من اللّسانيات الاجتماعية إلى علم المصطلح الاجتماعي

De la sociolinguistique à la socioterminologieFrom sociolinguistics to socioterminology

عبد النور جميعي

Citer cet article

Référence électronique

عبد النور جميعي, « من اللّسانيات الاجتماعية إلى علم المصطلح الاجتماعي », Aleph [En ligne], 9 (1) | 2022, mis en ligne le 01 mai 2022, consulté le 21 décembre 2024. URL : https://aleph.edinum.org/5786

يتعلق موضوع هذا المقال بمسار المصطلحية الاجتماعية المنبثقة عن اللّسانيات الاجتماعية؛ باعتبار أنّ العلاقة بين اللّسانيات واللّسانيات الاجتماعية هي ذات العلاقة التي تربط المصطلحية بالمصطلحية الاجتماعية، وحاولت من خلال هذه الدّراسة الوقوف على الرّوابط المشتركة بين هذين التخصّصيْن اللّغوييْن، حيث كان المنطلق من اللّسانيات الاجتماعية ضمن إطارها اللّغوي وصولا إلى تناول المصطلحية الاجتماعية ضمن علاقاتها بمجالات التخصّص المختلفة لغوية كانت أو علمية، قصد فهم آليات توظيف المصطلحات العلمية من منظور تداولي واجتماعي في الخطاب العلمي المتخصّص أو في الخطاب اللّغوي العام.

Cet article porte sur l’évolution de la socioterminologie émergeant de la sociolinguistique. Notant que la relation entre la linguistique et la sociolinguistique est similaire à la relation qui relie la terminologie à la socioterminologie.
J’ai essayé à tra
vers cette étude d'identifier les liens communs entre ces deux disciplines linguistiques ; et ce en partant de la sociolinguistique dans son cadre linguistique à la socioterminologie dans ses relations avec les différents domaines de spécialité, qu'ils soient linguistiques ou scientifiques ; afin de comprendre les mécanismes de l'emploi des termes scientifiques dans une perspective pragmatique et sociale dans le discours scientifique spécialisé ou dans le discours linguistique général.

This article focuses on the evolution of socioterminology emerging from sociolinguistics. Noting that the relationship between linguistics and and sociolinguistics is similar to the relationship that links terminology to socioterminology.
Through this study, I tried to identify the common links between these two linguistic disciplines, starting from sociolinguistics in its linguistic framework to socioterminology in its relations with the various fields of specialization whether linguistic or scientific; in order to understand the mechanisms of the use of scientific terms from a pragmatic and social perspective in specialized scientific discourse or in general linguistic discourse.

مقدّمة

انبثقت اللّسانيات الاجتماعية عن اللّسانيات « الكلاسيكية »، وهو المسار نفسه الذي عرفته علم المصطلح الاجتماعي؛ فعلاقة المصطلحية بالمصطلحية الاجتماعية هي العلاقة ذاتها بين اللّسانيات واللّسانيات الاجتماعية كما يقول لويس غاسبن (Guespin, 1995 : 210)، وارتأيت من خلال هذه الدّراسة الرّبط بين هذين التخصّصيْن اللّغوييْن، حيث أنّ دراسة اللّسانيات الاجتماعية ضمن الإطار اللّغوي العام تفضي بالضرورة إلى دراسة علم المصطلح الاجتماعي في علاقاته بمجالات التخصّص المختلفة اللّغوية والعلمية منها.

1. نشأة اللّسانيات الاجتماعية

حظيت العلاقة بين اللّغة والمجتمع بأهمية بالغة في الدراسات اللّسانية الحديثة؛ التي حاولت تجاوز مسلّمات اللّسانيات البنوية التي تهتم باللّغة في ذاتها دون الاهتمام بالعوامل المحيطة بها، وذلك حسب النّظام الذي رسمه دي سوسير (De Saussure) وأبرزها العامل الاجتماعي؛ إذ رغم إشارته في بعض المقاطع من كتابه الشهير « دروس في اللّسانيات العامّة » (Cours de linguistique générale) إلى الطّابع الاجتماعي للّغة كقوله : «إنّ اللّغة هي الشّق الاجتماعي للكلام » (Saussure, 1995, p. 31) أو قوله : « اللّغة هي مؤسسة اجتماعية »؛ (Saussure, 1995 :33) إلاّ أنّه اعتبر أنّ « موضوع اللّسانيات الوحيد والفعلي هو اللّغة في ذاتها ولذاتها » (Saussure, 1995 : 317) ، وهذا ما ذهب إليه لسانيون آخرون من أمثال : بلومفيلد (Bloomfield) ويلمسلاف(Hjelmslav)؛ إذ حصروا دراستهم للّغة في مجال محدَّد ومغلق؛ فأساس هذه المقاربة اللّسانية إذن هو إهمال المُكوِّن الاجتماعي في دراسة اللّغة، وهذا ما عارضه روّاد اللّسانيات الاجتماعية باعتبار « أنّ اللّغات لا توجد دون المتكلِّمين بها، وتاريخها هو تاريخهم أيضًا » كما يقول لويس جون كالفي (Calvet, 2013 : 3)؛ ونجد مثل هذه الآراء حتى عند أنطوان ميي (Antoine Meillet) الذي كان في بداية نشاطه من أتباع دي سوسور، إلاّ أنّه أصبح يرى أنّ اللّغة ينبغي أن تُدرَس على أنها نظامًا وفعلا اجتماعيًّا أيضًا؛ ويقول في هذا الشأن :« ... باعتبار أنّ اللّغة هي فعل اجتماعي فإنّ اللّسانيات هي علم اجتماعي، والمُتغيّر الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في دراسة التغيّر اللّساني هو التغيّر الاجتماعي » (Meillet, 1982 : 4) ؛ حيث ركّزت اللّسانيات الاجتماعية على الطّابع الاستقرائي الميداني، متجاوزة بذلك مثالية اللّسانيات البنوية والتّوليدية التي تعتمد على الاستنباط والطابع الافتراضي المجرّد.

وبالتالي كان هناك صراع بين مقاربتين للّغة : مقاربة لسانية بنوية ومقاربة لسانية اجتماعية ولّدتا بدورهما تيّاريْن في مجال الدّراسات اللّسانية :

  • تيّار يدرس الجانب التّركيبي والفونيمي للّغة.

  • تيار يهتم بالإطار الاجتماعي للّغة وفق معايير تختلف حسب الفئات الاجتماعية. (Calvet, 2013 : 4)

وقد أسهمت الدّراسات الأنجلفونية (أي المكتوبة بالإنجليزية) كثيرًا بالتّعريف بالمقاربة اللّسانية الاجتماعية؛ بدءًا بكتابات بازيل برنشتاين (Basil Bernstein) المُتخصّص في علم الاجتماع التربوي، ومرورًا بـوليام برايت (William Bright) الذي كان له الفضل في عقد أوّل ندوة عالمية مُخصّصة حصريًا للّسانيات الاجتماعية بلوس أنجلس الأمريكية بين 11 و13 ماي 1964، حاول من خلالها تنسيق آراء الباحثين في هذا المجال، مع وضع تصوّر لِما ستكون عليه الدراسات اللّسانية الاجتماعية مستقبلاً باعتبارها ملتقى لعدّة تخصّصات على غرار اللّسانيات وعلم الاجتماع والأنثربولوجيا (Bright, 1966 :15) .

وصولاً إلى وليام لابوف (William Labov) الذي أرسى دعائم هذا التخصّص باعتباره علمًا قائمًا بذاته ضمن العلوم اللّغوية؛ وحدّد موضوعه على النّحو الآتي :

« بالنسبة إلينا فإنّ موضوع دراستنا هو بنية الكلام وتطوّره ضمن السياق الاجتماعي المشكَّل من قِبل المجموعة اللّغوية؛ فالموضوعات المعنيّة بالدراسة تتعلّق بما يُعرف عادة (باللّسانيات العامة) : الفونولوجيا والصّرف والتّركيب وعلم الدلالة...، ولولا الحاجة للفصل بين هذا العمل والدّراسات الأخرى التي تعزل اللّغة عن السياق الاجتماعي؛ لقُلْت بكل بساطة أنّ الأمر يتعلّق باللّسانيات ». (Labov, 1976 :258)

فيما تعود أولى اهتمامات المدرسة البنوية الوظيفية الفرنسية بهذا التوجّه الجديد في الدّراسات اللّسانية، إلى أعمال رائدها أندري مارتيني (André Martinet) الذي أشرف سنة 1953 على أطروحـة أوريال وينريش (Uriel Weinrich) تلميذ وليام لابوف، ووضع ديباجة كتابه المستوحى من هذه الأطروحة والموسوم بـ : (Language in contact findings and problems) الذي أضحى من أهم النّصوص المؤسِّسة للّسانيات الاجتماعية؛ وإن لم يُشِر أندري مارتيني في كتاباته صراحة إلى وجود علم مستقلّ عن اللّسانيات يُعرف باللّسانيات الاجتماعية، إلاّ أنّه تحدّث عن العوامل الخارجية التي تؤثّر في تطوّر اللّغة ونموّها بشكل خاص في كتابه : (Économie des changements phonétiques : traité de phonologie diachronique)الصّادر سنة 1955، كما كرّس بعض تلاميذ أندري مارتيني هذا الاهتمام بالبعد الاجتماعي للّغة؛ وعلى رأس هؤلاء لويس جون كالفي (Louis-jean Calvet) الذي أسّس لاحقًا مخبر اللّسانيات الاجتماعية بجامعة روني ديكارت (René Descartes) بفرنسا، وكان يدير أيضًا مجلّة (Plurilinguisme)، وأصبحت أعماله ذات سمعة عالمية في مجال اللّسانيات الاجتماعية. (Coyos, 2007-2008 : 195-199)

شكّلت مرحلة السبعينات من القرن العشرين إذن منعرجًا حاسمًا في مجال الدّراسات اللّغوية الاجتماعية؛ حيث ظهرت عدّة كتابات تهتم بهذا المجال؛ من بينها : (Calvet, 2013 : 15-16)Pier Paolo Giglioli, Language and social context , Harmondsworth, Midd., Penguin Books, Angleterre, 1972.

والكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات لعدّة لسانيين من رواد اللّسانيات الاجتماعية الناشئة؛ من أمثال : (William Labov) و(Joshua Fishman) و(Erving Goffman) و(Basil Berstein)... وغيرهم.

J.B Pride et Janet Holmes, Sociolinguistics, Harmondsworth, Midd., Penguin Books, Angleterre, 1972.

تضمّن هذا الكتاب أيضًا إسهامات العديد من اللّسانيين في هذا التخصّص الحديث النشأة آنذاك.

Peter Trudgill, Sociolinguistics an introduction, Harmondsworth, Midd., Penguin Books, Angleterre, 1974.

قدم مؤلِّف الكتاب نظرة عامّة عن هذا التخصّص من خلال ذكره لبعض الأمثلة من التحقيقات الميدانية.

كما ظهر في السنة نفسها بفرنسا مؤلَّف :Jean-Baptiste Marcellesi, Bernard Gardin, Introduction à la sociolinguistique, la linguistique sociale, Paris, Larousse, 1974.

حيث أرسى هذا الكتاب قواعد المدرسة اللّسانية الاجتماعية الفرنسية والأوروبية عامّة المبنية على مقاربة ماركسية (ماديّة) للّغة (Esperet, 1987 : 339-340)؛ تُحدَّد فيها فئات المتكلِّمين من خلال العلاقات الاجتماعية وموضع الفرد فيها، وتضمّن الكتاب أيضًا نظرة عامّة عن مختلف النّظريات المتعلّقة بالبعد الاجتماعي للّغة.

كما ظهرت في الفترة نفسها أولى المجلاّت التي تهتم باللّسانيات الاجتماعية؛ ومنها :Language in society

حيث صدر أولّ عدد منها بداية من سنة 1974، وفي السنة نفسها صدر أوّل عدد أيضًا من مجلّة : International Journal of the Sociology of Language.

يتجلى ممّا سلف أنّ اللّسانيات الاجتماعية شهدت تطوّرًا تدريجيًّا بدءًا بمنتصف سبعينات القرن العشرين من خلال إسهامات اللّسانيين سواء في أمريكا الشّمالية أو في أوروبا وفي فرنسا تحديدًا، لتعرف نوعًا من النّضج في تسعينات القرن نفسه، لتثبت نفسها في بداية هذه الألفية الثالثة باعتبارها تخصّصًا لغوّيًا تتقاطع فيه عدّة تخصّصات أخرى أبرزها علم الاجتماع. (Blanchet, 2011 : 13-16)

2. موضوع اللّسانيات الاجتماعية وأهدافها

عرّف المعجم الموحّد لمصطلحات اللّسانيات في طبعة 2002 « اللّسانيات الاجتماعية » على النّحو الآتي : « فرع من اللّسانيات يُعنى بدراسة اللّغة من حيث وظائفها ودلالاتها الاجتماعية كما ينكبّ على رصد التغيير المشترك بين الظّواهر اللّغوية والاجتماعية، بالتّالي تأسيس العلاقة بينهما مثل علاقة الأثر بالسّبب » ( مكتب تنسيق التّعريب، 2002: 137).

تهتم اللسانيات الاجتماعية إذن بدراسة اللّغة ضمن إطارها الاجتماعي؛ فهي تسعى حسب مارسيلزي إلى « إعادة إدماج دراسة اللّغة ضمن سياقها الاجتماعي » (Marcelles, 1980) ، فموضوعها الأساسي هو وصف التّنوع اللّغوي حسب المتغيّرات الاجتماعية (Bright, 1966 :11-12)؛ كما تُعنى بتحليل ذلك التّباين الموجود في توظيف اللّغة من قِبل المتكلِّمين بها في المجتمع الواحد أو في مجتمعات مختلفة، والذي يتجلى من خلال المستويات اللّغوية المُستعملة في عملية التّواصل بين أفراد المجتمع، وتتطلّب دراسة هذه المستويات اللّغوية الاهتمام بالبيئة الاجتماعية للفرد : العائلة، المدرسة، مجموعة العمل...التي تشكّل الشخصيات اللّغوية على حد قول فرانسوا غودان (Gaudin, 2003 : 177).

ثمّ إنّ « اللّغة استعمالات متنوّعة : فهي وسيلة تعبير اجتماعي، علمي، سياسي واقتصادي، ممّا يحتّم دراسة هذه الاستعمالات المختلفة ومعرفة أبعاد التكيّف اللّغوي مع مختلف الأغراض والمواقف » (لطفي، ط1، 1976 : 44)، كما « تبحث اللّسانيات الاجتماعية عن آثار البُنى الاجتماعية في الممارسات اللّغوية » (Hermans, 2004 : 28)؛ والتي تتجلّى من خلال مجموعة من المتغيّرات اللّغوية عند الاستعمال الفعلي للّغة في الواقع اليومي، ومردّ ذلك إلى مجموعة من العوامل :

  • العامل الزمني أو التاريخي (عامل السّن) : حيث أنّ الانتماء إلى شريحة سِنّية (عُمرية) معيّنة يعكس الاختلاف اللّغوي؛ فهناك مثلاً لغة خاصة بالشباب وأخرى بالكهول أو الشيوخ.

  • العامل الجغرافي : يعود هذا العامل إلى البيئة أو الوسط الذي ينحدر منه المتكلم؛ حيث تظهر اختلافات في الاستعمال حسب المناطق والجهات، على غرار الاختلافات المُسجّلة بين ساكني الوسط الريفي والوسط الحضري.

  • العامل الاجتماعي : يتعلّق هذا العامل بانتماء المتكلّم إلى وسط اجتماعي أو ثقافي معيّن؛ وما ينتج عن ذلك من اختلافات لغوية؛ حيث نجد اللّغة الشعبية، ولغة الوسط الراقي (البورجوازي) وغيرها.

  • عامل الجنس : فهناك اختلاف في توظيف اللّغة بين الرجل والمرأة؛ التي تكون عادة أكثر حرصًا من الرجل على استعمال الأساليب الراقية.

  • عامل السّياق : يرتبط هذا العامل بوضعيات الكلام وظروفه (المكان، الزمان، وضعية المتكلِّمين والمخاطَبين، الهدف من التّخاطب...) ممّا يُنتِج مستويات مختلفة من الخطاب (Hupet).

يتبيّن إذن أنّ الدّراسات اللّغوية اكتسبت مع اللّسانيات الاجتماعية طابعًا عمليًّا؛ حتى وصفها جوسيان بوتي بكونها لسانيات ميدان (Boutet, 1994 : 2-3)، وقد انتقلت هذه المقاربة إلى مجال الدراسات المصطلحية حيث انبثقت عنها المصطلحية الاجتماعية.

3. علم المصطلح الاجتماعي

1.3. لبعد الاجتماعي للعمل المصطلحي وتبسيط الخطاب العلمي لتعميم المعرفة 

إنّ « نشر المعرفة وتعميمها يعتبر مُكوِّنًا ضروريًّا لكلِّ نشاط علمي » كما يقول كاهان (Kahane, 1989 : 60) ؛ إذ ينبغي أن لا يكون الميدان العلمي منغلقًا على نفسه، بل متفتِّحًا على المجتمع الذي يعيش فيه رواد هذا الميدان؛ وبذلك تزول الهوّة بين العلماء والعامّة أو القرّاء العاديين وتُدحض فكرة احتكار العلماء للعلم والمعرفة دون سواهم (Hermans, 2004 : 38)؛ ولا يتأتّى ذلك إلاّ من خلال تبسيط الخطاب العلمي بإعادة صياغة المضامين العلمية ومصطلحاتها بما يتماشى مع مستويات الفئات المستهدفة من هذه العملية (Gaudin, 2003, : 9)؛ باعتبار أنّ التّعميم العلمي هو « ترجمة الخطاب العلمي بخطاب أقلّ علمية منه... » (Gaudin, 2003 : 107)، وترتبط خصوصية إعادة الصّياغة هذه أساسًا بالدّور الاجتماعي لخطاب التّعميم العلمي، وإن كانت المسألة خلافية بين المختصين في خطاب التّعميم وتقتضي مقاربة لسانية اجتماعية؛ حيث يدعو دانيال جاكوبي (Daniel Jacobi) إلى إعادة صياغة الخطاب العلمي الموجَّه للتّعميم، بينما تعتقد ماري فرانسواز مورتوري (Marie Françoise Mortureux ) أنّ هذه العملية هي مُعتمدَة أصلاً في الخطاب العلمي الأوّلي والخطاب التّعليمي (Jacobi, 1986 : 101-102 ; Mortureux, 1988 : 137-138)، فيما يرى جان مارك كوليتا من جهته أنّه « من المُستحسن أن يُكيِّف المهنيون القانونيون والتربويون خطابهم الموجّه للعامة » (Boulanger, 1995 : 202)، وهذا ما ذهب إليه ليونيل سالم حين قال : « إنّه يمكن كتابة العلوم الحديثة باللّغة العامّة المألوفة؛ أمّا ما تعلّق بالجزئيات الأساسية فقد امتنعتُ عن استعمال أيّ مصطلح علمي، وفضّلتُ استعمال مقابلاتها في اللّغة العامة » (Salem, 1979 : IX)، كما يرى ألان راي أنّ « نشر المعارف ونقلها إلى العامة يقتضي استحداث مصطلحات متناسقة ومقبولة لدى هؤلاء المستعملين » (Rey, 1979 : 56)؛ وهي طريقة فعّالة لشدّ انتباه القارئ العادي الذي عادةً ما ينفر من المصطلحات المعقّدة وبالتّالي من الخطاب العلمي المُتضمِّن لمثل هذه المصطلحات فلا تحصل الفائدة المتوخاة من التّعميم المعرفي.

إنّ صياغة المصطلح الموجّه للتّعميم العلمي هي إذن ذات أهمية قصوى، وتعتمد هذه الطريقة أساسًا على الشرح وذكر المرادفات الأكثر شيوعًا؛ فكأنّ كاتب خطاب التّعميم يفك شفرة الخطاب العلمي المحض من خلال تبسيطه؛ وهنا قد يلجأ مثلاً إلى تذييل المقال العلمي بمقابلات مألوفة للمصطلحات المستعملة في هذا المقال أو تقديم شروحات مقتضبة لها، حتى يتسنّى للقارئ العادي استيعاب المقال وفهمه؛ ويمثّل جاكوبي لذلك بما يلي :

  • « قلة تركيز السكر في الدّم » أو (Glucopénie).

  • « استئصال الغدة السعترية » (La thymectomie).

  • هذه الآلية هي (Lipostatique) أي « أنّها تعمل على الحفاظ على نسبة مخزون الدهون ». (Jacobi, 1986 : 39)

يعتمد المُعمِّم (Le vulgarisateur) في الغالب على الكتابة لنشر المعارف، ويمكنه أن يلجأ إلى الصوّر والمخطّطات وكلّ ما من شأنه أن يوضِّح الأفكار ويفسِّرها؛ فالقارئ عادة ما يتعامل مع الكتابات فقط، إذ أنّه لا يكون في مُدرَّج أو مخبر مع أستاذ يشرح له؛ لذا ينبغي أن تكون هذه الكتابات في أوضح صورة ممكنة؛ إذ أنّ الكاتب مُلزم بتجنّب المصطلحات العلمية الغامضة قدر المستطاع كونه يخاطب قراء لا يملكون الثقافة نفسها التي يملكها أمثاله من المختصين؛ لذا عليه أن يأخذ بيد القارئ للحصول على المعارف بأبسط الأساليب بتوظيف الكلمات المناسبة (Gaudin, 2003 : 125-126).

لكن كيف يمكن لكاتب نص التّعميم أن يجمع بين إدراج الألفاظ المألوفة لدى القارئ العادي، وتوظيف المصطلحات العلمية في مواضع معيّنة حتّى يحافظ على مصداقية النص أو علميته؟

قد تباينت آراء المشتغلين في مجال التّعميم العلمي والمعرفي في هذا الشأن؛ حيث يرى بيار لازلو أنّه يُسمَح لكاتب خطاب التّعميم العلمي أن يُدعِّم نصّه ببعض المصطلحات (الألفاظ النادرة)؛ لأنّ القارئ –حسبه- سيكون « سعيدًا » بإثراء معارفه (Laszlo, 1993 : 68)من خلال هذه المصطلحات التي قد يتبنّاها ويوظّفها في خطابه اليومي؛ في حين يعتقد فرانسوا غودان (François Gaudin) أنّ هذا هو أصل المعضلة فهذه « الألفاظ النادرة » –كما سمّاها- هي التي يوظّفها المُعمِّم في خطاباته العادية، لكنّ هذه الألفاظ ذاتها هي بمثابة طلاسم بالنسبة للقارئ العادي (Gaudin, 2003 :129)؛ فعلى كاتب نص التّعميم أن يتمتع بالقدرة على الجمع بين توظيف قدر معيّن من المصطلحات التي هي عماد نقل المعارف ونشرها والاستعانة بالألفاظ المألوفة؛ لأنّ الأمر هنا لا يتعلّق بخطاب حجّة علمية، بل يتعلّق بخطاب لتسهيل الحصول على المعارف، وهذا ما يقتضي أيضًا كفاءة مزدوجة في الميدان اللّغوي وفي الميدان العلمي المعني بالدراسة.

كما أنّ هناك إشكالية أخرى متعلّقة بكيفية الجمع بين عملية التقييس المصطلحي وإشاعة المعارف وتعميمها؛ فالتّقييس يقتضي وضع مصطلحات موحّدة ومتفّق عليها لتحقيق التّواصل بين أهل الاختصاص الواحد وبالأخص أصحاب المهن والأعمال الخطرة نظرًا لخصوصيتها؛ حيث ينبغي أن يكون التّخاطب على هذا المستوى باللّغة المهنية نفسها، ولا يتأتّى ذلك إلاّ باعتماد مصطلحات موحّدة تشكّل أساس العقد المهني بين هؤلاء المختصين. (Gaudin, 2003 : 8)

في حين أنّ إشاعة المعارف تتطلّب إعادة صياغة هذه المصطلحات؛ فهناك صراع دائم بين التقييس الذي يُقيِّد اللّغة بمجموعة من المعايير الواجب احترامها، وبين الثّقافة التي تقتضي بالضرورة التّنوّع؛ فنجاح معايير التّقييس مرهون إذن بتوافق الرؤى بين اللّسانيين المعياريين والمستعملين، لكنّ ذلك نادرًا ما يحدث؛ كون الإلزام المفروض من قِبل المُـقيِّسـين (Les normalisateurs) لا يمكنه مجابهة القوى اللّسانية الاجتماعية في الكلام العفوي؛ فقد اكتشف المصطلحيون في كيبك مثلاً عند شروعهم في سياسة التّهيئة اللّغوية لرد الاعتبار للّغة الفرنسية أنّ فرض مصطلح معيّن على الأفراد لن يجدي نفعًا، حيث اقتنعوا في النّهاية أنّ الاستعمال هو الفيصل، فأصبحوا يعتمدون بعض المصطلحات التي يُنتجها الاستعمال بدل تلك التي كانوا يفرضونها تسهيلاً لعملية التّواصل (Gaudin, 2007 : 28)؛ لذا يجب التّعامل مع مبدأ التقييس بشيء من اللّيونة للحفاظ على توازن الخطاب العلمي وضمان التواصل المعرفي على حدّ قول جون كلود بولونجي (Boulanger, Une lecture socioculturelle de la terminologie, 1991 : 25-26)، وهذا ما أشار إليه أيضًا فرانسوا غودان إذ اعتبر أنّ « إلزام المستعملين بتوظيف مصطلح معيّن قد لا ينجح وبخاصّة إذا كان غريبًا ومنفِّرًا؛ لذلك ينبغي التّفكير في اقتراح مصطلحات مناسبة وتشجيع المستعمل على توظيفها من خلال عمليات التّعميم العلمي، وهذا ما من شأنه أن يجعل هذه المصطلحات تنغرس وسط المستعملين » (Gaudin, 2003 : 203).

في حين يرى كلّ من لويس غسبان (Louis Guespin) وفؤاد لعروسي (Fouad Laroussi) في هذا الشأن أنّ « هناك ضرورة لوجود سياسة مصطلحية للحدّ من فوضى المصطلح، مع احترام إمكانية التغيّر اللّغوي، وإلاّ انتهى بنا المطاف إلى لغة عقيمة، أي عاجزة عن القيام بالمهام المنوطة بها في مجال استحداث المعلومة ونقلها وتطويرها » (Laroussi, 1989, : 7)، بينما يعتقد فرانسوا غودان أنّ هناك بالفعل تسميات مقنّنة لا تقبل التغيير؛ وبخاصّة ما تعلّق منها بالأمن والسلامة؛ حيث ينبغي حسبه أن نَعرف تمام المعرفة ما تعنيه المصطلحات التّالية مثلاً : « مسدس إنذار » (Pistolet d’alarme)، و« غاز خامل » (Gaz inerte) و« ملوِّن غذائي » (Colorant alimentaire)؛ لكنّه يرى في المقابل أنّ نقل المعارف وحركية العلم وفتح باب النقاش بشأن المسائل العلمية والتّقنية، لا يكون إلاّ من خلال تنوّع طرائق تسمية المصطلحات التي يصعب استيعابها من قِبل العامة؛ وتسمية « مرض البقرة المجنونة » بدل التسمية العلمية : « التهاب الدّماغ الاسفنجي البقري » خير مثال على ذلك؛ حيث مكّنت هذه التّسمية من التواصل مع الجمهور الواسع بشأن هذا المرض. (Gaudin, 2003 : 179-780)

بالتّالي يمكن تجاوز المبدأ الأساسي في المصطلحية الكلاسيكية المتعلّق بأحادية الدّلالة (دلالة المصطلح الواحد على المفهوم الواحد) بحكم ما يقتضيه التّعميم المعرفي؛ وذلك باستبدال المصطلح العلمي الدقيق بمصطلح آخر يسهل تداوله بين المستعملين وبخاصّة ما تعلّق بالمستحدثات التّقنية أو الوقاية الصّحية وغيرها.

2.3. نشأة المصطلحية الاجتماعية

ظهر ابتداءً من سبعينات القرن العشرين توجّه جديد في مجال المصطلحية يسعى إلى إعادة صياغة النظرية الكلاسيكية من خلال نظرة نقدية تأثّرت بعمليات التّهيئة اللّغوية التي عرفتها البلدان المزدوجة اللّغة (كندا، بلجيكا، سويسرا...) في تلك الفترة؛ فخلال ملتقى خاص بالتّعريف المصطلحي سنة 1975 في كيبك تحديدًا كان الحديث لأوّل مرّة عن تأثير الجانب الاجتماعي في الدّراسات المصطلحية وفي تعريفها بشكل خاص (Desmet, 2007 :5)، وقد كان اللّغويون في كيبك عامّة يشيرون إلى أهمية التّوليد والتّهيئة اللّغوية في تطوّر المصطلحية ضمن إطار اجتماعي؛ كون أي سياسة لصياغة المصطلحات ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار المعيار الاجتماعي؛ وهذا ما ذهب إليه لويس غيلبر (Louis Guilbert) أيضًا حين قال إنّه : « لا يمكن فصل المصطلح العلمي والتّقني عن وظيفته الاجتماعية، وعن شخصية المتلقّي ». (Guilber, 1973 :13)

كمـا تحـدّث ألان راي فـي كثير مـن المواضـع فـي كتـابـه :

(Terminologie : Noms et Notions) عن الطّابع الاجتماعي للدّراسات المصطلحية؛ فهو يشير مثلاً إلى ضرورة أخذ البعد الاجتماعي بعين الاعتبار عند وضع المصطلحات، بحكم أنّ لكلّ مجتمع – بل لكلّ فرد من هذا المجتمع- خصوصياته التي تحدّد حاجاته المصطلحية بالنظر إلى مجموعة من العوامل اللّسانية الاجتماعية، التي تساهم بدورها في تلبية هذه الحاجات من خلال الاعتماد على طرائق معيّنة في صياغة المصطلحات من نقل واقتراض ومجاز... (Rey, 1979 : 65-68)

وأشار في موضع آخر إلى دور السّلطة الاجتماعية في قبول المصطلح الذي تفرضه هيئات التّقييس أو رفضه؛ ما جعله يميل إلى الاحتكام إلى الاستعمال أو المستوى التّـداولي واللّساني الاجتماعي في تحليل المصطلحات ودراستها (Rey, 1979 : 76 et 98)، كما اعتبر أنّ المجال الحقيقي للمصطلحية هو التّهيئة اللّغوية الاجتماعية والثّقافية في إطار تبادل المعلومات. (Rey, 1979 : 123)

قد مهّدت هذه الإرهاصات لزوال الحواجز بين الممارسة المصطلحية والدّراسات اللّغوية عمومًا، وكان من البديهي أن تندمج اللّسانيات الاجتماعية مع المصطلحية لتشكيل المصطلحية الاجتماعية استجابة لتلك المتطلّبات؛ لتظهر مع بداية ثمانينات القرن العشرين أولى المقاربات التي تؤسِّس لهذه المدرسة المصطلحية الجديدة؛ حيث استُعمِل لفظ « المصطلحية الاجتماعية » (Socioterminologie) لأوّل مرّة من قِبل اللّغوي الكندي جون كلود بولونجي (Jean claude Boulanger) سنة 1981 في عرضه لمؤلَّف لجون كلود كورباي (Jean claude Corbeil)، وقد تمّ توظيف المصطلح حسب بولونجي لتحديد العلاقات البينية في المراحل التي تُميّز التّهيئة اللّغوية عند نقل المصطلحات الأجنبيّة إلى لغة معيّنة.(Gaudin, 1994 : 7) et (Boulanger, 1991 : 15)

أمّا في فرنسا فقد ظهرت بوادر المصطلحية الاجتماعية مع بداية الاهتمام بالخطاب المهني الاجتماعي وتزامنًا مع الأعمال المتعلّقة بالتهيئة اللّغوية؛ حيث ركّزت هذه الأعمال والدّراسات أساسًا على الجوانب اللّغوية الاجتماعية والتّداولية للُغات التّخصّص، وذلك على يد تلاميذ لويس غيلبر (Louis Guilbert) الذي أسّس مخبر روان (Rouen) المختص في الدّراسات اللّغوية الاجتماعية، ثمّ إيف غامبي(Ive Gambier) الذي تابع أعمال سالفيه وطوّرها، وصولاً إلى لويس غاسبن (Louis Guespin) وفرانسوا غودان (François Gaudin) ومساعديهم الذين وقّعوا ميلاد هذا التخصّص من الدّراسات اللّسانية، وأعطوا بعدًا عمليًّا للمصطلحية الاجتماعية .(Boulanger, 1995 : 197) (Desmet, 2007 : 7) (Gaudin, 2005 : 82)

وتجدر الإشارة هنا أنّ إيف غامبي (Ive Gambier) كان صاحب أوّل مداخلة جادة في مجال المصطلحية الاجتماعية؛ وهي موسومة بـ « المشاكل المصطلحية للأمطار الحمضية : نحو مصطلحية اجتماعية » : (Problèmes terminologiques des « pluies acides » : vers une socio-terminologie) (Gambier, 1987 : 314-320) ، وكان ذلك في ملتقى في باريس سنة 1986 خُصّص « للتّوليد المصطلحي في اللّغات الرّومانية »؛ حيث ألّح على ضرورة الاعتراف بالمصطلحية الاجتماعية بمثابة علم قائم بذاته.

أمّا في كندا فقد تطوّرت الدّراسات المصطلحية الاجتماعية على يد مجموعة من اللّسانيين أبرزهم بيار أوجر (Pierre Auger)، وجون كلود بولونجي (Jean Claude Boulanger)، وجون كلود كورباي (Jean Claude Corbeil) الذين أثْرَوْا من خلال أعمالهم هذا التّخصّص الحديث النشأة، وقد ساعدهم في ذلك وجود بيئة اجتماعية ملائمة. (Gaudin, 2005 : 82)

كما عرفت فترة التسعينات من القرن العشرين ظهور عدّة مؤلّفات في هذا المجال؛ أهمّها1 .

نشأت المصطلحية الاجتماعية إذن استجابة لطلب اجتماعي ملحٍّ وللتّساؤلات التي واكبت التّطوّر العلمي والتّكنولوجي؛ فبعد فترة الإرهاصات في السّبعينات، ظهرت بوادر العمل المصطلحي الاجتماعي مع بداية الثّمانينات من القرن العشرين؛ حيث أُعيد النّظر في بعض مُسلَّمات النّظرية المصطلحية الكلاسيكية، فأصبح الدّارسون المصطلحيون يولون أهمية قصوى للاستعمال الفعلي للمصطلح في الخطاب العلمي، وأعيد الاعتبار أيضًا للبعد التّاريخي في الدراسات المصطلحية؛ ما أفضى بدوره إلى إعادة النظر في أحادية دلالة المصطلح الواحد والاعتراف ضمنيًّا بإمكانية الترادف المصطلحي (Boulanger, 1995 :196)، ولم تعد المصطلحات مجرّد مقابلات للمفاهيم العلمية والمعرفية؛ باعتبارها مرتبطة أيضًا بالممارسات الاجتماعية وبالخطاب الذي توظَّف فيه وبالجانب التّداولي، بل إنّها متعلّقة كذلك بالصّراعات الاجتماعية والمنافسة الاقتصادية كما يقول فرانسوا غودان. (Gaudin, 1994 : 9)

من بين أهم الانتقادات الموجّهة للمدرسة المصطلحية الكلاسيكية ضرورة إعادة النظر في مبدأ أحادية الدّلالة؛ فقد كان الهدف الأساسي للمصطلحية الكلاسيكية هو التّـقييس أي توحيد المصطلح؛ إذ كانت لا تعترف بتعدّد معاني المصطلح الواحد؛ بحيث يُنطلق من المفهوم ثمّ يُقترح لفظ واحد يدلّ عليه، فلا مجال للتّـرادف هنا ولا يمكن الحديث عن الجانب السّياقي للمصطلح (Desmet, 2007 : 4)؛ في حين يعتقد ألان راي أنّه لا يمكن عمليًّا احترام هذا المبدأ في كل الحالات؛ باعتبار أنّ دلالة بعض المصطلحات تتغيّر حسب المجال المعني بالدراسة وحسب السّياق التي ترد فيه هذه المصطلحات. (Rey, 1979 :72)

وما يُؤخذ على هذه المدرسة أيضًا تركيزها على العامل اللّغوي فقط؛ في حين أنّه لا يُعتدّ بهذا العامل في كل الحالات؛ حيث « إن كان من الطّبيعي أن لا ينغرس -في الاستعمال- مصطلح سيء البنية، قد يُكتب في المقابل لمصطلح ذي بنية صرفية مشوّهة البقاء والانتشار » كما يقول فيليب توارون (Philippe Thoiron, 1997, : 16).

ويرى جون كلود بولونجي في هذا الشّأن أنّ تركيز المصطلحية الكلاسيكية على اللّفظ في حد ذاته (أي الأشكال المعجمية) جعلها تبدو وكأنّها امتداد لصناعة المعاجم لا غير؛ حيث كان الاهتمام منصبًّا على استنباط المصطلحات من النّصوص العلمية والتّقنية خصوصًا، ثمّ وضع معاجم متخصّصة انطلاقًا من هذه المصطلحات مع الحرص على تقييسها؛ فقد كان هناك تهميش واضح لمستعملي هذه المصطلحات ودورهم في صناعة الخطاب الذي يحويها. (Boulanger, 1995 : 195)

بالتّالي فأهم النّقائص المسجّلة في النظرية المصطلحية الكلاسيكية هو تركيزها على المصطلح بشكل معزول وتجريده من كل طابع اجتماعي، فهناك إهمال للجانب التّداولي، في حين أنّ المصطلحات قد تتغيّر حسب طبيعة المتلقّين الذين يمثّلون فئات مهنية واجتماعية مختلفة وحسب حالات الخطاب، فضلاً عن اختزالها عملية اكتساب المعارف في وضع تسميات (مصطلحات) لجملة من المعارف وفقًا لقواعد التّقييس؛ في حين أن هذا التّقييس ذاته أحدث صراعًا بين الخطاب العلمي المعياري الذي يحوي هذه المصطلحات، واللّغة التي يستعملها أفراد المجتمع باعتباره مجالاً للممارسة اللّغوية الفعلية التي قد يُقبل من خلالها المصطلح المقترح أو يُرفض؛ فيبقى نتاج هذا التّقييس خارج مجال الخطاب اللّغوي العام.

إنّ ظهور المصطلحية الاجتماعية مردّه إذن محدودية مبادئ المصطلحية الكلاسيكية وعجزها عن مجابهة كلّ متطلّبات التّسمية وعملية التّواصل التي واكبت التّطوّر العلمي والتّكنولوجي الحاصل على حدّ تعبير فرانسوا غودان. (Gaudin, La socioterminologie : Présentation et perspectives, 1994 :14)

وقد تبنّت المصطلحية الاجتماعية مقاربة نقدية للمصطلحية الكلاسيكية المرتكزة على قواعد نظرية ومجرّدة دون النّظر إلى واقع الاستعمال؛ مع أنّ الاستعمال يُعدّ معيارًا أساسيًّا في نجاح المصطلح أو فشله، فكثير من المصطلحات بقيت حبيسة أدراج هيئات التّقييس المصطلحي أو بين دفّات المعاجم المتخصّصة (خاصّة العربية منها) ولم توظّف عمليًّا كونها لم تحظ بقبول المستعمل « الذي منحته المصطلحية الاجتماعية (رسميًّا) الحق في رفض المصطلح المعياري واعتماد خيارات أخرى » (Mayar, 2004 : 155)؛ حيث أصبح هذا المستعمل يبحث عن شرعية المصطلح قبل اعتماده، فلا يتبنى المصطلح إلاّ إذا لبّى حاجة معيّنة أو عالج مشكلة محدّدة أو استفاد من اعتماده. (Gaudin, Quelques mots sur la socioterminologie, 2007 : 33)

3.3. ماهية المصطلحية الاجتماعية

يرى أوجر (Auger) أنّ « المصطلحية الاجتماعية هي نشاط (Praxis) يرتكز على قواعد اجتماعية؛ تكرّست من خلاله القطيعة مع المصطلحية الكلاسيكية لفوستر؛ وبالتالي مع عدد كبير من الهيئات العالمية للمصطلحية التي تنفي صفة تعدّد المصطلحات أو تنوّعها » (Auger, 1999 : 24).

ووصف معجم اللّسانيات : (Dictionnaire de linguistique et des sciences du langage) المصطلحية الاجتماعية بكونها « تسعى إلى أخذ الجوانب اللّسانية بعين الاعتبار في مجال التّواصل العلمي والتّقني...؛ فهي تهتم بالمصطلح التّقني من خلال مقاربة تنطلق من الدّليل اللّغوي...كما تهتم المصطلحية الاجتماعية بممارسات الهيئات التي تعتمد على الملاحظة والتّسجيل وكذا التّقييس في دراسة الممارسات اللّغوية في المجال التكنولوجي » (Jean Dubois, 1994) .

بينما عرّفها فرانسوا غودان بكونها « الدّراسة اللّغوية الاجتماعية للمجالات المعجمية المتعلّقة بالعلوم والتّقنيات » (Gaudin, 2003 : 12)، كونها « سليلة اللّسانيات الاجتماعية... وتسعى على غرارها إلى أخذ الحقائق الاجتماعية بعين الاعتبار »، حيث استلهمت منها الأسس النظرية والمنهجية؛ « فالمصطلحية الاجتماعية حسبه = اللّسانيات الاجتماعية + المصطلحية ». (Gaudin, 1993 : 293 et 297)

فيما اعتبرها جون كلود بولونجي بمثابة الجسر الذي يتم إنجازه بين ضفتين؛ تمثّل الضّفة الأولى المصطلحية التّطبيقية كممارسة وصفية تقييسيّة، وتمثّل الضّفة الأخرى المصطلحات بكونها مصدرًا للتهيئة اللّغوية. (Boulanger, 1991 : 28)

إنّ المصطلحية الاجتماعية إجمالاً هي تخصّص لغوي تطبيقي يعتمد على دراسات ميدانية لتوظيف المصطلحات في مختلف أنواع النّصوص والخطابات التي تتفاوت في درجة تخصّصها حسب فئات المستعملين المُستهدَفة ومستوياتهم المعرفية.

4.3. المقوّمات المنهجية للدّراسات المصطلحية الاجتماعية 

تحاول المصطلحية الاجتماعية من خلال ما سلف ذكره تجاوز نقائص المصطلحية الكلاسيكية وحدودها المرتبطة أساسًا بصناعة المصطلح وتقييسه إلى مدى قبوله من قِبل المستعملين، وكذا أسباب فشله أو نجاحه في الممارسة اللّغوية والاجتماعية؛ من خلال توظيف المعايير المُعتمدَة في اللّسانيات الاجتماعية والتي تبيِّن أسباب الاختلاف اللّغوي بالنظر إلى المتكلِّم والمخاطَب ومكان التّخاطب. (Gaudin, 1993 : 216)

(Guespin, 1995 :209-210)

وتنطلق هذه المقاربة اللّسانية الاجتماعية حسب فرانسوا غودان من جملة من التّساؤلات :

  • كيفية تغيير الاستعمال؟

  • كيفية تلبية الحاجات اللّغوية الاجتماعية؟

  • كيفية اقتراح مصطلحات مقبولة؟

  • كيفية تقييم السياسات المصطلحية المعتمدة؟ (Gaudin, 2007 : 29)

لكن لا يمكن للمصطلحية الاجتماعية حاليًّا أن تكتفي بنقد النظرية المصطلحية الكلاسيكية؛ فموضوع دراستها اليوم هو حقيقة الخطاب العلمي المكوَّن من المصطلحات أي الاستعمال الفعلي لهذه المصطلحات في المجتمع؛ ويكون ذلك بإجراء مسح ميداني شامل لهذا الاستعمال؛ للوقوف على سياقات استعمال هذه المصطلحات ومقابلاتها عند المستعملين، ورصد التغيّرات التي قد تحدث على هذا المصطلح أو ذاك من النّاحية الأسلوبية أو الخطّية أو الصّرفية التّركيبية وغيرها، مع ضرورة تحليل هذه الظّواهر قصد تعليلها وتفسيرها. (إيدير، 2012، الصفحات 248-250)

خلاصة 

نخلص إلى أنّ المصطلحية الاجتماعية تسير على خطى اللّسانيات الاجتماعية في المجال اللّغوي العام؛ إذ تهتم بوصف الخطاب العلمي التواصلي وتحليله؛ ما يسمح بفهم آلية عمل المصطلحات من حيث ظهورها وانتقالها وانغراسها، فضلاً عن التّغيّرات التي قد تلحقها في مختلف وضعيات الممارسات اللّغوية الاجتماعية؛ وبالتّـالي فقد أعادت المصطلحية الاجتماعية الاعتبار للمعايير التّداولية في دراسة الخطاب المتخصّص، من حيث الاهتمام بالمتحدّث والمتلقي ودورهما في هذا الخطاب.

1 رسالة فرانسوا غودان سنة 1993، وهي موسومة بـ : « Pour une socioterminologie : Des problèmes sémantiques aux pratiques institutionnelles »إضافة إلى

Cahiers de linguistique sociale, sous le thème : « Terminologie sociolinguistique », France, N° 18, 1991., Le langage et l’homme, sous le thème : « 

مكتب تنسيق التّعريب. (2002). المعجم الموحّد لمصطلحات اللّسانيات. الرباط.

مصطفى لطفي. (ط1، 1976). اللّغة العربية في إطارها الاجتماعي. بيروت : معهد الإنماء العربي.

نصيرة إيدير. (2012). (مخبر الممارسات اللّغوية، جامعة مولود معمري، تيزي وزو، المحرر) مجلّة الممارسات اللّغوية (15).

Auger, P. (1999). L’implantation des officialismes halieutiques au Québec : essai de terminométrie. (O. d. Québec, Éd.) Langues et sociétés (37).

Blanchet, P. (2011). La sociolinguistique est-elle une « interdiscipline » ? (u. d. institut des sciences du langage et de la communication, Éd.) Revue TRANEL : De la sociolinguistique dans les sciences du langage aux sciences du langage en sociolinguistique, questions de transdisciplinarité (53).

Boulanger, J. C. ( 1991). Une lecture socioculturelle de la terminologie. (u. d. François Gaudin et Allal Assal, Éd.) « Terminologie et sociolinguistique », Cahiers de linguistique sociale (18).

Boulanger, J. C. (1995). Présentation : Images et parcours de la socioterminologie. Meta , Journal des traducteurs , 40 (2).

Boutet, J. (1994). Construire le sens. Berne, Suisse : Peter Lang, Berne.

Bright, W. (1966). Sociolinguistics proceedings of the UCLA sociolinguistics conference. Paris : La HayeMouton & Company.

Calvet, L. J. (2013). La sociolinguistique, Collection Que sais-je ? (éd. 8° édition ). Paris : presses universitaires de France (PUF).

-Coyos, J.-B. (2007-2008). sociolinguistique, politique linguistique et fonctionnalisme. (U. d. centre des Etudes Méthodologiques et Interdisciplinaires (C.E.M.I), Éd.) Revue électronique : Contextos (49-52).

Delavigne, V. (1995). Approche socioterminologique des discours du nucléaire. Meta , 40 (2).

Desmet, I. (2007). Terminologie, culture et société, pour une théorie variationniste de la terminologie et des langues de spécialité. (O. i. Belgique, Éd.) Cahiers de Rifal : terminologie, culture et société (26).

Esperet, E. (1987). « Aspects sociaux de la psychologie du langage », in Problèmes de psycholinguistique, textes rassemblé par J.A Rondal et J.P Thibaut,. Bruxelles : Pierre Mardaga Editeur.

Gambier, Y. (1987). Problèmes terminologiques des pluies acides : : pour une socio-terminologie. Meta : journal des traducteurs , 32 (3).

Gaudin, F. (1994). La socioterminologie : Présentation et perspectives. (E. p. Réseau langage et travail, Éd.) Aspects terminologiques des pratiques langagières au travail (Cahier N° 7).

Gaudin, F. (2005). La socioterminologie. Langages (157).

Gaudin, F. (1993). Pour une socioterminologie : Des problèmes sémantiques aux pratiques institutionnelles. (F. université de Rouen, Éd.) Publications de l’université de Rouen (182).

Gaudin, F. (2007). Quelques mots sur la socioterminologie. (a. d. Belgique, Éd.) Cahiers de Rifal (26).

Gaudin, F. (1993). Socioterminologie : Du signe au sens, construction d’un champ. Meta , 38 (2).

Gaudin, F. (2003). Socioterminologie : Une approche sociolinguistique de la terminologie. Bruxelles, Belgique : Editions Duculot.

Guespin, L. (1995). La circulation terminologique et les rapports entre science, technique et production. Meta ; Journal des traducteurs , 40 (2), p. 210.

Guilber, L. (1973). Spécificité du terme scientifique et technique. Langue française (17).

Hermans, A. (2004). Eléments de sociologie de la terminologie, in Terminologie et société, textes rassemblé par Caroline de Schaetzen. Paris : la maison du dictionnaire.

Hupet, M. (s.d.). http://www.academia.edu/5845375/PSP1125-Partie4bis.

Jacobi, D. (1986). Diffusion et vulgarisation, Itinéraires du texte scientifique. Paris : Les belles lettres.

Jean Dubois, J.-B. M.-P. (1994). Dictionnaire de linguistique et des sciences du langage. Paris : Larousse.

Kahane, J. P. (1989). La vulgarisation mathématique : un problème mondial. La pensée (272).

Labov, W. (1976). Sociolinguistique, traduit de l’anglais par Alain Kihm. Paris : édition de Minuit.

Larouss, L. G. (1989). Glottopolitique et standardisation terminologique. (é. CILF, Éd.) La banque des mots (numéro spécial).

Laszlo, P. (1993). La vulgarisation scientifique, PUF, « Que sais-je ? » N° 2722.

Marcelles, J.-B. (1980). De la crise de la linguistique à la crise de la sociolinguistique. (P. Institut de recherches marxistes, Éd.) La pensée (209), p. 16.

Mayar, M.-P. (2004). Perception du risque et socioterminologie, Sécurité alimentaire, in Terminologie et société, textes rassemblés par Caroline de Schaetzen. Paris : la maison du dictionnaire.

Meillet, A. (1982). Linguistique historique et linguistique générale, collection linguistique publiée par la société linguistique de Paris VIII. Paris : Slatkine Genève Champion.

Mortureux, M. F. (1988). La vulgarisation scientifique : Parole médiane ou dédoublée ? in Daniel Jacobi et Bernard Schiele, Vulgariser la science, Le procès de l’ignorance. éd. champs Vallon.

Philippe Thoiron, J. I. (1997). Méthodologie d’analyse des résultats des enquêtes d’implantation de la terminologie officielle. (A. d. Belgique, Éd.) Terminologies nouvelles (16).

Rey, A. (1979). Terminologie : Noms et Notions, Collection Que sais-je ? Paris : Presses Universitaires de France (PUF).

Salem, L. (1979). Mollecule la merveilleuse. Paris : Inter éditions.

Saussure, F. d. (1995). Cours de linguistique générale, publié par Charles Bailly et Albert Séchehaye avec la collaboration de Albert Riedlinger, Edition critique préparé par Tullio de Mauro, postface de Louis-Jean Calvet. paris : Editions Payot et Rivages.

1 رسالة فرانسوا غودان سنة 1993، وهي موسومة بـ : « Pour une socioterminologie : Des problèmes sémantiques aux pratiques institutionnelles »
إضافة إلى المؤلّفات التّالية :

Cahiers de linguistique sociale, sous le thème : « Terminologie sociolinguistique », France, N° 18, 1991., Le langage et l’homme, sous le thème : « Socioterminologie », Belgique, 1993., La revue « Meta », sous le thème : « Usages sociaux des termes : Théories et terrains », Volume 40, N° 2, Canada, 1995. Et (Boulanger, 1995 : 197) (Gaudin, 2007 :29)

عبد النور جميعي

مركز البحث العلمي والتقني لتطوير اللّغة العربية الجزائر

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article