نسق الكتابة العربية: من الواقع الإستطيقي إلى البنية الغرافية: مقاربة لسانية

Le Système de l’écriture arabe : de la réalité esthétique à la structure graphique : Approche linguistique

The Arabic Handwriting System : From aesthetic reality to the graphic structure Linguistic approach

لعبيدي بوعبدالله

للإحالة المرجعية إلى هذا المقال

بحث إلكتروني

لعبيدي بوعبدالله, « نسق الكتابة العربية: من الواقع الإستطيقي إلى البنية الغرافية: مقاربة لسانية », Aleph [على الإنترنت], 9 (1) | 2022, نشر في الإنترنت 06 mai 2022, تاريخ الاطلاع 24 novembre 2024. URL : https://aleph.edinum.org/5556

تهـدف الدراسـة - فـي مقاربـة لسـانية - إلـى تنـاول مقولـة الكتابـة العربيـة ببعديهـا الجمالـي واللسـاني، فيبـرز الأول فـي سـماتها الجماليـة والثقافيـة المتميـزة، ضمـن مجموعـة مـن المقـولات التـي تحقـق مفهومـي المتعـة والتناغـم. ويظهـر الثانـي فـي طبيعـة الخصائـص النسـقية التـي تضبـط بنيتهـا الغرافيـة؛ لتحقيـق وظائـف لسـانية تواصليـة؛ وجماليـة فنية.
وقـد خلـص البحـث إلـى أن الكتابـة العربيـة - بمـا أتيـح لهـا مـن إمكانـات ابسـتيمولوجية - نتجـت عـن رواسـب الممارسـات الإسـتطيقية. التـي أمدتهـا بشـحنات اسـتطيقية لا يمكنهـا أن تضمحـلّ.

وقـد جمـع البحـث بيـن المقـولات الجماليـة واللسـانية والاسـتطيقية؛ بمـا سـمح بوصـل مجـال اللسـانيات بالقضايـا الفنيـة والتاريخيـة؛ وهـو مـا ينـدرج ضمـن اللسـانيات الثقافيـة

L'étude vise à aborder - dans une approche linguistique - l'écriture manuscrite arabe dans ses dimensions esthétique et linguistique. La première dimension est mise en évidence dans ses caractéristiques esthétiques et culturelles distinctives au sein d'un ensemble de propositions qui réalisent les concepts de plaisir et d'harmonie. La deuxième dimension apparaît dans la nature des motifs qui contrôlent sa structure graphique, pour réaliser des fonctions linguistiques/communicatives et esthétiques/artistiques.

La recherche a conclu que la Handwrinting arabe avec son potentiel épistémologique a résulté des dépôts de pratiques esthétiques, qui lui ont fourni des expéditions esthétiques qui ne peuvent pas être décomposées.

La recherche combine entre les concepts linguistiques et esthétiques, permettant ainsi la connexion du champ linguistique aux questions artistiques et historiques, ce que nous appelons la linguistique culturelle.

The study aims at addressing - in linguistic approach- the Arabic Handwrinting in its aesthetic and linguistic dimensions. The first dimension is highlighted in its distinctive aesthetic and cultural features within a set of propositions that achieve the concepts of pleasure and harmony. The second dimension appears in the nature of the patterns that control its graphical structure, to achieve linguistic/ communical and aesthetic/ artistic functions.
The research concluded that the Arabic Handwrinting with its epistemological potential resulted from the deposits of aesthetic practices, which supplied it with aesthetic shipments that could not be decomposed.
The research combines between linguistic and aesthetic concepts, thus allowing the connection of linguistic field to artistic and historical issues, which is what we refer to as cultural linguistics.

مقدمة

لا شك أن طبيعة التناول الفني والتاريخي لظاهرة الكتابة العربية وما أفرزه من اعتبارات تصبُّ في الجانب الأثري والجمالي التقليدي تسِمُ هذه الظاهرة بسمات النمطية والمعيارية والتاريخانية. وهي كلها اعتبارات ثارت عليها الدراسات العلمية الحديثة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، من خلال الدراسات التي تناولت اللغة - بمختلف عناصرها - كموضوع قابل للوصف والتفسير والتحليل بموضوعية تؤول - في الغالب - إلى المطلق؛ من خلال عبارة دي سوسير الشهيرة : « ... في ذاتها ولذاتها ».

وأيًّا كانت النزعة التي تناولت الظاهرة : بنيوية، أو وظيفية، أو نسَقية، أو سلوكية، أو معرفية، أو غيرها؛ فالمؤكد أنها استطاعت إبراز الموضوع بجلاء. وتحديد المنهج أو المناهج المناسبة؛ للكشف عن ماهية السجل المفهومي؛ وبلوغ الأهداف المرجوَّة.

ومع تكاثف الدراسات - من خلال تنوع المدارس وتراكم المعارف - باتت ظاهرة الكتابة - بوصفها وجهًا من أوجه الدليل اللساني - موضوعًا يمكن أن نتناوله برؤية لسانية نسقية؛ دون أن ننزع عنه ملامح الجمالية؛ التي تؤدي وظائفها التمييزية والحضارية والمعرفية.

1. البناء المنهجي

1.1. أهمية الدراسة

إن دراسة (الكتابة/ الخط) - ببنيتها الغرافية ونسقها الجمالي - تكتسي أهميتها من خلال إتاحتها إمكانات الدراسة بما يتوافر من مفاهيم لسانية ابستيمولوجية، يمكن إسقاطها على هذا النسق الغرافي. وفتح المجال لقراءة إيقونية الخط وتَمَثُّلِ جماليته من منطلقات أسس علم الجمال.

بالإضافة إلى توظيف المتغيرات التاريخية والفنية الكلاسيكية في هذا المسعى البحثي. وهو ما سيمكِّن من إثارة قضايا ابستيمولوجية؛ ليس أقلها التناول التجريدي للظاهرة بواقعها الجمالي وبعدها النظامي/النسَقي.

2.1. الإشكالية

إذا كانت ظاهرة (الكتابة/الخط) قد أخذت حظَّها من التناول الفني والجمالي بقواعده التقليدية، أو بانفلاتها من التقعيد الفني، وإيغالها في منظومة فلسفية تجريدية تجعل من شكلها - قبل مضمونه - خطابًا بصريًّا ونشاطًا إيقونيًّا صرفًا، فإن المحيط المعرفي الذي تتنزل فيه الظاهرة، والسياق العلمي الذي تتكاثف فيه ظلالها يتظافران لإفراز ثنائية (جمالية - نسق) وما يتعالق بها من تصورات وظيفية وبراغماتية. تتقاطع مع مفاهيم إستطيقية ولسانية.

  1. وهو ما يفرض علينا طرح التساؤلين الآتيين :

  2. ما القيمة الجمالية التي تختزنها العناصر الغرافية لـ (الكتابة/الخط)؛ بوصفه عنصرًا لسانيًّا؟

  3. وما طبيعة النَّسق الذي تتشكَّل منه الظاهرة بوصفها نسقًا غرافيًّا تحكمه وتتحكَّم فيه قوانين داخلية صارمة، مرتبطة بنسق اللغة كخطاب منطوق؟

وإن الإجابة عن هذا تقتضي تناوله بمنهج وصفي تحليلي، واتباع خطة، تتضمَّن العناصر الآتية :

  1. رؤية الإسلام لموضوع الخط بكل عناصره الإيقونية وأنظمته الغرافية.

  2. الأنواع الفنية للخط العربي منذ نشأتها إلى اليوم.

  3. المظاهر الجمالية في الخط العربي.

  4. استطيقا الخط العربي بين الممارسة الفنية الجمالية والفعل اللساني التواصلي.

2. رؤية الإسلام لموضوع الخط بكل عناصره الإيقونية وأنظمته الغرافية

يجب أن نذكِّر - بدايةً - بأن الجمال توأم الفن، وكلاهما مروحة متنوعة الأهداب، لصعوبة ضبطهما الاصطلاحي، وانفلاتهما من الأحكام المطلقة، وسرعتهما في التطور؛ ومضيِّهما في الحركة.

والواقع أن الكون في مجمله قائم على تناغم عناصره، وانسجام أطيافه، وائتلاف إيقوناته، مما جعل من جمالية مكوناته موضوعًا جوهريًّا؛ متماسك الأجزاء، متجانس السمات، يساعد على تنمية رؤية العالم بكل أبعاده، ويبحث في بنية تلك المكونات ونظامها، وخلفياتها الجمالية، بحثًا من جميع مشارفه : تاريخيًّا، وفلسفيًّا، واجتماعيًّا، ونفسانيًّا، وثقافيًّا، ولسانيًّا، وأخلاقيًّا، وحضاريًّا.

ولا جرم أن الحضارة العربية والإسلامية قد أولت أهمية بالغة للمقولات الجمالية في مختلف المجالات والحالات، وراحت تبرز الروعة الكامنة في القول والفعل، في الحل والتّرحال، في السِّلم والحرب، في الحركة والسكون، في الصوت واللون والحركة… إلخ.

استنادًا إلى نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

ويمكن القول بأن قضية الجمالية التي ينشدها الإنسان موجودة في كل مناحي الحياة، ودعت إليها الديانات السماوية بله الإسلام.

إن الجمالية ترتبط بمقولتين اثنتين : المتعة (أو اللذة) والتناغم، ويكون ذلك في الحركة، والصوت، واللون، والشكل، والهيئة، والسلوك، وأنماط التفكير، والتفاعل النفسي والاجتماعي... إلخ : فالمتعة التي وردت في نصوص القرآن الكريم - بمشتقاتها الصرفية المختلفة وسياقاتها الدلالية المتنوعة - سبعين (70) مرَّة، هي الهدف من الفن وعلم الجمال؛ إذ هي التي من خلالها يشعر المرء بالارتياح الشامل؛ والغبطة النفسية اللامحدودة؛ والانذهال المطلق؛ يقول دني هويسمان [Denis Huisman] (ت : 2021) : « فخاصّية الفن الوحيدة هي الانخطاف، وحيث يُفْتَقَد الحبور يُجْتَنَب الفنُّ ». (هويسمان، 1975 : 122).

على أن هذا الارتياح الشامل سعى الإسلام إلى أن يشرِّعه في كل شيء؛ في مساقات الحياة الدنيوية والأخروية، وهو الذي عبر عنه القرآن الكريم في بعض المواضع بالاطمئنان؛ كما في قوله تعالى : ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرَّعد، 28]، والراحة؛ كما في قوله تعالى : ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِیحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ [النحل، 06]، والخشوع؛ كما في قوله تعالى : ﴿الَّذِینَ هُمْ فِی صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون، 02].

وأما مقولة التناغم بين أجزاء مجموعات أو زُمَر مهما كان جنسها - محسوسة أو مجردة - فهي الموجودة في عدة عناصر كونية، نذكر منها :

1.2. التناغم في الظواهر الفلكية

ومن أبرزها حركات الكواكب، وجريان الشمس والقمر، وحركة أمواج البحار، وتعاقب الليل والنهار، وامتداد الظل… إلخ؛ ولا أدلَّ على تأثير هذا في الإنسان والطبيعة من إسلام سيدنا إبراهيم - عليه السلام - بعد تأملاته تلك الظواهر، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد أقسم الله - عز وجل - بالليل والنهار في قوله تعالى : ﴿وَالَّيْلِ إِذَا یَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ [الليل، 1-2]؛ بوصفهما آيتين من آياته؛ قال تعالى : ﴿وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَایَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ ءَایَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَاۤ ءَایَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء، 12].

ولما كانت القيم الجمالية تستقطب الذائقة الفردية والجماعية - الكامنة بالقوة أو المتمظهرة بالفعل - فقد جاءت نصوص القرآن الكريم والسُّنة النبوية متضمنة ما يدفع بالنفس البشرية؛ والفكر الفطري؛ والذوق السليم؛ إلى النظر الفاحص؛ والتأمل الاستشرافي؛ والتفكر العميق؛ والتذوُّق الفني؛ في الخالق والخليقة - إقناعًا للجاحد؛ وتثبيتًا للمؤمن - ، ومن تلك النصوص :

- قوله تعالى : ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس، 101].
- وقوله تعالى : ﴿أَفَلَا یَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ [الغاشية، 17-18].
- وقوله تعالى : ﴿أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ یُبْصِرُونَ بِهَاۤ﴾ [الأعراف، 195].
حتى إننا نجد أن لفظ « الجمال » قد ورد -مرة واحدة- في القرآن الكريم، في سياق الحديث عن المخلوقات التي سخَّرها الله للإنسان، وذلك في قوله تعالى : ﴿وَلكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِیحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ [النحل، 6]؛ باعتبار أن الجميل - عند علماء الجمال - « هو ما يسرُّنا بصورة شاملة وبدون توهُّم »، (هويسمان، 1975 : 59)، أو « هو ما يعتبر - دون توهُّم - موضوعًا لغبطة ضرورية » (المرجع نفسه، 60).

واستنادًا إلى هذا المبدأ فقد جاءت نصوص السُّنة النبوية مصرِّحة بأن إدخال السرور على المسلم من أفضل الأعمال والقُرُبات؛ كما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أيُّ الأعمال أفضل؟ »، قال : « إدخالك السُّرور على أخيك المسلم ... ». (الطبراني : 1994 : 3/ 85)

2.2. التناغم في الظواهر اللغوية

وهي الموجودة في الشِّعر والنثر، ومن أبرزها الإيقاع الذي يواكب الأوزان في الشِّعر - ديوان العرب - ، وكذا ما هو موجود في الجانب الشكلي للخطاب أو ما يصطلح عليه بالمحسِّنات البديعية؛ من طباق وجناس ومقابلة؛ حتى بلغت عند بعضهم مئة وخمسين محسِّنًا بديعيًّا (ينظر : النابلسي، د.ت : 199)، بالإضافة إلى ما هو موجود في الجانب الصرفي والدلالي والبلاغي والبياني وهو ما يُعرف بالصُّوَر البيانية.

وكل ذلك أقام سور الإعجاز القرآني؛ وبنى حصونه المتينة، فأبهر العرب، وأقنع العجم، وأدخل السّرور عليهم، مع جحد بعضهم لذلك؛ قال تعالى : ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَاۤ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل، 14].

وتكفينا شهادة الوليد بن المغيرة (ت : 622م)؛ بوصفه ممن خبر الشِّعر مبسوطه ومقبوضه ورجزه وهزجه، إذ أقرَّ بأن القرآن الكريم لا يشبهه شيء من الشِّعر ولا من النثر.

ومن ثمة طفق الأدباء والنقاد قديما وحديثًا يتوغلون في البحث والتنقيب عن الجمالية في الأدب، فقال بعضهم هي في الشكل وقال آخرون هي في المعنى، وهذا مفصَّل في كتب النقد الأدبي والبلاغة. (ينظر : الجرجاني، د.ت : 64. العبيدي، 2013 : 55)

ويندرج ضمن جانب الظواهر اللغوية التي تتضمن قيمًا جمالية حثَّت عليها نصوص القرآن الكريم والسُّنة النبوية جانبان آخران في غاية الأهمية وهما : الترجمة والكتابة (أو الخط).

3.2. الترجمة

الترجمة هي عنوان ما به يتحقق التواصل بين أفراد البشرية ويتشكل الاتساق والانسجام بين عناصر المجتمعات، وتنقل عصارة الفكر والأدب والحضارة من ثقافة إلى ثقافة أخرى؛ في إطار قيمي سام وبناء، تحدِّده ضوابط لسانية خاصة وأخرى ابستمولوجية عامة.

على أن الإسلام جعل التعدد اللساني والتنوع الثقافي وجهًا من أوجه التواصل الإنساني، وآية من الآيات الكونية التي تظهِر جمالية الكون وقدرة الخالق، وذلك كما في قوله تعالى : ﴿وَمِنْ ءَایَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ [الروم، 22]؛ قال الأحوذي (ت279ه) : « أي : لغاتكم ». (المباركفوري، 1990 : 1139)

ومن السيرة النبوية فإن الرسول قد أمر زيد بن ثابت - رضي الله عنه - بأن يتعلم له كلمات من كتاب يهود، قال زيد - رضي الله عنه - : « فما مرَّ بي نصف شهر حتى تعلمته له، فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم ». (المباركفوري، 1990 : 1147)

كما لم يَرِد في شرعنا الحنيف تحريم تعلُّم لغة من اللغات : سريانية؛ أو عبرانية؛ أو هندية؛ أو تركية؛ أو فارسية. (المباركفوري، 1990 : 1147)

ومن ثمة وجدنا سيدنا موسى - عليه السلام - قد دعا الله - عز وجل - بأن يحلّ عقدة من لسانه، لتتحقق الجمالية التواصلية في خطابه؛ بعدما جثمت على لسانه عجمة؛ بسبب مكوثه في قوم مدين ردحًا من الزمن؛ قال تعالى : ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِی وَیَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي یَفْقَهُوا۟ قَوْلِي﴾ [طه، 25 - 28].

ووجدنا في العصر الحديث من يبحث عن التناغم بين الأجناس البشرية بمختلف أطيافها ولغاتها وثقافتها؛ بما أسماه بعضهم بالتسامح اللساني والثقافي، وهو قبول التنوع اللساني والثقافي؛ قصد تدعيم بناء الصرح الحضاري والإنساني، فهو بذلك دعامة من دعائم نسج العلاقات الإنسانية. (الناصري، د.ت : 60) وهذا في الواقع مسلك واضح لفهم صحيح لثقافة الآخر، فهم يجب التركيز فيه على العناصر الكلية للأفكار.

ومعلوم أن هذا التسامح اللساني من شأنه أن يجسد التعاون الثقافي بين أطراف متعددة ومتنوعة، بحيث يبقى التواصل الثقافي والفكري هدفًا نبيلًا بين أفراد الأسرةالإنسانية، كأنه يمثّل مسار الحركة الثقافية للبشر. ولعل من أهم الطرق المؤدية إلى ذلك تأليف الكتب بلسان كل طرف من أطراف الحوار. (ينظر : جيدل، 2033 : 52)

وهذا ما يجرنا للحديث عن مسألة خطيرة تتنزل في سياق لساني/ ديني/ إثني، وتتعلق بمسألة التفاضل بين اللغات، وقد أجاب عنها ابن حزم منذ عشرة قرون، في قوله : « وقد توهَّم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات، وهذا لا معنى له؛ لأن أوجه الفضل معروفة، وإنما هي بعمل أو اختصاص، ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة؛ وقد قال الله تعالى : ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِیُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم، 04]، وقال تعالى : ﴿فَإِنَّمَا یَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ یَتَذَكَّرُونَ﴾ [الدخان، 58].

فأخبر - تعالى - أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليُفهم ذلك قومه - عليه السلام - لا لغير ذلك. وقد غلط جالينوس، فقال : « إن لغة اليونانيين أفضل اللغات؛ لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع ». - قال علي - : "وهذا جهل شديد؛ لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق" ». (ابن حزم، د.ت : 1/ 32)

ويضيف : « فبكل لغة قد أُنزِل كلام الله تعالى ووحيه، وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور وكلَّم موسى - عليه السلام - بالعبرانية، وأنزل على إبراهيم - عليه السلام - بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساويًا واحدًا ». (ابن حزم، د.ت : 1/ 32)

ولا جرم أن هذا التناول العالمي للقضية اللسانية هو الذي دعا إليه اللسانيون المحدثون وعلى رأسهم دي سوسير، حين جعلوا موضوع العلم (اللسانيات) هو اللغات البشرية دون استثناء وتحديدًا التأديات الفردية. (De Saussure, 1980 : 68)

وبعد هذا، فكيف ينساق الإحساس البشري عمومًا إلى استشعار التفاضل بين الأمم في كل عصر وبين كل الشعوب؟ ثم كيف تتكاتف الظلال على حقيقة الظاهرة اللغوية فيحتجب الوعي بأولى بديهياتها، حتى يخال الناس أن الألسنة بذاتها أصناف؛ منها القادر ومنها العاجز؟ (المسدي، 1989 : 17)

4.2. الكتابة (أو الخط)

قبل أن نتطرق إلى مكانة الكتابة (أو الخط) في الحضارة الإسلامية وموقف الإسلام منها، ينبغي أن نورد تعريفًا للخط؛ يُسْتَمَد من المجال اللساني والسيميولوجي من ناحية، ويكون ذا بعد فني وجمالي من ناحية أخرى.

فإذا كانت الدراسات اللسانية ترى أن اللغة هي مجموعة من العلامات أو الأدلة وأن الدليل اللغوي يتكون من دال ومدلول (De Saussure, 1980 : 47) وأن العنصر اللساني - كما يرى عبد السلام المسدي - لا يستمِد مقومات ارتباطه الدلالي إلا بما يلابسه من اصطلاح وتواطؤ بين أفراد المجموعة اللغوية المتنزَّل فيها، بل إن الموجودات ذاتها لا يمكن التحاور بشأنها إلا بواسطة العلامات اللغوية المتفق عليها. (المسدي، 1989 : 34)

فكذلك بالنسبة للأدلة الخطية، فإن دلالة الحرف على المدلول بمثابة الصَّمّام الذي يحفظ السائل الصوتي ويختزنه في رموز خطية مضبوطة، سواء في الخط الآلي الطباعي أو اليدوي. (العلوي، 1996 : 25)

ومن ثمة فإن الدليل الخطي وجه آخر للدليل اللساني كما هو موضّح في الشكل (1) :

الشكل رقم (1) : « الدليل الخطي (Graphem) »

الشكل رقم (1) : « الدليل الخطي (Graphem) »

المصدر : (بوعبدالله، 2007 : 199)

ويمكنني القول بعد هذا بأن الدليل الخطي علامة ذات ثلاثة أبعاد :

بعد شكلي (صوري(Formative) : يحدد قيمتها الفنية وخصائصها بوصفها تركيبًا غرافيًّا مُشكَّلًا من عدة وحدات غرافية، وكل وحدة مُشكَّلة من إيقونات خطية « Iconographics » داخل نظام (أو نسق أو بنية خطية)؛ بوصف الخط « رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات الدالة على ما في النفس ». (ابن خلدون، 1997 : 1/ 744) وعلمًا بأن المبدأ المتحكم في العلاقات الإيقونية هو التشابه؛ لأن الإيقونة « تمثِّل موضوعها من خلال التشابه بين الدال والمدلول في المقام الأول ». (قاسم وآخر، د.ت : 2/ 81)

  • وبعد فونولوجي (Phonologic) : يحدِّد وظائفها الصوتية.

  • وبعد جمالي/ معرفي (Aesthetic/ Cognitive) : يعكس قدرة مشكِّل الحروف على إبرازها؛ انطلاقًا من تصور إيقوناتها الخطية ضمن أنظمة الأنماط والأشكال التي يتصورها الفكر.

ولهذا البعد في عملية الكتابة علاقة بالوظيفة الجمالية؛ لأن الأدلة الخطية (البصرية) مثل الأدلة اللسانية (المنطوقة) لا يُنظَر إليها كوحدات مجردة؛ وإنما كبنية في ائتلافها مع مجموع الوحدات الإيقونية أو الغرافية ذات الخصائص الفونولوجية.

ومن هنا فإن الخط مجموعة من الأدلة الخطية، وكل دليل مكون من دال وهو الوحدات الخطية (أو الغرافيمات)، وهي مكونة من مجموعة إيقونات خطية، ومجموع هذه الإيقونات (أو الغرافيمات) تشكّل لنا ما نصطلح عليه بالحروف.

فالخط مركَّب من حروف، والحروف وحدة أو وحدات غرافية لها طبيعة فونولوجية وبعد معرفي/ جمالي، كما هو موضَّح في الشكل (2) :

الشكل رقم (2) : « الوحدات الخطية بأبعادها الفونولوجية والجمالية »

الشكل رقم (2) : « الوحدات الخطية بأبعادها الفونولوجية والجمالية »

المصدر : (بوعبدالله، 2007 : 201)

طبيعة صوتية تتلخص في الخصائص الفونولوجية التي تتّسم بها الإيقونات الخطية أو مجموع الوحدات الغرافية، وقيمة استطيقية ذات عدة مستويات : أعلاها الخط الفني (النموذجي) وأدناها الخط الرديء.

وتتجسد من خلال اتساق الطبيعة الصوتية والقيم الجمالية والوظائف المختلفة التي يشترك فيها مع وظائف اللغة، ومن أبرزها الوظيفة التواصلية، بالإضافة إلى الوظيفة التوثيقية (التسجيلية) والوظيفة الجمالية.

وإذا تعقبنا هذه الظاهرة في الحضارة الإسلامية فإننا سنعاين بعض الملامح التي تُظهِر مكانة الكتابة (أو الخط) المتميزة، ومن ذلك :

5.2. عناية القرآن الكريم بمقولة الكتابة

ويتجلى ذلك في كون أول ما أنزل من القرآن الكريم دعوة للقراءة، ومعلوم أن لا قراءة دون كتابة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن من سُوَرِه سورة سُمِّيَت باسم (القلم)، حيث أقسم الله تعالى في بدايتها به، ومعلوم أن العظيم لا يقسم إلا بشيء ذي مكانة عالية وعظيمة. وأما قوله تعالى : ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ﴾ [الأحقاف، 04] فقال ابن عباس - رضي الله عنه - (ت : 68ه) ومجاهد (ت : 104ه) وأبو بكر بن عيّاش (ت193 : ه) : « هو الخط ». (ابن كثير، 1981 : 3/ 301)

6.2. تعليم الكتابة في مقابل الحرية

لقد نقل لنا مؤرخو الإسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتق الأسرى مقابل تعليم أولاد الأنصار الكتابة، قال ابن عباس - رضي الله عنه - : « كان ناس من الأسارى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلِّموا أولاد الأنصار الكتابة ». (مسلم، 1912: 58) وبذلك شرع الأسرى يعلمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يعلِّم عشرة من الغلمان يفدي نفسه. مما يجعلنا نلحظ أن مقولة "الكتابة" قاربت مقولة "الحرية"، في أن كلا منهما انعتاق من قيمة سلبية، فهذه انعتاق من العبودية والأسر، والأخرى انعتاق من الأمية والجهل.

7.2. موقف الفلاسفة المسلمين من مقولة الخط

يمكنني القول بأنه لا يوجد خط من الخطوط البشرية بلبل - بشحناته الإستطيقية وأبعاده الفلسفية - دأب الفكر الإنساني عَرَبًا وعجمًا، قديمًا وحديثًا؛ مثلما فعله الخط العربي.

فمثلما كانت حاجة الكُتّاب والخطاطين ماسَّةً إلى تعلُّم قواعده الفنية ونِسَبه الجمالية، كان للفلاسفة وعلماء التصوف مجال واسع لسبر أغواره، والكشف عن أنساق حروفه؛ وتأويل وحداته الغرافية في تشكيلها البصري أو المجرد، واتخاذ خصائص الصورة التأويلية أساسًا، وإقرار معنى كل وحدة غرافية من الوحدات المشكِّلة للتركيب.

وقد يكون البحث فيها - من قِبَل هؤلاء - من باب المساءلة عن رمزية كل وحدة غرافية بوصفها صورةً تختزن العديد من الدلالات المعرفية والإستطيقية، ونكتفي هنا بعرض بعض جهود هؤلاء في ما يأتي:

1.7.2. العناصر الغرافية في رسائل إخوان الصَّفا

لقد لخَّص لنا محمد الماكَري موقفهم في أنهم عدّوا الحروف تمثيلًا عدديًّا وهيئيًّا للعالم الذي يمثّله الكون الكبير، والخاص الجزئي ممثّلًا في جسم الإنسان، والعام والخاص هما من صنع الخالق (الماكري 116)؛ يقولون : « فمن الموجودات - التي عدَّتها ثمانية وعشرون في العالم الكبير - منازل القمر، فإنها ثمانية وعشرون منزلًا : أربعة عشر فوق الأرض؛ وأربعة عشر تحت الأرض، وهي في موضع اليمين واليسار، منها أربعة عشر في البروج الشمالية، وأربعة عشر في البروج الجنوبية، وكذلك يوجد في جسم الإنسان أعضاء مشاكلة لهذه العدّة… ». (إخوان الصفا، د.ت : 3/ 143)

وهذا يدلِّل على ما ذهب إليه بيير لوري [Pierre Lory] من أن تصوراتهم تندرج ضمن « علم رمزية الحروف الذي يعجّ بالتبادلات المنطقية بين الحروف والأعداد والكون ». (لوري، 2006 : 109)

وقد تعدى التوافق العددي الخط العربي إلى الشِّعر والرياضيات والموسيقا؛ إذ هي « تخلق نوعًا من التناغم بين مجموع هذه الأنظمة ». (لوري، 2006 : 109)

2.7.2. موقف ابن عربي من الحروف :

يقدّم محيي الدين بن عربي (ت : 638ه) مجال الحروف على أنه أمَّة من الأمم، مخاطبون ومكلّفون، وفيهم رسل من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف من الطريقة. وعالم الحروف أفصح العالم لسانًا؛ وأوضحه بيانًا، وهم على أقسام كأقسام العالم المعروف في العرف. (ينظر : ابن عربي، د.ت : 260)

ولعل مسوّغ ما ذهب إليه هؤلاء هو أن ما تدل عليه الإيقونة الخطية... لا يختزل إطلاقًا ما تمنحه الرؤية للنظر... ». (شاليمو، 2005 : 128)، وأن مجال التأويل في الظواهر الكونية غير محدود.

وهكذا يمكن القول بأن مقولة الخط - بجميع عناصرها الغرافية - أصبحت في نظر الفلاسفة المسلمين عالمًا شفّافًا منفتحًا انفتاحًا كليًّا أمام تأملاتهم، ومن ثمة صار هذا العالم متاحًا للفكر البشري؛ بكل تجلياته ورمزيته المطلقة، وتأويلاته اللامتناهية.

3. الأنواع الفنية للخط العربي منذ نشأته إلى اليوم

إن المتتبع لنسق الخط العربي - منذ كانت الكتابة « صورة عند السّومريّين؛ ثم أصبح حرفًا عند الكنعانيين، وعندهم تحورت إلى الآرامية؛ فالنبطية التي أنجبت العربية الحديثة » (المفتي، 1997 : 9) - في شكله الغرافي، بسماته الإيقونية البسيطة والمجردة وبنزعته الاعتباطية المحضة - كما هي عليه أغلب الكتابات الإنسانية - ليلحظ أن رحلته تلك أشبه ما تكون برحلة الإنسان الذي شاء الله له أن يكون من تراب؛ ثم من نطفة؛ ثم من علقة؛ ثم يكون طفلًا؛ ثم يصير شيخًا، وكل ذلك في أحسن تقويم؛ كما صرح بذلك القرآن الكريم؛ في قوله تعالى : ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ یُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُیُوخًا وَمِنكُم مَّن یُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [غافر، 67].

وفي قوله تعالى أيضًا : ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِیمٍ﴾ [التين، 04].

كما يلحظ كذلك أن الخط العربي قد مر بمرحلتين اثنتين :

  • مرحلة البناء الغرافي : وقد كانت مرحلة شاقة، وهي الآنفة الذّكر.

  • ومرحلة الارتقاء الجمالي : وقد كانت شيّقة؛ وهي التي تلت الأولى، التي بدأ التحوير الغرافي والتحسين الفني يدخل فيها على الحروف؛ من نقط وشكل وضبط وتزيين وزخرفة، وكل ذلك مع مراعاة تناسب المسافات والأبعاد... إلخ.

ولقد تمخض عن تلك التحولات الشكلية واللسانية والفنية والجمالية أنواع عديدة ذكرتها المصادر، وهي تنمّ عن حركية في التحول، ورؤية جمالية عكست طبيعة العصور التي ظهرت فيها تلك الأنواع، من الناحية السياسية والاجتماعية والفلسفية والفكرية والمعرفية. ولذلك أرى أن الخط كان أحد أهم أدوات قياس التطور الثقافي والعلمي والفكري خاصة والرقي الحضاري بعامة؛ ولا أدل على ذلك من ظهور طفرات جمالية في أنواع الخط العربي في العصر العباسي والعصر الأندلسي، الأول : في الخطوط اللينة، والثاني : في الخطوط اليابسة التي استطاع تطويعها وإضافة عناصر غرافية وإيقونية على نسق تراكيبها.

وباستقراء دياكروني لتلك الأنواع المبثوثة في المصادر، التي تبرز الخط العربي في منحى أنطولوجي دال، بدءًا من صدر الإسلام إلى العهد العثماني، نذكر ما يأتي (مرتبة ألفبائيًّا) :

الإجـازة، البصـري، البديـع، التحريـر، التّذكاري، التعليـق (الفارسـي)، التواقيـع (التوقيعـات)، الثلـث (بأنواعـه : الثقيـل، الجلـي، الخفيـف، المركّب)، الثلثين، الجليل، الجوانحي، الحجازي، الحرم، الخرفاج، الدرج، الديبـاج، الديوانـي، الديوانـي الجلـي، الرقـاع، الرقعـة، الريحاني، الرياسـي، الزنبـور المفتـح، السجلات، السـنبلي، السـياقت، الشـعار، الشكسـتة، الطغـراء، الطومـار الكبيـر، العهـود، غبـار الحليـة، القصـص، القيرامـوز (أوالبيراموز)، القيرواني، الكوفي (بأنواعه : الأندلسي، البسيط، المزهّر، المضفـور، المـورّق، المشـجّر، الهندسـي، المربـع (أو التربيعـي)،...)، اللؤلـؤي، المؤاخـذات، المؤامـرات، المؤلّـف، المبسـوط، المجمـوع، المحـدث، المخفـف، المخلّـع، المدمـج، المدنـي، المرسـل، المسلسـل، المصاحـف (المصحفـي)، المعلّـق، المغربـي (بأنواعـه : التونسـي، الثلـث، الجزائـري، الزمامـي (المسـند)، السوداني، الفاسي، الكوفي، المبسوط، المجوهر، المشرقي) المفتّح، المقترن، المقوّر، المكي، المنثور، المنسوب، الممزوج، النستعليق (الفارسي)، النسخ،النسـخ الأتابكي، النسـخ الأيوبي، النسـخ المملوكي، النصف، النيسـابوري، الهمايونـي. (ينظـر : القلقشـندي، د.ت : 2/ 3. البياتـي، 1993 : 41-42. المغـراوي، 2011 : 57)

ويمكن ضبط هذه الأنواع على محورين أساسين هما : محور الزمان ومحور المكان :

فعلى مستوى الزمان فإن هذه الظاهرة قد توزعت على عدة أزمنة؛ بدءًا من صدر الإسلام إلى اليوم وذلك في محطات عديدة نذكر أهمها : (صدر الإسلام، العصر الأموي، العصر العباسي، العصر الأندلسي، العصر الفاطمي، العصر السلجوقي، العصر المملوكي، العصر التركي، ...إلخ).

وأما على مستوى المكان، فيمكن توزيعه على الأماكن والبلدان الآتية :

مكة، المدينة، الحجاز، البصرة، الكوفة، دمشق، بغداد، قرطبة، القيروان، بلاد فارس (نيسابور مثلًا)، إستانبول، القاهرة، فاس ...إلخ.

من خلال هذا التوصيف الزمكاني يتبين لنا بأن هذه الرحلة التي قطعتها هذه الأنواع الغرافيستيكية لتكشف لنا بجلاء عن العناية الفائقة التي لقيتها مقولة الخط العربي عبر الزمان والمكان.

فلقد اكتسح العالم من المشرق إلى المغرب حيث وصلت دولة الإسلام، حتى أصبح لتلك الأنواع قداسة ورمزية وروحانية لا يمكن فصلها - في كثير من الأحيان - عن قداسة الرسم العثماني وروحانيته، ومن ثمة يمكن أن نقول بأن هذا التعداد الهائل من أنواع الخطوط ليشعر المهتم برحلة الخط العربي أنه يمكن وسمه بأنه تيار جارف استمر توهجه منذ ولادته إلى اليوم. ومن تلك الطاقة - الكامنة فيه بالقوة أو المستعملة له بالفعل - فضَّلت أنظمة لسانية عديدة أن تكتب فونيماتها بالغرافيمات العربية، حتى إنها بلغت إلى وقت قريب زهاء أربعين لغة. بل ما زالت لغات حديثة تسعى إلى توظيف الحرف العربي. (ينظر : أبو نظيفة، 2010 : 94)

ومن ثمة يتأكد لدينا أن الخط العربي بأنواعه المختلفة ارتقى بنفسه باحثًا عن الكمال الفني والجمالي، وما هذا بغريب عنه بوصفه فنًّا، وما الفن « إلا درجة من درجات الصعود نحو المطلق ». (هويسمان، 1975 : 186)

ويمكننا من خلال هذا التوصيف القول بأن الخط العربي بوصفه ظاهرة فنية وجمالية وثقافية وحضارية، وبما قطعته الكتابة من أشواط تاريخية قد أسهمت - من جهة - في تصوير واقع لم نعشه وعبرت عنه، ومن جهة أخرى أسهمت في تشكل ذوق استطيقي يتمثله الخطاطون والفنانون أثناء ممارساتهم، ويتفاعل معه المتلقون؛ انطلاقًا مما هو كامن في لاشعورهم الجَمْعي.

كما يمكننا أيضًا الإشارة إلى أن القرآن الكريم - كما سبق - أدى دور القوة المانحة لأنطولوجيا الحروف العربية، ولنظامها وبنيتها ونسيجها التركيبي، حتى لتكاد روعة الخط العربي بجماليته وأناقته تلامس جوهر الحقيقة؛ وتنصهر مع روحانية النص القرآني بإعجازه وأحكامه.

4. المظاهر الجمالية في الخط العربي

إن جمالية النسق الذي تستند إليه الكتابة العربية سواء في اتصال حروفها أو في اتجاهها (من اليمين إلى الشمال، ومن الأعلى إلى الأسفل)، أو في الأشكال التي تتمظهر عليها الحروف - من خلال تنوع الخط - وهي تتناغم فيما بينها، وتتلاصق وتتعانق؛ ليجد المتلقي فيها متعة وحبورًا وانبهارًا، قد لا يعرف أساسه، أو لا يستطيع حتى تفسيره - إن تلك الجمالية البصرية لذلك النسق يمكن أن تكون وجهًا آخر لجمالية الإيقاع الصوتي للبنية اللسانية، فتتحول تلك الغرافيمات الغارفيستيكية إلى فونيمات، أو إلى أنغام، مع ما ينتاب مفهوم النغم من صعوبة في التحديد، فهو مما يحسُّ ولا يوصف. وأحيانًا ترتقي التراكيب الغرافية عند كبار الخطاطين لتتضمن شيئًا من الإعجاز الفني الذي إن أدركه بعض المتلقّين فلا يمكن له تعليله.

ولعل فك شفرة ذلك كله يكمن في النِّسب الجمالية التي أقرَّها كبار الخطاطين منذ قطبة المحرر (عاش في بداية العصر الأموي) وابن مقلة أبو علي محمد (ت : 328ه) وأخوه أبو عبد الله الحسن (ت : 338ه)، وابن البواب (ت : 423ه؟) وياقوت المستعصمي (ت : 689ه) إلى اليوم، وكيف يمكن لتلك النِّسب أن تتناسب مع فضاء الخطاط وزمنه، لينقل لنا عبر لوحته الفنية الشعور النفسي؛ والزمن الاجتماعي؛ والوعي الثقافي الذي يترك أثره في المتلقي؛ مهما طالت الآجال واختلفت الأحوال.

5. استطيقا الخط العربي بين الممارسة الفنية الجمالية والفعل اللساني التواصلي

إن الخط العربي قد أخذ حظه من التقعيد الجمالي، والتحليل الفني، والقراءات النقدية الحصيفة، وتأويل وحداته الخطية؛ وتراكيبه، كما أنه لم يفتقر يومًا إلى عناصر النماء ولا التجدد - مهما ادعى ذلك الداعون إلى التجديد - ؛ لأن أنظمته الغرافية مكتملة؛ فضلًا عما يتميز به من كونه أصيلًا في أنساقه التي وُضع عليها، والقيم الفنية التي يحتويها، والوظائف التي يهدف إلى تحقيقها، ونقصد بالأصيل هنا - على حد تعريف اللساني (الحاج صالح، 1998 : 86) - : « ما ليس نسخةً من غيره ».

وإذا نحن تعقّبنا مستويات الخطوط عمومًا، والخط العربي على وجه الخصوص - بوصفه خطابًا مكتوبًا في مقابل الخطاب المنطوق - فإننا نجد هناك عدة مستويات، تقابلها عدة قيم ووظائف لسانية، نوجزها في الجدول (1) :

الجدول رقم (1) : « علاقة الخط بمختلف المستويات والقيم والوظائف اللسانية »

الوظيفة

قيمة الخط

طبيعة الخط

المستوى

الانقرائية

غرافيستيكية

مقروءة

الغرافي(Graphic )

وضوح المعنى

دلالية

مفهومة

الدلالي(Semantic)

وجود تواصل

لسانية

مقبولة

اللساني(Linguistic)

إحداث متعة

جمالية

محببة

الجمالي Aesthetic)

)المصدر : بوعبد الله، 2007 : 208)

إن التدرج في طبيعة كل مستوى يجعل القيمة تتجه نحو المستوى الجمالي الذي يُعدّ أرقى مستوى ينشده الكاتب (الخطاط)، فهو الذي يحدث المتعة في بصر المتلقي ونفسه، وأدنى مستوى هو الغرافي؛ الذي يكتفى فيه بفك الرموز.

مع الإشارة إلى أن انعدام المستويات الأربعة - المشار إليها في الجدول - هو ما يُعرف بالخط الرديء، (ينظر : بوعبدالله، 2013 : 95) الذي تؤول فيه القيم الأربعة (الغرافيستيكية، والدلالية، واللسانية، والجمالية) إلى الصفر.

ومن الطريف أننا نجد في تراثنا العربي إشارة إلى هذا النمط من الخط؛ الذي لا يحقِّق لا غاية فنية ولا وظيفة لسانية تواصلية، ومن ذلك ما أورده الصولي (ت : 335ه) وأبو منصور الثعالبي (ت : 429ه) في كتابيهما : « الخط الرديء كالولد العاقّ… أو الأخ المشاقّ ». (الصولي، 1350ه : 1/ 16. الثعالبي، 1961 : 1/ 35)

خاتمة

من خلال ما سبق تبين لنا أن ظاهرة الكتابة العربية ذات أبعاد جمالية وتاريخية ومعيارية تقليدية، ويمكن إسقاط المفاهيم اللسانية عليها، وأهمها مفهوم الدليل، ومفهوم البنية والنسق، وكذا مفهوم الوظيفة.

حيث إنها - فضلًا عن جماليتها - تمثل الوجه الآخر من الدليل اللساني، وأنها تشكل نسقًا تواصليًّا، يحقق مختلف الوظائف اللسانية.

ويمكن أن نخلص في الختام إلى ما يأتي :

  • إن الخط - بوصفه نشاطًا إنسانيًّا - بما أتاحته له الظروف التاريخية والاجتماعية والثقافية، وبما هيَّأته له الحضارة الإسلامية من إمكانات معرفية وقيم ابستيمولوجية انكشفت مع الزمن، تكاثفت في أنظمته الغرافية المتنوعة وأنساقه اللسانية رواسب الممارسات الفنية التي أفرزتها أنامل الفنانين العرب والعجم، وبذلك تمكَّنت هذه الظاهرة - بما توافرت فيها من عناصر الأصالة والنماء وإمكانات الإبداع - من اكتساح الجغرافيا؛ حتى بلغ الخط العربي حيث بلغت سيادة الدولة الإسلامية شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا. فصار بمثابة مُجمّع للممارسات الإستطيقية يقود متلقّيه إلى المطلق واللامحدود.

  • إن الجمالية التي يختزنها الخط العربي لا يمكنها - أو يتعذر - أن تضمحل أو أن تتراجع؛ لأنها مستمدة من روافد حضارية متجذره، فهو إذن مبني على جمالية أصيلة وعريقة، متناغمة بين الفكر والحياة؛ لأن الجمال هو الحياة، وهو موضوع الغبطة والمتعة التي نطلبها جميعًا؛ ولأن الخط يمثل جانبًا هامًّا في الحياة، وهو الشكل الذي يختفي في ظلاله المضمون الذي نطمح به إلى تحقيق التواصل مع الآخر، وتضطلع الرؤى الإستطيقية إلى الكشف عن خباياه.

  • لقد جمع البحث بين المفاهيم اللسانية والأبعاد الإستطيقية النابعة من علم الجمال ونظريات التلقي المطبقة على الخطابات الإبداعية في مختلف الأجناس الأدبية، مما يعني إمكانية وصل حلقات هذا المجال - وتحديدًا حقل اللسانيات- بنزعتها الفكرية وأهدافها العلمية المحضة، وبفروعها المختلفة وأنظمته الصوتية والغرافية، بمختلف الفروع الفنية والمعرفية، كما هو الشأن في ربطها بعلم الأدب والنقد الأدبي وبعلم النفس وعلم الاجتماع، والاتصال، والترجمة، في مقاربات ابستيمولوجية من شأنها أن تكشف عن قضايا لسانية من جهة، وتلقي الضوء عن عناصر حضارية وتاريخية، مما يمكن أن يصب في اللسانيات الثقافية.

باللغة العربية

القرآن الكريم؛ برواية حفص عن عاصم.

ابن حزم الظاهري، علي بن أحمد أبو محمد. (د.ت). الإحكام في أصول الأحكام، مطبعة الإمام بمصر، د.ط.

ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد أبو زيد. (1979). المقدمة، بيروت : مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، د.ط.

ابن عربي، محمد بن علي محيي الدين. (د.ت). الفتوحات المكية، تح : عثمان يحيى، مراجعة : إبراهيم مدكور، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب، د.ط.

ابن كثير، إسماعيل بن عمر أبو الفدا. (1981). تفسير ابن كثير، بيروت : دار الفكر، د.ط.

إخوان الصّفا وخلان الوفا. (د.ت). رسائل إخوان الصّفا، بيروت : دار صادر، د.ط.

بوعبدالله، لعبيدي. (2013). رداءة الخط : مظاهرها، وأسبابها السيكولوجية والمعرفية، دراسة ميدانية من منظور لساني غرافولوجي، تيزي وزو- الجزائر : دار الأمل للطباعة والنشر والتوزيع، د.ط.

البياتي، حسن قاسم حبش. (1993). رحلة المصحف الشريف من الجريد إلى التجليد، بيروت : دار القلم، ط1.

الثعالبي، عبد الملك بن محمد أبو منصور. (1961). التمثيل والمحاضرة، تح : عبد الفتاح الحلو، القاهرة : مطبعة عيسى الحلبي، د.ط.

الجرجاني، عبد القاهر بن عبد الرحمن أبو بكر. (د.ت). دلائل الإعجاز، تح : محمود محمد شاكر، القاهرة : مكتبة الخانجي ومطبعة المدني، د.ط.

جيدل، عمار. (2003). حوار الحضارات ومؤهلات الإسلام في التأسيس للتواصل الإنساني، الأردن : دار الحامد للنشر والتوزيع، د.ط.

الصولي، محمد بن يحيى أبو بكر. ( 1350ه). أدب الكُتّاب، طبع في مصر، د.ط.

الطبراني، سليمان بن أحمد أبو القاسم. (1994). المعجم الكبير، تح : حمدي عبد المجيد السلفي، القاهرة : مكتبة ابن تيمية، ط1.

قاسم، سيزا؛ وآخر. (د.ت). مدخل إلى السيميوطيقا، مقالات مترجمة ودراسات، (د.م).

القلقشندي، أحمد بن علي أبو العباس. (د.ت)، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، القاهرة : المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، ومطابع كوستاتسوماس وشركاه، د.ط.

لوري، بيير. (2006). علم الحروف في الإسلام، تر : داليا الطوخي، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1.

الماكَري، محمد. (1991). الشكل والخطاب : مدخل لتحليل ظاهراتي، بيروت : المركز الثقافي العربي، ط1.

المباركفوري، محمد عبد الرحمن أبو العلا. (1990). تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، بيروت : دار الكتب العلمية، ط1.

المسدي، عبد السلام. (1989). « صياغة المصطلح وأسسها النظرية »، ضمن كتاب : « تأسيس القضية الاصطلاحية »، إعداد : مجموعة من الباحثين الجامعيين، المؤسسة الوطنية للترجمة والتحقيق والدراسات، قرطاج - تونس : بيت الحكمة، د.ط.

مسلم بن الحجاج أبو الحسين. (1912). صحيح مسلم، (د.م).

المفتي، أحمد. (1997). ميزان الخط العربي، بيروت : دار ابن كثير، ودمشق : دارالقادري، ط1.

النابلسي، عبد الغني. (د.ت). نفحات الأزهار على نسمات الأسحار في مدح النبي المختار، بيروت : عالم الكتب، والقاهرة : مكتبة المتنبي، د.ط.

الناصري، المكي. (د.ت). دستور التسامح في الإسلام، (د.م).

هويسمان، دني. (1975). علم الجمال، تر : ظافر الحسن، الرغاية - الجزائر : الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، ط2.

باللغة الأجنبية 

De Saussure, F. (1980). Cours de linguistique générale, édition critique, préparée : par Fullio de Mauro, éd Payoy.

المجلات والدوريات

أبو نظيفة، عبد الله محمد أحمد. (2010). تجربة كتابة لغة المبا بالحرف القرآني المنمط، ضمن مجلة : « دراسات إفريقية ». العدد : 43، الخرطومالسودان : جامعة إفريقيا العالمية.

بوعبد الله، لعبيدي. (2007). « مفهوم الخط ووظائفه : مقاربة لسانية سيميولوجية »، ضمن مجلة : « الآداب واللغات ». العدد : 02، الجزائر : جامعة الجزائر2.

الحاج صالح، عبد الرحمن. (1998). النظرية الخليلية الحديثة، ضمن مجلة : « اللغة والأدب ». العدد : 10. الجزائر : جامعة الجزائر2.

شاليمو، جون ليك. (2005). « الإيقونة الخطية »، تر : عمارة كحلي، ضمن مجلة : « سيميائيات ». العدد : 01، الجزائر : مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات، جامعة وهران 1.

العبيدي، عادل هادي حمادي. (2013). قضية اللفظ والمعنى، ضمن مجلة : « الأستاذ للعلوم الإنسانية والاجتماعية ». العدد : 201، العراق : جامعة بغداد.

العلوي، سالم. (1996). « سلطان الكلمة الملفوظة والمسطورة »، ضمن مجلة : « اللغة والأدب ». العدد : 09، الجزائر : جامعة الجزائر2.

المغراوي، محمد. (2011). الخطوط المغربية في المخطوطات والوثائق، ضمن مجلة : « كلية الآداب والعلوم الإنسانية ». العدد : 31، المغرب : جامعة محمد الخامس.

الشكل رقم (1) : « الدليل الخطي (Graphem) »

الشكل رقم (1) : « الدليل الخطي (Graphem) »

المصدر : (بوعبدالله، 2007 : 199)

الشكل رقم (2) : « الوحدات الخطية بأبعادها الفونولوجية والجمالية »

الشكل رقم (2) : « الوحدات الخطية بأبعادها الفونولوجية والجمالية »

المصدر : (بوعبدالله، 2007 : 201)

لعبيدي بوعبدالله

جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article