ملامح الخطاب ما بعد الكولونيالي في مسرحية ريح الحرور لمولود معمري

Caractéristiques du discours postcolonial dans Le Foehn de Mouloud Maameri

Characteristics of postcolonial discourse in Mouloud Maameri’s foehn

فطيمة ديلمي

Citer cet article

Référence électronique

فطيمة ديلمي, « ملامح الخطاب ما بعد الكولونيالي في مسرحية ريح الحرور لمولود معمري », Aleph [En ligne], 9 (2) | 2022, mis en ligne le 15 avril 2021, consulté le 30 décembre 2024. URL : https://aleph.edinum.org/3707

لقد ظهرت في الدول التي عرفت الاستعمار آداب وفنون لعبت دورا بارزا في مقاومة الوجود الاستعماري، حيث أسهمت بقسط وافر في التوعية بضرورة وأهمية المقاومة المسلحة، وذلك بنشر الوعي السياسي بين صفوف الشعب وإيقاظه، وربطه بالقضية الوطنية، من بينها مسرحية ريح الحرور لمولود معمري التي اخترنا قراءتها في إطار النقد ما بعد الكولونيالي أي بوصفها شكلا من أشكال المقاومة الثقافية للاستعمار، وقد تبين لنا بعد الدراسة مدى أهمية المسرحية من الناحية التاريخية، فهي لا تقدم لنا التاريخ الفج، فالحرب الجزائرية تقدم للمتلقين في سياقها الاجتماعي الذي يمنح لتاريخ المستعمَر ذاته ومعناه، كما أن المسرحية تعد خطابا مناهضا للكولونيالية من داخل الثقافة الإمبريالية حيث اعتمدت على الاستحواذ، وتقويض أشكال تستعيرها من ثقافة المستعمِر وتردها عليه.

Dans les pays qui ont connu le colonialisme, une littérature est apparue qui a joué un rôle de premier plan dans la résistance à la puissance coloniale, car elle a beaucoup contribué à faire prendre conscience de la nécessité de la résistance armée, en diffusant une conscience politique parmi le peuple et en le reliant à la cause nationale, par exemple la pièce de théâtre le foehn de Mouloud Maameri, que nous avons choisi de lire dans le contexte de critique postcoloniale, c’est-à-dire comme une forme de résistance culturelle au colonialisme qui reposait sur l’appropriation des formes empruntées à la culture coloniale.

In the countries which have known colonialism, a literature appeared which played a leading role in the resistance to the colonial power, because it contributed a lot to raising awareness of the need for armed resistance, by disseminating a of political conscience among the people and by linking it to the national cause, for example the play le foehn by Mouloud Maameri, which we have chosen to read In this context of postcolonial criticism, that is to say as a form of cultural resistance to colonialism which was based on the appropriation of the forms it borrowed from colonial culture.

مقدمة

لئن كانت المقاومة السياسية والعسكرية قد حظيت بالبحث خاصة في إطار الدراسات التاريخية، فإن المقاومة الثقافية، عن طريق المسرح خاصة لم تحظ إلا بالقليل من الدراسات، وبالتالي فإن دور المسرح في الحرب التحريرية لم يأخذ نصيبه من الاهتمام والبحث، لذا رأينا اختيار نص مسرحي لمولود معمري تم تأليفه خلال الحرب التحريرية، فهو ليس نصا تاريخيا، بل هو من النصوص التي واكبت المد التحرري، وهي مسرحية « ريح الحرور » التي ترسم ما ينبغي أن يكون، وذلك لدراسته في إطار النقد ما بعد الكولونيالي، وقراءته بوصفه خطابا جماليا ينزع إلى مقاومة السلطة الاستعمارية، بغية الاقتراب من القضايا المطروحة فيه، وذلك بتوظيف أطروحات ومفاهيم النقد ما بعد الكولونيالي كمفهوم الاستحواذ واستراتيجية المقاومة وغيرها.

وقد اخترنا هذا الإطار، لأن النقد ما بعد الكولونيالي يقرأ النصوص على اختلاف أجناسها، بوصفها شكلا من أشكال المقاومة الثقافية للاستعمار، فما هي الآليات التي وظفها نص ريح الحرور لإبراز بنى الهيمنة التي تتحصن بها القوى الاستعمارية بهدف تبرير سلطتها؟ وكيف عمل على مقاومتها؟

1. النقد ما بعد الكولونيالي المفهوم والأبعاد

ينبه النقاد ما بعد الكولونياليين ومنهم جيلبرت هيلين وجوان تومكينز إلى الحذر أثناء استخدام « ما بعد »، فلفظ ما بعد الكولونيالية لا يحيل إلى البعد الزمني نهائيا إذ أنه لا يحمل دلالة كرونولوجية ف

« إنّ مصطلح ما بعد الكولونيالية...كثيرا ما يساء فهمه على نحو أنّه مفهوم زمني، يشير إلى الفترة الزمنية التي أعقبت زوال الاستعمار، أو الفترة التي أعقبت الاستقلال السياسي، الذي تتحرر دولة ما بموجبه، من حكم ما، وتستبدله بحكومة أخرى. لا يعبر مفهوم ما بعد الكولونيالية عن تعاقب غائي ساذج ». ( هيلين جيلبرت وجوان تومكينز 2000 : 3- 4)

ولا يشير إلى المرحلة التي تلي الفترة الاستعمارية، فإذا كان هذا المصطلح بمعناه الحالي قد دخل إلى الخطاب النقدي في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، من القرن الماضي، فإن مقاومة الاستعمار تعود إلى بداية حركة الاستعمار ذاتها.

المسرح ما بعد الكولونيالي هو مسرح يهدف إلى تفكيك الخطاب الاستعماري وزعزعته، سواء أكان ذلك قبل الاستقلال أم بعده، إذن هو الخطاب الخاص بالمهيمَن عليه، وهو يصور تبعات الاستعمار، وآثاره على المجتمع والثقافة واللغة، كما يبرز مظاهر المقاومة، وبالتالي فإنه فعل خطابي مضاد، أما فيما يتعلق بالنقد ما بعد الكولونيالي فهو « شكل من أشكال القراءة التفكيكية التي عادة ما تطبق على أعمال أنتجها المستعمِرون (ولكنها يمكن أن تطبق على أعمال للمستعمَرين) » (هيلين جيلبرت وجوان تومكينز2000 : 290-291) فهي إذن حركة في النقد الأدبي، هدفها الرد على آثار الامبريالية الأوروبية على الشعوب المستعمَرة، فهي مقاربة نقدية تبرز آثار الاستعمار لتصارع أسسه، إنها حالات كتابية، تنحو إلى تفكيك الخطاب الاستعماري، وإلى إعادة النظر في تاريخ آداب الإمبراطوريات السابقة وتواريخها وكل خطاباتها.

2. نشأة تيار الدراسات ما بعد الكولونيالية وأهدافه

إن تيار الدراسات « ما بعد الكولونيالية » ينتمي إلى حقل دراسات « التابع » بشكل عام، الذي ينتمي بدوره إلى حقل الدراسات الثّقافية، هو تيار ظهر مع بداية انهيار الإمبراطوريات الأوربية خلال الخمسينيات، ثم ازدهر بشكل ملحوظ في الستينيات من القرن العشرين بشكل خاص، حينما تزايد وعي الفرد بذاته، وتزايد الاهتمام بالحرية، من هنا فما بعد الكولونيالي، هو فعل يناوئ باسمرار، وبلا هوادة ويهدف إلى الإطاحة بالتمركز الغربي حول الذات من خلال تفكيك

« كلّ من خطابات الكولونيالية، وبنيات القوة، والتراتبيات الاجتماعية، إنّ الاستعمار يعمل على نحو مخاتل، فهو يخترق ما هو أكثر من الدوائر السياسية، ويتجاوز مجرد الاحتفال بالاستقلال. تعمل آثار الاستعمار على تشكيل كلّ من اللغة، والتعليم، والدين، والحساسية الفنية، بل وتشكيل الثقافة الشعبية، على نحو متنام ». (هيلين جيلبرت وجوان تومكينز2000 : 3- 4)

ويستوعب تيار ما بعد الكولونيالية نقادا متعددين، إذ تعود إرهاصاته إلى الخمسينيات من القرن العشرين من خلال أعمال فرانز فانون مثلا، ثم تبلورت بعد ذلك أطره المعرفية والمنهجية على يد دارسين كثيرين أمثال هومي بابا، وسبيفاك، وإدوارد سعيد...

3. الخطاب ما بعد الكولونيالي في مسرحية ريح الحرور

1.3. الاستحواذ على الشكل المسرحي

سعت الإدارة الاستعماريّة منذ السّنوات الأولى للاحتلال، إلى توطيد قواعدها بعدّة وسائل أبرزها النّشاط المسرحيّ، فقد قامت بتشييد بنايات مسرحيّة، وانطلقت ببناء دار الأوبرا بالجزائر العاصمة سنة 1850 فـ « عندما كان الأوربيون يستوطنون مستعمرة ما كانوا يعمدون إلى تقديم الدراما الأوربية ـ باعتبارها إحدى العلامات الباكرة على الثقافة/الحضارة المستقرة».( هيلين جيلبرت وجوان تومكينز 2000 : 11)

ولقد تم اقتباس هذا الفن المسرحي من الثقافة الغربية في الجزائر خلال أعتى فترات الاستعمار إمبريالية، أي في العشرينيات من القرن العشرين حينما كانت الإدارة الاستعمارية تتهيأ للاحتفال بالمئوية، لذا كان هذا الفعل الثقافي يندرج بالنسبة إليها ضمن مشروع الهيمنة الكلية للإمبراطورية الفرنسية، من هنا سعت بكل الوسائل المتاحة لها لإخضاعه لهذا المشروع، ولكن هذا الفعل الذي بدا تبنيا لثقافة الآخر، كان يندرج بالنسبة للمسرحيين الجزائريين، ضمن مشروع مضاد لهذه الهيمنة، ذلك أن « القوة الحقيقية الكامنة في فن الدراما ـ.ـ إنما تكمن في قدرته على تعليم الناس كيف يفكروا بشكل متفتح ومجاوز للمعايير الضيقة للوضع القائم وللقهر السياسي ».(هيلين جيلبرت وجوان تومكينز2000 : 18)

لقد كان اقتباس الفن المسرحي فعلا قاوم الهيمنة بأن جعل المسرح وسيلة توعية سياسية من خلال فضح السياسة الاستعمارية، فأحداث مسرحية ريح الحرور تدور في القصبة وضواحيها في شهر جوان من سنة 1957 وهي تحاول أن تتعرض لظروف الثورة التحريرية والعوامل الاجتماعية التي أدت إلى اندلاعها، حيث تروي حكاية عمر وهو أجير لمدة ثلاثين سنة ومتفاني في خدمة سيده أحد كبار مغتصبي الأراضي الفرنسيين المدعو بريديو الذي يشي به للعسكر رغم براءته، فيحرقون كوخه، فيلتحق عمر بجبهة التحرير، ثم يشي به مرة أخرى فيغتصبون زوجته التي تصاب بالجنون نتيجة ذلك، تحكم الجبهة على المعمر بالموت ويوكل أمر التنفيذ لطارق وهو أحد مساعدي عبان، كان يتأهب للقيام بعملية الإعدام إلا أن الخبر يبلغ مسامع بريديو الذي يتآمر مع قائد الجيش بلداشي، فيلقي عليه القبض، حيث يتم استنطاقه وأثناء تعذيبه يسعى جنود الاستعمار إلى ابتزازه بكل الطرق بما فيها إحضار أخته ووالدته التي تحذره من البوح، يظلّ على موقفه ويحمي أسرار قائده فيتم إعدامه.

إن حكم الجبهة على بريديو بالإعدام هو ما يدعوه فانون بالعنف المضاد، فالاستعمار مرادف للعنف السياسي، والعسكري، والثقافي، فهو يعمل على إدامة العنف بواسطة الشرطة، والجيش، والمدرسة، والمتحف، والمسرح... أي بكل مظاهر قوته، وبالتالي لا مناص ـ أثناء القضاء عليه ـ من اللجوء إلى عنف مماثل ومعاكس، هدفه إنهاء هذا العنف الأول فـ « إنّ عمليّة تصفية الاستعمار التي تهدف لتغيير نظام العالم، هي برنامج خراب كامل، ولا يمكن أن تكون نتيجة لعملية سحرية، كما لا يمكن أن تكون ثمرة هزة طبيعية، أو نتيجة اتفاق بالتراضي». ( Fanon 1970 : 6)

 هكذا يستعير معمري ككاتب ما بعد كولونيالي شكلا فنيا غربيا ويقوم فيه بتصوير المرحلة الكولونيالية، إذ يلقي الضوء على مناطق يتعمد تاريخ فرنسا الاستعماري من تركها مظلمة، فيطرح أسئلة محرجة متعلقة بطموحاتها الكولونيالية الحقيقية، كما يرد على خطاباتها المغلفة بادعاءات التحضر، بهدف إنشاء خطاب مختلف في الرؤية بل ومناقض يفضح فيه التجليات الواقعية للنظام الاستعماري، في إطار تفكيك الاستعمار، والرد على مزاعم ايجابيات الكولونيالية.

فما يحدث إذن هو« استحواذ appropriation » من أجل أرخنة مغايرة بل ومضادة نسمع خلالها صوت من لم يكن له صوت في الدراما الغربية، فالتاريخ الامبريالي يحاول أن يوحي بأنه لم تكن هناك مقاومة تذكر، لذا راح مولود معمري يثبت العكس من خلال تأسيس سردية نقيضة وسياق نقيض، فمن خلال ريح الحرور يتم إنشاء سرد مضاد تتفكك معه نمطية العلاقات القديمة وتتبدل الأدوار، ويتغير المسار، إن ما يحدث في مسرحية ريح الحرور ليس محاكاة للمسرح الغربي، بل هو استحواذ على الشكل الدرامي، مع فرصة الاشتغال الحر عليه.. وهكذا يغدو هذا المسرح كشفا وتعرية للممنوع.

إن هذه المسرحية هي خطاب مناوئ للقوة الإمبريالية من داخل ثقافة المستعمِر فالفن المسرحي الذي كان غرضه في إطار الثقافة الكولونيالية هو إظهار التفوق الثقافي، إذا به يتحول إلى أداة لتقويض دعائم الإمبريالية من داخلها مضمونا وشكلا، فموت طارق في مسرحية معمري لم يكن موتا مأساويا أو انهزاميا بما أنه استشهاد من أجل قيمة هي استقلال الوطن، وبذلك يخرج معمري بمسرحيته عن الشكل المأساوي وهي صيغة أخرى من صيغ الاستحواذ على الشكل المسرحي إذ

 « يكاد مسرح المقاومة أن يكون شكلا مستقلا من أشكال التعبير الدرامي. فهو ـ في معظمه ـ لا يخضع إلى التقسيم الأرسطي إلى تراجيديا وكوميديا... ولا يخضع كذلك للتصنيف الحديث...فلا ريب أن مسرح المقاومة قد أفاد الكثير من هذه الأشكال جميعها، ولكنه يكاد ...أن يتصف بسمات جوهرية تستقل به، ـ وإن لم تفصله ـ عن بقية أشكال التعبير الدرامي... مسرح المقاومة يستعير من العالم التراجيدي بعض قسماته، كما يستعير من الملحمة بعضا من ملامحها فهو يتبنى فكرة « الانتصار النهائي »...في المدى الطويل وهكذا يقترب من أبواب الملحمة. وهو يتبنى فكرة « المأساة » على مستوى الفرد وفي المدى القصير، وهو هكذا يقترب من دنيا التراجيديا : فأبطال المقاومة قد يموتون دون أن تثمر مقاومتهم انتصارا ما، ولكنهم يموتون وهم على « يقين » من هذا الانتصار. وهم في ذلك من أصحاب « الرؤى » التي تكاد تتحول بهم إلى الأسطورة الرومانسية ». (شكري غالي : 179)

إن المبدع الحقيقي والثوري هو ذلك الأديب الذي يسهم في التغيير، حيث يصير فعله جزءا من الثورة، فلا يكون عمله مطابقا بشكل فج لنصوص الآخر، وإنما تكون إعادة لكتابة هذه النصوص سواء من حيث أمور تفصيلية كالشخصيات أم من حيث الجنس الأدبي ككل «فإعادة كتابة الشخصيات والسردية والسياق و(أو) الجنس الأدبي للنص المعتمد هو وسيلة لمساءلة الإرث الثقافي للإمبريالية، وبمثابة خلق فرص متجددة للاشتباك مع هذا الإرث من خلال الفنون الأدائية ». ( جيلبرت هيلين، وجوان تومكينز 2000 : 22-23 )

وهكذا ندرك مدى فشل المشروع الكولونيالي في مساعيه، فلقد كانت الإمبراطورية بحاجة لخلق طبقة بورجوازية صغيرة لا منتمية إلى ثقافتها تكون قاطرة للفئات الشعبية الجزائرية، وتكون أداتها في طريق مشروع الهيمنة الشامل، من هنا كان لا بد من تشكيلها وفق رؤيتها الاستعماريّة، مستخدمة ثقافتها، فالخطاب الكولونيالي

 « يريد تخليق متلق سهل الانقياد يعيد إنتاج مسلمات المستعمِر وعاداته وقيمه ـ أي يقلد المستعمِرـ لكن بدلا من ذلك، أنتج الخطاب الكولونيالي تابعين مزدوجي الوجدان لا ينأى تقليدهم له كثيرا عن الاستهزاء. ويصف الازدواج الوجداني هذه العلاقة المتأرجحة بين التقليد والاستهزاء، وهو ازدواج وجداني يربك الهيمنة الكولونيالية ...ويكمن تأثير هذا الازدواج الوجداني ...في استثارة خلخلة عميقة لسلطة الخطاب الكولونيالي ». ( أشكروفت بيل، جاريث جريفيث وهيلين تيفين 2010 : 61)

فما يظهر من الكتابة من خلال أشكال الثقافة الغربية من أنه تبعية للمستعمِر هو في الواقع ضرب له بأسلحته.

2.3. لغة المقاومة

هناك إشكالية تطرحها بعض الكتابات ما بعد الكولونيالية وتتمثل في الكتابة بلغة المستعمِر، تلك اللغة التي فرضها في الإدارة والتعليم لتكون صيغة من صيغ توطيد دعائم الوجود الإمبريالي في المستعمرات، إذ كان فرض اللغة الفرنسية

 «على الذوات المستعمَرة كان جزءا من مشروع الإمبريالية، وذلك في محاولة حثيثة للسيطرة على هذه الذوات بشكل كامل وهذه اللغة التي تستخدم باعتبارها أداة تحكمية تعتبر لغة بذيئة عندما تخرج على سلطة الدولة أو سيادتها ...وتحريم استخدام اللغة القديمة يعد إحدى الوسائل المستخدمة في ترسيخ قوة اللغة الإمبريالية فالخطوة الأولى في اتجاه تدمير ثقافة ما، هي منع الناس من تحدث لغاتهم الخاصة...إنّ فقد اللغة...يؤدي إلى إمكانية فقد الأسماء، والتّاريخ الشفاهي، والارتباط مع الأرض». ( جيلبرت هيلين، وجوان تومكينز 2000 :229)

وبالفعل كانت لغة ريح الحرور بذيئة لأنها خرجت عن السلطة الاستعمارية، فحين نقرأ هذه المسرحية ندرك أن الانفتاح على لغة الآخر لا يعني دائما فقدانا للهوية، فاستخدام مولود معمري في مسرحيته اللغة الفرنسية قد تم لمقاومة الاستعمار، فهو استخدام يبرز قدرة الذوات المستعمَرة على تكييف لغة المركز الامبريالي واستخدامها لصالح أغراضها التعبيرية، وبالتالي فإنه لا شك أن معمري كمبدع قد تعمد الكتابة بغير لغته الأصلية لأغراض معينة، وهذا ما يفرض علينا التساؤل : لمن يتوجه المبدع هنا في كتابته وهو يكتب بلغة المستعمِر؟ هو يخاطب من؟ إن الإجابة عن هذا السؤال يقودنا للحديث عن الإدارة الاستعمارية وما كانت تقوم به عبر كل مؤسساتها من افتراء، حيث كانت تعمل على تضليل الرأي العام العالمي، وتشويه الحقائق الميدانية لمخادعة هيئات حقوق الإنسان، خاصة هيئة الأمم المتحدة، وهذا ما كشفت عنه المسرحية، فالمعمر بريديو لا يفعل شيئا لإحلال السلام غير إخفاء الحقائق للاستمرار في ممارسة عنفه ضد الجزائريين، لذا هو يقوم بتمثيلية وذلك بحشد «الأهالي» عنوة وإظهارهم أمام الصحافة راضين بالوجود الاستعماري يهللون له، وذلك لإخفاء ما يحدث من انتهاك لحقوق الإنسان.

وبالتالي فإن الكتابة بلغة المستعمِر كان وسيلة لتبليغ صوت من لا صوت له، صوت ثورة التحرير داخليا، وخارجيا، خاصة للرأي العام الفرنسي والعالمي، بهدف تدويل القضية الجزائرية، حتى لا تبقى محرومة من سند الرأي الدولي، فالفن المسرحي شكّل منبرا لإيصال صوت الجزائريين إلى أحرار العالم، واختيار لغة «يعبر المرء من خلالها عن فنه الدرامي، هو في حد ذاته فعل سياسي، لا يحدد فقط الوسيط اللغوي لمسرحية ما، وإنّما يحدد في كثير من الأحيان، الجمهور المستهدف أيضا ». ( جيلبرت هيلين وجوان تومكينز 2000 : 229)

لقد كتب الأدباء الجزائريون موظِفين اللغة الفرنسية لتوعية من يتقنون هذه اللغة من أبناء الجزائر أولئك الذين كانوا يسبحون باسم المستعمِر ويقولون له آمين(Le Foehn 86) .، وغيرهم، لضرب المستعمِر، ولتوصيل الرسالة إلى الفرنسيين أنفسهم بشأن القضية الجزائرية فهو استخدام استراتيجي إذن «إن الاستخدام الاستراتيجي للغات في المسرحيات ما بعد الكولونيالية يساعد على منح الشعوب المستعمَرة وأنظمتها التواصلية المميزة الإحساس بالقوة والفاعلية. » ( جيلبرت هيلين وجوان تومكينز 2000 :335 ) فالعديد من الكتاب من غير الفرنسيين اختاروا الكتابة بالفرنسية لا احتقارا للغتهم الأم، وإنما لما تمنحه هذه اللغة من إمكانيات التواصل مع أكبر عدد ممكن من المتلقين، فهو استخدام واع بل استحواذ

 « وبالاستحواذ على لغة القوة الامبريالية، وأشكالها الخطابية، وأساليبها في التمثيل تصبح مجتمعات ما بعد الكولونيالية قادرة...على الدخول بسهولة أكبر في الخطاب السائد، أو إقحام مفردات واقعها الثقافي، أو توظيف اللغة السائدة لوصف ذلك الواقع لجمهور أعرض من القراء». ( بيل أشكروفت وجاريث جريفيث وهيلين تيفين 2010 : 71 )

3.3. تجليات الإمبريالية وسبل مقاومتها

لقد عملت الإمبراطورية الفرنسية على إقناع الجميع بأنّها تحمل «للأهالي» مبادئ إنسانية، وأنها تريد إدماجه ضمن الحضارة الفرنسية، لذا راح مولود معمري يكشف من خلال ريح الحرور عن التجليات الفعلية الإمبريالية وأشكالها ودلالاتها، من خلال تفنيد هذه الادعاءات، وذلك على لسان بريديو الذي يسخر من التاريخ الإنساني والتنويري الغربي الذي كانت تحمله ابنته بريجيت فيرد قائلا « في الجامعة قد حشوا رأسك بكثير من الحكايات : الإنسانية، الحضارة، من المؤكد أنك ستديرين خدك الأيسر»( Le Foehn 29)، ولا يكتفي بذلك حيث يسعى إلى تشويه مفهوم العدالة والديموقراطية من خلال الاستخفاف بهما، حيث تظاهرَ بإقامة محكمة لمقاضاة طارق معتبرا التحضر صليبا مفروضا عليه، ولكن هذا التحضر المزيف أنتج عدالة عرجاء كما يصفها الأعمى، وهي فعلا كذلك لا لأن الخصم فيها هو الحكم فقط، ولكن إضافة إليه فإن دور المحاماة يكاد يكون شكليا يكتفي ببعض الشجب، ولا يملك قوة الفعل، حيث تحولت المحاكمة إلى مهزلة، إذ تم إرغام طارق وأسرته على الرقص خلالها، وهذا ما جعل طارق يثور ضد المحكمة قائلا «اللعبة مغشوشة، فالقِطع، وقواعد اللعبة مبرمجة لتكون خاتمتي هي الموت، الحكم بيد عميان سيقررون موتي، فقط لأن القاضي قرر أنه حق، أريد قلب القاعدة، أو الموت خارج القوانين»( Le Foehn 86)، ومثلما يقوم المستعمِر بتشويه قيم العدالة والديموقراطية يقوم أيضا بتزييف مفهوم الحرية، فالحرية التي يحملها للأهالي تتلخص في نزع «الحايك » عن المرأة الجزائرية عنوة، وهكذا إذا كان التحضر هو مجرد ادعاء فإن العنف هو حقيقة المستعمِر وتاريخه، لذا ترِد على لسان بريديو آية السيف الواردة في إنجيل متّى، حيث يقول بريديو جئتكم حاملا السيف لا السلم.

وتُظهر مسرحية ريح الحرور قدرة الإمبراطورية على تلويث حتى أولئك الذين تضرروا من وجودها، ففي أثناء المحاكمة يصطف الأجراء من الأهالي إلى جانب بريديو وإن كانوا بعد إعدام طارق يتخلون عنه، كما أنهم هم من وشوا بطارق وبمكان اختفائه، إذ يوظفهم بريديو في إطار مخططاته الاستعمارية، حيث يقول لابنته « قمتُ بتغطية كل فلوبير برجال موثوقين أولئك الذين تسمّينهم مخبرين لأنهم مخلصون يحرسون كل مقاهي المغاربيين، وأكواخ أجرائي واحدا واحدا، فلتكوني مطمئنة لأن طارق سيلجأ إلى تلك الأماكن إذا فرّ من بلداشي» (Le Foehn 31) وبسبب هؤلاء الوشاة يتم القبض على طارق، فللإمبراطورية وسائل وإمكانيات تسمح لها بتلويث واستلاب حتى أولئك الذين تضرروا من وجودها ليصيروا خدما ومنفذين لبرامجها ويسمي فانون هذه الطريقة التي تستثمر بها الإمبريالية كافة الذوات المرتبطة بها بـ »العدوى«contamination (Fanon 1970 : 70)كما راح معمري يكشف عنصرية النظام الاستعماري وطبقيته، فمنذ الاستهلال يصور الراوي للجمهور الفرق بين عالمين متجاورين لكنهما بديكوريهما المختلف لا يلتقيان، العالم الأول يسوده السلام، تشرق فيه شمس الحرية على الجميع، والجميع فيه يأكل حتى الشبع، أطفاله يلعبون وكباره يعملون، أما العالم الثاني على الرغم من كونه موجودا غير بعيد عن الأول، إذ تكفي بضع خطوات ليتغير الديكور، وبشره ولدوا تحت نفس السماء إلا أن شقاءهم كشقاء سيزيف يتكرر يوميا ولا منفعة ترجى منه، كل طرقهم مسدودة، يحاولون السير ولكنهم لا يبلغون أي هدف، كل محاولاتهم تضيع سدى، كما الوديان في الصحراء، مدينتهم كانت في الماضي تدعى المحروسة، جزيرتهم المحروسة صارت محل أطماع أناس لم يكونوا في الحسبان.

وإذا كان الاستعمار الفرنسي قد شوه ألقاب الجزائريين بهدف احتقارهم وتشتيت صلاتهم العائلية بصفة عامة فإنه راح يطمس هوية الأفراد بإنكار أسمائهم حيث يختصر أسماء الرجال بأحمد وأسماء النساء بفاطمة ليصنع الآخر المستعمَر كأتباع له يختزلهم إلى اسم واحد، إنها صورة من صور الدونية الكولونيالية، فمحو الآخر هو وسيلة المستعمِر لتبرير علاقة قائمة على العنف لذا راح معمري يكشف عن هذا الوجه الحقيقي للسياسة الاستعمارية من حيث تمركزها حول محو الآخر، والتعامل معه من خلال الصور النمطية، فـ «النصية الامبريالية تعمل على نقل الملكية والتشويه والمحو بل والاحتواء أيضا ...يرمي المشروع الامبريالي إلى احتواء الثقافات/ الذوات بغرض السيطرة عليها». ( جيلبرت هيلين وجوان تومكينز 2000 : 8) وهذا مما قامت الحرب التحريرية للفكاك منه فقد صار بفضلها الفرد الجزائري يُعرف باسمه «في السابق كان كل العرب يُدعون أحمد وكل نسائهم فاطمة ... هذا كان يسهل الأشياء بحق أليس كذلك؟ والآن صار لكل واحد منهم اسم وينبغي تذكره» . (Le Foehn 31-32)

إن المستعمِر لا يريد أن تربطه بالمستعمَرين سوى علاقة قائمة على التسلط، علاقة مستعمِر /مستعمَر، فبريديو يريدها جزائر فرنسية، بينما يريدها طارق جزائر جزائرية إنه صراع بين مشروعين، والمستعمِر يدرك خطورة اليوم الذي يستعيد فيه المستعمَر هويته المسلوبة لأنها تكون نهاية الاستعمار، لذلك حينما تنصح بريجيت أباها بريديو بضرورة مد الجزائريين حقوقهم الإنسانية، يقول بأن ذلك يعني نهاية الاستعمار «العرب لن يتركوا لك الاختيار بين الحقيبة والنعش...سيختارون لك النهاية الثانية. لحسن الحظ أنكم أقلية تحملون مثل هذه الأفكار، الفرنسيون الآخرون يفكرون بشكل سليم. » ( Le Foehn 31.32) هكذا يكون العنف المتمثل في التخطيط لإعدام المستعمِر حلا حتميا، لأن إمكانيات المصالحة بين المستعمِر وبين المستعمَر مستحيلة، بما أنّ مشروع كلّ واحد فيه هدم لمشروع الآخر، من هنا لا تكون تصفية الاستعمار ثمرة تفاوض سحري، أو تفاهم ودي، «إنّ تصفية الاستعمار هي لقاء بين قوّتين متضادّتين طبيعيا، والتي تغذيها الوضعية الاستعمارية، وأوّل لقاء بينهما تمّ في ظروف عنف، وتعايشهما : أي استغلال المستعمِر للمستَعمَر صنعته الكمّامات وفوّاهات المدافع » (Le Foehn .6)

4.3. كشف مآسي الجسد المستعمَر

مارس الاستعمار الفرنسي في الجزائر أشكالا متنوعة من القهر والتعذيب، بل انتهج سياسة خرقَ بها كل القوانين والمواثيق والأعراف الدولية، ساعدت على إبراز طبيعته المضادة للإنسانية والتي كان الهدف منها سحق الشعب الجزائري لإخضاعه لسطوة الاحتلال، ولقد صور مولود معمري في مسرحيته كيف قام المستعمِر بانتهاك حقوق الإنسان وذلك بإبراز حالة المهانة التي تتعرض لها أجساد الجزائريين، فالجسد المعرض للاغتصاب وللقتل علامة قوية على الهمجية، وبالتالي فإن إبراز الجسد المهان من خلال المسرحية هو احتجاج على الاستعمار.

وإذا كان المستعمِر يمعن في الإذلال فليبقي الأهالي عبيدا يمارس عليهم كل أشكال القهر الاجتماعي، إنه يمعن في التحقير ليخفي حجم الخيرات التي يجنيها من اغتصابه الأراضي واستغلاله للبشر، فهو « يخفي... هذه المنافع في مقولات تدور حول دونية المستعمَر، والطبيعة البدائية للأعراق الأخرى، والوضاعة الهمجية التي تسم المجتمعات المستعمَرة ». ( أشكروفت بيل وجاريث جريفيث وهيلين تيفين. 2010 : 102)، لذا يقوم بتضييق سبل العيش على حياة الناس، ظنا منه أن ذلك يكسر إرادتها، وهذا ما يكشف عنه معمري، فلقد تعرض الجسد المستعمَر في مسرحيته ريح الحرور للإهانة والإيذاء بعدة صيغ، إذ 

« تحاول الإمبريالية ... إخضاع الجسد المستعمَر ...إلى أنظمة قسرية مختلفة تهدف إلى تكريس والإبقاء على تراتبيات القوة المرجوة. إن الجسد الذي تعرض للانتهاك، والإهانة، والإيذاء، والسجن، والنظرة المحتقرة أو التقليل من قيمته له أهمية خاصة بالارتباط مع الآداب ما بعد الكولونيالية». ( جيلبرت هيلين وجوان تومكينز 311-2000)

تتبدى الصيغة الأولى من خلال حوار طارق مع أخته عيني، التي تحلم بتغيير قانون اللعبة الذي فرض عليها الشقاء الاجتماعي، فيرد طارق، إذ يحكي لها قصة عمر الأجير مع المعمر بريديو مؤكدا أن قانون اللعبة قد فرضه المعمر وأن عمر

« التزمه بإخلاص، خلال ثلاثين سنة، خلال ثلاثين سنة قاد الجرار، حفر الأرض بالمعول، أزال الحشائش الضارة، حصد القمح نفسه، عالج نفس الكروم بالكبريت، عند نفس المعمر، الذي يجهل حجم أملاكه. نسي خلال ثلاثين سنة أن يمرض، أن يلهو، أنجب أطفالا لأنه يجهل كيف يتجنبهم، رسم نفس الأخدود خلال ثلاثين سنة، وكأنه ثور، من دون أن ينظر لا يمينا ولا شمالا، سَروُ المعمر حجب عنه الأفق، والعمل عنده كان يضع حدودا لأحلامه، لم يفكر يوما في كسر القانون، كان يجهل كيفية ذلك...وعلى كل لم يكن يملك الوقت وبعد ثلاثين سنة...كان يسكن في نفس الكوخ، ويثقل كاهله الدين، وفي يوم زاره جنود الاحتلال وسألوه عن الفلاﭬة...قال أنا أجير شريف، ومحارب سابق، اسألوا السيد بريديو ... وحين سألوه ...قال :عمر أجير شريف، ولكن مع العرب لا أحد يدري ...فأحرقوا كوخه أخذ زوجته وأبناءه عند حماه والتحق بالجبهة». (Le Foehn 1982 : 20.21)

ولم يكن الجسد الذكوري وحده المعرض للشقاء والاستغلال، بل حتى الجسد الأنثوي ممثلا في زهرة والدة طارق، فهي الأخرى من بشر العالم الثاني الذين يعيشون في رعب، حيث دمرت الآفات حياتهم الاجتماعية، فالرجال امتصت حياتهم دنيا الخمارات التي استجلبها المستعمِر مما دفع بالنساء للعمل، حيث تعمل زهرة والدة طارق خادمة عند الكولون، وكذلك طارق ولكن «وظائف العرب هي مجرد خدع ...فهي لا تؤدي إلى أية نتيجة ...يتركون لي عملا شاقا ووسخا، ويقدمون لي نظيره أجرا زهيدا يسمح لي فقط بألا أموت جوعا، طبعا لا ينبغي قتل الدجاجة التي تلد بيضا ذهبيا.»(Le Foehn 19-.20)

لم يسلم أحد من آلة العنف الاستعمارية التي كانت تتفنن في إيجاد أسوأ الصيغ لذلك، فالصيغة الثانية تتمثل في اغتصاب الجسد الانثوي الذي تعرضت له زوجة عمر، إذ كان العسكر يزورون زوجته كل ليلة في منتصف الليل ليفاجئوا الزوج ولما لم يعثروا عليه اغتصبوا الزوجة التي جنت جراء ذلك.(Mammeri 1982 : 21) وتعتبر السجون والمعتقلات الأماكن التي شهدت التعذيب النفسي والجسدي حيث انتشرت مراكز التعذيب في الجزائر كلها، وهي الصيغة الثالثة المتمثلة في السجن والتعذيب الذي تعرض له طارق، وكان ذلك على يد جنود الاحتلال الفرنسي أيضا.

كما كان الجسد أيضا ـ خاصة جسد المرأة ـ محل خلاف ثقافي حيث يقوم بريديو بتحقير الجزائريين لأن نساءهم كثيرات الإنجاب، معتبرا إياه سمة من سمات البدائية، وهذا ما يدعى بالامتلاخ حيث ينظر إلى ثقافة الأهالي باستعلاء ومن زاوية تراتبية وتوضع موضع احتقار، حيث يقول بريديو «إذن أنا عاجز أن أصنع بكم شيئا أيها الجزائريون؟ هذا مؤسف، ستعودون إلى العدم الذي انتشلتكم منه، إلى قملكم، إلى عيون أطفالكم الدامعة، إلى نسائكم الحاملات باستمرار» (Le Foehn 39)، إنه قول يبرز أن الجزائري في نظر المستعمِر لا يكون محبا للسلام إلا إذا رضي بالمهانة والاستعمار واستسلم لمخططات الاستعمار وتوقف عن الإنجاب، لأن كثرة الإنجاب تشكل خطرا على الوجود الاستعماري، لذلك يحصل هذا الاشتباك.

لقد كانت الإدارة الاستعمارية تسعى لأن تجعل أرض الجزائر فرنسية، بمحو كل أثر تاريخي للوجود الجزائري بها، باستقدام أكبر عدد من المعمرين من مختلف الجنسيات الأوربية، وبتقتيل الجزائريين بمختلف الصيغ : بتركهم عرضة للأمراض والجوع...وهو مخطط جهنمي لجعل عدد الجزائريين يتضاءل وهذا ما كان يحدث بالفعل، فتاريخ الموت هذا يحكي كيف تسببت المجاعات والأوبئة في إبادة المئات من أبناء الجزائر، إذ يقول بريديو في حوار مع طارق «الموت يحصد أطفالكم بكثرة ونساؤكم يصلحن النقائص بكثرة الحمل، هل تريد أن أخبرك هن لسن بشرا إنهن ملقمات بنادق » (Le Foehn 63) .

، فالإنجاب إذن كان يخيف الاستعمار لأنه إعلان عن التجدد والحياة وهذا ما كان يعيق المخططات الاستعمارية » وهكذا تصبح عملية الولادة مجازية بشكل كبير خصوصا في تلك المسرحيات المتعلقة بقضية الاستقلال عن الحكم الاستعماري حيث يرمز ميلاد طفل إلى ميلاد أمة جديدة.« ( جيلبرت هيلين وجوان تومكينز. 2000 :307) لذا تتعرض زوجة عمر للاغتصاب وهي حامل، وهكذا يقدم لنا معمري كثرة الإنجاب باعتباره جانبا جوهريا في حياة مجتمع يحيا تحت نير الاستعمار.

5.3. مسألة تاريخ المكان

لقد واجهت الجزائر أعتى قوة استعمارية لأنها استهدفت مقوماتها وكل كيانها وذلك من خلال مشروع استعماري بشع قائم على الاستيطان، فلقد استفاد الكولون من سياسة التهجير واستولوا على أهم المزارع والأراضي الخصبة منتفعين من مختلف التشريعات والقوانين التي أصدرتها الإدارة الاستعمارية كقانون الأنديجينا الذي ضيق على الجزائريين سبل الحياة، ويصور معمري عملية اغتصاب الأراضي وما أثارته من حنق لدى الجزائريين، ذلك أن حقوق ملكية الأرض تشكل محورا أساسيا من المحاور التي ساد حولها الخلاف وذلك على لسان بريديو «أحمد، يا أنت، هناك، لا تنكر أنك شديد الرغبة في أن تغرس سكينك في ظهري، لقد اشتريت أرض والدك بالفتات، وأنت يا أحمد طردتك من كوخك تحت المطر، تراني في أحلامك مقطعا أليس كذلك؟» (Le Foehn 37)

ولقد تسببت سياسة التهجير والاستيطان التي اتبعها الاستعمار في إنشاء عدة مستوطنات للأوربيين، وقد ساعد على ذلك قوانين مصادرة أملاك الأهالي حيث كانت الإدارة تدعم سياسة الاستيطان مما وسع دائرة التمايز الاجتماعي لذا يقول فانون أن العالم الاستعماري هو عالم طبقي على كافة المستويات جغرافيا واجتماعيا «العالم الاستعماري عالم مجزأ إلى قسمين، والخط الفاصل بينهما حددته الثكنات ومراكز الشرطة، وفي المستعمرات سامع المستعمَر، والمتحدث باسم المستعمِر هو الدركي أو الجندي» (Fanon 1970 : 7) .

هذان العالمان تصورهما بريجيت مفسرة عليات تخريب ممتلكات الكولون قائلة

 «عمالك لا يملكون تقدير الأشياء لأنهم لم يملكوها أبدا. منازلنا كرومنا سياراتنا كل رخائنا يحكمون عليه من خلال حجم عرقهم، أما ما يمنحنا إياه من سعادة ذلك يجهلونه لهذا هم يدمرون كل شيء منذ ثلاث سنوات، لقد روضناهم على العمل الجاحد، في ذلك هم يتجاوزون أمنياتنا. حاصرناهم في المحتشدات التي تسبق ممتلكاتنا فيبقون هناك، يرافقون عنبنا حتى البرميل، وقمحنا إلى غاية الخزانات، وأطفالنا إلى عتبات قصورنا والكنيسة والمدرسة وملعب التنس، خلاصهم يتوقف عند أبواب جنتنا » (Le Foehn 31.32)

جميع كتاب المسرح ما بعد الكولونيالي يعالجون مسألة اغتصاب الأراضي الذي تتعرض له شعوبهم بسبب الإمبريالية، حيث يبرزون الكيفية التي أبعدوا بها عن أراضيهم وما نتج عن ذلك من ردود أفعال، حيث « يكاد يكون كتاب المسرح من الشعوب الأصلية ـ بلا استثناء ـ ...يمسرحون ـ بشكل أو بآخر ـ عملية الإزاحة التاريخية التي تتعرض لها شعوبهم نتيجة الإمبريالية ». ( جيلبرت هيلين وجوان تومكينز 2000 :218)

لقد قضى الاستعمار الفرنسي أزيد من قرن في الجزائر وهو يعمل على إلغاء ذاكرة هذا المكان الذي اغتصبه، حيث حاول جاهدا أن يمحو كل ما له علاقة بالهوية واللغة والعادات والتقاليد من المكان من الجدران ومن الشوارع لترسيخ تواجده، إن المكان في المسرحية قد فقد ذاكرته فالشوارع تحمل رموز الإمبراطورية الفرنسية وهي رموز العنف والتسلط ما بين شارع ديزلي وشارع بونابارت وشارع فالمي وحيّ فلوبير(Le Foehn 22)، لقد صارت ذاكرة المكان مصنوعة برموز استعمارية هي رموز القوة، ذلك أن القوة الاستعمارية تعتقد على لسان بريديو الذي يتقن خطاب التبرير «هذا البلد ليس ملكنا إنه نحن، إنه لا شيء بدوننا. نحن خلصناه من العدم، ... عشتم على هذه الأرض وكأنكم مستأجرون، كسالى، شاردين، لا مبالين بأخضر العشب وبعصير الفواكه وبأزرق السماء والنضارة وعطر الروث وأزهار هذه الأرض التي لم تعرفوا كيفية امتلاكها ...كنتم قمل هذه الأرض، وسوسها. لقد تعبتْ من رؤيتكم حزانى وغائبين عيونكم محدقة في الجنان الضائعة متمسكين بأحلامكم الشرقية كانتْ مشتاقة لسيد»(Le Foehn 34-5)، إنه خطاب كولونيالي بامتياز لأنه يعني القابلية للاستعمار، فلدى المستعمَر حسب هذا الخطاب استعداد نفسي مسبق لقبول الاستعمار، فالأوروبي صار سيّدا، لأن المستعمَر اعترف له بذلك، إذ يقول مانوني «لا تملك جميع الشعوب قابلية للاستعمار، فلا يتعرّض للاستعمار إلا من كان في حاجة إليه » ثم يقول « في كلّ مكان أنشأ فيه الأوربيون مستعمرات...كان سكانها الأصليون في انتظارهم، بل، وفي شوق لا واع إليهم» ( Fanon 1952 :79)

وقد لحقت عملية اغتصاب الأراضي جملة من القوانين التي عمقت عملية الإزاحة عن المكان، الذي صار مكان المستعمِر وما على المستعمَر إلا الخضوع لقوانينه، حيث فرض عليه جملة من التشريعات تحد من حريته، خاصة تلك المتعلقة بالفضاءات المكانية، كحظر التجول الذي رفض الجزائري الخضوع له متداريا بمختلف الحجج كالسكر وارتياد الحانات الذي يتذرع به طارق ليحافظ على سرية نشاطه النضالي(Le Foehn 16-17).

6.3. استعادة الذاتية

يفسر معمري في الاستهلال دوافع الحرب التحريرية، مؤكدا أن الاستعمار هو الذي يذكي نار الحرب بما يسببه من مآسي فـ «حينما تحرق القلوبَ كثرةُ الجفاف، وحينما تتلوى الأمعاء من شدة الجوع، وحينما تسيل الدموع بكثرة، وحينما تكمم أحلام كثيرة، نكون وكأننا نضيف حطبا على حطب المحرقة ...مجرد قطعة خشب من عبد لإشعال حريق لا ينطفئ في سماء الله وفي قلوب البشر.« (Le Foehn 7-8)

لقد حررت المآسي والآلام بعض الأهالي، فبدأت النيران بالاشتعال، وبدأ العالم الكولونيالي ينهار بانطلاق الحرب التحريرية، فكثرت التساؤلات، فتحرر البعض الآخر، لقد كانت الحرب تمثل من خلال مسرحية ريح الحرور ذلك العنف المحرر للعقل والمشاعر كما يسميه فانون إنّه ذلك العنف الذي يؤدي إلى لحظة يظهر فيها الآخر هينا لا قدرة له، وهي لحظة يصير فيها العنف الذي أصابه محل تفكير، حينها يتمكن من التحكم فيه، وهكذا يولد هذا الإنسان الجديد، هذا الإنسان المتسائل. «إنسان دائم السّؤال والذي يعيد النظر بشكل كامل في الوضعية الاستعمارية . »(Le Foehn 6)، إنه كما يقول هومي بابا «إنّ المستعمَر ليس دائما عاجزا، وإنّ المستعمِر ليس دائما قويا» ( جيلبرت هيلين وجوان تومكينز 2000 :8). كما يدعي التاريخ الإمبريالي، فهو تاريخ مزيف، غايته خدمة الإيديولوجيا الاستعمارية، وهي إيديولوجيا الأهالي فيها كالعدم، إذ ينحصر وجودهم في كونهم الآخر المستعمَر، لذا يسعى الخطاب ما بعد الكولونيالي لتغيير هذه الرؤية لبناء سردية مقاومة، فالتاريخ من خلال مسرحية ريح الحرور ليس غاية وإنما وسيلة لمناهضة الكولونيالية ولبناء الذات، إن مسرحية ريح الحرور تتحدى السردية الامبريالية، حيث تهدم أسطورة السلطة المطلقة للمستعمِر، إذ يبدو بريديو أقل فاعلية أمام طارق منذ التقيا، وبموت طارق انهار العالم الكولونيالي من حول بريديو، حيث فقد كل من اصطفوا حوله داعمين سياسته.

لقد كان معمري مؤمنا ليس فقط بعدالة القضية الجزائرية، بل بحتمية انتصارها، وأن موت طارق ما هو إلا بداية لنهاية العالم الكولونيالي، لذلك يقول على لسان الأعمى «كل هؤلاء الموتى سلاسل من الموتى سيجرها هذا الموت...كلكم موتى كلكم أشباح، تواصلون اللعب لأنكم تعودتم على ذلك مثل الآلة ...لكن النابض انكسر، ولعبتكم ستتوقف قريبا لا لأنها عنيفة فقط، ولكن لأنها لا مستقبل لها أيضا ». (Le Foehn 31-2)

إن بناء سردية مقاومة يتم بتعزيز التواريخ المحلية التي تعيد إلى المستعمَر تاريخا جمعيا

« وحتى يتم تفنيد هذا المعتقد الخاطئ القائل بأن الشعوب المستعمرة لا /لم تملك تاريخ خاص بها تقوم العديد من المسرحيات بتقديم جوانب من ماضي ما قبل الاتصال مع الآخر وذلك بغية إعادة تأسيس تقاليد، وحيازة تراث أو مكان، واستعادة أشكال متباينة للتعبير ».( جيلبرت هيلين وجوان تومكين 2000 :159)

ففي مسرحية ريح الحرور يقدم مولود معمري رؤية لتاريخ الجزائر حيث يعود بالمتلقي إلى القرن الثاني قبل الميلاد ليستثمر رمزا تاريخيا دالا على المقاومة هو يوغرطة من أجل تقويض هذا التاريخ الامبريالي ولتفنيد الخطاب الخاطئ القائل بأن الشعوب المستعمرة لا ولم تملك تاريخا خاصا بها.

وتتعمد المسرحية بتقديم جوانب المقاومة من الماضي والراهن الذي يجعل تاريخ الجزائر سلسلة من المقاومات للمحتلين، حيث يحتفي مولود معمري بواحد من صناع الثورة في الجزائر وهو عبان، ولكنه لا ينسى البطل الحقيقي، إذ يجعل من خلال طارق الشعب (les anonymes) كله هو البطل

« الذات المستعمَرة تقدم باعتبارها أكثر تشخصا وامتلاكا للسلطة مما تفترضه ثنائية المستعمِر /المستعمَر بينما يبدو المستعمِر أقل فاعلية مما هو مفترض على وجه العموم. هذا التقويض لتلك الثنائية يهدم السلطة الكولونيالية ... كما يستثير أعضاء الجمهور ويدفعهم إلى مقاومة الدروس القائلة بأن التاريخ الإمبريالي هدفه نقل المعرفة ».( جيلبرت هيلين وجوان تومكينز 2000 :162)

الخاتمة

وهكذا نلاحظ بعد هذا العرض أهمية المسرحية من الناحية التاريخية، فهي لا تقدم لنا التاريخ الفج، فالحرب الجزائرية تقدم للمتلقين في سياقها الاجتماعي الذي يمنح لتاريخ المستعمَر ذاته ومعناه، هذا وتعد المسرحية خطابا مناهضا للكولونيالية من داخل الثقافة الإمبريالية حيث اعتمدت على الاستحواذ، وتقويض، أشكال تستعيرها من ثقافة المستعمِر وتردها عليه، لذا فهي من النصوص ما بعد الكولونيالية لأنها تهدف لخلخلة السياسة الاستعمارية، عن طريق فعل الهدم والتفكيك للنظام الاستعماري والرد على مزاعمه الكولونيالية التي تعتبر الاستعمار مشروعا إيجابيا، فقد سعى معمري إلى تهديم نسق ثقافي هو النسق الاستعماري وزرع نسق ثقافي آخر مناقض له، حيث يبرز الوجه الحقيقي للاستعمار ذلك الوجه الذي يحاول إخفاءه، والقائم على الاستعلاء والازدراء لكل ما هو جزائري، وبالتالي المسرح عنده لم يكن قناعا أبيض ـ بمفهوم فانون للقناع ـ لقد كان بشرة تبرز الملامح الحقيقية للجزائريين.

مثل هذا النص الدرامي يعد مثالا على الطابع السياسي للمسرح في سياق ما بعد الكولونيالية فهو أداة لمناهضة الإمبريالية لأنه يسعى لإبراز ما تحاول الكولونيالية إخفاءه وهو أنها ليست إمبريالية عسكرية فحسب بل هي إضافة إلى ذلك إمبريالية ثقافية تمثل إبادة الشعب وتدمير ثقافته ونهب ثرواته، فهدف الكاتب هو جعل الجزائريين خاصة متفرجي مسرحيته أكثر رفضا للإمبراطورية الفرنسية، فهو لا يفوت الفرصة لإبراز قضية الاستعمار، وما اقترفه من جرائم خاصة انتزاع الأراضي وما ترتب عنه من تشريد وتجويع وموت وطرق هيمنة فرضت الصمت والقمع على المهيمَن عليه.

إن الإيمان بالثورة هو الذي دفع معمري إلى العزوف عن الموضوعات الهزلية، والتأليف في إطار الموضوعات الثورية، التي تصور بطولة الشعب، حيث صارت الثورة هي المحور الأساسي الذي التف حوله كل الكتاب المسرحيين، وكل الأعمال المسرحية التي كانت ذات صبغة نضالية، على الرغم من نشاط الأجهزة القمعية للسلطة الاستعمارية في الجزائر، لأن الهدف من العروض المسرحية، هو نشر الوعي بين الأهالي والدعوة إلى حماية الثورة، ورعايتها والالتفاف حولها.

وهكذا فالقهر السياسي والاقتصادي والثقافي الذي عانته الجزائر على مر السنين على أيدي كل المستعمرين الذين مروا على المنطقة وخاصة الفرنسيين ومقاومتها لمثل هذه السيطرة يضعها داخل النموذج ما بعد الكولونيالي.

أشكروفت بيل وجاريث جريفيث وهيلين تيفين(2010) دراسات ما بعد الكولونيالية المفاهيم الرئيسية. ترجمة أحمد الروبى أيمن حلمي وعاطف عثمان. دار ابن خلدون. الطبعة الأولى.

جيلبرت هيلين وجوان تومكينز(2000) الدراما ما بعد الكولونيالية النظرية والممارسة. ترجمة سامح فكري. أكاديمية الفنون المصرية. القاهرة مصر.

شكري غالي(د ت) أدب المقاومة، مكتبة الدراسات الأدبية 52، دار المعارف مصر.

Mammeri, Mouloud.1982. le foehn ou la preuve par neuf. Publisud. Paris.

Fanon ,Frantz. 1952. Peau noire masques blancs. Seuil. Paris.

Fanon, Frantz. 1970. Les damnés de la terre. Maspero. Paris.

فطيمة ديلمي

المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ علم الإنسان والتاريخ/ الجزائر

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article