مقدمة
يعتمد النسق المفاهيمي للحرب النفسية الإلكترونية والمعلوماتية -التي هي من أخطر أنواع الحروب الموجهة ضد الإنسان- على نظرية حضارة الموجة الثالثة لعالم المستقبليات الأمريكي «ألفين توفلر» حيث يفترضُ أنّ العالم قد تطور بمرور ثلاث موجات حضارية، الثالثة فيها هي حضارة تقنية المعلومات التي أدت إلى تغيرات جوهرية في الأنساق والمفاهيم السائدة في ميدان الاتصال التي أحدثتها مواقع التواصل الاجتماعي أحد وسائل الاتصال الحديثة على شبكة الأنترنت.
بهذا يعد التطور التقني للعالم الرقمي ثورة في جميع المجالات خاصة مجال المعلومات والتي أصبحت تستغل هنا وهناك بأيّ طريقة ممكنة لذلك، بهدف التأثير المباشر وغير المباشر على أولئك الأفراد المتواصلين عبر هذا الفضاء واستغلال الجانب النفسي لهم خاصة في أوقات الأزمات التي تعد أرضا خصبة لإبراز أساليبها المتعددة والمختلفة من دعاية ونشر للشائعات، وممارسة عملية التّضليل الإعلامي والتعديل الفكري وغسل المخ البشري للمستخدم، وإعادة برمجته ومحاولة تطويعه وفق أهداف محددة من قبل القائم بالاستغلال لها، ففي الأزمة تقلّ المعلومات الرسمية وتكثر فيها المعلومات غير الرسمية، فاتحة المجال لتعاظم دور الإشاعة والدعاية النفسية في هذا الفضاء مما يجعلنا في هذا الإطار أمام حرب سيكولوجية بامتياز.
إذ أصبحت الحرب النفسية مع بداية القرن الواحد والعشرين من الأركان الأساسية للعمل السياسي والعسكري في جميع الدول خاصة المتقدمة منها(محمود، 2015، صفحة 318)، حيث شهدت هذه المرحلة تراجعا في عملية التأثير على الآخرين، ومحاولة فرض السلطة والإرادة عليهم بالقوة العسكرية لصالح الحرب النفسية واستخدام قوة المعلومات على الجانب المعنوي في التأثير على الآخرين بدلا من السلاح المادي، وهذا ما نشهده في الأزمات الحالية مثل فشل حصار الدول الخليجية على قطر، هذه الأخيرة التي اعتمدت على البروباغندا الإعلامية لمواجهة الحصار، وأيضا أزمة مقتل "خاشقجي" بين أنقرة والرياض، ومحاولة تقويض صوت الحراك الجزائري في بداية الأمر، وأيضا الحروب الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين قبل أزمة كورونا والدعاية الصينية التي تجاوزت الولايات المتحدة والغرب بخطوات كبيرة في محاربة تداعيات أزمة كورونا وتأميم العديد من الشركات الأجنبية على أراضيها، كل هذا وأكثر يجعل الحرب النفسية للمعلومات التي تحاول اللعب على نفسية الأفراد بقوة كبيرة جدا حرب العصر الحديث خاصة مع انتشار التطبيقات الإجتماعية الداعمة لانتشارها بالسرعة الفائقة بين أفراد الجمهور، وهذا يدفعنا إلى التساؤل أكثر فأكثر حول مصير الفرد هنا الذي أصبح مجرد ألعوبة صغيرة جدا بين القوى الكبرى المتصارعة وتحت سيطرة وسائلها الإعلامية سواء كانت تقليدية أو تكنولوجية، إذ باتت فبركة الأخبار خطرا قد يحيل أعرق الديمقراطيات الغربية إلى «جمهوريات موز» تتحكم بها تحالفات منصات الإعلام الاجتماعي مع وكالات الدعاية السياسية وشركات العلاقات العامة(التميمي، 2018)، فكيف يساهم الفضاء السيبراني في إعادة بناء أساليب ووسائل الحرب النفسية للمعلومات عبر مواقع التواصل الاجتماعي؟ وهل يمكن اعتبار الاستغلال الغير أخلاقي للجانب النفسي للإنسان أحد أشد أسلحة الحرب فتكا في العصر الحالي؟
1. تطور سلطة المعلومات بين الإعلام التقليدي وإعلام التواصل الاجتماعي
كانت وسائل الإعلام في السابق هي المتحكم الوحيد بعملية تدفق المعلومات واستخدامها كما تحب ويرضى بها المؤثرون، في التأثير على عقول الجماهير أو تأطير القضايا بما يخدم المصالح العامة لها وسياستها الإعلامية فكما يقول «ليا ليفرو» في كتابه «وسائل الإعلام الجديدة البديلة والنشطة»: أن لدى وسائل الإعلام القدرة على قيادة وتشكيل المفاهيم العامة والآراء والمشاعر، وفي نظرية تعبئة الموارد والإعلام، تعتبر تكنولوجيا المعلومات والإعلام موردا من أجل استخدامها واستغلالها مثل الآخرين سواء لنشر المعلومات بين الناشطين وتأطير القضايا، أو إعلام وإقناع الجماهير الرئيسية(ليفرو، 2016، صفحة 183)، ونلاحظ أن هذا يسم طبيعة الإعلام بوسائله التقليدية وكذلك التقنية بعد دخوله إلى صراعات عصر العولمة، إذ أنه أصبح في هذه المرحلة سلطة قوية للتأثير في الرأي العام، وأداةً خطيرة للدعاية والحرب النفسية بقصد الغزو والسيطرة وغسل العقول في عالم متغير يتميز بالقطبية الواحدة، وسيطرت الاحتكارات الدولية على ميادين الحياة وخاصة المجال الاقتصادي والإعلامي(عاطف، 2015، صفحة 29).
هذا ما يجعل الإعلام -هنا- أداة معلوماتية خطيرة تساهم في نقل أو تحريف أو منع معلومات معينة من الوصول إلى الجمهور، مما يسمح لها بنشر الشائعات وتحريف الأخبار عن مواضيعها الأساسية اعتبارا لما وفرته الثورة التكنولوجية في أواخر القرن الماضي، والتي جعلت الإعلام أداة للسيطرة على الجماهير وتحريكهم، انطلاقا من صناعة الوهم والخوف الذي يتحكم من خلاله في عقول الجماهير ونفسياتهم، حيث يستثمر صناع الإعلام والساسة هذه الحالة في عملية إنتاج الخوف من خلال جمع المعطيات والأخبار والأحداث وإعادة التعامل معها بفنيات وتقنيات متنوعة، لتأخذ طابع التصنيع ثم تُقدم للجماهير في قوالب إخبارية وأجناس إعلامية بعضها درامي يصعب التخلص من تأثيرها العام، تؤدي هذه الممارسات مع التّكرار والضخ المتزايد إلى تثبيت ما يعرف بثقافة الخوف في وسائل الإعلام، ومنها يصبح للخوف المصنّع إعلاميا سلطة على المتلقي؛ حيث يتحول منتجوا الخوف إلى سائسي العقول وطبعا من خلال قصفها وتظليلها(عبدلي، 2008، صفحة 286)، بل و«نمذجة عقولهم» وفقا لما تريده الأجندة المسيطرة على الإعلام وشبكات المعلومات، فلم يعد بالإمكان تحديد الحدود الجغرافية لمنع تدفق المعلومات وسرية انتقالها، والتي أصبحت في عصر التكنولوجيا عبارة عن سفينة ملغمة عابرة للحدود، تعتدي على كل الخصوصيات الثقافية لدى مختلف دول العالم، رغبة منها لإرساء مفهوم الهيمنة الأحادية على جميع المجالات، بل ومحاولة منهم صناعة محتوى إعلامي ومعلوماتي موحد يسير في نفس السياق التي تريده القوى المهيمنة في رغبة منها لتوحيد الدال والمدلول عند جميع الجماهير التي تصل إليها، وجعلها قابلة لتقبل أيّ نماذج جديدة من الأفكار والمدركات وحتى السلوكيات، وكأنما هدف هذه الحضارة التي أطلق عليها البعض «حضارة الحاسوب والأنترنت» هو اصطياد السلوك الإنساني و«تدجين الإنسان» ضمن سلوكيات سياسية وتجارية وإعلامية واجتماعية ونفسية محددة(القاضي، 2015، صفحة 11).
لم يمر وقت طويل على زرع الرغبة في الانفتاح على العالم الخارجي من قبل وسائل الإعلام داخل عقليات الجماهير، انطلاقا من ادخال عديد المفاهيم الجديدة وتسويقها لهم حتى فتح المجال لبناء نموذج من «الدويلات الافتراضية والرقمية» عبر شيوع استخدام مواقع التواصل الاجتماعي بين البشر في فترة وجيزة جدا عبر أرجاء المعمورة، والتي أصبحت رغم اتساعها بملايين الكيلومترات مجرد عمارة يلتقي فيها المستخدمون للتكنولوجيا، هي دول أصبحت تنافس على الصدارة من حيث عدد سكانها الافتراضيين والمهاجرين من سخط الواقع إلى «حضارة الرقمي» «وخيال الافتراضي» الصاخب، مما يفتح المجال أمام المتحكمين في هذه التكنولوجيات أو لنقل الدويلات إمكانية التحكم في عقول المستخدمين باعتبارهم شظايا جماهير دون دليل يبين لهم ماذا هم فاعلين أو ماذا يريدون وعن ماذا يبحثون.
يمكن القول بأنّ وسائل التواصل الاجتماعي باتت بمنزلة قوة مجتمعية ضاغطة لمصلحة مخططي السياسات وصانعي القرارات في العالم أجمع أو ضدهم، إذ بمقدور هذه الوسائل تهيئة الحشود الجماهيرية الإلكترونية الهائلة، تأييدا لأي قرار أو رفضا له، وبالتالي أصبحت لاعبا رئيسيا في المعادلات السياسية داخل الدولة(السويدي، 2014، صفحة 58)، إذ ساعدت من خلال ذلك على انتشار الإشاعات والأخبار الكاذبة وإعادة بعث الدعاية من جديد، فالأخبار أصبحت تصنع عبرها، بل في بعض الأحيان يتم اختلاقها وهي غير موجودة بالأساس لتحدث تأثيرات نفسية عند الجمهور المتلقي لها؛ من أجل توجيهه في الاتجاه الذي كان يعارضه في البداية وصناعة رأي عام موافق للقضية المطروحة، حيث أن صناعة المعرفة والمعلومات وأهمية دورها هو الراجح في تكوين الرأي العام والسيطرة عليه، وهذا أدى الى اكتشاف قوة المعلومة وصناعتها واستغلالها في مجالات الدعاية السياسية والاقتصادية، للتمهيد للسيطرة الاقتصادية والسياسية من طرف «الدول الغنية» على «الدوال الفقيرة» في المعلومات... هذه المعلومات يمكن التلاعب في مضمونها الموجه للجماهير في تلك الدول، فتلونُ تلك المعلومات والأخبار بألوان زاهية توافق ثقافة الجمهور المتلقي ووجهات نظره(البطريق، 2007، الصفحات 97-99) انطلاقا من إشراكه في عملية النقل والنشر للأخبار التي قلّ ما تجدها اليوم صادقة نسبيا، وهذا ما يجعل إعلام مواقع التواصل الاجتماعي إعلاما يحتل هوامش لم يعد الإعلام التقليدي قادرا على الولوج إليها، فمشاركة المتلقي في عملية النشر، ومقدرته على التفاعل مع المحتويات الإعلامية، وإنتاج المعلومة والتي قد ترتقي في بعض الأحيان إلى قيمة الخبر الذي يأتي به الصحفي(زرن، 2017، صفحة 22)، وذلك ما يجعلها مؤثرة بشكل كبير في حياة المستخدمين وتمتلك القدرة على تحريكهم في اتجاهات محددة لهم من قبل صانع المعلوم أو الخبر.
2. إشكالية الحرب النفسية للمعلومات
بإختلاف الزمان والمكان تختلف طبيعة الإنسان عن غيره، وبه أيضا يكون لكل عصر حروبه التي تختلف عمن قبله وعمن بعده في الوسائل والخطط والإستراتيجيات، مع قوة التطور التكنولوجي لم يعد هناك لزوما لإفتعال «حروب مادية» ذات نتائج مادية أيضا، ففي عصرنا الحالي لابد من القيام بحروب ذات وسائل متطورة وجديدة، لها آثار كبيرة ليس على الجانب المادي بل تفتك قبل ذلك بالجانب المعنوي والروحي للإنسان، ونحن لا نقول بأن هذا النوع من الحروب وليد هذا العصر ولكنه أسلوب قديم، لكن التكنولوجيا هي من جعلت منه أشد فتكا بالبشرية في الإعلام التقليدي بداية ووصولا إلى الأنترنت ومواقعها الإجتماعية التي تم الاستثمار فيها بكثرة في إحباط الروح المعنوية للأفراد عن طريق الدعاية، الإشاعة، الأخبار الزائفة، والتي كلها تعتبر أحد وسائل الحرب النفسية المتعلقة بالمعلومات الموجهة للسيطرة على «نفسية الإنسان».
يقول «صلاح نصر الدين» عن الحرب النفسية بأنها استخدام وسيلة ما بقصد التأثير في عقول وعواطف الجماعات لغرض ما(الشيخ، 2019، صفحة 248)، وهذا يدل على أنها حرب تستهدف عقول وعواطف الإنسان بغية التأثير فيها وتوجيهه لتحقيق أهداف معينة تصب في مصلحة القائمين على العملية بصفة عامة مثل ما حدث «للحراك الجزائري» في نهاية الأمر حيث أصبح موجها من طرف جهات خفية تسيطر على وسائل الإعلام التقليدية وأيضا وسائل الإعلام الاجتماعي انطلاقا من نشر الشائعات والأكاذيب حوله لدى الرأي العام وبهذا تم قتله نفسيا وضرب مصداقية المستمرين فيه، ولهذا يمكن اعتبار هذا النوع من الحرب عبارة عن خليط من المعلومات والأفكار والمذاهب أو نداءات خاصة تنتشر أو توزع لتؤثر في آراء ومعتقدات وانفعالات واتجاهات وسلوك فرد أو جماعة أو شعب بأكمله دون استعمال العنف لأجل أن يستفيد الجانب الذي يوجهها بشكل مباشر أو غير مباشر(الضلاعين، 2014، صفحة 123)، مما يجعل منها حرب معنوية لا تعتمد على استخدام «السلاح المادي» رغم أنها عادة ما تلازم الحروب والأزمات وتستخدم في السلم والحرب على حد سواء على الرغم من قوة تأثيرها بين وقت الحرب والأزمات وما بعدها حسب الظروف والاستراتيجيات المطروحة(العتابي، 2018، صفحة 52).
حيث يظهر ذلك بشكل واضح في الواقع اليومي الذي نعيشه ونمر به ونشاهده في كل بلدان العالم، اذا أصبحت الحرب التقليدية لا تجدي نفعا أمام مقاومة الشعوب، وأصبح النزول لميدان المواجهة أمرا مكلفا تماما بالنسبة للدول والأنظمة لأجل فرض سيادتها أو وجهة نظرها بالقوة، فكان لزاما عليها تغيير عقليات الشعوب أولا: انطلاقا من محاصرتهم بتخمة المعلومات التي قلّ ما نجد الصادق فيها، ثم بعد هندسة عقولهم وفقا لذلك، انطلاقا من صناعة أزمات وهمية لهم، هي في الأساس لا وجود لها في الواقع، وتجعلهم يبحثون لها عن حل أو أي شيء يأخذهم إلى الخلاص من أي فرد أو نظام كان حتى ذلك الذين كانوا ضده في البداية، وهنا يأتي دور الجهات المهندسة لكل هذا وتقدم لهم الحلول على طبق من نار، إما أن يقبلوا أو تستمر أزماتهم الوهمية، فتعمل المعلومات عملها في تغيير عقول الأفراد وكلّما طالت المدة كلّما انفضّ الناس عما خرجوا من أجله وتحولوا إلى ضد له، ولنا في الثورات العربية خير مثال على ذلك، حيث طالت مدة الأزمات المفتعل فأصبح الجميع يتحسّر على الأنظمة التي سقطت، وكأنهم لم يكونوا يوما يطالبون برحيلها، وهذا هو في الحقيقة أنموذج الحرب النفسية التي تستثمر فيه الأنظمة ضد شعوبها المقهورة.
ليست غاية الحرب النفسية مقتصرة على استعمالها من طرف «الانظمة الحاكمة» ضد شعوبها وإنما تستعمل أيضا من طرف دولة أو دول ضد دولة أو دول أخرى، خصوصا تلك الدول القوية معلوماتيا ضد الدول الفقيرة معلوماتيا، إذ ترى «وزارة الدفاع الامريكية» في هذا أن الحرب النفسية للمعلومات هي تلك العمليات المخططة التي تصاحبها مؤثرات منتقاة موجهة إلى مستمعين أجانب بهدف التأثير على مشاعرهم ودوافعهم وتبريراتهم المنطقية، بأقصى درجة لسلوكيات الحكومة الأجنبية والمنظمات والجماعات والأفراد(سميسم، 2010، صفحة 18)، ويرى «يونس زنكي ابادي» في مقال بعنوان «الوجه الجديد لسياسة ترامب في حملة الضغط الأقصى ضد إيران» أن العملية النفسية هي نوع من حرب المعلومات مخطط لها لنقل معلومات مختارة إلى جمهور خارجي، للتأثير على العواطف والدوافع والتفكير الموضوعي وفي نهاية المطاف سلوك الحكومات والمنظمات والمجموعات والأفراد، وهو ما يتحقق من خلال خلق الفتنة وتعظيم الاستياء داخل المجتمع(الصمادي، 2020).
تتحالف هنا التكنولوجيا والمعلومات مع بعضهما بالإضافة إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي، لتصبح الحرب النفسية التي تعتمد على قوة امتلاك المعلومة والقدرة على صناعتها بل وفبركتها أشد فتكا على الرأي العام والجمهور بصفة عامة، إذ تعتبر التكنولوجيا والوسائل المتطورة هي الأجنحة والأذرع التي تحمل الحرب النفسية وتحلق بها في سماء الناس وتوصلها الى أكبر عدد ممكن، ومن غابت عنه تكتيكات وابتكارات التكنولوجيا الحديثة في علم النشر والتأثير والتوصيل والايحاء وحفظ المعلومات يصبح كداع إلى الهيجاء بغير سلاح...فإن الحرب المادية والنفسية على حد سواء تعتمد الى حد كبير على التكنولوجيا الحديثة والأجهزة المتطورة السلكية واللاسلكية والوسائل السمعية والبصرية(الدباغ، 1997، صفحة 19) فعصر التكنولوجيا العالية مدفوع بالحاجة إلى امتلاك كميات دائمة التعاظم من المعلومات، وأولئك الذين يفتقرون إلى هذا (فقراء المعلومات) يطردون من السباق(نايار، 2017، صفحة 21)أو يكون مصيرهم إلى الاتباع أو الزوال.
3. الفضاء السيبراني كمكان مستحدث للحرب النفسية للمعلومات
بداية الفضاء السيبراني هو ذلك العالم الرقمي الذي يتناظر مع عالمنا الواقعي، يلتقي فيه الأشخاص عبر الشبكات والمواقع الاجتماعية فيؤثرون فيه ويتأثرون به، يهندس مجتمعات وكيانات رقمية تشبه في صميمها تلك الواقعية من حيث وجود الأفراد وسلطة الاتصال، لكنها تختلف عن الواقعية في توسع العلاقات وقوة تشابكها في عالم يحكمه «اللازمان واللامكان»، «اللامرئي والمجهول»، تسيطر عليه الآلة والبيانات الرقمية التي تعتبر الوسيط الأول المفضي لكل ذلك، هو فضاء واسع نجد فيه ما نريد أن نكونه نحن لا ما هو كائن في الواقع، ولذلك يغلب عليه الافتراض والوهم الحقيقي في الكثير من الأحيان فيكون له بذلك تأثير كبير على الحالة النفسية للمتواصلين عبره، تصل إلى حد الاضطراب والتقوقع حول الذات وتجاهل ذلك الآخر القريب واقعيا البعيد رقميا، في مقابل آخر وهمي بعيد جدا واقعيا قريب رقميا أو بالأصح افتراضيا، فهو فضاء يسمح لكل شخص أيا كان وأينما وجد بالتعبير عن أفكاره دون تردد أو تخوف(Monier, 2002, p. 158).
يعتبر كاتب الخيال العلمي «ويليام جيبسون» «William Gibdon» أول من صاغ تصورا لهذا المصطلح عام (1982) في شكل هلوسة جماعية يشترك فيها مليارات المنشغلين يوميا في كل دولة كتمثيل للبيانات المستخلصة من بنوك المعلومات في جميع أجهزة الكمبيوتر في العالم، حيث قام جيبسون بالجمع بين كلمة السبيرنيطيقا Cybernetics التي تعني علم التحكم الآلي مع كلمة الفضاء Space واستخرج منهما مصطلح الفضاء السيبراني Cyberspace الذي أصبح حقيقة مع انتشار الأنترنت على نطاق العالم(فرحات، 2019، صفحة 90)، فهو الآن ذلك الفضاء الذي يتميز بالمعلومات المنتشرة بسرعة الضوء وإلغاء المسافات(hard, 2012, p. 83).
إنه ذلك العالم الافتراضي الذي يتشابك مع عالمنا المادي يتأثر به ويؤثر فيه بشكل معقد، حيث تقوم العلاقة بين العالمين على نظرة تكاملية تحمل بين طياتها مزايا ومخاطر لا تتوقف(شلوش، 2018، صفحة 190)، أوجدته تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وفي مقدمتها الأنترنت، ويرتبط هذا الفضاء ارتباطا وثيقا بالعالم المادي، عبر البنى التحتية المختلفة للاتصالات، والأنظمة المعلوماتية، وعبر العديد من الخدمات التي لم يكن بالإمكان الحصول عليها من دونه (بركات، 2012، صفحة 274)، بالإضافة إلى هذا نجد أن «الاتحاد الدولي للاتصالات» يصف الفضاء السيبراني بأنه المجال المادي وغير المادي الذي يتكون أو ينتج عن عناصر هي أجهزة الكمبيوتر، والشبكات، والبرمجيات، وحوسبة المعلومات، والمحتوى، ومعطيات النقل والتحكم، ومستخدمو كل هذه العناصر(يحيى، 2013، صفحة 67)، وبهذا فهو ذلك الوعاء الذي تختزن فيه المعلومات وتتحرك فيه الرسائل الإلكترونيّة المتبادلة بين جهازك سواء كان هاتفا ذكيا أم كومبيوتر أم لابتوب أو أجهزة أخرى(بري، 2019، صفحة 22)، ويوجد هناك من يرى أن الفضاء السيبراني هو المجال الخامس للحرب بعد المجال البري والجوي والبحري والفضاء وأيضا يعرف على أنه المجالين المادي وغير المادي من عدة عناصر منها الكمبيوتر وأجهزة اتصال الشبكات والبرمجيات وحوسبة المعلومات والمحتوى ومعطيات النقل والتحكم ومستخدمو كل هذه الآليات والعناصر ويجدر القول أن هذه العناصر هي العامل المشترك لجميع محاور استخدامات الفضاء السيبراني (بوغرارة، 2018، صفحة 104).
4. الرأي العام عبر مواقع التواصل الاجتماعي
ساهم ظهور الأنترنت عامة ولا سيما الشبكات الإجتماعية في تحول الرأي العام من «الواقع الحقيقي» إلى «رأي عام إلكتروني» عبر منصات وصفحات التعبير عن الرأي بالفضاء الإلكتروني، ولم تقتصر عملية التعبير عن الرأي على الأدلاء بالرأي فقط، بل أيضا مشاركة الرأي والتفاعل مع الآراء الأخرى والتعبئة والضغط وغيرها من العمليات الأخرى(رفعت، 2018، صفحة 97)، إذ يعرف أستاذ علم النفس الاجتماعي والسياسي «فلوريد ألبرت» «FloyedAllport» الرأي العام بأنه تعبير جمع كبير من الأفراد عن آرائهم في موقف معين، ويمكن استدعاؤهم للتعبير عن أنفسهم سواء كانوا مؤيدين أم معارضين لمسألة نهائية معينة أو لشخص أو اقتراح ذي أهمية واسعة النطاق بحيث تكون نسبتهم في العدد من الكثرة والاستمرارية كافية لإحداث إمكانيات التأثير على العقل بطريقة مباشرة اتجاه الموضوع الذين هم بصدده(الداعمي، 2016، الصفحات 57-58).
لذلك فالرأي العام في الواقع هو نفسه عبر مواقع التواصل الاجتماعي فالدور الذي يمارسه يعتبر نفسه، لكن الاختلاف البسيط بينهما هو «حرية التعبير» ففي الواقع حرية التعبير مقيدة بعض الشيء من قبل السلطة وغيرها من المؤسسات المؤثرة على المجال العام، لكن «حرية التعبير» في «المجال العام» الذي تتيحه مواقع التواصل الاجتماعي غير مقيدة بعض الشيء فهي تمنح الأفراد المنتسبين لها بالتعبير عن أي شيء وإعطاء الرأي في كل شيء تقريبا، ويتساوى فيها رأي الأغلبية مع رأي الأقلية، فالكل يعبر عن رأيه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما يرى «محمد مصطفى رفعت» في كتابه «الرأي العام في الواقع الافتراضي وقوة التعبئة الافتراضية»، بأن الرأي العام الرقمي هو الرأي المتاح بالفضاء العام عبر وسائل الإعلام الجديدة المختلفة، قد يكون موجودا بمواقع التواصل الاجتماعي والمدونات ومواقع تشارك الفيديو والوسائط المتعددة أو على ساحات المنتديات وعبر غرف الدردشة أو البريد الإلكتروني...إلخ، ويعتبر محصلة الآراء الشخصية اتجاه حدث أو قضية جدلية في وقت محدد، وبالتالي لا يمكن اختزاله في رأي الأغلبية نظرا لأن رأي الأقلية قد يعلو صوته في «المجال العام الافتراضي» ويكسر دوامة الصمت(رفعت، 2018، صفحة 69).
وعلى هذا يرى الباحثون أن الرأي العام عبر مواقع التواصل الاجتماعي ينشأ دائما حول قضية معينة، ويزول بزوال أسبابها التي أدت إلى ظهورها، والقضية تنشأ بسبب مسألة فكرة أو شخص، وتستقطب اهتمام الجمهور أو قطاع كبير منه لعلاقتها المباشرة بمصالحه القومية أو السياسية أو الإجتماعية(هشام، 2019، صفحة 253)، فكلما زادت المعلومات المطروحة للنقاش حول قضية معينة زادت إمكانية تكوين رأي عام موافق أو معارض لقضايا الشأن العام سواء كانت السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو غيرها من القضايا التي تهم الرأي العام داخل المجال الذي ينشط فيه، وفي سياق آخر مرتبط بعلاقة الرأي العام بالسلطة فإن ظهور الأنترنت والمواقع الإلكترونية فرض واقعا جديدا أكثر تنوعا، وسرعة، وحراكا ومن ثم بات على تلك الأنظمة أن تتعامل مع هذا الواقع المغاير، من خلال آليات تقنية، وبرامج رقابية متطورة على الأنترنت، في ضوء ضعف عمليات الردع الإلكتروني، وغياب الشفافية، وقدرة المستخدمين على التخفي في الفضاء السيبراني (حسين، 2017، صفحة 12)، وهذا ما فرض واقعا جديدا في هذه العلاقة الآنفة الذكر، إذ مهما سارعت السلطة في فرض سيطرتها الرقابية والتتبعية للمستخدمين الذين ينتمون إلى جغرافيتها الواقعية على فضاءات موقع التواصل الاجتماعي فلن تتمكن من ذلك، لكنها تمتلك سلطة المعلومات الرسمية تتحكم في تداولها وكيفية تناولها ونشرها، فهي من الممكن أن تستخدم العديد من الوسائل الأخرى في السيطرة على الرأي العام دون أن تتم مراقبته، انطلاقا من العمل على توجيهه بوسائل مباشرة أو غير مباشرة تتيحها الحرب النفسية، وسلطة المعلومات الرقمية على المستخدم المشكل للرأي العام الرقمي.
5.أساليب ووسائل الحرب النفسية للمعلومات عبر فضاءات مواقع التواصل الاجتماعي
إن الأنترنت يمكّنُ الناس من البحث عن المعلومات دون أن يعرفوا ما الذي يحتاجون معرفته من البداية وصار لزاما على المصادر الرسمية التنافس مع الشائعات ونظريات المؤامرة والدعاية في بيئة تنتج كل عشرة أيام ما يوازي محتوى مكتبة جامعة أكسفورد التي تحتوي على ستة قرون من المواد المكتوبة، أصبح لمصدر الخبر أو المعلومة أهمية كبيرة(روس، 2012، صفحة 60)، وعلى هذا تتعدد وتتنوع أساليب ووسائل الحرب النفسية للمعلومات في العالم الرقمي الذي تشكل فضاءاته وسائل الإعلام والتواصل الرقمية وعلى رأسها مواقع التواصل الاجتماعي، من حيث الاستثمار في الشائعات والتي تكوّن مجموعة من المعلومات الصحيحة جزئيا، لكن طرحتها الجهات المسؤولة عبر «الفضاء العام الرقمي» بغرض قياس أثرها على الجمهور المتلقي والرأي العام بصفه عامة وتعديلها اذا لم تتناسب مع واقعهم، ممارسة الاحتيال المعلوماتي وصناعة الأخبار الكاذبة، انطلاقا من قيام السلطة أو المستخدمين بتلفيق قصص إخبارية لا أساس لها في الواقع بغية التأثير في الرأي العام وتوجيهه لتحقيق أهداف سياسية أو شخصية، بالإضافة إلى ذلك نجد أن الدعاية حاضرة أيضا ضمن وسائل الحرب النفسية للمعلومات لكن هذه المرة بشكل رقمي وكل ما تقوم به الأحزاب السياسية أو المنظمات الحكومية أو المنظمات الاستخباراتية من دعاية لكياناتها أو لسياستها أو لسياسات دولها، نجد كذلك من وسائل الحرب النفسية الذباب الإلكتروني وصناعة الهويات المزيفة لغرض إغراق مواقع التواصل الاجتماعي بالدعايات والأخبار الكاذبة، ومحاولة إنتاج رأي عام مزيف ولا أساس له من الوجود في الواقع، بالإضافة إلى صناعة أزمات فرعية للتغطية على الأزمات الرئيسية وتوجيه الرأي العام إلى هذه الأزمات الجديدة، والبحث لها عن حل مع تجاهل الأزمة الرئيسية.
وفيما يلي تفصيل مهم لذلك:
1.5. الاستثمار في الشائعات
في البداية تعتبر الإشاعة تاريخيا من أهم وسائل الحرب النفسية؛ لأنها تعتمد على المعلومات الموجهة بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى أنها في بعض الأحيان يمكن أن تكون جزءا من معلومات صحيحة، وبذلك لا يمكن لنا الحديث عن إطار مفهومي عام يمكن أن تندرج تحت سياقه الشائعة، وينظر لها من خلاله، فالكثير من الباحثين ينظرون لها من خلال الغاية التي أُعدت من أجلها في البداية، وأيضا الهدف القائم بالاتصال أو الجهة الإعلامية المصدرة لها من أجل نشرها لدى أفراد الجمهور، فنجد من يرى أنها تلك المعلومات أو الأفكار التي يتناقلها الناس دون أن تكون مستندة إلى مصدر موثوق يشهد بصحتها، والشائعة تروج لخبر مختلق ولا أساس له من الواقع أو على المبالغة والتي تكون في سرد خبر يحتوي على جزء ضئيل من الحقيقة، تهدف إلى التأثير على تفكير الإنسان وعلى أفعاله وخياله بصورة تجعله يضيف إلى الشائعة كلاما وفي نفس الوقت تزداد انتشارا وجاذبية(حربي، 22-23 افريل2019، صفحة 07).
يؤكد هذا على أن متلقى الإشاعة لا يتلقاها مكتوف الأيدي، بل يساهم في نشرها ويضيف معلومات جديدة عليها ويقوم بتضخيمها حتى تصبح قابلة للتّصديق دون الحاجة للتعرف على مصدرها، ويرى «اولبورت» في كتابه «سيكولوجيا الإشاعة» بأنها كل قضية مقدمة للتصديق، تتناقل من شخص إلى شخص دون أن تكون لها معايير أكيدة للصدق(نوفل، 1987، صفحة 15)، ويذهب «ديفونز وبورديا» إلى القول بأن الشائعة تحيل إلى مجموعة من الأخبار غير المؤكدة والتي يتم استثمارها وتداولها في سياقات تتسم بالغموض والخطر والتهديدات المحتملة، والتي تساعد الأفراد على إدارة الأزمات التي يعيشونها وإضفاء معنى على حياتهم(العزعزي، 2016، صفحة 32).
نرى أن كل المفاهيم المتعلقة بالشائعة تشترك مع بعضها البعض في العديد من الخصائص المميزة للشائعة خاصة في أنها مجهولة المصدر، غير مؤكدة، تنتقل بسرعة، ليس لها معايير للصدق، يتم الاستثمار فيها من قبل جهات معينة، وهذا يؤكد مدى خطورة الشائعات على المجتمع خاصة من حيث تركيبته التي تسمح لها بالانتشار، إذ ساهمت الوسائل الجديدة بالفعل ومع مرور الوقت في إشباع رغبات المتلقي وحقه في المعرفة والمشاركة الفعالة في نشر الخبر ولكن في الأغلب من دون مصداقية، فالشائعات تنتشر من خلالها بسرعة كبيرة جدا(الجويلي، 2014، صفحة 190)، إذ يمكن اعتبارها عبارة عن مجموعة من المعلومات المحرفة عن أصلها يتم تناقلها ونشرها ومشاركتها عبر الحسابات المختلفة في شبكات التواصل الاجتماعي بشكل خاص ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها بشكل عام، بهدف زعزعة الاستقرار أو النيل من الخصوم، أو المشاركة في نشر هذه الشائعات بحسن نية(امين، 2016، صفحة 431).
ينتج من مخلفاتها لدى المتلقي العديد من الآثار النفسية التي تؤثر على وعيه، من قلق، وخوف، وذعر، وعزلة، وعدم الثقة في المعلومات، والغضب الشديد، وغيرها من الآثار النفسية التي يمكن أن تخلفها عملية الترويج لتلك المعلومات التي تدور حولها الإشاعة، وغير المتحقق من صدقها ومصدرها عبر هذه المواقع الإجتماعية(سالم، 2020، صفحة 967)، وتنتشر بكثرة في وقت الأزمات الإجتماعية والوطنية، ولذلك فإن زمن الحرب هو أنسب وقت لتلك الإشاعات ونشرها حيث يكون الأفراد في حالة استعداد نفسي لتصديق كثير من الأخبار والأقاويل التي يسمعونها نظراً لحالة التوتر النفسي الذي يعيشونه(شلدان، 2010، صفحة 157)، مما يتم توجيههم إلى المواقف التي كانوا يقفون ضدها في البداية برضى عن أنفسهم، فهي مثل هجوم مبرمج على نفسية وعقل الآخر لغرض إحداث التفكّك والوهن والارتباك فيه وجعله فريسة(العتابي، 2018، صفحة 52).
2.5. الاحتيال المعلوماتي وصناعة الأخبار المزيفة
أصبح الاحتيال المعلوماتي والأخبار الزائفة مظهرا للثقافة السائدة اليوم، حيث يسهل إنتاج هذا المحتوى وتوزيعه مما يرسخ الشك في المجتمع، بل وتساءل البعض إن كانت الحقيقة لا تزال موجودة أم أن البشرية تعيش في «عصر التزييف والتضليل»(الراجي، 2018)، لقد ساعدت الحالة السائدة للإعلام الرقمي التي ترافقت مع «الجيل الثاني للويب (0.2)» واختلت فيها أيضا سلطة الضوابط المهنية، على التوسع في إنتاج الأخبار الكاذبة وانتشارها، وخلافا لمرحلة «الجيل الأول» التي أسهمت بشكل غير مباشر في مشاركة الأخبار وانتشار المعلومة والمعرفة، وأيضا التعاون في إنتاج المحتوى والكتابة المشتركة للوثائق، كما عززت ظاهرة الأخبار المجهولة و«الأسماء المستعارة» التحلل من القواعد الأخلاقية والضوابط الإجتماعية للحوار، وولّدت الشعور بالإفلات من المحاسبة، الذي يشجع على ترويج الإشاعة والدعاية بكل أصنافها(لحمر، 2020، صفحة 590).
فالأخبار المزيفة هي مصطلح يشير إلى مجمل الأخبار والمعلومات التي تظهر على أنها حقيقية في حين أنها مزيفة، تروج قصص كاذبة حول مختلف الموضوعات للحصول على نسب عالية من المشاركة على المنصات الإجتماعية خاصة الفايسبوك والتويتر، يتم انشاؤها للتأثير في الجماهير وآرائهم واتجاهاتهم وسلوكياتهم لصالح جهة معينة أو لإحداث روح الدعابة والطرافة على شخصيات أو أحداث أو حتى السخرية من أشخاص أو حدث ما(يسعد، 2020، الصفحات 125-126)، ففي سياق هذا الصراع الرمزي،
«أصبح المجال الرقمي-الشبكي بنموذجه الاتصالي الأفقي، وحالته الإعلامية السائلة وتمُد شبكاته ومنصاته، ملاذا ومحضنا لاصطناع الأخبار والوقائع وفبركة البيانات، فضلا عن تزييف الأحداث وتركيب سياقاتها.وتفاقم ذلك مع اندثار سلطة حارس البوابة، لاسيما في شكلها الرقابي، بعدما كان الإعلام التقليدي بنموذجه الإخباري العمودي يمكِّن شبكة الحراس من التحكُّم في الحلقات الاستراتيجية لعملية الاتصال والسيطرة على سلاسل إنتاج المحتوى، مثل الموقع الفرنسي «لوغورافيLe Goraf»الذي انطلق خلال الانتخابات الرئاسة الفرنسية، عام (2012)، عبر صفحات تويتر، ويتأسس خطابه على السخرية المنتجة للتضليل الإعلامي كما اشتهر بالترويج للأخبار الكاذبة»(الراجي، 2018)
لكن على خلاف ذلك نجد أن هناك رأي آخر لفهم سياقات الأخبار الكاذبة، وأن مفهوم الكذب ليس مرتبط بالخبر بحد ذاته، وإنما من خلال رؤيتنا وتوظيفنا لمفهوم الكذب، ووصف به الرأي غير الموافق لرأيينا أو المعارض له؛ أي أن الأفراد يميلون إلى تكذيب كل ما يخالف رأيهم ما لم يحتوي على بيّنة تدحض ما هم يؤمنون به، حيث يرى ذلك «ميشال ميلرMichael Miller» في قوله:
«إن بعض الأخبار التي يروج لها على أنها مزيفة هي في الواقع حقيقية وأن مصطلح الأخبار المزيفة تم اختطافه وتوظيفه من قبل السياسيين الذين يستخدمونه لوصف القصص الإخبارية والمحتويات الصادرة عن وسائل إعلام لا يحبونها أو لا يتفقون معها، فقد يرى سياسي ما قصة إخبارية غير جذابة بشكل خاص فيسميها أخبار وهمية، في محاولة منه لرفض القصة والمصدر معا، لكن لا يمكن القول أن قصة إخبارية مزيفة أو الحقائق التي جاءت بها غير صحيحة لمجرد أن شخصا ما لم يقتنع بها لأن الواقع أثبت أن معظم الأخبار التي تم وصفها بأنها مزيفة من قبل أشخاص من السلطة ليست مزيفة على الإطلاق لذلك فإن أقوى الأشخاص في العالم لا يمكنه جعل قصة إخبارية حقيقية مزيفة بمجرد قولك ذلك، ولكن يمكنه تشويه مصدر الأخبار هذا في أذهان متابعيه»(يسعد، 2020، صفحة 127).
3.5. الدعاية الرقمية
يرى «أنطونيو ميواتو» أن الدعاية عبارة عن وسيلة فنية للضغط الاجتماعي، تميل إلى أن تكون جماعات نفسية واجتماعية، لها بناء موحد (أو متشابه) قائم من الحالات المؤثرة والذهنية للأفراد محل الإعتبار، كما يرى جوزيف غوبلز أنه ليس للدعاية في حد ذاتها طريقة أساسية، فهي لها هدف واحد فقط وهو اخضاع الجمهور، وتعتبر كل الوسائل التي تخدم هذا الهدف وسائل جيدة، وعلى هذا فإنه يرى أنّ الغاية تبرر الوسيلة(كمال، 2020، الصفحات 17-18)، لذلك فعند ما نعو الى التاريخ نجد الكثير من نماذج الدعاية المشهورة في العالم، والتي حققت الكثير من الأهداف للقائمين بها على غرار «الدعاية الصهيونية» التي بدأت بعد تأسيس «الحركة الصهيونية» سنة (1882) و«الدعاية النازية» التي أسّسها كل من «هتلر» ووزيره «غوبلز» إبان الحرب العالمية الثانية، والتي عملت على الاستفادة من الغرائز الإنسانية لدى الأفراد، بالإضافة إلى الدعاية الشيوعية»، والتي تقوم على أسس فلسفية محددة ومستمدة من العقيدة «الماركسية اللينينية» والتي تهدف إلى السيطرة الكاملة للحزب الحاكم من خلال التوجيه الثقافي والتربوي والاجتماعي(كمال، 2020، الصفحات 50-60).
أيضا في الحاضر نشهد أسلوب الدعاية الرأسمالية الحديثة الذي يعمل على الدعاية إلى خصخصة كل شيء وبناء نظام عالمي جديد في إطار العولمة الكونية وأيضا أسلوب الدعاية الإسرائيلية الحديثة الذي بموجبه طوّر الجيش الإسرائيلي أساليب جديدة للتأثير في وعي الجماهير على مواقع الإعلام الاجتماعي، فأنشأ أفرع الإعلام الاجتماعي عام (2009) الذي يتولى تنفيذ أشكالها الخفية في التواصل مع الجمهور الدولي وتزايد حضور المتحدث العسكري الإسرائيلي على شبكات التواصل الاجتماعي بهدف الانفتاح على العالم، بما يعرف بـــ «الدبلوماسية العامة العسكرية عبر الإنترنت» لرغبتها في إقامة اتصال ثنائي الاتجاه مع الجمهور، بخاصة الجمهور العربي الذي يقوم عليه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية «أفيخاي أدرعي»، المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي إعلامي محترف من أصول سورية(قوطة، 2019، صفحة 44)، وهو الذي يشغل عبر مجموعاته الاستخباراتية آلاف الحسابات الرقمية والتي تحوز على متابعة مئات الآلاف من المتابعين في العالم العربي، وبما أن المحتوى موجه للعرب فهم يتحدثون العربية بل ويصل بهم الأمر إلى أن يستشهدوا بآيات من القرآن وأحاديث من السنة من أجل كسب متابعيهم على وسائل التواصل الاجتماعي انطلاقا من توظيف «الدبلوماسية الرقمية» لتحقيق التطبيع بين العرب وإسرائيل لشرعنة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ويسدلون الرداء على الانتهاكات التي يقومون بها على الأراضي المحتلة تحت فكرة محاربة الإرهاب، واستغلال إدراج قادة وأعضاء الحركات التحررية الفلسطينية على قائمة الإرهاب، والترويج لفكرة الأعداء المشتركين؛ أي أن الإرهاب عدو مشترك للعرب والإسرائيليين.
زِد على ذلك أنها تستغل الاستبداد الذي يقوم به بعض الحكام العرب ضد شعوبهم، وتقول جيوشنا تحميكم وحكامكم يقتلونكم وغيرها من الشعارات التي تجد في العالم العربي من يتفق معها، فهل تقوم إسرائيل بأكبر عمليات غسيل دماغ للعرب في التاريخ؟ خاصة وأن قمة العداوة لها بدأت تنتهي من الوجود في العالم العربي، والشعوب العربية أصبحت لا تعترض على إمكانية القيام بعمليات التطبيع بين أنظمتها والنظام الإسرائيلي؟ حيث يتم اليوم استخدام العديد من الوسائل الرقمية والمعلوماتية في إعادة التعليم وبناء العقل العربي من جديد وفق ما يتوافق مع الذهنية الإسرائيلية، والأنشطة المرتبطة بعمليات غسيل المخ، متضمنة طرقا معقدة يتم اتباعها بالتدريج من أجل تحويل المستهدف إلى حليف مؤيد للدعاية التي وجهت إليه ووقعت عليه (كمال، 2020، صفحة 66)، وهذا ما يحاول «افخاي ادرعي» عمله مع المستخدمين العرب الذين يرون في مواقع التواصل الاجتماعي منبرا حرا للتعبير عن آرائهم.
4.5. الذباب الإلكتروني وصناعة الهويات المستعارة
برز «الذباب الإلكتروني» بشكل لافت في الصراعات والأزمات السياسية انطلاقا من توظيف المعلومات المزيفة ونشرها على أوسع الحدود بغية التأثير في الطرف الآخر، خاصة في منطقة الخليج العربي أثناء الأزمة الخليجية الحالية بين قطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة، كذلك الجدل الذي أحدثه الاشتباه في تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية في (2016)، واتهامها بالتلاعب بالرأي العام الأمريكي وتوجيهه أثناء الحملة الانتخابية من خلال اختراق الشبكة الخاصة للجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، وتسريب معلومات على شبكة الإنترنت للتأثير عل السلوك الانتخابي للمواطن الأمريكي ، أيضا أثر الذباب الالكتروني في الأزمة السورية فحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى منبر للتعبة وتغذية الطائفية والكراهية وميدان معركة افتراضية يقودها داعمي النظام السوري ومعارضيه(برزيق، 2018).
حيث يعمل الذباب الإلكتروني على تحقيق المعادلة الكمية الأساسية في بناء الرأي العام وتوجيهه على النحو الذي يخدم مصالح المراكز المهيمنة في المجتمع، وذلك عبر أساليب ميدياتيكية مختلفة تراوح في الغالب بين التغريد المتناغم والتعليق المكثف، وإعداد النشرات المضادة للرأي المخالف(الحيدري، 2019، صفحة 193)، وهذا انطلاقا من الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، والروبوتات في فتح حسابات وهمية لأفراد وهميين لا وجود لهم في الواقع، يخترعون قضية معينة وينشرون حولها ويشاركون المنشورات حولها على أوسع نطاق حتى تشيع وتتفشى بين أكبر عدد من المستخدمين، لتتحول هذه القضية في النهاية إلى قضية رأي عام، ومن ثم العمل على دفع أكبر قدر من المعلومات المتعلقة بهذه القضية إلى مواقع التواصل الاجتماعي والوقوف ضد كل من يعرضها انطلاقا من التبليغ عليه أو حظره واغلاق حسابه.
بالإضافة إلى ذلك نجد أن بناء «الهويات المستعارة» أو «المزيفة» من أهم أساليب الحرب النفسية وجزء من هندسة ما يعرف بـ «الذباب الإلكتروني» الذي تحدثنا عنها حيث يقوم مجموعة من الأفراد تغيير وتزييف هوياتهم والدخول إلى المجموعات الفايسبوكية انطلاقا من التوافق مع الطابع الهوياتى العام للمجموعة ومن ثم البدأ شيئا فشيئا بنشر معلومات مغايرة للإتجاه السائد في المعلومة تحت قضايا للنقش، ومن ثم مرارا وتكرارا حتى تتم عملية البرمجة التلقائية لبعض أعضاء المجموعة وبذلك تضمن أفراد يوفقونك في الرأي، وهكذا حتى يصبح كل أعضاء هذه المجموعة ينشطون ضد الرأي الذي كانوا يتبنونه في البداية، ونصبح أمام عملية غسيل غير مباشرة لعقول الجماهير وإعادة برمجة وتحويل توجه الرأي العام انطلاقا من الإعتماد على الجانب النفسي له، هذا الكلام يمكن إعتباره واحد من أهم نماذج صناعة الهويات المستعارة لتحقيق أغراض جهات مؤثرة سواء كانت جهات سياسية أو حكومية أو اقتصادية وغيرها.
5.5. افتعال أزمات غير موجودة وهندستها
يعتبر افتعال الأزمات وهندستها اليوم في المنظورات الإعلامية والسياسية شيء من الفن والمتعة السياسيّة للمؤسسات الإعلامية والهيئات السياسيّة لتحريك الشعوب وردعها وقهرها وتوجيهها وفق ما تحب وترضى، انطلاقا من اللعب على نفسيتها الهشة التي تتناغم مع كل جديد خاصة إذا كانت هناك أزمات داخلية أخرى، إذ يمكن توجيه الرأي العام للشعوب عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتأثير عليه من خلال تبني قضايا هامشيّة يتم إثارتها على الشبكات الإجتماعية من قبل بعض اللجان الإلكترونية والأجهزة المخابراتية بهدف إلهاء الرأي العام وتوجيهه لقضايا هامشيّة، من خلال افتعال المشكلات بهدف انتزاع ردود الأفعال من الجمهور وتشكيل أراء حول مشكلات وهميّة بحيث يندفع الجمهور طالبا لحل يرضيه(رفعت، 2018، صفحة 153) لتلك القضايا، والتي في كثير من الأحيان هي غير موجودة بالأساس، خاصة تلك الأزمات الهوياتية التي يتم افتعالها من طرف السلطات الحاكمة للتفتيت موقف الشعب وزرع العداوة فيما بينه، وبهذا يتحول الرأي العام عن قضيته الأساسية ويسير وراء قضايا وهميّة هامشيّة لا أساس لها في الواقع، أو افتعال تلك الأزمات الاقتصادية للتقليل من طلبات المواطنين برفع المستوى الاجتماعي، انطلاقا من خلق أزمة اقتصادية أو اجتماعية يصبح الخروج منها بقبول تدني الأوضاع المعيشية للمواطن، إشعار هذا الفرد أنه مهدد بالخطر في كل سلوكياته، وعند ما يحس بذلك الخطر الذي يحدق به، يتم وضع له مجموعة من النماذج التي يجب عليه أن يختار إحداها لأجل أن ينجو مما يهدده، وهكذا يحقق من قام بإختراع الأزمة أهدافه في السيطرة على الفرد وتخلص من الأزمة الأساسية معا، لذلك يتم القيام بهذا النوع من عمليات الحرب النفسية ضدّ الرأي العام خاصة في أوقات الأزمات لغرض توجيهه عن الأزمة الأساسية وافتعال أزمات أخرى داخل الأزمة، تجعله يرى أنه لابد من البحث عن حلول لهذه الأزمات، وبذلك يتدخل هؤلاء المؤثرون ويقدمون لها حلول تصب في مصالحهم وتفادي خروج الوضع الرئيسي عن السيطرة.
6. إعادة تشكيل الرأي العام رقميا
كثيرة هي الجهات المؤثرة التي تريد دوما توجيه الرأي العام لخدمة أغراضها الشخصية، وكسب رأي عام موالي لوجهة نظرها وبما أن عملية السيطرة على الرأي العام في الوقت الحالي تحتاج إلى التمكن من السيطرة على وسائل الإعلام الاجتماعي الجديد والتكنولوجية حتى تتمكن من الوصول إلى أكبر فئة من الرأي العام المهتم بالقضية التي تخصها، وهذا نظرا لقدرة وسائل الإعلام سواء كانت التقليدية أو الجديدة على الوصول إلى إعداد كبيرة من البشر والتأثير عليهم بسهولة، ولهذا ساد الاعتقاد بأن وسائل الإعلام تستطيع أن تغير اتجاهات الأفراد والسيطرة عليهم، وأن وسائل الإعلام قد حلت محلّ العنف والقهر في السيطرة على الجماهير وسلب عقولهم(امام، دون سنة نشر، صفحة 17) انطلاقا من اللعب على نفسيتهم واقناعهم بواقع جديد للقضايا التي يهتمون بها، وهذا انطلاقا من ممارسة الاتصال الإقناعي من خلال طرح قضايا منطقية تؤثر على المتلقين لها، وتجعلهم يؤيدون الطرح التي تتبناه تلك الجهة على حساب الجهة الأخرى؛ حيث تهدف أية عملية اتصالية لإقناع المتلقي والتأثير فيه معرفيا ونفسيا وسلوكيا عبر تزويده بالمعلومات والبيانات سواء كانت صحيحة ضمن سياقاتها الطبيعية أو معلومات ناقصة أو حتى كاذبة ومفبركة، ويتم ذلك بأساليب وبرامج مختلفة(الراجي، 2018) عبر مواقع التواصل الاجتماعي انطلاقا من استخدام المتلقي نفسه كمؤثر في العملية الإعلامية أو الاتصالية وهذا من خلال أن هذه الوسائل تتيح له إمكانية مشاركة المعلومة وتعديلها، انطلاقا من أن هذا المتلقي يعتمد على مواقع التواصل الاجتماعي بصفة كبيرة في تلقي معلوماته مع علمه أن هذه المعلومات في كثير من الأحيان غير صحيحة، لكنها توفر له إمكانية المشاركة الحرة للمعلومة وحصد المزيد من الإعجابات والمشاركات لمعلومات هي في الحقيقة عارية من الصحة، وهكذا تعتمد استراتيجية الحرب النفسية للمعلومات على مدّ المتلقي بمجموعة من المعلومات المتناقضة مع بعضها البعض في الآن نفسه تجعله في حيرة من أمره هل يصدق هذا أم يصدق هذا مما يؤدي إلى تشظي الرأي العام الأولي المعارض وتحدث عملية إعادة تشكيل رأي عام يتفق مع هدفها حيث يمكن للمعلومات والإشاعات التي تتولىّ الجهات المستخدمة بثها أن تؤدي إلى تشكيل رأي عام يتبلور بالإتجاه التي تسعى إلى تحقيقه(الداعمي غ.، 2019، صفحة 212).
من أجل تحقيق ذلك أدركت الدّول والجهات الحكوميّة قيمة الإعلام الجديد فسارعت بهيئاتها المختلفة المدنية والعسكرية وكذلك التنظيمات والأحزاب السياسية إلى استخدام وسائل الإعلام الجديدة ومنها شبكات التواصل الاجتماعي لنشر المعلومات وحشد الجماهير وتوجيههم والتأثير فيهم، أما في أوقات الصراع والأزمات فيزداد هذه الاستخدام وتحديداً من قبل القوات المسلحة(قوطة، 2019، صفحة 44)، هذا من أجل تحجيم التأثير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجال العام السيبراني من أجل إحباط التعبئة السياسية للمعارضة، أو حتى تشويه الخصوم السياسيين، أو القبض على قادة المعارضة الإلكترونية من أجل بعث رسائل قوية إلى مستخدمي المواقع الإلكترونية، بما فيها مواقع التواصل الاجتماعي بأنها تستطيع الوصول لهم، بل وعقابهم، في محاولة منها للسيطرة على تنامي المعارضة الإلكترونية(حسين، 2017، صفحة 12) وعلى نفس المساق تقوم المعارضة بعملها من خلال نشر الإشاعات والمعلومات المفبركة لسد الفراغ المعلوماتي التي تتركه الجهات الرسمية مبهما حول العديد من القضايا التي تهمّ الرأي، وكذلك في الأزمات الدولية نجد أن عمليّة إعادة التحكم في الرأي العام وبرمجته حاضرة أكثر من غيرها من الاستراتيجيات العسكرية الأخرى، وهذا لأجل قلب موازين القوى التأثيرية الرمزيّة يبن الدول المتخاصمة أو المتنازعة، فانتقلت العمليّة من ممارسة القوة المادية على الجمهور إلى التحكم في إرادته وخياراته؛ إذ أصبح الدور المحوري للشعوب في هذا الصنف الجديد من الحروب، سواء تعلق الأمر بالسكان المستهدفين في أرضية المواجهة، أو بالرأي العام في الدولة التي تشن الحرب، أو بالرأي العام الإقليمي والدولي، وأصبحت أهداف الحرب أقل مادية، يؤدي فيها العامل النفسي والدعائي دورا محوريا، وسببه تنامي التغطية الإخبارية السمعية البصرية المباشرة للأحداث لحظة وقوعها عبر مواقع الأنترنت والفضائيات إلى جانب ضعف سيطرة أنظمة الحكم على توجهات مواطنيها(شلوش، 2018، صفحة 194)، فهي لم تعد قادرة بحكم التقدم التكنولوجي المأهول بالتحكم والسيطرة على «المجال العام السيبراني»، كونه ينشط خارج إرادتها وعلى نطاق عالمي وبهذا تصبح مواقع التواصل الاجتماعي الرقمية والفضاء الرقمي الذي تتيحه مكان مستحدث لتشكيل الرأي العام، بل وإعادة برمجته وتعليبه وتوجيهه من خلال الحرب النفسية للمعلومات وفق الأجندات الخفية والمعلنة التي تريدها الدولة في بعض الأحيان، مثل ما يحدث في الدول التي حدث فيها «الربيع العربي»، أو وفق ما تريده الجهات الشعبية المعارضة للأنظمة الحاكمة مثل ما يحدث في البلدان التي حدث فيها «الحراك الشعبي»، أو وفق ما تريده دولة ما من دولة أخرى مثل ما حدث في أزمة «حصار قطر» ونشر الأخبار والإشاعات الملفقة ضد النظام القطري من طرف كل من دول الحصار، بالإضافة إلى الدعاية المضادة من طرف قطر للحفاظ على صورتها لدى الرأي العام الداخلي والخارجي.
يتعاظم العمل الواسع بهذا النوع الفتّاك بالعقل البشري من الحرب في سياق «الصراع الرمزي والأيديولوجي» لإنشاء معان وإنتاج سرديات بديلة، أو ما سمي بالحقائق البديلة، لمواجهة الخطاب المنافس والخصوم السياسيين، أفرادا ومؤسسات وكيانات سياسية، عبر شبكات التواصل الإجتماعي والإعلام الجديد عموما. فتنشط الجيوش والذباب الإلكتروني في الترويج للخطاب القائم بالفبركة، وإغراق المجال العام الرقمي والتقليدي أيضا بالأخبار الكاذبة عن الخصم السياسي، والتشويش على الخطاب المنافس من خلال مئات الحسابات الوهمية. وتمثل هذا الواقع قصة شركة «كامبريدج أناليتكا البريطانية» لتحليل البيانات والاستشارات السياسية و«وكالة الأخبار الاتحادية الروسية» وقبل ذلك قصة اختراق «وكالة الأنباء القطرية» التي تبين دور صناعة الأخبار الكاذبة/المفبركة في تفجير الأزمات السياسية وتداعياتها الإجتماعية والإنسانية والاقتصادية، وتأثيرها أيضا في العلاقات الدولية والسلم والأمن العالميين(الراجي، 2018)
الخاتمة
هناك صراعات إلكترونية ذات طبيعة ناعمة للحصول والبحث عن المعلومات في أي شكل كانت من أجل استخدامها كسلاح نفسي للتأثير في الآخرين وتوجيههم لتشكيل وإنتاج رأي عام منمذج ومبرمج وفق أسس وآليات يحددها الذين يسعون للسيطرة على أكبر قدر من المعلومات، ليتم إعادة صياغة هذه المعلومات والتعامل معها بشكل يحقق لهم أهدافا أكبر، انطلاقا من نشر الشائعات والقصص الإخبارية الملفقة والدعايات الرقمية لتشظية وعي المتلقي وإفقاده الثقة في نفسه وعقله وقدراته الشخصية في البحث عن المعلومات وتمييز الصادق من الكاذب منها أو التأكد من صحتها، وبرمجته وفق أنموذج "نحن من سنحدد لك ما الصحيح الذي يجب أن تتبعه"، لذلك فالحرب النفسية للمعلومات في العصر الرقمي المرتبط بقوة المعلومة، ومن يملك المعلومة فيه يملك كل شيء، يسعى ممارسوها إلى إعادة إنتاج السلوك البشري للرأي العام رقميا وتوظيفه لتحقيق غايات شخصية سياسية اقتصادية اجتماعية ثقافية...الخ من الأهداف والغايات التي تستخدم من خلالها هذا النوع من الحرب على الجانب البشري، وعلى هذا يمكن لنا القول أن القضية في الأساس هي قضية أخلاقية في العموم، فأنا كمؤثر مثلا في المجال العام الرقمي أو كسياسي أو مستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي هل من الأخلاق أن نعتمد على التـأثير السلبي على نفسية الآخرين لأجل أن تُحقق أهدافنا، هل من المعقول أن يتم إخفاء المعلومات عن الجماهير ويتم الكذب عليهم، لماذا تؤلف قصص كاذبة لتغطى بها قصص أخرى حقيقية؟ كيف تخترع حكوماتنا أزمات فرعية لطمس أزمات أخرى تهدف إلى التغيير من الواقع المعاش لدى الجمهور؟ والأهم من ذلك كيف يمكننا التّخلص من كل ما يشجع على قيام مثل هذه الحروب التي تفتك بقدرات العقل البشري على التفكير أولا وقبل كل شيء؟ الإجابة تكمن في الأخلاق، فهل نحن كمستخدمين للمواقع الإجتماعية أخلاقيين أم غير أخلاقيين؟ وبالتالي فكل شيء مباح للسيطرة على المستخدم الآخر.