اللغة بين الوضع والاستعمال واللفظ والمعنى

Le langage entre code et usage, forme et sens

Language between code and usage, form and meaning

محمد حمراوي

Citer cet article

Référence électronique

محمد حمراوي, « اللغة بين الوضع والاستعمال واللفظ والمعنى », Aleph [En ligne], 9 (1) | 2022, mis en ligne le 05 avril 2022, consulté le 21 novembre 2024. URL : https://aleph.edinum.org/5436

نتناول في هذا المقال مبدأ في التحليل اللغوي للغة العربية. يمثل هذا المبدأ أداة إجراءات لفهم بنية اللغة في جميع مستوياتها، مبدأ الوضع والاستعمال مبدأ يخترق اللغة ابتداء من الصوتي إلى المستوى الإفرادي، إلى المستوى التركيبي، إلى المستوى الدلالي، ثم إلى المستوى الخطابي. هذا في الشق الأول من المقال، وسنتعرض في الشق الثاني إلى مسألة اللفظ والمعنى على مستوى حدي الثنائية الأولى، أي اللفظ والمعنى في كل من الوضع والاستعمال.

This article examines a principle in the linguistic analysis of Arabic which represents a tool for understanding the structure of language at all levels. The principle of code and use transcends language starting from the phonetic level, passing to the individual, structural, semantic, and then the discursive levels. The aforementioned represents the first part of the article. The second part discusses the issue of form and meaning at the level of the first binary, i.e. form and meaning,  in both code and use.

Nous abordons dans le présent article un principe de l’analyse linguistique en langue arabe. Ce principe représente un outil de compréhension de la structure de la langue à tous les niveaux. Nous étudierons dans la première partie de cet article le principe du code et de l’usage qui est un principe qui transcende la langue en commençant par le niveau acoustique en passant par les niveaux individuel, structural et sémantique pour arriver au niveau discursif. Quant à la deuxième partie, nous traiterons la question de la forme et du sens au niveau dichotomique, c'est-à-dire au niveau du code et de l’usage.

مقدمة

مبدأ الوضع والاستعمال مبدأ أساسي في الدراسة اللسانية في كل مستوياتها. ونقصد بالوضع في هذا المقال النظام اللغوي في مقابل الاستعمال الذي نقصد به استعمال الناطقين لهذا النظام. ويتحدد بالحديث عن هذا المبدأ موضوع التداوليات، الذي هو الاستعمال اللغوي، ولو بصفة عامة ونظرية نوعا ما. وقبل الخوض في ذلك ينبغي أن نحدد معنى الوضع ومعنى الاستعمال.

1. الإطار المفهومي

قبل الخوض في معالجة إشكالية المقال، سنضبط الإطار المفهومي للمصطلحات الأساسية في هذا المقال، وذلك من أجل تلافي أي لبس، وتحديد المصطلحات.

1.1. اللغة واللسان

نعود دوما في تحديد مفهوم اللغة إلى تعريف ابن جني الذي صمد رغم تطور الدراسات اللسانية، يقول: "أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. هذا حدها" (ابن جني، الخصائص، 1/33). وواضح موافقة هذا التعريف للاتجاه التداولي في البحث اللساني، وقد يكون هذا هو سبب صمود هذا التعريف.

ولقد حدد دوسوسير مفهوم اللغة من خلال مقابلتها باللسان والتمييز بينهما، يقول: "إن اللغة واللسان عندنا ليسا بشيء واحد، فما هو إلا جزء منها محدد وأساسي. إنه في الوقت نفسه نتاج اجتماعي لملكة لغوية، ومجموعة من المواضعات المهمة التي يتبناها الكيان الاجتماعي، ليتمكن الأفراد من ممارسة هذه الملكة. وإذا أخذنا الكلام بصفة عامة بدت لنا اللغة متعددة الأشكال، متباينة المقومات موزعة في الوقت نفسه على عدة ميادين: فيزيائي وفيزيولوجي ونفسي. إنها تنتمي أيضا إلى ميدان الفردي، وإلى ميدان الاجتماعي" (Saussure, 1971, p25).

وحين يتحدث عبد الرحمان الحاج صالح عن مبررات اختياره لمصطلح اللسانيات وتفضيله على مصطلح علم اللغة، يقول: "لا شك أن القارئ قد لاحظ أننا نميل إلى استعمال كلمة (لسان) ونفضلها على كلمة (لغة) ولهذا الميل مبرر سنبينه الآن. لقد ترجم بعض المؤلفين العرب لفظ الـ (linguistique) بـ (علم اللغة)، وكنا لا نرى في ذلك بأسا لو أن كلمة (اللغة) كانت تدل دائما على مفهوم اللسان، أي على ما حدده ابن جني بأنه »أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم « ، ولكن الأمر ليس هكذا، لأنه وإن دلت كلمة (لغة) على هذا المعنى العام عند ابن جني مثلا فقد تدل أيضا على معان أخرى مشتركة مشهورة" (الحاج صالح، 2007، ص36).

2.1. خصائص اللغة

يمكن الوقوف عند عدد من خصائص اللغة، منها ما هو مستوحى من التعريفات السابقة، ومنها ما سنضيفه الآن، على أننا ننبه إلى أن الحاج صالح يستعمل مصطلح "لسان" ويفضله على مصطلح "لغة" للمبررات المذكورة سابقا. وهذه الخصائص يثبتها فيما يأتي:

- اللغة أداة تبليغ،

- اللغة ظاهرة اجتماعية لا فردية،

- لكل لغة خصائص من حيث الصورة والمادة،

- اللغة هي في حد ذاتها نظام من الأدلة المتواضع عليها، ولها بذلك بنى ومجار ظاهرة وخفية،

- للغة منطقها الخاص بها،

- اللغة وضع واستعمال، ثم لفظ ومعنى في كل من اللفظ والاستعمال،

- للبنى اللغوية مستوى من التحليل غير مستوى الوضع، وغير مستوى الاستعمال،

- اللغة هي قبل كل شيء أداة للتبليغ والتخاطب. (الحاج صالح، 2007، ص185).

2. الوضع والاستعمال

يقابل عبد الرحمان الحاج صالح "الوضع" بـ "الاستعمال"، ولقد بسط كل القضايا المتعلقة بهما في كتبه الخطاب والتخاطب، يقول: "لقد سبق أن تطرقنا إلى مدلول الوضع كمصطلح لغوي في كتابنا السابق: الخطاب والتخاطب ويقابله "الكود" في عصرنا الحاضر. وحاولنا أن نبين أن معنى الوضع عند النحاة (ابتداء من القرن الرابع) هو هذا النظام الاصطلاحي في حد ذاته في مقابل استعمال الناطقين له" (الحاج صالح، 2016، ص23).

1.2. الوضع

يتحدد معنى الوضع على أساس أن "اللغة مجموعة منسجمة من الدوال والمدلولات ذات بنية عامة ثم بُنًى جزئية تندرج فيها" (الحاج صالح، 1973، ص38).

وهناك جزء معقول من هذا الوضع، أي ما يثبته العقل من انسجام وتناسب بين بعض العناصر اللغوية والعلاقات التي تربطها، هذا من جهة ومن جهة أخرى ما يثبته أيضا من تناسب بين العمليات المحدثة لتلك العناصر على شكل تفريعي أو توليدي.

ثم إن الوضع وضعان، وضع يتعلق بتناسب العناصر اللغوية وانسجامها، ووضع يتعلق بتناسب العمليات المحدثة لتلك العناصر. وهذان الوضعان يسميهما عبد الرحمن الحاج صالح بالوضع الاصطلاحي والوضع البنوي أو التركيبي ويشرحهما بقوله: "والحق أن الوضع اللغوي وضعان اثنان: اصطلاحي وبنوي فأما الأول فهو كما حدده الرضي: جعل اللفظ دليلا على المعنى قصد التواطؤ عليه بين قوم. وأما الثاني فهو جعل الشيء على هيئة مخصوصة سواء كان دليلا على شيء آخر أم لا ويرادفه البناء والتركيب" (الحاج صالح، 1973، ص40).

ونستنتج من هذا أن الوضع البنوي يتجاوز الوضع الاصطلاحي لأن البنية في ذاتها ليست إلا هيئة للمادة التي صيغت عليها فالنظر فيها من حيث ما تؤديه من وظيفة في الخطاب أي كألفاظ ذوات معان إنما هو نظر في الوضع الاصطلاحي، أما النظر في ذاتها وكيفية حصولها وتفرّعها بعضها من بعض بدون الالتفات إلى ما تؤديه من وظائف في الكلام فهو تحليل يقع في أعلى مستوى من التجريد (الحاج صالح، 1973، ص40).

وعليه فإن الوضع الاصطلاحي يقتضي سلفا وجود الوضع البنوي أو التركيبي لأنه لابد للوضع الاصطلاحي أن ينتظم في بنية مخصوصة، وإلا لما جاز لنا أن نصف اللغة على أنها نظام ومثالات مجردة.

ويشير الحاج صالح إلى استقلال الوضع كتركيب عن الوضع كاصطلاح، "فالأول هو نظام من البُنى يخضع لقسمة تركيبية مجردة من الوضع والاستعمال وهي من ماهية رياضية ككل بنية مهما كان محتواها. وأما الثاني فهو هذا النظام بعدما خُصِص كل عنصر فيه بالدلالة على معنى أو أكثر بمواضعة لغوية. (الحاج صالح، 2016، ص30).

ويؤكد الحاج صالح على قضيتين: الأولى أن نظام الأبنية صالح لأي مواضعة كوضع تركيبي، والثانية أن استقلال الوضع الاصطلاحي عن التركيبي حاصل أيضا بدليل وجود أنواع كثيرة من الأنظمة الاصطلاحية، يقول: "ونؤكد أن أهم شيء ههنا هو أن هذا النظام من الأبنية هو قابل وصالح لأي مواضعة كوضع تركيبي ثم إن استقلال الوضع الاصطلاحي عن الوضع التركيبي حاصل أيضا لأن الاصطلاح وإن كان لا يوجد إلا باللفظ وفي نظام من اللفظ فإنه ليس مرتبطا بنظام لفظي معين والدليل على ذلك هو وجود أنوع مختلفة من الأنظمة الاصطلاحية قديما وحديثا مثل الكتابة وما كان يسمى بالمعَمَّيات ونظام المورس في زماننا". (الحاج صالح، 2016، ص30).

2.2. الاستعمال

وأما الاستعمال فيعرفه عبد الرحمن الحاج صالح كالآتي: "هو كيفية إجراء الناطقين بهذا الوضع في واقع الخطاب" (الحاج صالح، 1973، ص38).

وهنا ينبغي أن نؤكد على أنه ليس كل الوضع يمكن أن يجرى على ألسنة الناطقين في الاستعمال، فمثلا يمكن للقياس أن ينتج عناصر لغوية غير موجودة في الاستعمال، وإنما هي اعتبارية، وتقتضيها قوانين الوضع والقسمة التركيبية، وكان ينبغي لها أن توجد في الاستعمال. هذا من جهة ومن جهة أخرى هناك عناصر لغوية غير موجودة في الوضع، أي لا ينتجها القياس ولا يقرها، غير أنها كثيرة في الاستعمال إما في بابها وإما في ذاتها. ويعلل عبد الرحمن الحاج صالح ذلك بقوله: "فالاستعمال له هو أيضا قوانينه وهي غير القوانين التي يخضع لها الوضع والقياس وهي التي تنبني عليه أحوال التبليغ. وقد قلنا بأن مستوى التبليغ والإفادة غير مستوى الوضع المصطلح عليه لأن هذا الأخير وإن كان هو الرابط الذي يرتبط به المتكلم بالمخاطب إلا أنه قد تصيبه عوارض الاستعمال وهي عوامل جد طبيعية ولها قوانينها الخاصة بها منها ما هو راجع إلى إحدى مراتب الأداء التي ذكرناها وبصفة عامة إلى مقتضى الحال حسب التعبير القديم ولهذا يكثر في الاستعمال العفوي الحذف والإضمار والإبدال والتقديم والتأخير حتى يشذ الكلام شذوذا كبيرا عن القياس وهو مع ذلك مقبول بل قد يكون عكسه غير مقبول" (الحاج صالح، 1973، ص38).

وأن يكون "عكسه غير مقبول" وهذا العكس هو الكلام المطرد في القياس اطرادا، ويكون "الكلام الشاذ شذوذا عن القياس" هو المقبول، فهذا يؤكد أهمية قوانين الاستعمال اللغوي في تحديد أو إعادة تحديد بنية اللغة من خلال الإستراتيجيات التي يتبناها المتخاطبون بهذه اللغة. على أن لا تكون هذه الإستراتيجيات جزئية أو فردية. وإنما يجب أن يتواتر استعمالها، وهذه الإستراتيجيات هي التي تشكل أساس الملكة التخاطبية.

وهذا هو ما يطلق عليه سيبويه "سعة الكلام" وقد يطول تتبع مسائل الاتساع في الكلام فنكتفي بذكر أساس كل ذلك وهو تدافع مبدأين اثنين هما مبدأ الاقتصاد من جهة ومبدأ البيان من جهة أخرى، الاقتصاد بالنسبة إلى المتكلم فهو يروم تقليل اللفظ إلى أقل قدر ممكن، والبيان بالنسبة إلى المتلقي فهو يريد أن يكشف له عن المعنى إلى أكبر درجة ممكنة، ولذلك فإن المتكلم ينتهي تخفيفه لمجهوده حيث يبدأ الغموض (الحاج صالح، 1973، ص39).

"يستعمل سيبويه مادة (و ض ع) كثيرا جدا وذلك بصيغتي الفعل والمصدر الميمي المشتقين من هذه المادة "يضع/يضع والموضع" فمن ذلك:

1

لا يضعه

على التأنيث. (22/4).

2

بل يجعله

اسما مذكرا.

فمعنى "وضع يستنتج من هذين المثالين: وهو إثبات شيء لشيء أو نفي هذا الإثبات" (الحاج صالح، 1913، ص21).

ثم يحدد معنى الوضع بصفة دقيقة فيقول: "هو تخصيص للشيء" (الحاج صالح، 1913، ص22) ، ويدخل تخصيص اللفظ للمعنى في ذلك بداهة، ثم يفرع معنى آخر عن المعنى الأول يتعلق بالهيئة والتركيب المخصوص، قول: "ولهذه الكلمة ومشتقاتها معنى آخر لا جعل اللفظ المعين لمعنى بل جعل الكلام على صورة معينة وتركيب معين" (الحاج صالح، 1913، ص23).

فالوضع بحسب محمد يونس علي هو نسبة المعاني للألفاظ، والاستعمال هو استخدام ذلك المعنى في مقام محدد، أي أن الوضع "هو ما يقوم به واضع العناصر اللغوية (المعجمية والقواعدية) عندما ينسب إليها معنى من المعاني لغرض الدلالة الثابتة عليها، والاستعمال هو إطلاق المتكلم اللفظ في مقام تخاطب معين للتعبير عن قصده" (محمد يونس علي ، 2007، ص09).

أما فيما يخص حقيقة الوضع وطبيعته، فإن وجوده صوري محض، غير متكلَف ولا متوهم. في "الجانب الاستعمالي للغة هو الجانب المحسوس المشاهد، المسموع وهو بالتالي ما يوجد من اللغة في الواقع. أما الوضع فلا وجود له في هذا الواقع إلا مندمجا مع ما يسمع ويلفظ. فوجوده صوري لأنه نظام اللغة وإن كان يستحيل أن توجد أدلة تُفهم بهذا المستوى العالي جدا من التجريد دون أن تبنى على نظام" (الحاج صالح، 2013، ص73).

3. اللفظ والمعنى وضعا واستعمالا

اللغة وضع واستعمال، ثم لفظ ومعنى في كل من الوضع والاستعمال. وهذا المبدأ تخضع له مستويات اللغة كلها، وعليه فإنه "للّفظ في الوضع صيغة معينة وتصرف منها إلى صيغ أخرى فرعية. وله حدود في ذلك وفي اندماجه في التراكيب. وأما المعنى الموضوع له فلا يكون إلا مبهما كالأجناس ومعاني الحروف والمبهمات الأخرى. فإذا استعمل اللفظ وما يدل عليه من المعاني دخلا بذلك في عالم آخر ولا بد حينئذ من أن يتحولا ولو للتكيف فقط بما يقتضيه الاستعمال نطقا ودلالة. فاللفظ عند النطق به يصاب بالضرورة بشيء من التغيير. كما يصيب المعنى أيضا شيء من التغيير لأن المعنى لا يوجد منعزلا عن المعاني الأخرى فهو يدخل في نظام من العلاقات العقلية" (الحاج صالح، 2013، ص111).

فاللفظ في الوضع هو غيره في الاستعمال، والمعنى في الوضع هو غيره في الاستعمال، يقول عبد الرحمان الحاج صالح*: "فاللفظ الوضعي عند العرب هو الذي يدل على المعنى وحده ولم يصب بعوارض ولم يصبه اتساع الصوت في الاستعمال. والمعنى الوضعي هو المدلول عليه باللفظ وحده. والاستعمالي منهما على خلاف ذلك" (الحاج صالح، 2013، ص216).

ويمكن توضيح ذلك كالآتي:

الـلـغـة

الوضع

الاستعمال

لفظ

معنى

لفظ

معنى

ولذلك "فالحرف في الوضع هو جنس من الأصوات وليس صوتا محصلا معينا فالجيم كعنصر لغوي له وظيفة وهي أن تتمايز معاني الكلم بوجوده أو عدمه وهو عنصر صوري ويؤديه المتكلمون بكيفيات مختلفة وكل كيفية تنتج صوتا واحدا معينا مغايرا إلى حد ما لأصوات الجيم التي تنتجها الكيفيات الأخرى. وكذلك هو المعنى ففي الوضع هو مدلول عام للفظ من الألفاظ وليس معنى معينا ينويه المتكلم في أثناء خطابه ويستفيده المخاطب بل هو جنس دلالي ينطبق على الكثير من المعاني الجزئية" (الحاج صالح، 1913، ص39).

فالمعنى في الوضع هو "مدلول عام للفظ من الألفاظ وليس معنى معينا ينويه المتكلم في أثناء خطابه ويستفيده المخاطب بل هو جنس دلالي ينطبق على الكثير من المعاني الجزئية" (الحاج صالح، 1913، ص39). فالمعنى إذن في الوضع هو جنس دلالي، وأما في الاستعمال فهو معنى مخصوص ينويه المتكلم في أثناء خطابه.

ولذلك فإذا أردنا حصر ما تؤديه العناصر الدلالية في الكلام من المعاني الجزئية "فلا بد من الإحاطة بجميع مواقعها في الكلام أو في كيفية حدوثها" (الحاج صالح، 1913، ص39). وهذا النزوع إلى الاستعمال فرضه عليهم تخصصهم اللغوي، فهم لغويون وليسوا فلاسفة. ومن ثم فإننا نجد النحاة القدامى "لا يهتمون بوضع اللغة في حد ذاته -كمواضعة واصطلاح- لأنهم لم يكونوا من الفلاسفة بل كانوا يكتفون بتجريده من الاستعمال كأصل لما يتحول منه إلى غير ما كان عليه في تصرفاته اللفظية والمعنوية" (الحاج صالح، 2013، ص116). فمسألة تحول المعنى إلى غير ما كان عليه تعد من المسائل الأساسية أو الأصول التي بنى عليها النحاة تعليلاتهم اللغوية التبليغية، وفي الحقيقة فإن هذه المسألة هي تجل لأصل آخر أو قاعدة أخرى وهي أن اللغة مبنية على الإبهام.

ويكمل عبد الرحمان الحاج صالح بسط هذه المسألة، يقول: "والدلالة فيه (أي في الاستعمال) كأصل هي ما يسمونه بدلالة اللفظ أو الدلالة الوضعية وتقابلها دلالات مغايرة تماما لها تكون نتيجة تحول الوضع في الاستعمال" (الحاج صالح، 2013، ص116).

هذا عن إثبات التحول، أما عن مقتضيات التحول فسببها "حالتان من الأعراض تصيب الكلام المستعمل لفظا ومعنى في أصل وضعه مع القرائن وهما: ما يسميه النحاة بالاتساع أو سعة الكلام أو المجاز ويخص المعنى ثم تنوع النظم للمعنى الواحد ولأغراض مختلفة وهذا يخص اللفظ والمعنى معا" (الحاج صالح، 2013، ص116).

وسعة الكلام في الحقيقة مبنية على المجاز من جهة ودلالة الحال من جهة أخرى وينتج عن سعة الكلام هذه دلالتان مقابلتان لدلالة اللفظ هما دلالة الحال ودلالة المعنى.

ويمكن أن نلخص كل ما أتينا على ذكره عن الاتساع في الكلام كالآتي:"كل ما يرد في الاستعمال الحقيقي وغيّر عن الأصل لفظا ومعنى أو أحدهما فقط فهو من سعة الكلام أي من سعة الاستعمال سواء كان فيه حذف أم لا" (الحاج صالح، 2013، ص118).

كما أن "المعاني تدل عليها أوضاع اللغة التي تدل بدورها دائما على معان أخرى بالعقل لا بالوضع وتسمى "بلوازم المعنى"، ويدخل في ذلك كل ما هو استدلال بالعقل في فهم الخطاب" (الحاج صالح، 2013، ص128).

وذلك لأن المعنى الناتج عن ما يسمى بالإيحاء أو ظلال المعنى أو لطائف المعنى أو الدلالات الحافة أو معنى المعنى، وهو في الحقيقة، دلالة المعنى ليس سببه الوضع واللفظ وإنما هو معنى ناتج عن المعنى عن طريق العقل والاستعمال.

ولا نزال نؤكد على أن مدلولات الألفاظ لا تحدد إلا بسياقاتها لا بما تذكره القواميس من معانيها، "وبتلك المواقع التي يشاهدها اللغوي في الكلام المسموع يستطع أن يعرف بالموضوعية المطلقة أنواع الأداء وتشعبات المعاني الجزئية" (الحاج صالح، 1913، ص40).

إذا انتقلنا إلى التراث اللغوي العربي فإننا نجد مصطلحا عند عبد القاهر الجرجاني، لا يمكن أن لا نتعرض له في هذا السياق، ودافعنا في إدراج نص الجرجاني هو تبيين علاقة مفهوم دلالة المعنى عنده بمفهوم معنى المعنى في الدراسات التداولية الحديثة، يقول عبد القاهر بخصوص دلالة المعنى :"وإذا عرفت هذه الجملة، فهاهنا عبارة مختصرة وهي أن يقول: "نعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة و«بمعنى المعنى»، أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر" (الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص263).

ثم يفصل الكلام في ذلك كالآتي يقول: "الكلام على ضربين:

  • ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن «زيد» مثلا بالخروج على الحقيقة، فقلت: «خرج زيد»، وبالانطلاق عن «عمرو» فقلت: «عمرو منطلق»، وعلى هذا القياس.

  • وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلّك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض" (الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص262).

ويتبين من هذا القول أن دلالة المعنى عند عبد القاهر الجرجاني هي غير متأتية من الدلالة الوضعية للفظ وإنما هي من دلالة المعنى، إلا أنها هي الأخرى دلالة وضعية أيضا إلا أنها ليست من المستوى التواضعي نفسه، وإنما هي مواضعة ثانية ولذلك نجد عبد القاهر لا يخرج هذه الدلالة (دلالة المعنى) عن ثلاثة أضرب من الكلام يقول:"ومدار هذا الأمر على «الكناية» و«الاستعارة» و«التمثيل»" (الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص262).

الخاتمة

نستنتج في نهاية هذا المقال أن اللغة بنى وتراكيب، وضع واستعمال والوضع اصطلاح وتركيب، ولا وضع اصطلاحي إلا بوضع تركيبي. وبالمقابل اللغة لفظ ومعنى، واللفظ خادم للمعنى كما ألح على ذلك ابن جني، وهذا المعنى هو الحاصل عند استعمال الناطقين لهذه اللغة، وعندئذ يخدم الوضعان الاصطلاحي والتركيبي التواصل والبيان ويصير لهما من المزايا في تنويع الانتظام لعناصرها إلى ما لا نهاية ويحصل الاقتصاد في المجهود بذلك وكل هذا خاضع لقوانين الوظيفة الخطابية.

SAUSSURE FERDINAND (DE) ,(1971) COURS DE LINGUISTIQUE GÉNÉRALE, Payot, Paris.

ابن جني أبو الفتح عثمان، (د.ت)، الخصائص، الجزء الأول، دار الكتب المصرية، مصر.

عبد الرحمان الحاج صالح، (1973)، مدخل إلى علم اللسان الحديث (4): أثر اللسانيات في النهوض بمستوى مدرسي اللغة العربية، اللسانيات، مجلة في علم اللسان البشري تصدرها جامعة الجزائر، معهد العلوم اللسانية والصوتية، الجزائر.

عبد الرحمان الحاج صالح، (2007)، بحوث ودراسات في علوم اللسان، موفم للنشر، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر.

عبد الرحمان الحاج صالح، (2013)، الخطاب والتخاطب في نظرية الوضع والاستعمال العربية، منشورات المجمع الجزائري للغة العربية، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر.

عبد الرحمان الحاج صالح، (2016)، البنى النحوية العربية، منشورات المجمع الجزائري للغة العربية، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر.

عبد القاهر الجرجاني، (د.ت)، كتاب دلائل الإعجاز، تح: محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة.

محمد يونس علي، (2007)، المعنى وظلال المعنى، أنظمة الدلالة في العربية، دار المدار الإسلامي، ط2، طرابلس.

محمد حمراوي

الجزائرAlger 2

Articles du même auteur

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article