الغاية الأولى من اللغة هي التواصل، ولا يكون تواصل إلاّ إذا فهم المتلقي عن المرسل رسالته، ولا يتمّ ذلك -أصالة- إلا باستكمال الشروط التي لابدّ أن تتوفّر في الرسالة والتي لخصها بول غرايس في القواعد الأربعة المدرجة ضمن مبدأ التعاون. غير أنّ الواقع الكلامي له رأي آخر، فغالبية ما نتخاطب به لا يكترث بالمحافظة على هذا المبدأ. فنجد ضروبا من الكلام ظاهرها يدلّ على معنى وباطنها أو المقصود منها معنى آخر. ويظهر ذلك جليا في الخطاب الإشهاري الذي الغاية منه استمالة القارئ أو السامع لمقولة الإشهار أو محاولة إقناعه بجدوى المعروض، ومن ثمّ اقتناؤه.
وهذا الخطاب المضمر له دور كبير في عملية الإقناع، وهو الخطاب الرئيس الذي يودّ صاحب الإشهار إرساله.
وقد لفت هذا النوع من الخطابات الدارسين سواء المعتنون بالدراسات اللغوية أو غيرهم من فلاسفة أو علماء اجتماع أو غيرهم، نظرا لما يكتسيه هذا الموضوع من أهمية بالغة في التعاملات الإنسانية.
والإشكالية التي نطرحها هي: كيف نظرت الدراسات التداولية -بمختلف نظرياتها- للكلام المضمر ضمن الخطاب الإشهاري؟
وللإجابة عن هذه الإشكالية تكلمنا عن المواطن التي دُرس فيها الكلام المضمر في الدراسات التداولية، وأتبعناه بالحديث عن الخطاب الإعلامي وبالأخص الخطاب الإشهاري وشروطه.
1. المبحث الأول: التداولية ومقتضيات الخطاب
ظهرت التداولية في أعمال كثير من الفلاسفة، والمناطقة، والسيميائيين، ويبحث هذا الدرس عن نفسه في مواربات معقّدة للتاريخ الثقافي، الذي لا يعدّ أكثر عقلانية من بقية التواريخ الأخرى.
فالتداولية مثيرة للاستنكار. لأنها تخضع لتأثير التقاليد المحلية من جهة، حيث أنّ للثقافة والفكر وسطهما في الحياة. ومن جهة أخرى، فالنبوغ الفردي عنيد في دفعه إلى الاعتقاد في الجديد تحت الشمس.1
اقترح هانسون تنظيم التداولية حسب ثلاث درجات:
1.1. درجات التداولية:
1.1.1. التداولية الدرجة الأولى
تدرس الرموز الاشارية للتعابير المبهمة، ضمن ظروف استعمالها (بمعنى سياق تلفظها). وينحسر السياق في هذه الدرجة من التداولية في الموجودات ومحددات الموجودات بمعنى المخاطبون، ومحددات المكان والزمان.2
واصطلح عليها في الدراسات التداولية بالإشاريات (Les deixis)، وتسمى عندنا في التراث العربي بالمبهمات، وهي عامل مهم في تشكيل بنية الخطاب وذلك بقيامها بدورها النحوي، ووظيفتها الدلالية. ويستغل المرسل هذه المبهمات في الخطاب الذي يكون بينه وبين المرسل إليه، عندما يمدّه في نسيج يتجاوز في كليّته الجملة الواحدة، فتصبح فائدتها في الدرجة الأولى الإحالة إلى المعلومات القديمة التي تلفّظ بها أحدهما، والتي أصبحت جزءا من المعلومات المشتركة.3
وترتبط الإشاريات بالسياق –سواء كان لغويا أو مقاميا- ارتباطا وثيقا، فلولا السياق لما كان لها معنى يستفاد منها. ومن ثمّ سميت هذي الإشاريات بالكلمات الفارغة، التي تمتلئ بالسياق بالذي ترد فيه.
وتنقسم الإشاريات إلى ثلاث أنواع: الإشاريات الشخصية كضمير المتكلم وغيره؛ والإشاريات المكانية ، وهي المسماة بالظروف المكانية؛ والإشاريات الزمانية والتي يطلق عليها اسم الظروف الزمانية.
كما نجد
« إشاريات نصية لتسمية المشيرات التي تحيل على أماكن ولحظات نفس النص الذي ترد فيه: من قبل، في الفصل السابق الخ. وليست الإمارة في هذه الحالة لحظة التلفظ أو مكانه وإنما المكان من النص أو اللحظة منه التي تظهر فيها العبارة المشيرية.
وتتعلّق الإشارية الناكرية بتعابير الإشارية الاسمية التي ليس مرجعها حاضرا لا في النص المصاحب ولا في مقام التواصل [مثل] (ها هو ذلك الحائط القديم المنهار المحمّل لبلابا ينتصب فجأة في ذاكرتي) ».4
2.1.1. التداولية الدرجة الثانية
دراسة طريقة تعبير القضايا في ارتباطها بالجملة المتلفظ بها، إذ على القضية المعبر عنها أن تتميز عد الدلالة الحرفية للجملة. أما الذي ترتبط به هذ التداولية فهو السياق بمعناه الموسع عند ستالناكر(Stalnaker)، إنه سياق الاخبار والاعتقادات المتقاسمة، لا السياق الذهني.5
وموضوع بحثنا -هذا- يندرج ضمن هذا النوع من التداولية، والذي يمكن أن نصطلح عليه بتداولية متضمنات الخطاب.
3.1.1. التداولية الدرجة الثالثة
هي نظرية أفعال الكلام، ويتعلق الأمر بمعرفة ما تمّ من خلال استعمال بعض الأشكال اللسانية.6
وهي النظرية التي تأسست في أحضان فلسفة اللغة العادية لمؤسسها لودفيج فتنجشتاين، وأسس نظرية أفعال الكلام كل من جون أوستين (John Langshaw Austin) ضمن كتابه كيف نفعل الأشياء بالكلمات، وتلميذه جون سيرل (John Searle) في كتابه أفعال الكلام.
2.1. نظرية غرايس (المنطق والمحادثة)
صاغ هربرت بول جرايس نظريته عن المعنى ضمن محاضراته - من سلسلة محاضرات ويليام جيمس - التي ألقاها عن المعنى، وأشهر مقال نشره هو المقال الذي يتكلم حول « المنطق والمحادثة » (Logic and Conversation)، والذي نشر سنة 1975.
تكلم غرايس في هذا المقال عن ما يسمى بالدلالة الطبيعية والدلالة غير الطبيعية، منطلقا من ميزة في اللغة الانجليزية حيث الفعل To mean يترجم في الآن نفسه بـ « اشار »، ودلّ، وقصد. ويقابل أمثلة من قبيل « يشير منبه الحافلة إلى الانطلاق » و« تدلّ البثور على جلد زيد على أنه يعاني من مرض جدري الماء » بأمثلة من قبيلك « أن يقول زيد لعمر: إنّ غرفتك زريبة خنزير »، فهو يقصد أنّ غرفة عمرو وسخة وغير مرتبة« . حيث توافق مجموعة الأمثلة الأولى الدلالة الطبيعية، وتوافق المجموعة الثانية الدلالة غير الطبيعية، فهي صلة قائمة بين محتويات يريد القائلون غبلاغها والجمل التي استعملوها لإبلاغها.7
وملخص مقال غرايس يتمثل في:
-
التفريق بين الجملة (Phrase) والقول (Enoncée).
-
التفريق بين ما قيل وما تم تبليغه.
-
ذكره لمبدإ التعاون والذي مفاده: »ليكن انتهاضك للتخاطب على الوجه الذي يقتضيه الغرض منه.
فبين أن هذا المبدأ يوجب أن يتعاون المتكلم والمخاطب على تحقيق الهدف المرسوم من الحديث الذي دخلا فيه، وقد يكون هذا الهدف محدّدا قبل دخولهما في الكلام أو يحصل تحديده أثناء هذا الكلام.« 8
وشرح غرايس هذا المبدأ مقترحا لأربعة قواعد يفترض على المتخاطبين أن يحترموها حالة قيامهم بالعملية الخطابية، وهي: قاعدة الكم التي ومفادها أن تتضمن مساهمة المتكلم حدّا من المعلومات يطابق ما هو ضروري في المقام دون زيادة أو نقصان؛ وقاعدة النوع التي تفترض على القائل نزاهته وعدم كذبه، وممتلكا للحجج والبراهين على صدق مقاله؛ وقاعدة العلاقة (أو المناسبة) والتي مفادها أن لا يكون الكلام خارج الموضوع المتحدّث فيه؛ وقاعدة الكيف التي تعني أن نعبّر بوضوح وبلا لبس قدر الإمكان.9
وإذا ما خرقنا قاعدة أو أكثر من مبدإ التعاون فإننا نخرج إلى ما يسمّى بالاستلزام الخطابي.
هذا باختصار ما جاء في مقال غرايس.
3.1. الخطاب المباشر والخطاب غير المباشر
في حواراتنا اليومية غالبا ما نقول شيئا ونقصد شيئا آخر، بمعنى أن جلّ خطاباتنا لا تكون من قبيل الخطاب المباشر، بل نتوسل لتبليغ ما نريده بخطابات غير مباشرة تفهم من خلال عناصر السياق الذي يجري فيه الخطاب.
وقد ميز سيرل بين الأفعال الإنجازية المباشرة والأفعال الإنجازية غير المباشرة (الخطابات المباشرة والخطابات غير المباشرة)، حيث عرّف الأفعال الإنجازية على أنها تلك الأفعال التي تطابق قوتها الإنجازية مراد المتكلم بمعنى أن يكون ما يقوله مطابقا لما يقصده من الكلام. أمّا الأفعال الإنجازية غير المباشرة فهي التي لا تتفق فيها قوتها الإنجازية مع قصد المتكلم. وأورد سيرل المثال الآتي لتبيين نوعي الأفعال الإنجازية: إذا قال رجل لشخص جالس أمامه على المائدة: هل تناولني الملح، فهذا فعل إنجازي غير مباشر، إذ قوته الإنجازية الأصلية تدلّ على الاستفهام بدليل ورود »هل« في بداية العبارة. لكن الاستفهام هذا ليس هو قصد المتكلم، بل هو عبارة عن طلب مؤدب ومهذب يؤدّي فعلا إنجازيا مباشرا هو: ناولني الملح.10
»وقد حاول العلماء والباحثون التمييز بين هذين النوعين من الأفعال الإنجازية من خلال مجموعة من الضوابط والحدود يمكن عرضها على النحو التالي :
إن الدلالة الإنجازية للأفعال المباشرة تظل ملازمة لها في مختلف السياقات، أمّا الأفعال الإنجازية غير المباشرة، فموكولة إلى السياق الذي لا تظهر دلالتها الإنجازية إلاّ فيه.
إنّ الدلالة الإنجازية للأفعال غير المباشرة يجوز أن تُلغى، فإذا قال لك صاحبك: أتذهب معي إلى المكتبة؟ فقد تُلغى الدلالة الإنجازية غير المباشرة وهي الطلب؛ ليقتصر الفعل على الدلالة الإنجازية المباشرة وهي الاستفهام.
إنّ الدلالة الإنجازية غير المباشرة لا يُتوصّل غليها إلاّ عبر عمليات ذهنية استدلالية تتفاوت من حيث البساطة والتعقيد، أمّا الدلالة الإنجازية المباشرة فتُؤخذ مباشرة من تركيب العبارة نفسها.11
4.1. الافتراضات والمضمرات
من المفاهيم التداولية التي عنت بالتأويل الخطابي نجد الافتراضات والمضمرات ، وقد اعتنت الباحثة الفرنسية كاترين كيلبرات أوركيوني (Catherine Kerbrat-Orecchioni) بهذه المفاهيم، خاصة في كتابها المسمّى بــالمضمر (L’implicite).
ينبني العمل التأويلي على بناء تمثيل دلالي- تداولي من الملفوظ منسجم ومقبول وممكن من الناحية المنطقية، وذلك بالتوليف بين المعلومات المستخرجة من الملفوظ مع بعض المعطيات السياقية، وبفضل قواعد المنطقي الطبيعي والقواعد التحادثية. إنّ حساب المكنيات إجراء معقّد تتدخل فيه كفاءات متنوعة...
تمكن المضمرات من تفهّم أدقّ للآليات التأويلية، تفهّم يقيم الدليل على الطبيعة الضبابية للمحتويات الدلالية والتداولية، المشكوك فيها لاستخراجها. وعلى كلّ، فالفهم الشامل للملفوظ يضمّ فهم مقتضياته، ومضمراته وكل استلزاماته.12
1.4.1. الافتراضات
تقول أوركيوني معرفة للافتراضات بقولها:
« نصنذف في خانة الافتراضات كل المعلومات التي، وإن لم تكن مقرّرة جهرا (أي تلك التي لا تشكل مبدئيا موضوع الخطاب الكلامي الحقيقي اواجب نقله)، إلا أنها تنتج تلقائيا من صياغة القول التي تكون مدوّنة في بشكل جوهريّ، بغضّ النظر عن خصوصية النطاق التعبيري الأدائي. »13
ويرى ديكرو أنّ
« الاقتضاء هو عمل أن نقتضي، والمقتضيات أنماط خاصّة من المحتويات المرسومة في الملفوظات. وللمقتضيات الخصائص الآتية: (1) تناسب حقائق يفترض أنّ للمرسل إليه علما بها سابقا (بديهيات مشتركة أو وقائع خاصّة ترجع إلى معارفه السالفة)، وتكوّن ضريا من الأرضية تنبني عليها المنطوقات (التي من شأنها على العكس أن تناسب معلومات جديدة)، وتضمن اتساق الخطاب في الحين الذي تتعهّد فيه المنطوقات بتقدّمه. وبهذه الصفة يكفّل بها ضرب من الصوت الجماعي وتتعلّق ديكرو بتعدّد الأصوات التلفظية. (2) لا تتأثّر بالنفي ولا بالاستفهام. (3) لا يمكنها مدئيا أن تُبطل ولا أن تستعمل قاعدة التسلسل. »14
2.4.1. المضمرات
« المضمر مفهوم من مفاهيم تحليل الخطاب مستخدم في المقاربات للنص السردي وخاصة عند دراسة الحوار. وهو يسمح للشخصية المتكلّمة بأن تقول دون أن تقول (Mainguenau,1990)، وينشأ من حاجة المرء إلى أن يقول أشياء وإلى أن يتمكّنن في الآن نفسهن من التصرف كما لو أنه لم يقلها (Ducrot, 1980). ويتطلب إدراكه جهدا استدلاليا لأنه يمثّل مضامين الملفوظ غي المصرح بها. وذلك بخلاف المعطى الذي هو ما يؤكدّه المتكلم بصورة صريحة.15
وتضمّ المضمّنات كلذ المعلومات القابلة للنقل عبر قول مّا والتي يبقى تفعيلها خاضعا للسياق التعبيري الأدائي. وتعّ المضمرات بمثابة القيم المتبدّلة والمتقلبة والتي يمكن إبطالها. ويتطلّب فكّ شيفرتها حسابا تأويليا مريبا بدرجات متفاوتة دائما. ولا يمكن أن تفعّل حقّا إلاّ في ظروف معينة ليست سهلة تحديد المعالم. ولكنّها قيم مدرجة حقيقة في القول، حتّى لو تطلّب فكّ ترميزها –إضافة إلى الكفاءة اللسانية التي يتمتّع بها الشخص الذي يفكّ الترميز- كفاءاته الموسوعية و/ أو البلاغية التداولية التواصلية.
وتتميّز المضمّنات على العكس من الافتراضات بعدم الثبات. كما يمكننا الكشف عن المضمّنات باختبار القدرة على الحذف (أي، الإلغاء، وإبطال التأثير) الذي يلجأ إليه غرايس لتحديد العلاقات التضمنية التحادثية. 16
كلّ المفاهيم السابقة الذكر تتعانق فيما بينها وتتعالق، إذ كلّها محتاجة إلى السياق المقامي او الاجتماعي، أو المعارف السابقة لتفكيك شيفرة الكلام المنطوق. وعليه فلا بدّ لمحلل الخطاب من الوعي التام بهذه المفاهيم أو ما يقابها ليقترب بشكل أفضل من المعاني المخبوءة وراء الملفوظ.
والخطاب الإشهاري يعتمد بشكل كبير إن لم نقل كلي على مثل هذه الأنواع من الخطابات التي تخاطب العقل الباطني أو ما يسمّى بمنطقة اللاوعي من دماغ الإنسان، حتّى يكون التأثير بها كبيرا.
2. المبحث الثاني: الخطاب الإعلامي والإشهار
يمتاز العصر الحديث بالتطور التكنولوجي الذي اكتسح كلّ ميادين الحياة، خاصّة في مجال المعلومات ونقلها. في حين كانت المعلومة لتنتقل من مكان إلى آخر تعتمد على المشافهة أو الرسائل التي ترتكز على العنصر البشري أو الحيواني لنقلها، صارت الآن لا تحتاج لتبلغ جميع أقطار الأرض وجهاتها الأربع إلاّ على كبسة زرّ.
وقد استفادت المنصات الإعلامية من هذا التطور في نشر المعلومات، والسعي إلى التأثير على أكبر شريحة ممكنة من المجتمع، فتنوعت أساليب تبليغ المحتوى الإعلامي وتعدّدت. فكان لزاما على المختصين أن يتطرّقوا إلى هذه الأساليب لتبيين فضائلها، والتحذير من مخاطرها على الفرد والمجتمع.
للإعلام درو هامّ في حياة الأمم والشعوب ولا تكاد تخلو أمّة من أمم الأرض أو شعب من شعوبها من تأثيرها سلبا أو إيجابا وإن اختلفت وتعددت الطرق والأساليب لهذا التأثير.
ويبقى الإعلام المعاصر بتقنياته المتطورة ووسائله المختلفة دليلا على التحضر ومعلما من معالم التقدّم بين الأمم. فيه تستطيع الأمّة –أيّ أمّة- أن تضاهي بمبادئها وقيمها ومنجزاتها، وبسببه (أي الإعلام) تفتح الأمم نوافذ المعرفة وسبل الاتصال ووسائل التعارف بيما بينها.17
1.2. الخطاب الاعلامي(مفهومه، مميزاته، أنواعه)
1.1.2. مفهومه
اختلفت وتعددت تعاريف ومفاهيم الإعلام كلّ حسب رأيه وزاوية نظره، وسنورد مجموعة من التعاريف ذكرها صاحب كتاب الإعلام موقف إذ نجدها شاملة لمعظم التعارف في معانيها.18
يعرف ابراهيم الإمام الإعلام بقوله: »الإعلام هو نشر للحقائق والأخبار والأفكار والآراء بوسائل الإعلام المختلفة« .
ويعرفه عمارة نجيب:
» كل نقل للمعلومات والمعارف والثقافات الفكرية والسلوكية بطريقة معينه من خلال أدوات ووسائل الإعلام والنشر الظاهرة والمعنوية ذات الشخصية الحقيقية أو الاعتبارية بقصد التأثير سواء عيّر موضوعيا أو لم يعبر. وسواء كان التعبير لعقلية الجماهير أو لغرائزها.«
كما يعرفه العالم الألماني أوتوجروت بقوله: »الإعلام هو التعبير الموضوعي لعقلية الجماهير ولروحها وميولها واتجاهاتها في نفس الوقت.«
ويفرق هذا العالم الألماني بين الإعلام والدعاية، معرفا الدعاية بقوله:
»محاولة التأثير في عقول الجماهير ونفوسهم والسيطرة علي سلوكهم لأغراض مشكوك فيها، وذلك في مجتمع معين وزمان معين والدعاية بهذا التعريف نوع من الاستهواء وليست نوعا من الاقناع« .
من خلال هذه التعاريف نجد أنّ هناك من توقف في تعريفه للإعلام على حدود نقل الأخبار فقط ولم يربطها بدورها في محاولة تغيير الآراء والذهنيات.
والغالبية من التعاريف الأخرى ترى أهمية التأثير والإقناع في تعريف الإعلام. وهذا الذي تثبته الوقائع وتؤكدّه الحقائق.
إذ لا يمكن لأي إعلام مهما كان نوعه، ومهما تعدّدت أساليبه أن يكون مجرد ناقل للأخبار بصفة حيادية.
2.1.2. مميزاته
يمتاز الخطاب الإعلامي عن غيره من الخطابات في:
-
أولا- إنه خطاب طقوسي: ويكمن دور الطقوسية في تحديد الفعالية المقترحة أو المفروضة للخطاب، ومدى تأثيره في مستقبل الخطاب، كما أنها تحدّد الحركات وضروب السلوك والرموز التي ترافق الخطاب، بل إن شكل الطقس هو رمز في حدّ ذاته. ويتشكل دور طقسية الخطاب الإعلامي في:
-
الخواص المنفردة: لا بد للخطاب الإعلامي من مناسبة معينة، فهناك ثلاثة خصائص تسم الخطاب الإعلامي وهي:
-
قدسية الموضوع وتراتيبه.
-
المقام.
-
حق الأفضلية وحقّ التفرد الذي يتميز به الإعلاميون، وفي النهاية يحدد الفاعلية المقترحة لمضمون الخطاب وتأثيره في مستقبله ومدى قمته التأثيرية.
الأدوار المناسبة: إن الطقسية هي المحدد الرئيس لدور الفاعلين وتأثيرها، وعليها يتجلى موضوع ما على آخر، ويسود نمط على آخر في عبارات الخطاب.
-
ثانيا- الأسطورية: كل خطاب إعلامي لا يمكن أن يستغني عن البعد الأسطوري سواء أكان ميثولوجيا أم قائما على خلق أساطير جديدة في المجتمع من خلال اعتماد دعائم تمثيل اسطورية محدّدة.
إن توفر الشرط الأسطوري في الخطاب الإعلامي يكمن في أنّ الأسطورة وحدها هي التي تعطي الفرد قوّة إضافية للتحكم في الواقع الخارجي وغعطائه الوهم بأنه يستطيع أن يفهم العالم وأنّه يفهمه عقلا.
-
ثالثا- الإقناعية: تنطلق هذه الميزة في الخطاب الإعلامي من البناء المطقي له من خلال تقديم راي واحد ومخرج واحد وعمل واحد ممكن ويتم تحقيق ذلك من خلال السياقين الآتيين:
-
السياقات المعرفية التي تُقدَّم على أساس تشييد منظومة من الرموز ذات التمثّل الافتراضي من خلال قطبية نفوذ هذه العمليات.
-
السياقات العاطفية التي تعتمد على سلسلة من الأفعال النفسية وآليات الدفاع لاستجابة لدى متلقي الرسالة الاتصالية.19
-
أنواعه: هناك عدّة أنواع من الخطاب الإعلامي فمنه: الخبر والتقرير والتحقيق والمقال والحديث الصحفي؛ كما نجد الخطاب الساخر والكاريكاتير والخطاب الإشهاري.
-
وهذا الأخير هو الذي سيكون موضوع تحليلنا.
2.2. الخطاب الإشهاري (الاعلان) والمحتوى المضمر
»يتصل الخطاب الإشهاري بالحياة الإنسانية بشكل مباشر من خلال تأسيسه لقيمتين.
الأولى: اجتماعية، وأخلاقية، وحضارية ، والثانية: هي القيمة التجارية المباشرة، فهو يخفي في ممارسته اللغوية والثقافية قيمة ثقافية ذات سمة إيديولوجية غالبة تحاول أن تُرَسّخ لدى المستقبلين (المتلقين)...
ويتأسس الخطاب الإشهاري في بعده التأثيري على مبدأ الترويج للسلعة، والفكرة المنوطة بها من خلال عرض خصائصها المميزة بهدف دفع الجمهور المستهلك إلى اقتناء المنتوج، ولما كان الخطاب الإشهاري يجمع نسقين دلاليين: نسق لساني، ونسق أيقوني بصري، فإن العملية الإشهارية تجسد كفعل اقتصادي اجتماعي وفق العلاقة التالية :الإشهار (publiciste) المستهلك (consommateur)« 20
1.2.2. تعريف الاشهار
علينا أوّلا ذكر مصطلح آخر يقابل الاشهار ألا هو الإعلان إذ نجد في بعض الدول العربية تفضّل استعمال الإعلان بدل الاشهار، وهنا لا فرق بينهما إلا في الاستعمال ولا خلاف بينهما في المدلول. وهناك من سعى إلى التفريق بينهما. غير أنّنا سنسير في هذا البحث على عدم التفريق بينهما، وهذا هو المختار عندنا في الجزائر.
تعرف دائرة المعارف الفرنسية الاشهار على أنّه: »مجموع الوسائل المستخدمة لتعريف الجمهور بمنشأة تجارية أو صناعية، وإقناعه بامتياز منتجاتها، والايعاز إليه بطريقة ما بحاجته إليها « .
من هذا التعريف نجد أن الإعلان يصبوا إلى التأثير في المخاطبين وإقناعهم بما يطرحه من منتجات أو يزيد في درجة اقناعهم، متوسلا في ذلك بطريقة ضمنية غير مصرح بها في الاعلان للتأثير على اللاوعي لدى المخاطبين. وهذا ما توحي به عبارة »والايعاز إليه بطريقة ما بحاجته إليه« .
وتمتاز
»الرسالة الاعلانية على الجانب المعرفي الذي يخاطب العقل والمنطق، ويعتمد على تقديم المعلومات والبيانات والحقائق. وبالتالي يشبع الميل إلى حبّ الاستطلاع ويغذّي الاحتياج إلى المعرفة، والحاجة إلى التأكد لدى المعلن إليه. خاصّة عندما يكون الاعلان مرتبطا بسلع معمرة أو سلع ومنتجات مؤثّرة على صحته، وذلك بالإضافة إلى الجانب النفسي العاطفي الايحائي الذي يتوجّه من خلاله المعلن غلى العاطفة والوجدان، ويؤثّر فيهما بشكل سريع.
وهنا ما يؤكّد أنّ الاعلان لا يتوقف عند مدّ المتلقّي بالمعلومات، وإنّما يسعى إلى التأثير على اتجاهاته وسلوكياته؛ ليصل في النهاية إلى الهدف المطلوب المحدّد.« 21
2.2.2. عناصر الاشهار
للإشهار عنصران: عنصر مادي؛ والآخر معنوي.
-
العنصر المادي: هو كل فعل أو نشاط يستخدم أداة تعبير تدرك بالحواس.
-
عنصر معنوي: وهو المراد والقصد الذي يسعى إلى تحقيق مكسب مادي بدفع الجمهور إلى شراء المنتج أو الخدمة موضع الاشهار.22
3.2.2. أنواع الإشهار
من الصعب حصر أنواع الإشهار، ذلك لاختلاف زوايا النظر إليه وسنحاول ذكر أجناس الإشهار حيث كل جنس يشتمل على عدّة أنواع من الإشهارات. وهذا لا يعني الفصل بين هذه الأجناس، وإنما تكون متداخلة فيما بينها.
-
الإشهارات حسب نوعية الجمهور المخاطب
-
الإشهارات وفقا للمنطقة الجغرافية التي تعلن فيها.
-
الإشهارات وفقا لنوعية النشاط المعلن.
-
الإشهارات حسب الأهداف المتوخاة منها.
-
الإشهارات حسب الاستجابة المطلوبة منها.
-
الإشهارات حسب الأدوات المستخدمة فيها
-
الإشهارات حسب محلها
-
الإشهارات حسب مصادر تمويلها.23
3.2. الخطاب الإشهاري والتأثير
يعدّ الإشهار عادة بأنه مجموعة من الوسائل والتقنيات الموضوعة في خدمة مقاولة تجارية، سواء كانت خاصّة أو عمومية، وتكمن غايته في التأثير على أكبر عدد ممكن من الأشخاص عن بعد ودون تدخّل مباشر من البائع. والهدف من الإشهار هو اكتساب المزيد من الزبائن، وذلك من خلال التعريف بالمقاولة، أو من خلال بيع المنتجات أو تقديم الخدمات. إنّ الاشهار يتحرك في هذا الاتجاه من خلال البرهنة على جودة المنتج، أو بشكل غير مباشر، من خلال الإيحاء وتنمية الحاجات الواقعية أو المتخيلة للمستهلكين وإشباعها.24
والتأثير في المتلقي خاصية من خصائص الاشهار، بل هو الغاية والمقصد الأوّل من الإشهار. وقد تكلم الخبراء والمختصون عن تأثير الإشهار ودوره في تغيير قناعات الناس واستمالتهم من أجل تحقيق الأرباح التجارية، أو اكتساب مؤيدين لحزب ما أو غير ذلك من المقاصد التي يرومها صاحب الاشهار.
» الإعلان يستهدف تغيير سلوك المستهلك بالتأثير على اتجاهاته ورغباته، وأساليب إدراكه للأمور والأشياء المحيطة به، إن ذلك لن يتأتى إلا إذا توافرت معلومات صحيحة وكافية تحدد العوامل التي تتحكم في سلوك المستهلك، وتعمل على توجيهه في ناحية دون أخرى، بالإضافة إلى ضرورة التعرف على البيانات المتعلقة بأنماط السلوك الاستهلاكي.« 25
إن الإشهار لا يتوقف عند حدود التأثير لمجرد الإقناع، بل يتعداه إلى السيطرة على أشكال التربية الذوقية والجمالية. وقد تكلم الخبراء عن خطورة الاشهار على المجتمع، ويورد محمد البوعيادي مثالا لذلك إذ يقول:
»قل أي عطر تستعمل.. لأقول لك من أنت « كان هذا تعبيرا ساذجا من إحدى الفتيات التي استغرقها الخطاب الإشهاري استغراقا واضحا وصار يشكل مقياسا موجها لخياراتها وسلوكياتها ، وهنا تكمن خطورة الخطاب الإشهاري أي عندما يتجاوز وظيفته الأولى التي من المفروض أن تكون وظيفة ترغيبية تعريفية ليصبح شكلا من أشكال التربية الذوقية والجمالية بل والأخلاقية كذلك، تربية تجد قناتها من خلال السمعي-البصري الذي أصبح ينفي المكتوب شيئا فشيئا ويأخذ مكانته بالتدريج.26
ولا يتأتّى هذا التأثير ويؤتي أكله إلّا إذا كان يخاطب العقل الباطني للإنسان، ومن أحسن الأساليب التي تخاطب العقل الباطني هو الاعتماد على الكلام غير المنطوق أو المقروء، بمعنى جعل المتلقي يصل إلى المقصود من الإشهار عبر توظيفه لما يسمّى بالاستلزام الخطابي، أو ما نسمّيه بالمسكوت عنه في الإشهار.
4.2. المسكوت عنه في الاشهار
يحلل رولان بارث الخطاب الإشهاري باعتماد ثنائية التحليل اللساني (الدال والمدلول) ، فكل الرسائل تتضمن هذين العنصرين بالأساس ، ويعتمد المتلقي اليقظ في الكشف عن هذه الثنائية لاستخراج أهداف الإشهار وطبيعته ، وعوده ، ومدى معقوليته ، ومدى إمكانية التميز أو الشعور الذي يعدنا به ، فبمجرد عزل هذه الاغراءات عن السياق الكلي للإشهار نستطيع مقارنتها بالمنتوج ذاته معزولا هو الآخر عن مصاحباته النصية والمرئية والسمعية ، أي المنتوج في قيمته الحقيقية الفعلية، وبالتالي نتمكن من إعادة إنتاج الخطاب أو الصورة بشكل يكون أكثر موضوعية مما كان عليه قبلا. ومثال على عزل الإشهار عن سياقه » إشهار يقدم رجلا يتناول مشروبا معينا ، يغمض عينيه ويبتسم ثم يقفز من الحيوية بعد ذلك :
« يجب أن ننتبه أولا إلى الدوال المتحققة في الصورة » إغماض العينين – الابتسام-القفز « ثم نربطها بدلالاتها المضمرة في الإشهار » إغماض العينين دلالة على الانتشاء أي أن المشروب يعد بتحقق النشوة « / » الابتسام يعد بحالة من الرضا« / » القفز يعد بالحيوية ،ولربما أتى في معرض الإشهار أن المنتوج يحتوي مواد مساعدة على الحركية والدينامية فيتامينات».27
لهذا الكلام المستوحى من الظروف الملابسة للإشهار دور كبير في مخاطبة العقل الباطني للإنسان والسيطرة على تفكيره، وهو ما يسمّى في ميدان التداولية بمتضمنات القول، فهو أبلغ في التأثير من الكلام المباشر.
الخاتمة
مما سبق ذكره يتضح ما للكلام المضمر في الخطاب الإشهاري من أهمية في التأثير على نفسية المتلقي واستمالته إلى الغاية المرجوة. وتعتمد الشركات الإشهارية على مضمرات الأقوال لمخاطبة العقل الباطني، والتأثير فيه، وهو أنفع في هذا المجال من الخطاب المباشر.
الصراف, ع. م. ح. (2010). في البراجماتية الأفعال الإنجازية في العربية المعاصرة دراسة دلالية ومعجم سياقي (1 ط). القاهرة-مصر: مكتبة الآداب.
طه, ع. ا. (1998). اللسان والميزان أو التكوثر العقلي (1 ط). الدار البيضاء-المغرب: المركز الثقافي العربي.
نحلة, م. أ. (2002). آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر (1 ط). الاسكندرية-مصر: دار المعرفة الجامعية.
أوركيوني, ك. ك., & خاطر, ر. (2008). المضمر (1 ط). بيروت-لبنان: المنظمة العربية للترجمة.
الحديدي, م. (2002). الاعلان (2 ط). مصر: دار المصرية اللبنانية.
القاضي , م., & الخبو, م. (2010). معجم السرديات (1 ط). تونس: دار محمد علي للنشر.
بوديار, ع. (2017, مايو 26). الخطاب الإشهاري من الترويج إلى صناعة الثقافة. استرجع في 14 يناير، 2020, من https://diae.net/50954
البوعيادي, م. (2011, أكتوبر 19). الاشهار والاستحمار. استرجع في 8 يناير، 2020, من https://darfikr.com/article/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B4%D9%87%D8%A7%D8%B1-%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AD%D9%85%D8%A7%D8%B1
الرماني, ز. ب. م. (2010, يناير 31). الاعلان وتغيير سلوك المستهلك. استرجع في 9 يونيو، 2020, من https://www.alukah.net/web/rommany/0/18885/#ixzz5q2Wdrzh3
سفر, م. م. (1982). الإعلام موقف (1 ط). السعودية: الكتاب العربي السعودي.
الناشف, أ. (1999). (الإعلانات والعلامات التجارية بين القانون والاجتهاد ( دراسة تحليلية شاملة. بيروت-لبنان: منشورات الحلبي الحقوقية.
الشهري, ع. ا. ب. ظ. (2004). استراتيجيات الخطاب- مقاربة لغوية تداولية (1 ط). بيروت-لبنان: دار الكتاب الجديد المتحدة.
آن , ر., موشلار, ج., دغفوس , س. ا., & الشيباني, م. (2003). التداولية اليوم علم جديد في التواصل (1 ط). بيروت-لبنان: المنظمة العربية للترجمة.
أرمينكو, ف., & علوش, س. (1987). المقاربة التداولية (م 1). بيروت: منشورات مركز الإنماء القومي.
المشاقبة, ب. ع. ا. (2009). مناهج البحث الإعلامي وتحليل الخطاب (1 ط). عمان- الاردن: دار أسامة للنشر والتوزيع.
كاتولا, ب., & بنكراد, س. (2012). الاشهار والمجتمع (1 ط). سورية: دار الحوار للنشر والتوزيع.
شارودو, ب., منغنو, د., المهيري, ع. ا., & صمود, ح. (2008). معجم تحليل الخطاب (1 ط). تونس: المركز الوطني للترجمة.