أن « الراوي في النصوص المروية بضمير المتكلم يعبّر عن موقف فكري أو أخلاقي أو انفعالي ويشهد على مصدر معلوماته أو دقة ذكرياته أو المشاعر التي تولدها فيه بعض الحوادث المروية » (زيتوني، 2002، ص97) وعليه فهذه الوظيفة في أدب الرحلة عموما، وفي رحلة الغرناطي على وجه الخصوص تقف لتنافح دقة الذكرى أو المشاهدة ومنه إزاحة التردد الذي سيحدث في نفس المتلقي؛ وعليه فأن هذه الوظيفة تنقله من الخارق إلى العجيب كما في هذا النص :
«ولقد كنت في مجمع البحرين في سفينة فخرجت سمكة من البحر، مثل الجبل العظيم، فصاحت صيحة لم أسمع قط أوحش منها، ولا أهول ولا أقوى منها فكاد أن ينخلع قلبي، وسقطت على وجهي أنا وغيري، وألقت نفسها في البحر، واضطرب البحر علينا وعظمت أمواجه وخفنا الغرق حتى نجّانا الله عزّ وجلّ، وسمعت الملاحين يقولون: هذه السمكة تعرف بالبغل.» (الغرناطي، 1989، ص119-120)
يندرج هذا النوع من العجيب ضمن العجيب المبالغ فيه؛ لأن له وجودا واقعيا مع زيادة تجعل العادي خارقا وعجيبا.
ومن القصص التي أوردها الغرناطي في هذا الباب بضمير المتكلم قوله:
« ولقد رأيت يوما في البحر وأنا على صخرة والماء تحت رجلي قد خرج ذنب حية صفراء منقّطة بسواد طولها مقدار باع تطلب أن تقبض على رجلي، فبعدت منها وأخرجت الحية رأسها كأنه رأس أرنب من تحت ذلك الحجر، فسللت خنجرا كبيرا كان معي، فطعنت به رأسها فأدخلت رأسها تحت الحجر، ثم قبضت على الخنجر فلم أقدر أن أخلّصه منها، وكلّما جررته وجذبته لم أقدر على تخليصه منها، فأمسكت مقبض الخنجر بيدي جميعا وجعلت أجره وألصقه بالحجر كأني أقطع به شيئا، فتركت الخنجر وخرجت ممن تحت الحجر وإذا بها خمس حيّات، ورأس واحد/ فعجبت من ذلك فسألت من هنالك عن اسم هذه الحية، فقالوا :هذه تعرف بأم الحيّات. » (الغرناطي، 1989، ص121)
إن ضمير المتكلم هنا يهمين على مفاصل السرد ويعطي أفضلية وقوة للسارد المشاهد؛ ما يجعل القارئ يطمئن للرواية العجيبة وذلك بإزالة الحيرة والتردد من نفسه.
ولكن هذا التردد يعود ويتجدد إزاء المرويات التي ينقلها الغرناطي عن غيره؛ إذ يظهر جليا للعيان ذكاء الرَّحَّالة أبي حامد الغرناطي؛ فهو يحدِّد رُواته أمثال الشعبي وأبي العباس الحجازي؛ إذ يسميهم لكي ينفي عنه أي اتهام يمكن أن يُوجَّه إليه، وقد رأى بعض الذين اطَّلعوا على هذه الرحلة، ومن بينهم كراتشكوفسكي أن أبا حامد يورد « أسماء رواته بدقة، ويتحدث عن نفسه بضمير المتكلم، ولهذا يمكن التفريق بسهولة بين مصادر مادته وكثير مما يُورِده على لسان الغير لا يمثِّل أهمية ما، وذلك لسهولة تصديقه للعجائب، واعتقاده فيها »(كراتشكوفسكي، 1963، ص296). وهذا واضح من خلال القصص التي أوردها، إذ لا يساوره أدنى شك في صحَّتِها، بل فوق ذلك يدافع عن شرعيَّتِها وإمكانية حدوثها بمحاولة إزالة الحيرة التي يستشرف وقوعها في نفوس قرّائه.
ومن القصص التي ينقلها تلك التي ورد فيها ذكر طائر الرُّخ :
« وكان قد وصل إلى المغرب رجل من التجّار ممن سافر إلى الصين في البحر وأقام بها مدة، ووصل إلى بلده المغرب بأموال عظيمة، وكان عنده أصل ريشة من جناح الرّخ كان يسع فيها قربة من الماء، كان الناس يتعجّبون من ذلك، وكان يعرف الرجل بعبد الرحيم الصيني، وكان يحدّث بالعجائب، فذكر أنه سافر في بحر الصين وألقتهم الريح إلى جزيرة عظيمة، فخرج إليها أهل السفينة ليأخذوا الماء والحطب، رأوا فيها قبة عظيمة أعلى من مائة ذراع، لها لمعان وبريق، فتعجّبوا منها، فلما دنوا منها، وإذا هي بيضة الرّخ فلما دنوا منها جعلوا يضربونها بالفؤوس والخشب والحجارة حتى انشقت كأنه جبل تعلّقوا بريش جناحه فجرّوه، فنفض جناحه فبقيت هذه الريشة... قال فقتلوه وحملوا ما قدروا عليه من لحمه ورحلوا. وقد كان بعضهم طبخ في الجزيرة قدرا وحركوها ببعض عيدان الحطب الذي طبخوا به، وكان فيهم مشائخ. فلما أصبحوا رأوا المشائخ قد اسودت لحاهم، ولم يشيبوا بعد ذلك اليوم... فكانوا يقولون إن ذلك العود الذي حرّكوا به القدر من شجرة الشّباب والله أعلم.» (الغرناطي، 1989ص131-132)
على هذا النحو من المرويات الشفاهية يمضي أبو حامد الغرناطي في تخليق عوالم العجائبي وحشدها. وهو كلما انقطع عن الخبر عاد إليه دون أن ينسى إسناد الرواية لصاحبها باستعمال الفعل «قال» الذي يتجدد بتفرع الحكاية أو عندما تطول كما في هذا المقطع الذي يكمل به ما بدأه في المقطع السابق؛ وهذا نصه
«قال : فلما طلعت الشمس رأوا الرُّخَّ قد أقبل في الهواء كالسحابة العظيمة، وفي رجليه قطعة حجر، كالبيت العظيم، أكبر من السفينة، فلما جرى فوق السفينة ألقى ذلك الحجر، وكانت السفينة مسرعة بسعة من الأثقال عليها الشراعات، فوقع الحجر في البحر وسبقت السفينة ونجانا الله عزَّ وجلَّ. » (الغرناطي، 1989، ص132).
والكلُّ يُجمع على أن الرُّخ هو في الأصل طائر خرافي وأسطوري، وأبو حامد هنا لم يضف جديدا يجعلنا نؤمن بوجوده بل على العكس من ذلك جعلنا نشك في كينونة هذا الطائر الخارق، خاصة وأنه استهل كلامه بكلمة «قال»، وفعل الرواية/القول يوقعنا في نوع من الارتباك والحيرة التي تفضي بنا مباشرة إلى الشك وصعوبة التَّقبل ومنه البحث وراء الحقيقة المختبئة وراء هذا الزخم العجائبي.
إن هذه القصص والروايات – التي أوردها أبو حامد الغرناطي - إن أخرجناها عن المجال الفني الأدبي الذي يبيح مقولة «أعذب الشعر أكذبه»، وقسناها على ميزان الحقيقة العلمية لما خرجنا عن احتمالين اثنين : إما الكذب أو النقل الخاطئ، غير أن أبا حامد لا يدع مجالا للشكّ حين نراه متصدِّيا « فلا تكن مكذِّبا بما لا تعلم وجه حكمته »(الغرناطي، 1989، ص31).
3.2. العجيب العلمي
لقد زار الغرناطي بلاد القوقاز وبلغاريا، واطّلع على بعض الأسرار كالاتّجار بعظام العمالقة، وهذا الأمر على غرابته نميل إلى تصديقه لأنه عايش هؤلاء القوم وهو ما أشار إليه كراتشكوفسكي حين قال: «من المحتمل أنها عظام الماموث التي نشطت بين سكان الفلجا الأدنى وخوارزم» (كراتشكوفسكي، 1963، ص297)، ونتيجة لهذا أسهم الغرناطي بشكل أو بآخر في رسم جغرافية المنطقة التي مرَّ بها، وأخبرنا بتقاليد سكان تلك المناطق، ومن ذلك قوله واصفا أرض البلغار:
«وهي مدينة بآخر أرض الإسلام، في الشمال هي فوق أرض سقسين، بأربعين يوما، يكون النهار في الصيف عشرين ساعة والليل أربع ساعات، ويكون الليل في الشتاء عشرين ساعة والنهار أربع ساعات ويشتد فيها البرد حتى إذا مات ميت، لا يقدر أن يدفنه ستة أشهر، لأن الأرض تصير كالحديد، ولا يقدر أن يحفر فيها قبره» (الغرناطي، 1989، ص124)
وهذا الخبر- على غرابته في ذلك الوقت المتقدم – صحيح ومعروف في وقتنا هذا؛ لأن كلا من القطبين الشمالي والجنوبي يتناوب فيهما فصلا الشتاء والصيف، ويدوم كل فصل منهما ستة أشهر.
وهذه القصة تجيبنا عن واحد من الأسئلة التي طرحناها في مستهل المقال حول مدى تعبير العجائبية عن الحقائق العلمية ومناسبتها لها، وبالتالي فإن العجائبية لا تعني بأي حال من الأحوال مجافاة الحقائق، فهذا الخبر عن تعاقب الليل والنهار ومدة كل منهما، كان لأهل ذلك الزمان شيئا عجيبا، ولكن مع ذلك فهو ليس خبرا كاذبا؛ « فقد أثبتت الدراسة العميقة التي قام بها ياكوب أن التحليل الدقيق لرواياته التي كانت تنسب قبلا إلى محيط الأساطير قد يكشف في كثير منها عن أسس واقعية وعن دقته الكبيرة في الملاحظة » (كراتشكوفسكي، 1963، ص296). ومنه فإن أبا حامد أسهم- بشكل أو بآخر- في رسم جغرافية المنطقة التي زارها، كما أرَّخ لعادات منطقة البلغار التي كانت في خانة المجهول والغريب لأهل ذلك الزمان القديم، ومن ثمّ فإن فضلا كبيرا يرجع إلى أبي حامد في كشف أسرار تلك المنطقة القصية. وهذا ما يقصده الدارسون من القيمة العلمية التي يكْفُلها أدب الرحلات لما يحتويه
«من كثير من المعارف الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، مما يدونه الرَّحَّالة تدوين المعاين في غالب الأحيان من جرَّاء اتِّصاله المباشر بالطَّبيعة وبالنَّاس وبالحياة من خلال رحلته. وإذا حددنا هذه العلوم بأنها تسجيل للظاهرات المختلفة المتعلقة بميادينها ودراسة هذه الظاهرات وتفسيرها، فإن الرَّحَّالة يُمثِّل دور النَّاقل لهذه الظَّاهرات ليضعها بين أيدي الجغرافيِّين أو المؤرِّخين أو علماء الاجتماع مثلا، كل بحسب اختصاصه» (حسين، 1983، ص6-7).
ويبدو – حسب ما يذكره إسماعيل العربي محقِّق كتاب التُّحفة – أنه كان لأبي حامد كبير التأثير في الرَّحَّالة الذين أتوا بعده كابن الوردي والقزويني؛ لأنهما نقلا بعض المقتطفات من تحفة الألباب، وظلَّ هذا التَّأثير حاضرا إلى غاية القرن التاسع عند ابن إياس في كتابه « نشق الأزهار في عجائب الأمصار ».
وهذا لا يعني - بأيِّ حال من الأحوال – تعميم ظاهرة العجائبية على نصوص الرَّحلات، إذ كان هناك كُتَّاب/رحَّالة يتحرَّون الدِّقة ويبتعدون عن الغرابة في إخراج أخبارهم وإيرادها، حيث نجد ابن جبير(540هـ-614) في رحلته إلى الحج - على الرّغم من قربه من زمن الغرناطي - يحرص على نقل الأخبار الدّقيقة والوصف الموضوعي، وإليك هذا النّموذج الذي يصف فيه الكعبة المشرّفة:
«وباب البيت الكريم في الصفح الذي بين الرّكن العراقي وركن الحجر الأسود، وهو قريب من الحجر بعشرة أشبار محقّقة. وذلك الموضع الذي بينهما يسمّى الملتزم، وهو موضع استجابة الدعاء. والباب الكريم مرتفع عن الأرض بأحد عشر شبرا ونصف، وهو من فضة مذهّبة، بديع الصَّنعة، رائق الصِّفة، يستوقف الأبصار حسنا وخشوعا للمهابة التي كساها الله بيته.» (جبير، 1988، ص52-53)
فنحن هنا أمام وصف ممعن، وتحرّ دقيق في نقل المعلومات عن طريق استعمال المقاسات، حتى ليُخيَّل لكَ أنَّك في فناء المسجد الحرام تنظر إلى الكعبة بأمِّ عينك ليس بينك وبينها حجاب.
وهذا النّموذج في الوصف نجده أيضا عند القلصادي، ولكن هذا النوع من الرحلات - على صدقه ودقَّته وإسهامه في إثبات الحقائق وتقريرها – ضعيف من النَّاحية الأدبيّة الإمتاعيّة؛ إذ يخلق لدى المتلقِّي الإحساس بالملل؛ لأنه يحدُّ من الخيال والإبحار في عالم الخوارق والعجائب، ولكنَّها مع هذا تُؤمِّن للبشرية والتَّاريخ معلومات موثوقة «لا يستغني عنها مُؤرِّخ، أو جغرافي أو أديب يريد أن يدرس هذه الفترة المهمَّة من حياة الشَّرق الإسلامي »(حسين، 1983، ص32). وما يمكن نختم به مقولة صائبة لأغناطيوس كراتشوكوفسكي نصها:
« من المستحيل تجاهل الغرناطي في تاريخ الأدب الجغرافي، فهو قد اكتسب شهرة عريضة لدى جمهرة القرّاء لأن المنهج الذي ابتدعه في الجمع بين معطيات واقعية دقيقة وضروب من العحائب مختلفة في وحدة كوزموغرافية قد راق كثيرا للأجيال التالية » (كراتشكوفسكي، 1963، ص297)
وهي شهادة منصفة من المتأخرين لهذا الرحالة الفريد.
خاتمة
-
أعطت العجائبية -في نص الرحلة- للخيال فسحة أكثر، وللنصّ الأدبيّ قيمة جمالية، وللقارئ متعة التَّلقي عبر تتبُّع عنصر المفاجأة، الذي يتحقّق عبر كسر أفق التّوقع، حيث يبقى المتلقي /القارئ ممارسا مع النصّ لعبة القبول والتمنع محكِّما في الأخير ملكته الجمالية وذوقه الفني.
-
كان للرواية/النقل الشفاهي الدور الكبير في تخليق عوالم العجائبي في رحلة الغرناطي؛ إذ أنّ نسبة ما نقله في نص الرحلة يعادل ثلثي الكتاب.
-
تنوعت تمظهرات العجائبي وأصنافه في رحلة الغرناطي بين الشخصيات العجيبة والعجيب العلمي والعجيب المجلوب والعجيب المبالغ فيه.