قراءة المكان في « حكايات حارتنا  » لنجيب محفوظ

صوالـح وهيبـة

Citer cet article

Référence électronique

صوالـح وهيبـة, « قراءة المكان في « حكايات حارتنا  » لنجيب محفوظ », Aleph [En ligne], 9 (2) | 2022, mis en ligne le 15 mai 2022, consulté le 21 novembre 2024. URL : https://aleph.edinum.org/3518

المكان في الرواية له حدود جغرافية واجتماعية وعرقية لا يمكن الخروج عنها، ولا توجد في الرواية أي رغبات للانفلات من هذا المكان. وتبني الرواية من ثمانية وسبعين حكاية، وكل حكاية يرويها السارد بضمير «  أنا » الشاهد على أحداثها والواقف على أمكنتها المتنوعة تزيد أو تنقص وتتكرر في غالب الوقت والحارة هي المساحة التي تشملها كلها.

L’espace dans le roman a des frontières géographiques, sociales et ethniques qui ne peuvent pas être quittées, et il n’y a aucun désir dans le roman d’échapper à cet endroit. Le roman est basé sur soixante-dix-huit histoires et chaque récit narré par la conscience du « moi » témoin de ses événements et se situe dans divers lieux et espaces, en augmentation ou en diminution et se répète la plupart du temps et c’est le domaine couvert par tous.

Space in this story has geographical social and ethical boundaries that cannot be abandoned and there is no desire to get away at this location.
The story is based on seventy eight stories and each one is narrated by the I consciousness who witnesses these events and is located in different places and spaces, increasing or decreasing and repeating itself most of the time and it is the field covered by all.

مقدمـة

يتجلى المكان للقارئ في «  حكايات حارتنا  » بداية من العنوان؛ فحارتنا تعني خصوصية مثيرة للتساؤل عن الانتماء يشار إليها بـ « نـا » التي تعود على جماعة بعينها، والذي يغوص في أعماق السرد يمكنه أن يكتشف نوع الانتماء الذي يقصده الكاتب بسهولة وهو مصر وتحديدا القاهرة؛ فالمكان هنا له حدود جغرافية واجتماعية وعرقية لا يمكن الخروج عنها، ولا توجد في الرواية أي رغبات للانفلات من هذا المكان. الحارة هي مجموعة بيوت متجاورة بعضها ببعض تتصل بطرق ضيقة ما يجعل النوافذ والأبواب قريبة من بعضها والرؤية أقرب وحركتي الذهاب والإياب سهلة وكثيرة، وتخفي الأبواب المغلقة ما لا نهاية له من التأويلات وعندما يفتحها السارد تنغلق التأويلات وتنكشف الأسرار وهذا القرب الشديد هو ما يتيح اتصالا متواصلا طول مسار السرد.

تنبني الرواية من ثمانية وسبعين حكاية، وكل حكاية يرويها السارد بضمير «  أنا » الشاهد على أحداثها والواقف على أمكنتها المتنوعة تزيد أو تنقص وتتكرر في غالب الوقت والحارة هي المساحة التي تشملها كلها.

شبَّك نجيب محفوظ النص بمجموعة من الأقطاب المكانية مترابطة فيما بينها موضوعا متنافرة شكلاً، وتساهم في تكملة صورة الحارة الكلية، وظفيرة ثابتة تتكون من ثلاثة أمكنة رئيسية متجاورة تفرض وجودها بقوة في كامل النص ( التكية، القرافة، القبو ) بشكل متجاور (تجاور مكاني وتجاور سردي) « يشق الحارة بلا توقف حتى يغوص في ظلمة القبو، ثم يميل إلى الممر الضيق بين السور العتيق وبين سور التكية ويمضي نحو القرافة » (نجيب محفوظ، دت، ص 164)

وترسم الحارة بتاريخها وشخصياتها وأحداثها لوحة سردية ملتحمة في رقعة مكانية تتيح للقارئ الكشف عن العلاقات المتنوعة فيها.

1. الأمكنة الرئيسية

1.1. التكية

يتيح تتبع الحكايات القبض على بنية المكان وتشكيل صورة مكتملة بكل روافدها عند الانتهاء منها، والواضح هو وجود ارتباطات موثوقة الصلة فيما بينها، والتنسيق المضمر يتعرى في آخر الحكاية في ترابط ممتد إلى الحكاية الأولى بشكل مباشر.

تسفر الحكاية الأولى عن تفرخ أول مكان في الحارة شديد الحساسية عند أهلها، والمثير للتساؤل والمعبأ بأسرار من الصعب معرفتها لموقعه. ويرسم السارد هذا المكان في ذهن القارئ باحترافية تدل على تقارب وجداني واضح بين الكاتب والمكان فيشده لتتبع النص بطرقه لمواضيع تثير تساؤلاته وتفتح المجال ليتعرف على دقائق المكان والتعايش مع أحداثه من خلال الحديث بداية عن الساحة؛ فيعطي الكاتب الانطباع الأول عند ذكرها إيهاما بأن المكان فسيح ومنفتح على مجموعة أمكنة منغلقة يمكن العبور من خلالها إليه أو العكس في شكل دائري. وينفتح في النص على مجموعة تأويلات تأخذ القارئ إلى أبعاد مترامية الأطراف تسوق مجموعة أسئلة عن الرغبة الخفية في اللعب في هذا المكان بالذات وماذا يمثل له، وانفراج الحكاية بذكر التكية يجيب عن هذا الاختيار بالذات.

تعني التكية في معناها العام مكان مجهز لإيواء فقراء المسافرين، وهي المكان الأكثر تحفيزا للأسئلة عند السارد، و« التكية مثل قلعة صغيرة تحدق بها الحديقة، بوابتها مغلقة عابسة، دائما مغلقة، والنوافذ مغلقة فالمبنى كله غارق في البعد والانطواء والعزلة، تمتد أيدينا إلى سوره كما تمتد إلى القمر. » (نجيب محفوظ، دت، ص3)

وهو إشارة إلى استحالة النفاذ من خلاله إلى مكان متخف مليء بأنواع الجمال المتجسدة في الخضرة وثمار التوت التي تعد أكثر الثمار تشويقا للأطفال في مذاقها وبعدها الآسر لتسلق أشجارها، وقطفها نوع من التحدي لبلوغ هذا الجمال واللذة، ومقياس بُعد السور وصعوبة تخطيه يتحدد ببعد اليد عن إمساك القمر.

لهذا المكان خصوصيته والتي تأتي من خصوصية الشيخ الذي يسكنه وبقدر ما يوحي به من روحانية بالغة الأثر في هيئته ينعكس ذلك على المكان فهذا « المكان يلد السر قبل أن تلده الأحداث الروائية، وبشكل أعمق، وأبعد أثراً ». (محمد برادة وآخرون، 1981، ص 211)

ولعل منبع هذه الطاقة دائما ما يأتي من غموض الأمكنة التي تحتضن أجسادا تغمر الأجواء بأساطير مفعمة بالغرابة؛ فموقع الحديقة بجانب المقبرة أصابها بعدواها.

وتلك الروحانية يؤكدها الأب بأنهم رجال الله، وليضاعف من أهمية المكان ضمنيا وضرورة الحفاظ على معناه مهددا بلهجة حادة باللّعنة على من يكدر صفوهم. وهي رسالة ضمنية إلى الابن بأن لا يحاول الاقتراب من ذلك المكان، وهي رسالة يلقي بها كل أهل الحارة على أولادهم تخوفا من ردّات فعل غير متوقعة.

تظل هناك علاقة مباشرة في وصفها خفية دون الكشف عنها بين الرجل الذي يسكن المكان والقمر الذي يسكن السماء؛ فكلاهما يشع بالنور ويتميز بجاذبية مغرية للوصول إليه، ويقطنان في مكان يصعب الوصول إليه، وكلاهما محاط بسور من الأوهام المسيطرة على الإنسان. وكما أن اعتقاد البشر في أن القمر هو الذي يعطي للسماء جمالية خاصة؛ فكذلك يعتقد السارد في أن الرجل المنير هو الذي يعطي للحديقة جاذبية ورهبة عالية ويملأه بالروحانية.

وللتشبيه الأول بالقمر أهمية كونه العنصر الذي تشكل المكان على صورته في بعده وفي نوره وفي سلطته على المكان وعلى عقل الرائي وقلبه في الانتظار والشوق. وعادة ما تتجه الأعناق نحو السماء في لحظات الضيق أو الفرج بعد طول انتظار وكانت هدية السماء سعد زغلول في حكاية أخرى، والسماء هي المكان الذي يجود بالحلول دائما مهما صعبت المسائل.

يعكس الحوار الدائر بين السارد والشيخ خصوصية المكان من خلال اختفاء الشيخ وخلو المكان منه والظلمة التي تغشى الباب الداخلي فجأة؛ فكما أن السارد يروح ليلتقط الثمرة فلا يستطيع بلوغها؛ فكذلك تتطلع اليد إلى السماء لتمسك القمر ولا تصل إليه حتى أن الفرسان الذين أرادوا اقتحام الحارة في الحكاية رقم « 12 » وجاؤوا بالموت قامت الأحصنة برميهم عند سور التكية وحال دون مرورهم حفاظا على قداسة المكان وروحانيته المتشكل في رباط صوفي يتجلى من خلال معنى المصطلح والمتجسد في الشيخ الذي يسكنه. وولوج هذا المكان هو أمنية الصغير يريد إلقاءها على زائر الليل لتخطي سور التكية وفتح بابها لأكل التوت في الحكاية رقم « 49 ».

وتذكر التكية في الحكاية رقم « 65 » على أنها معلم من معالم الحارة في شبهها بالشيخ لبيب صاحب الوجه العتيق في الحارة، وهي في الحكاية رقم « 74 » مكان موعد نؤنؤ المجنون بحبيبته، الذي لا يعترف بالأسوار المنيعة ولا يحس بالوقت أو المكان وما يراه مستحيلا في النهار يعتقد بتنفيذه في اللّيل، ولكن لا أحد يستطيع ولوجها في الأخير.

عادة ما تتجه الأنظار إلى الأماكن العتيقة بالهدم والترميم لتجميل المكان أو التخلص من ألغازه ومقوماته، ويشكل خبر تهديم التكية في الحكاية رقم « 76 » ضمن مشروعٍ للمرافق العامة خطوة تشويهية لصورة المكان معنويا وجغرافيا وجرحا بليغا لتاريخه وانتقال خبر تهديمها بسرعة الشهب دليل على قيمتها وهيبتها. ويستنكر أهل الحارة فكرة صاحب المشروع المهندس عبده السكري ابن الحارة الذي يتحجج باعتراضها مجرى الحارة كالسد الذي يحول دون انطلاقهم نحو الشمال. وهنا يحاول الكاتب ترسيخ فكرة بركة الغيبيات على العينيات؛ فكل ماهو متصل بالعالم الروحي كالتكية له سلطة معترف بها على العقل البشري الشعبي خاصة، وهو نوع من الانتماء الروحي للمكان حتى على حساب النزوح نحو الشمال بوصفه رمز المدنية والتحضر.

« - حارتنا ميمونة ببركة التكية.
الخضرة والأزهار لا ترى إلا في التكية.
والأغنيات الإلهية أين تسمع إلا في التكية
وما المكان الذي لم يضمر أذى لإنسان إلا التكية » (نجيب محفوظ، دت، ص175)

جرّ موضوع تهديمها انفعالا ونقاشا وحلَّ حزن كبير بالحارة ولأن القرافة سيكون لها نفس المصير اقترن مصير التكية بمصيرها ممّا يؤمن لها بعض الوقت للبقاء وربما كله.

ينتهي الكاتب إلى آخر حكاية رقم « 78 » ويعود منها إلى أول حكاية ويظهر ذلك في طلب السارد « أريد رؤية شيخ التكية الأكبر ! » (نجيب محفوظ، دت، ص178)

يثير ذلك ضحك الشيخ عمر؛ فهو يعدها خارج أسوار الحياة ويطلب الأب من ابنه إسماع الشيخ عمر من أشعار التكية وهي الجملة نفسها التي سمعها من الشيخ أول مرة « بلبلي خون دبي خورد وكلي حاصل كرد » وهي الخصلة التي تربط أول حكاية بآخر حكاية، ويعدها الشيخ لغة غريبة تتردد بدون فهم ومع ذلك فالحارة مولوعة بهم.

يردد أهل الحارة ذكر الشيخ ولا أحد يزعم أنه رآه، ومن ادعوا برؤيته من الطاعنين بالسن ممّن عُرفوا بالتقوى لم يتفقوا في وصفه ما يعني عند مصطفى أنهم لم يروه؛ وتصير رؤية الشيخ أمنية المحامي غير أنّ تخطي سورها ضرب من المستحيل لذلك تحرك ليخترق الغموض بتوجهه نحو مكان كفيل بأن ينير له القضية، اتجه نحو ديوان الأوقاف بتحدٍ كبير وحصل على معلومات عن أوقاف التكية وعن فرقتهم الصوفية دون أن يجد أي شيء يخص الشيخ الأكبر وكراماته !.

يفرد الكاتب مساحة نصية يقرب بواسطتها صورة التكية للقارئ بتسليط الضوء على الأسباب والكيفية التي بنيت بها « التكية شيدت في الأصل في خلاء لأنهم قوم ينشدون العزلة والبعد عن الدنيا والناس، ولكن بمرور الزمن امتد العمران إليهم وأحاط بهم الأحياء والأموات فأغلقوا الأبواب كوسيلة أخيرة لتحقيق العزلة. » (نجيب محفوظ، دت، ص182)

للتكية قدسيتها وللقرافة حصانتها ويرتبط وجودهما معا في النص في أكثر من موقع في اختزانهما للأسرار والذكريات وترتبط رؤيتها بزيارة المقابر وعادة ما تكون في الأعياد. ويرتبطان في الحكاية رقم « 18 » عند وصف الحارة، ويأتي ذكرها عند انتهاء حياة أحدهم أو مروره من جانبها، وهي المكان الذي رجع منه جعلص الدنانيري فتوة الحارة في موكبه في الحكاية رقم « 51 ». وهي مكان الشياطين في الحكاية رقم « 54 » حيث المرور بجوارها يجعل المار مهدد، وفي الحكاية رقم « 76 » ينكشف خبر قديم لم يتم تنفيذه وهو أن القرافة مهدّدة بنقلها قريبا إلى صحراء الخفير ويحل محلها عمران شامل مكان يتناقض معه في المساحة ولكنهما يتشابهان في أن كل منهما متسع من الأسرار، ويبقى الاختلاف بين رفض الفكرة نهائيا وبين القلة التي تؤيد بقاء التكية ما بقيت القرافة؛ فارتهن بقاؤهما ببعض.

2.1. القرافة

القرافة هو المكان الذي تقرف منه النفس لانتفاء الحياة فيها ولأنها تستدعي الحزن بذكرها، ويصور الكاتب في الحكاية رقم « 18 » انغلاق المكان وحتى وهو يمده ببصيص من الانفتاح يفضي به إلى القرافة كمكان تنتهي فيه حياة الفرد لينفتح على المجهول. وهو المكان الذي يلجأ إليه الأب في الحكاية رقم « 35 » فينام في حوش القرافة بسبب مشكلة قديمة بينه وبين الابن الذي تعدى على أخته؛ فيموت كل من الابن والبنت بالسل ويصفي الأب تجارته وينعزل في حجرة داخل الحوش، هذا الاقتراب الشديد من القرافة هو إشارة إلى الموت النفسي للأب يلحقه موت جسدي في العام الموالي لينتقل إلى القرافة بجوار ابنيه بوصفها المكان الذي يجمع من جديد الأهل والأصحاب دون نزاع.

تؤثر العلاقات الاجتماعية بشكل كبير على مصير الشخصيات فتنتقل إلى ما يناسبها من أمكنة تعبر فيها أو من خلالها عن حالتها النفسية. وتعظيم شأن القرافة يأتي من تخصيص موسم لها يرتبط مباشرة بالأعياد؛ فيتخفف المكان من سوداويته وموته، وهو مناسبة جيدة للفتى الذي يضيق بالمكوث في الحوش فيخرج ليلتقي بالدرويشة بين القبور المكشوفة بدون موعد مسبق في الحكاية رقم « 6 ».

الحديث عن القرافة يعني الحديث عن القبر بشكل خاص ويذكره الكاتب في النص في أكثر من حكاية يرافقه إجلال وقدسية من نوع خاص. يحضِّر الكاتب لموت إحدى الشخصيات في الحكاية رقم « 8 » ليرصد رؤيتين نحو المكان نفسه وهو القبر « القبر بتركيبه الوقور المنعزل وشاهديه الشامخين وسره المنطوي، وبإجلال والدي له. » (نجيب محفوظ، دت، ص 19 – 20)

يبدأ الحديث عن جلال القبر ومواصفاته ثم يتبعه بسرد خبر مجيء أخته وابنها الذي يمرض ويحاط برعاية الأسرة في مكان يُعزل عنه السارد ثم تنتهي الحكاية بموت هذا الطفل الصغير.

تتغير نظرة السارد إلى المكان نفسه وهو القبر فلم يكن يشغله في البداية إلا شكله وحتى سره فيراه منطوٍ على ذاته ولكن نظرته تتغير عندما يضم المكان شخصية قريبة منه كانت تؤنسه في وحدته « لا تعود زيارة القبر من أيامي البهيجة، ويتغير وقع منظره. أود أن أطلع على خفاياه، وألتقى الكآبة من صمته. » (نجيب محفوظ، دت، ص 21)

يتعلق تغير الرؤية من الشكل الخارجي إلى الداخلي لأهمية الشيء الذي يسكن المكان؛ فعلاقة المكان بالشخصية لها دلالتها الخاصة التي تحيي المكان أو تقتله وكذلك تجذبه أو تنفر منه. وبالرغم من أن القبر كمكان منغلق على الحياة الدنيا إلا أن الشخصية التي لها علاقة بساكنه تجعله ينفتح إلى الدنيا من خلال ما يصدّره من صمت وكآبة ووحدة تظل تسيطر على الحياة بشكل مكثف خاصة وأنه المثوى الأخير لكل إنسان.

وبقدر ما يخفي القبر الجثة بقدر ما لا يستطيع إخفاء أعمالها ففي الحكاية رقم « 47 » يكتشف الابن حقيقة والده الذي يتحول من أسطورة في خياله إلى سارق سابق حكم عليه بالسجن سنة كاملة. يعبر الكاتب عن طريقة الباحث بسعيه نحو الحقيقة فينبش بها قبر الراحل وكأنها معاول يحفر بها المكان المبني بمعلومات سرية تضاهي الطوب في صلابته. ويستخدم الكاتب مصطلحات مسقطة على المكان شكلا وبمعان مغايرة.

في الحكاية رقم « 73 » حديث آخر عن القبر؛ فهو يعبر حدوده الخارجية وينفذ من خلاله كبابٍ على عالم آخر يطرح أفكاره على الأب في زيارته إلى بيت السارد مصطفى الدهشوري ابن السقاء وهو من القلة الراسخة في العلم في الحارة، معلم بالمدرسة وصديق لوالد السارد، يسأله الأب عن معنى الحياة ثم ينقل السرد للحديث عن مكان غيبي يتجسد في سؤال الدهشوري « أعندك فكرة عما يحدث في القبر؟ » (نجيب محفوظ، دت، ص 168)

يفتح السؤال الحديث عن تلك الحياة وأسرارها، ويقود إلى أسئلة خارج السرد أين تقف الشخصيات أثناء التلقين ومستقر الروح يتعدى القبر في حجمه الضيق الذي لا يسع إلا الميت فأين يقف السائلون؟

يتحدث مصطفى الدهشوري بطريقة فلسفية تؤدي في الأخير إلى ضرورة إدراك معنى الإله بعد أن يكتشف الإنسان ضرورة أن ينظم حياته وأفكاره التي يقابلها الأب بسخرية ويحار مصطفى كيف ينشرها في الحارة، وبسبب أفكاره يفصل عن وظيفته وتتجهمه الحياة في الحارة، وهو نوع من القمع يمارسه المكان بواسطة أهله.

3.1. القبو

للقبو أسراره الخفية التي تتجلى في كل خارج منه أو داخل إليه، وتتغير وظيفته تبعا للأحداث التي تقع فيه، ففي الحكاية رقم « 5 » ترى زوجة المأمور أن القبو مسكون بالعفاريت وتؤكد الأم على أنهم يخرجون عقب منتصف اللّيل. وفي الحكاية رقم « 26 » هو المكان الذي يصلح للغراميات السرية حيث تضبط أنيسة بنت أمينة الفرانة مع الحنفي صبي محل الطرشي تحت القبو. وهو المكان المناسب للتسول في الحكاية رقم « 41 » حيث يقبع فيه الشحاذ الضخم إبراهيم القرد متملكا المكان وأي محاولة من شحاذ آخر للجلوس فيه تنتهي بمعركة ضارية. ويشير هذا التمسك إلى مردوده الواسع وهو سبب انفراد الشحاذ به ما يعني أن هناك حركة ذهاب وإياب مكثفة في المكان.

ويعد القبو معلما من معالم الحارة يشهد على وجودها كما يشهد الشيخ لبيب صاحب الوجه العتيق على زمن فات في الحكاية رقم « 65 » يرتبط ارتباطا وثيقا بالقبو « يتخذ مجلسه قبيل مدخل القبو، على فروة يجلس، وبين يديه مبخرة تنفث رائحة دسمة مخدرة. » (نجيب محفوظ، دت، ص 152)

وأكثر الشخصيات جلوسا عند القبو هم الشحاذون والمجانين والشيوخ الذين يهيمون بالغيبيات وقراءة المستقبل وغالبا ما يكون المستقبل نافذة أمل لهؤلاء للهروب من واقعهم.

تكشف الحكاية رقم « 68 » عن رعب القبو وما يخفيه من خلال عبدون اللاَّله الذي تحول فجأة من إنسان صاحب مسئولية يقضي مصالح بيته إلى الظهور بجلباب أبيض ثم يظهر للحارة من فوق سطح القبو ويستغربون قدرته على الصعود وجرأته على اقتحام وكر العفاريت ومرتع الثعابين ثم يسقط ويرتطم بالحجر، وتأتي هذه الجرأة عادة عند غياب العقل والإحساس بالواقع في مثل هذه الأمكنة.

وفي الحكاية رقم « 69 » يجعل الكاتب من الحلم سبيلا نحو القبو وينتهي الأمر بأبو المكارم إلى السكن في القبو والموت تحته، وبفضل حلم لأحد الأعيان يصبح أبو المكارم ولي من أولياء الله ويقام ضريح فوق قبره؛ فالإيمان بالأحلام والأولياء والكرامات والأضرحة دلالة على قيمة الغيبيات والرؤى وجزء مكمل لصورة الحارة التي تهوى المجهول وتقدسه أكثر من الواقع؛ فالحلم جزء مركب لبنية المكان وعبره تتغير حدوده وتتغير تبعا لذلك القيمة الإنسانية في الرواية، وهذا الحلم هو تعبير عن تمسك أهل الحارة بمعتقداتهم الشعبية والثقافية.

وغالبا ما يصعب تفسير الأحداث التي تجري في القبو أو التحقق من أسبابها، وبالرغم من أنه تم تشخيص موت الغريب في القبو بسكتة قلبية في الحكاية رقم « 71 » إلاّ أن أهل الحارة لا يصدقون ولا يكفون السؤال عن هويته، وقد يكون اتهام مضمر بأنه عفريت من عفاريت القبو قاد ضحيته هناك وتخلص منها، وعند أهل الحارة العلم عاجز أمام الاعتقاد الراسخ.

ويكون المكان جنة مهما صغر عندما يكون حلما مستحيلا أو يقارب على ذلك كما في الحكاية رقم « 48 » ومحور الأماني عندما يتمنى الطفل أن يأتيه زائر اللّيل ليحقق أمانيه المتمحورة على مجموعة أمكنة بعضها يحبه والآخر يتمنى زواله؛ فيتمنى إغلاق الكتاب، وتجديد مباني الحارة القديمة وتخطي السور وفتح باب التكية ليأكل التوت. « إن الأمكنة في الواقع كالحجارة في المقطع لا تشكل بناءًا جماليا، إلا عندما يقطعها المبدع وينقشها بالحلم والرؤيا ويكحلها بالأزمنة » (شاكر النابلسي، 1994، ص5)

2. أمـاكن التواصـل

1.2. الطريق

الطريق هو معبر بين مكانين كلاهما يتجه سهمه إلى الآخر، وشكله هو صورة عن طبيعة المكان الذي تجري فيه أحداث الرواية، فالأزقة الضيقة علامة على اكتظاظ المباني وتجاورها الشديد كالحارات. وهذه البيئة تتحكم في سير الأحداث وطبيعتها فالطرق الملتوية تجعل حركة الشخصيات في ترقب وبطء دائم عكس الطرق المستقيمة التي تشير إلى انسيابية المكان وسهولته. وأيا كان هذا الطريق معنويا يتعلق بالأحاسيس الداخلية للشخصيات أو ماديا فطرق التعبير به تمنح فرصا أكبر للشخصيات لإيصال صورة عن فكرتها وكذلك الكاتب. وللطريق أهميته على الصعيدين الجغرافي والنفسي فهو على الأرض يربط بين الأمكنة ويجعلها منفتحة على بعضها البعض فيتحقق التواصل النفسي الذي تدعمه حركتي الذهاب والإياب.

وإن بدت الطرق سهلة تؤدي بالشخصيات إلى أمكنة ترغب فيها إلا أن انفتاحها الأخير نحو القرافة يشير إلى فكرة واحدة هي انتهاء كل واحد من أهل الحارة إلى ذلك المكان واستحالة خروجه منه. وهكذا هي نهاية معظم الشخصيات في الحكايات مهما خرجت ففي الأخير ترجع إلى المكان نفسه.

تؤمن الطريق مساحة من التواصل بين الأمكنة وينعكس ذلك على علاقات الشخصيات ببعضها، للطريق شكله الهندسي الذي يتباين بين الاستقامة والوضوح وبين الالتواء والضبابية وهكذا هي طرق التعبير به كمصطلح لإيصال صورة عن الأحداث والمشاعر. ففي الحكاية رقم « 5 » تجاوز العقبات المتمثلة في فجوات الطريق بسعادة لزيارة بيت المأمور يفضي إلى أهمية الحالة النفسية لتخطي حواجز المكان. وفي الحكاية رقم « 6 » الطريق هو المكان الذي يتيح تتبع الشخصيات من خلاله، والسير عليه يمنح فرصة تتال الخطوات في شكل أكثر نظامية من مكان متشعب وبمساحة منفتحة. وفي الحكاية رقم « 10 » الطريق المعنوي هو الذي مرت منه إحسان إلى حياة الغناء. وفي الحكاية رقم « 25 » يُعبر الطريق الشاق عن هموم الحب وصعوبته ويوحي طوله بامتداد الرؤية وبعد المكان.

ويتحول الطريق إلى مكان خطر في الحكاية رقم « 40 » عند يتهجم الرجل على النساء في الطريق لنزع نقابهن بحثا عن حبيبته ويقابل بالزجر والضرب. ويؤثر الجنون والسكر والليل على الإحساس بالطريق. ويعتقد كل من نؤنؤ المجنون والأعور السكران في الحكاية رقم « 74 » أنهما تحركا في اتجاه التكية ليلا ويكتشفان في النهار أنهما لم يتحركا بالرغم أنهما قطعا المسافة في أيام طويلة !

2.2. النافذة

تمثل النافذة أهم مكان في البيت وفي الحارة وهي وسيلة التواصل مع العالم الخارجي وعبرها يتم الكشف عن الكثير من الأحداث، وتشبه النافذة في الحارة عدسة الكاميرا عند رصد الأخبار وتتبع المشاهد من خلفها. وتبقى النافذة المكان الأهم عند النساء لمراقبة ما يحدث في الحارة، وتقبع ابنة العمة خلفها في الحكاية رقم « 17 » فتكشف إطلالتها الدائمة للقارئ على أن الحارة مسلية جدا وهذا الانطباع ماهو إلا انعكاس نفسية العروس السعيدة والمزهوة بمجموعة تنقلات تضيف إلى حياتها شيء من السعادة.

تنفتح النافذة في الحكاية رقم « 18 » على احتفالية الحارة ويكتسي المكان بحلة جديدة تليق بالحدث « تضاء الكلوبات في هامات الدكاكين، ترتفع الأعلام، تدوي الزغاريد وتتطوع العالمة ألماظية بإحياء الليلة. » (نجيب محفوظ، دت، ص 40)

وفي الحكاية رقم « 49 » يصور الكاتب مشهد الحارة في المناسبات ويفرد مشهدا تفصيليا عن طريقة النسوة في التفرج على ما يجري في الحارة وتعد المناسبات فرصة النسوة للاستمتاع والمشاركة فيها من بعيد ومنظرهن من على النوافذ صورة حية عن الحياة الشعبية ويصور الكاتب عبرها أمل مستور متوارٍ خلف الجدران في التحرر من قيود العبودية.

تتغير مصائر الشخصيات بسبب النافذة في الحكاية رقم « 32 » وتتغير معها الرؤية فتصبح من إلى النافذة، تلوح من سنان شلبي العامل في مطحن الغلال نظرة نحو النافذة في البيت القائم أمام المطحن ويلمح وجها يأسر فؤاده ويسيطر على أقداره وتبقى الجميلة أسيرة البيت ولا تغادره. ويحاول جاهدا الوصول إليها عن طريق أم سعد التي تجعله يتصل بأكثر من شخص منهم المعلم حلمبوحة وهو صاحب دكان يبيع فيه الدخان يطلب منه المقابل وهو ما يؤدي به إلى البوظة مكان للسكر، ثم يتوجه إلى أم عليش بياعة البيض التي تقطن في حجرة خشبية فوق سطح أم علي الداية؛ فيقتلها ويعطي المال إلى المعلم حلمبوحة والحملاوي مقابل الوصول إلى الجميلة. يتنحى السارد عن موقعه ويقدم كلام الرواة بأن سنان دخل حجرة محبوبته وصارحها بجريمته ثم استسلم للمقادير التي قادته بأقدام ثقيلة.

تتيح النافذة رصد مشاهد متعدّدة المواضيع وتنفتح على رؤى متعددة في الحكاية رقم « 36 » حيث يدفع الأرق بالسارد للنظر من النافذة ويطلع على مشهد شبح يتلاطم مع الجدران وهو سكران، ويستدعى مشاهد من الذكرى عبر نافذة أخرى تنفتح في خيال السارد في لحظات جادة بالرغم من سخافة الموضوع أحيانا.

ولأنها المنفذ إلى العالم الخارجي ففي الحكاية رقم « 40 » يكون جلوس الرجل خلفها إجباريا بسبب مرضه الجنوني، ويقترح النّاس على أبيه أن يأخذه للمستشفى ولكنه يحبسه في الحجرة ويقوم بتصفيح النافذة بالقضبان فلا يشغله ما وراءها غير السؤال عن حبيبته دون الانشغال بالمناظر.

تنفتح شرفة المئذنة على النافذة في الحكاية رقم « 44 » ويتم عبرها رصد حدث قتل الست سكينة أرملة صاحب مقلى على يد المعلم محمد الزمر صاحب وكالة خشب الذي تبرع ببناء الزاوية والمسئول عن أجر الشيخ الذي اطلع على المشهد، غالبا ما كانت المشاهد ترصد من داخل النافذة إلى خارجها ولكن هنا تتغير الرؤية؛ فتصبح مركزة من شرفة المئذنة نحو النافذة لترصد مشهدا غاية في الأهمية والخطورة على الرائي يتعلق بدينه وبمستقبله العملي، ومن النافذة أيضا يتغير مصير عامل السرجة في الحكاية رقم « 45 » ينبعث صوت من نافذة مغلقة لبيت الست فضيلة الأرملة، يتزوجها، وتتخذ من النافذة برج مراقبة وتتابع من وراء خصاصها تحركاته.

تنفتح النافذة في الحكاية رقم « 69 » على مشهد دخان متصاعد من نافذة البدروم ويسارع النّاس إلى النافذة فيرون أبو المكارم عاريا والنّار تلتهم أمواله، ويتيح الاقتراب من النافذة مشاهدة المنظر عن قرب ممّا يجعل تفاصيل الحدث والمكان واضحة، وهو تصوير يريد به الكاتب مراقبة الحدث من أكثر من زاوية وتقريبه للقارئ أيضا.

تخلق النوافذ في عوالم أخرى مساحة فكرية خصبة ويشير التعبير بانغلاق نوافذ الحياة إلى تأزم الحدث كما في الحكاية رقم « 48 » وهو ما يعني حياة حزينة مثقلة بالهموم تنطوي على تعاسة كبيرة وفي حالة انفتاحها تشرع على السعادة والفرح وامتلاء الرؤية بالمشاهد.

ويعد الوقوف خلف النوافذ المغلقة في الحكاية رقم « 12 » أسلم طريقة لتتبع مشهد المعركة والحفاظ على سلامة أهل الحارة، وهي إشارة إلى تسليم المكان إلى المتعاركين ومراقبة الحدث في الوقت نفسه. وتتيح النوافذ للنسوة في الحكاية رقم « 16 » تتبع جنازة سلومة المنظم للمظاهرة.

تتكثف مجموعة أمكنة في بداية الرواية معلنة عن حضور جبار للمكان يضغط على حريات الأفراد ووضع أغلال يقيد بها تحركاتهم، وينبئ عن علاقة مثمرة بين المكان والشخصيات في مجموعة من الأحداث تتشكل تبعا لنوعية المكان في شكله المغلق وحتى في انفتاحها على الخارج؛ فيكون من خلال النافذة التي تنفتح على داخلها وهي مجموعة من المدارات التي تؤدي إلى بعضها البعض. والمئذنة والنوافذ والأبواب والطريق كلها لا تخرج عن حدود الحارة، وتخلو الرواية من أي ذكر لأجهزة اتصال تكنولوجية كالتلفزيون أو الهاتف أو أثاث حضاري للانفتاح على الخارج. وهو ما يعطي انطباعا بدقة الكاتب التصويرية للمكان في انغلاقيته وزمنيته.

3. تفاصيل ومؤشرات مكانية

إنّ ضيق الحارة كمساحة جغرافية لا يمنع من احتفاظها بتفاصيلها التي تشكلها، وجاء السرد على ذكر مجموعة أمكنة متنوعة تشكل جزء من مشهد الحارة وخصوصيتها. مثل : الأرض المعشوشبة، حديقة الورد، جدول ماء، المآذن، السور، السطح، الصالة، المنور، السماء، السطح، الجنة، المطبخ، بيتنا، حارتنا، الزار، قصر العيني، بلاد الواق واق، كفر الزغارى، الزاوية، السرجة، الطاحونة، المنظرة، المنبر، قسم الشرطة، قبة السماء، دكان الرهونات، وكالة الخشب، الصوان، حجرة المواسم، ميدان بيت القاضي، الحوانيت، دكان الطعمية، حوض الماء، قسم الجمالية، دكان الدخان، الدكاكين، الوكالة، الفرن، الحمام الكتاب، المدرسة، السبيل الأثري، الساحات، البوظة، الغرزة، المغطس، وزارة الداخلية، مخزن الغلال، الأزقة، كرة أرضية، مجموعة شمسية، سديم هائل، الكون، الباب، الشجرة، باب الحوش، الهلال، مالطة، الفرن..

يكتمل المكان بأشيائه التي ذكرت في ثنايا النص ولكل منها طبيعتها ووظيفتها السردية والمكانية في تمثيله. وهي : القباب، وتد، الكنبة، الكنبة التركية، الكراسي المتراصة، العود، القانون، الناي، الرباب، الرق، الفراش، المصباح، السلم الحلزوني، الحصيرة، الشلت، العود، الغلال، القلل، المصباح الغازي، الحانطور، رأس الثور، الحقيبة، المراكيب، الأعلام، الصليب، الرصاص..

تساهم مجموعة من الأحداث في إبراز نمط العيش في مثل هذه الأمكنة مثل : حكاية حواش العداد الذي أُعتدي عليه بسبب سهرة أقامها ليلة العيد في بيته حتى قبيل الفجر مثيرة استهجان أهل التقوى، وينتهي المشهد على لسان الرواة بعد استيقاظهم على خراب « فالأثاث النفيس قد تحطم إربا، الكتب والدواوين والمقاعد والموائد تفتت أكواما ونثارا، الشلت والمساند والستائر والأغطية قد تهتكت وتمزقت وتطاير حشوها ندفا، والقوارير والكئوس والأطباق والمواقد والجوز قد تكسرت وانتشر كسارها، كذلك المصابيح والتحف وحتى السجد والأبسطة والملابس » (نجيب محفوظ، دت، ص 90)

ينتهي الأمر إلى قسم الشرطة والرواية الأكثر تصديقا في الحارة هي أن أصحاب الحفلة من قام بتخريب المكان وهم ذاهلون شبه موتى، وتفسير آخر يقول بأن العفاريت هي التي قامت بذلك لأن حواش لم يف بنذره. ومع مرور الوقت تصبح ذكرى تستدعي البسملة والتعوذ وهكذا تنتهي التفسيرات في هذه الحارة وكأنها تعطي اطمئنانا خاصا للنفوس بالركون إلى الماورائيات.

ويأتي المكان بشكل مضمر حين يشبه السارد خدود سعاد ابنة عمه برغيف خرج من الفرن وهو مكان النار والحرارة والتوهج والحمرة للتعبير عن جمالها، وتدل الأغنيات الجبلية على أن العائلة الشامية تنتمي إلى مكان جبلي في الشام.

يتكرر ذكر بعض الأمكنة بشكل ملفت إما تأكيدا لوظيفتها الدائمة في النص أو لكثرة الحوادث المتعلقة بها، ويذكر السور في أكثر من موقع لصعوبة تجاوزه كعقبة في المكان وفي الوقت نفسه حماية للمكان الذي يحيط به.

1.3. المكان الذاكرة

تعلق في الذاكرة مجموعة من الأحداث في الصغر مرتبطة بأمكنة لها عظيم الأثر تنتهي الأحداث وتبقى الأماكن شاهدة عليها، وأكثرها أهمية التي تتعلق بها المصائر منها :

  • فناء المدرسة الابتدائية المكان الذي يتجمع فيه التلاميذ لانتظار النتيجة بعد إنهائهم لمرحلة الكتاب.

  • الميدان الذي يضم تجمعا بشريا هائلاً من مختلف الأطياف تجمعهم قضية واحدة لاتساع رقعته الجغرافية، وتكون الأسوار المحيطة حاجزا عن الضرر وحماية لهم وعبره تنفتح العين على منظر مثير مليء بالبشر والهتافات.

ويفرز الصخب في الميدان عن كلمات بالغة الأهمية لها مؤشرات مكانية مثل : السلطان، الوطن، الأول يدل على مكانة وقيمة اجتماعية يتولاها أحدهم وهو المكان الأول في الوطن. والوطن هو الرقعة الجغرافية المحدودة بمساحة بعينها وهو المكان الذي يضم الجميع.

وتحفظ الذاكرة أيضا صورة الدرويشة في ذهن السارد، وتحفظ النور الذي رآه السارد أول مرة في الشيخ ثم في البنات.

2.3. خصائص الحارة

إن انتقال الخبر في الحارة بسرعة الشهب يشير إلى ضيق المكان كمساحة جغرافية منفتحة على بعضها البعض كحلقة مغلقة، وعادة ما تكون الأخبار الأكثر انتشارا في هذا النوع من الأمكنة تلك المتعلقة بالأخبار الخاصة والمحضورة أو السرية؛ فتوظيف فتاة من الحارة في الحكومة وفي مكان يكتض بالرجال يستدعي نميمة من نوع خاص « تذهب إلى الوزارة وتجالس الرجال ! » (نجيب محفوظ، دت، ص 21)

وهو ما يؤكد انغلاق الحارة على نفسها وأن الخروج عن حدودها محظور. ولا يذكر الخروج في السرد إلا كحدث خارجي لا يتيح أي فرصة للشخصيات للاستمتاع به، أو يذكر في عقبه ندم أو نهاية مفجعة أو عقاب أو رجوع فوري. وتعقيب الأم على خبر جارتها « لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنها من أسرة طيبة.. وأمها طيبة.. وأبوها رجل صالح ! » (نجيب محفوظ، دت، ص 21)

يعني أن خروج فتاة تنتمي إلى الحارة للعمل خارجها هو اعتقاد مباشر في سوء أخلاقها أو أن البنت غير جميلة تجازف لأنها فاقدة الفرص.

تتأثر العلاقات الاجتماعية بشكل المكان في الحكاية رقم « 31 » تبقى سيدة كريم بدون زواج وإدريس القاضي يعرض عن الزواج ويسافر إلى بلد عربي وعند عودته يتزوجها بعد أن تقدم به العمر ولم تعد هي عروسا تسر الحبيب، وهي نهاية طبيعية في الحارة التي تجرم العلاقات الغرامية وعلى المرأة بشكل خاص؛ فيحاصرها المكان ويخضعها لسلطته. من جهة أخرى تبرز هذه الحكاية شهامة الرجل والمخلص لعهوده وحبه وهذا يرجع إلى البيئة التي أنتجته أيضا. وتشير بعض الممارسات الحياتية داخل الحارة إلى طبيعة المكان وشعبيته مثل : غسل فتحية قيسون للملابس في طست أمام مسكنها كإشارة إلى التعالق المكاني والتواصل المباشر بين الأهل.

3.3. أحداث الحـارة وأحداث الفَتوَنَ

1.3.3. أحداث الحـارة

تستدعي بعض الأحداث الاستهجان مثل زواج الأب من خطيبة ابنه المتوفى بعد شهر من وفاته وهو ما يجعلهم حديث الحارة، وتنفتح التأويلات إلى أن الأب يستر عار ابنه المتوفى مع خطيبته وهو أعجب زواج حدث في الحارة بين الصرماتي ودليلة وتلد أيضا وليدها وما بين مستحسن لفعله ومنكر هناك من يناديه أبو حفيده.

تشكل المعارك عنصر مكمل لصورة الحارة بكل الأسلحة والأدوات التي تستخدم فيها كالطوب والعصي والسكاكين وغالبا ما تنتهي بقتلى ومساجين؛ فلا يبقى في بيوت البرجاوي والكفراوي غير النساء والبنات يغمرهم الحزن والسواد. والسجن المكان الطبيعي الذي ينتهي إليه مجرمو الحارة والسجون وتعد المشانق شرف بالنسبة لهم.

ينصح الحكماء بهدم جزء من السور الشرقي للتسلل إلى صحراء الجبل وأطراف الأحياء البعيدة، وتنفذ الفكرة بالرغم من خوف البعض من تسلل العدو عبره، ويطلق على الممر « ممر السبيل »، وينبه مدرس الجغرافيا إلى خطورة الممّر في حالة نزول المطر معللا وراسما خطورة الوضع وتأثيره السيء على المكان في حالة انهمار الماء فيؤدي إلى غرق الحارة، فيسخر الجميع منه لأن السماء لا تمطر ولأن المكان محصن بالجبل، وبعد أعوام يتحقق تحذير المعلم وتنهمر الأمطار لثلاثة أيام كاملة ويندفع الماء نحو الممّر وتختفي الحارة تحت الماء، يقتنص الكاتب فرصة وصف المكان من خلال هذا الحدث المهم ويعطي فرصة أكبر للتعرف على تفاصيل الحارة « تغرق البدرومات وتكتسح الدكاكين والسوكالات والأدوار السفلية وباحة السبيل وفناء المدرسة وتجعل من القبو خزانا ومن الساحة بحيرة ومن الممر الضيق بين التكية والسور نهرا زاخرا، ثم تجتاح المياه المقابر فتجرفها وتقذف بالعظام والجثث في أخاديد لا حصر لها تغطيها الأكفان والخرق البالية. وتنهدم بيوت وتنقلب الأسقف مصافي وثقوب فيهجر الحارة أهلها مذعورين وينتشرون في الصحراء لاجئين مشردين والخراب يحيط بهم وارثا الأرض وما عليها. » (نجيب محفوظ، دت، ص 125)

يرتبط الحديث عن الحجرة في النص بمشاعر الألم والجرائم والعزلة في معظم الحكايات وحتى عند ذكر بابها، يهتف الصبي للمارة في الحكاية رقم « 66 » برغبته في الخروج بسبب باب الحجرة الذي أغلقته الأم، وكل مار من هناك يدرك لما فعلت ذلك؛ فيغادر بابتسامة ويبقى الصبي يتطلع إلى المارة في شوق وبإحساس المسجون.

ينتشر خبر الجريمة في الحكاية رقم « 44 » ويُكتشف مقتل الست سكينة في حجرة نومها بجلباب النوم ويستدعى الإمام للشهادة ولكن عند استجوابه في حجرة التحقيق لا يصرح بما رآه تلك الليلة ويغادر حزينا. وأثناء التحقيق - في حجرة التحقيق - يكتشف سرقة بعض الحلي والمشتبه فيه هو صبي كواء الذي كان يتردد على البيت، وعند تفتيش مسكنه يعثر على الحلي فيتهم بالقتل. من ناحية أخرى يواجه الإمام المعلم بجريمته ثم يغلق على نفسه في الزاوية بالمفتاح والمزلاج ويلبث في سجنه يومين وعند مغرب اليوم الثالث يفاجأ أهل الحارة بظهوره في شرفة المئذنة عار ويغني. وتتيح الرؤية من المئذنة نظرة شاملة وأوسع والواقف فيها قيمته تضاهي علوها، وخروج الشيخ عار بذلك الشكل يسيء للمكان وتلتصق به ذكرى الحدث.

الحجرة غالبا هي المكان الأشبه بالسجن في انعزاليتها وغالبا ما ينتهي فيها المريض والمجنون والخائف في حكايات حارتنا، وهي ملجأ السارد عندما يكشف عن المستور المتمثل في وفاة سعد زغلول فيرى كل المناظر كئيبة.

وتقرر في حجرة الناظر نتائج التلاميذ وخروج ضباط المدرسة منها يعني خروج النتيجة التي لا ترضي الجميع؛ فحركة الدخول توازي حركة الخروج منها في الرواية.

وتحتوي المدرسة أيضا على حجرة للطبيب لإسعاف التلاميذ عند الحاجة ويرافق حركة دخولهم الألم.

ويذكر الكاتب المكان في بعض الفقرات كمصطلح متشعب لا يمكن ضبط حدوده إلا بوجود ما يفسره لاحقا أو سابقا بحدث ما، ويضاف للمكان خصوصية تعنيه تبعا للحدث الذي أثر عليه مثل : مذبحة الأزهر، مذبحة أسيوط، العزيزية، والبدرشين، والحسينية.

2.3.3. أحداث الفَتوَنَة

ذُكرت الفَتوَنة في النص في العديد من الحكايات في أشكال متنوعة، ولكل فتوة شخصيته في تطبيق شرائعه على الحارة، ويجتمعون كلهم في أنها طرق غير إنسانية ولا أخلاقية؛ فجعلص الدنانيري فتوة خطير له تأثيره على الحارة يجلس في المقهى، يتقدم موكبه مثل البنيان الضخم ويقوم بأفعال شاذة أمام وجهاء الحارة ويجبر الكل على دفع الإتاوات. إن تشبيهه بالبنيان الضخم إسقاط على أن المكان له تأثيره المباشر في النفوس فكلما كان واضح المعالم قويا كان له هيبته في النفوس.

يفرض الفتوة على ناظر المدرسة بأن يتعرى ويذهب إلى بيته وسط قهقهات العصابة لأنه عاقب أحد أبناء أتباعه، ويجبر الشخص لتطليق زوجته ويتزوجها وإذا طلق زوجاته لا أحد يستطيع الزواج منهن؛ فينتهين إلى الانحراف أو التسول. وكلها أفعال مشينة تقضي على القيم الاجتماعية والدينية المؤسسة للمكان. والمكان الوحيد الذي يهزمه هو فراش المرض، نتيجة دعاء بعض أهل الحارة عليه، ويرافق الدعاء نظرة إلى السماء وتأتي في مجمل السرد أنها المكان الكريم، وانتقاما لذلك عندما يبرأ يأمر بعدم زيارة المقابر يوم عيد الفطر فـ « تمر أيام العيد والحارة خالية والدكاكين مغلقة والبيوت صامتة ويغشانا ما يشبه الحداد » (نجيب محفوظ، دت، ص 109)

ويتعدى رعبه إلى الحارات المجاورة وهو سبب صبر أهل الحارة على هؤلاء لحمايتهم من خطر الحارات المجاورة، وليضاعف الكاتب من تضخيم الفتوة يشبهه بالجبل الشامخ لكنه ينهار على يد طفل من كفر الزغارى بواسطة سكين دربته أمه لينتقم لأبيه الذي كان ضحيته ويصل الخبر إلى الحارة وتختلط مشاعر الفرح بالحزن. ويرجع جعلص الدنانيري من القرافة في موكبه فتقف له الحارة على صفين ويعترض عبده سبيله ويشتمه ولكن الجبار يبتسم له ويمضيان معا في سلام ويتعلم السارد ومعه القارئ و« تعلمني الخبرة مع الأيام أن حارتنا تقدس طائفتين : الفتوات والبلهاء » (نجيب محفوظ، دت، ص 112)

وهو تلخيص لخصائص هذا المكان.

يتطلب الانضمام إلى الفتونة تضحية كبيرة وشجاعة وقوة وتدريب ولأن زيان مبيض النحاس لا يستطع تحقيق مطالب الفتوة السناوي يهرب من الحارة. ومن فتوات الحارة حموده الحلواني عمره 90 سنة من بين الجميع والوحيد الذي اعتزل بحكم العجز والكبر، تاب ولزم المسجد، ويعترف لأحدهم بحسناته التي شملت الحارة بأنه من دبر مصارع العديد من أهلها.

يبدأ زوال عصر الفتونة شيئا فشيئا ويسفر مدح أحدهم للصعلوك عباس الجحش وهو يحوم حول بيت بياع الدندورمة بالفتوة فيستحسن الفكرة تحت تأثير المخدرات ويجمع أصحابه ويمضى نحو المقهى لينتشر الخبر - المقهى مكان التسلية وتدخين البوري واحتساء الزنجبيل وسماع الراوي الذي يسرد السير والاستماع إلى الرباب - يتزامن ذلك في وقت « كانت الحارة في حاجة ملحة إلى فتوة لتحفظ ذاتها وكرامتها بين الحواري المتصارعة » (نجيب محفوظ، دت، ص 120)

وهو ما يفسر المشاعر المختلطة بين الحزن والفرح التي تنتاب الحارة عندما يطعن جعلص الدنانيري. وتنتهي أحداث الحكاية رقم « 51 » بانتهاء زفة العروسان عند باب زويلة باعتراض فتوة العطوف ورجاله الطريق عليهم، ويهرب الجحش عباس وتنطلق القهقهات بعدها ويسقط عقد القران بمضي المدة. وزغرب البلاقيطي هو خاتم الفتوات في الحارة وكان « يمتد ظله فوقنا كالشجرة السامقة بالفخر والطمأنينة » (نجيب محفوظ، دت، ص 130) ولبوادر التعليم دخل في انتهاء عصر الفتوة فتلبس الحارة حلة جديدة.

ليس في النص إشارات دالة على رغبة في الخروج من المكان بالرغم من تعرض أهلها لأقسى العقوبات من فتوات الحارة؛ فكان هناك خضوع وإذعان تام لأوامرهم وهي نتائج ترتبت عن انغلاقية المكان ومحاصرته، وجاء تغيير هذا الوضع من الداخل بعد تطور الأجيال وانفتحاهم على العلم فانتهى عصر الفتوات.

4. التحولات المكانية والنفسية

تمس المكان بعض التحولات لممارسة بعض الوظائف الطارئة؛ فتتحول وظيفة البيت العائلي إلى مزار تمارس فيه طقوس استشفائية شعبية بحكم أن الأرواح الخفية لا يمكن محاربتها إلا بهذا الشكل، واعتقادا بأن الكيمياء وتفاعلاتها تعجز عن تطبيب هذا النوع من المرض. يكتظ البيت بروائح البخور وأصوات الجوقة في مشهد مثير، وتقوم الأجساد مقام الصالون في استقبال العفاريت، ويتحول المكان إلى تشكيلة من الأجساد المتموجة منها جسد المريض الذي ينتفض ويتلوى حتى يغشى عليه معلنا عن شفائه بزغرودة منطلقة في القاعة، وتطبق الطقوس على المريض المستسلم في جو مملوء بأنفاس العفاريت التي تسكن الأجساد.

يقابل الزار الدال على شعبية المكان مستشفى قصر العيني المكان المتطور الذي تنتهي إليه المريضة ويشبه الكاتب المشهد الأخير في استحالة رجوع المريضة برحيلها إلى بلاد الواق الواق كأبعد مكان يتخيله البشر عند التعبير عن الغياب والبعد وهي في بعدها تدل على غياب أم زكي عن الحارة وعن المشهد الروائي أيضا.

وتتحول وظيفة البيت العائلي لتصبح مكانًا استشفائيا تتم فيه عملية ختان الابن وهو إشارة إلى شعبية المكان وإلى أحداث تتم في سنوات لا تتصف بالتحضر لا تهتم فيه العائلة بصحة الابن وحمايته من أخطاء عشوائية قد تودي بصحته أو رجولته مدى الحياة. وتوكيل المهمة للجيران ولحلاق الحارة في غياب الوالدين يشير إلى تداخل كبير بين بيوت الحارة وإلى امتزاج حاد في الأمكنة. وتدعم الأمكنة المجاورة حركة السرد وتسفر عن أحداث متتالية ودسمة بالأخبار تؤازره ثنائية الذهاب والإياب من وإلى المكان بشكل مكثف وعشوائي يماثل عشوائية التختين تماما.

تتحول الكنبة موقع الأجساد المتعبة من مكان للجلوس إلى جدار تحتمي خلفه القطة، ويتحول الزقاق المتفرع من الحارة إلى مكان محضور نفسيا عند السارد فيراه سورا منيعا مبني بتخوفاته لا يمكن التسلل إليه في النهار ويكتفي بمواعدتها بالنظر. ويتهدم هذا السور ليلا ويدخله ليجدها واقفة على عتبة الباب وهي مكان في وقت من الليل أأمن من اللعب في بهو الساحة نهارا، وعلى العتبة تتحقق لحظات الهيام بين العشيقين ويتحول إلى مكان حميمي بدل مدخل باب.

تتحول حياة عاشور الدنف في الحكاية رقم « 45 » إلى سجن ويتحول المال والهناء والترف واللبس إلى حدود تحاصره للاعتراف بجميل زوجته الغنية ويتقيد بأغلال حريرية. يسألها مكانا يتحرر فيه من قيودها وهو دكان يمارس فيه العمل ولكنها ترفض لأنه المكان الذي يحرره من عبوديته، يحاول الدفاع عن حريته بالتملص من رقابتها والاعتداء عليها بالضرب؛ فتطرده من الجنة ويرحل، ويواجه مكانا متوحشا يعاني فيه عند التقاط رزقه ويتورط ويجلد في قسم الشرطة وترسل له أن يتصالحا بشروطها لكنه يرفض.

تتحول العادات والتقاليد إلى حدود جغرافية خيالية تحاصر المرأة، ويتحول البيت إلى سجن إجباري في الحكاية رقم « 48 » لا حارس عليه إلا هذه القيود؛ فالبقاء في البيت هو سجن بحدود مغايرة. وحتى الحيوان لا يسلم إن كان أنثى، وتحبس الكلبة في البيت خوفا عليها من القذارة وتعاني الوحدة، ولا أحد يفلت لا هو ولا أخواته من سجن الحياة إلا الكلبة فقط تستطيع مجاوزة حدود البيت وتأتي بذرية جديدة.

في الحكاية رقم « 60 » يغيب حليم رمانة عن دكانه ويهيم على وجهه في الساحة أمام التكية لا يعرف نفسه ولا يعرف أحد، ويتحول جسده إلى وعاء فارغ من الذكريات ولا يبقى منه سوى وجوده الجسدي. وتتحول عربة غزل البنات إلى مكان لنوم سلومة عندما ينهكه التعب. وتتحول فسحة المدرسة إلى مكان للمطالعة، ومنطلقا نحو عالم القراءة وعبره إلى دخول أمكنة خيالية. وتعيش نجية في حكاية أخرى وحيدة في البيت؛ فتعوض ذلك بالقطط ويتحول البيت إلى مزرعة قطط وكلاب مدللة وتؤاخي عفريتا !

تترك أمنيات السارد بإغلاق الكتاب حلقة مفرغة في الذهن تستدعي الدهشة ويتحول الكتاب من مكان لتحفيظ القرآن إلى موقع للتعذيب، ويفرح الصغير بعدم قبوله في المدرسة للتخلص من هموم الكتاب والمدرسين وعقابهم لكن قرار والده بالرجوع إليه يبتر فرحته.

تمثل الثورة الحدث الأكثر إثارة وتتحول الحارة إلى مكان للمظاهرات والهتافات وجولات دوريات الإنجليز، ولا حديث في البيوت إلاّ عنها، وهو ما يعني أن المكان معرض دائما إلى تحول في شكله وفي وظيفته وفي لا استقرار دائم. فتتحول وظيفة الدكاكين التي ترفرف فوقها الأعلام والجدران الملصق عليها صور سعد زغلول إلى أمكنة إعلامية ولوحات إشهارية، وتُقتحم الحارة وتصبح مرمى وأركانها حصون للهاربين وتتحول إلى ساحة معركة وتتحول الرؤية إلى داخل الحارة، وهي الرؤية السائدة في كامل الرواية.

ترافق الحياة المزرية مجموعة أحلام أهمها مسكن جيد وتغيير في الحالة الاجتماعية مصحوبا بمجموعة من التحولات أهمها الانتقال إلى مكان أفضل وهو ما يدل على أنّ طبيعة المكان عادة ما تتناسب مع حالة الشخصية المالكة له وبتغير حالها يتغير شكله وكأنه مرآة تعكس صورة صاحبها. والتنقل من مكان إلى آخر مشروط بحركة تفريجية لتسير الأمور دون تعقيدها وإلزامية إسناد وظائف أخرى لمكان ما هي إلاّ وظيفة سردية بالأساس.

التنقلات

تأتي العمة وابنتها من المنيا إلى القاهرة في مهمة تتمثل في تجهيز العروس، ويرافق هذا الانتقال مجموعة حركات تنقلية بين عدة أمكنة هي : محال الأثاث والنجارين والمنجدين.. وتترك نظلة في الحكاية رقم « 27 » شقتها بعد وفاة زوجها الثاني خليل التي تقع قبيل القبو وتنتقل إلى شقة صغيرة في بيت قريب، ويصبح المكان نقطة تحول في حياتها للاتجاه نحو مكان للاسترزاق هو المعمل. وهذا الانتقال يدلل على أن للشخصيات أهداف مسطرة وخطط ممنهجة ورغبات جديدة.

يشتري محسن بيت عيوشة الحكيمة ويتزوج من توحيدة التي هي دون العشرين وهو في السبعين من عمره ويتكون الجنين في بطنها فيلزم الفراش عقب ستة أشهر من زواجه ثم يبنى مقبرة جديدة وجميلة للانتقال إليها بعد مدة غير محددة لا يعرفها.

وفي الحكاية رقم « 58 » تمطر السماء بنتف سوداء فينتقل أهل الحارة إلى الميدان لتحقيق الاتحاد والتآزر ويشكلون كتلة واحدة تحارب خطرا مجهولا غامضا، وكلما كان الخطر أكبر كان لابد من الانتقال إلى مكان أوسع لتحقيق الاتحاد والتآزر.

ينفر بطريق الحموي من زوجته بسبب تصرفاتها في الحكاية رقم « 30 » يطلقها ويتزوج من فرنسية ما يعني أن هناك حركة انتقالية لخصائص مكان منفتح عبر هذه الشخصية وهو ما يشكل انقلابا في الحارة كمكان محافظ. ولا تمر فترة زمنية حتى تضيق الزوجة بالحارة وتقترح الطلاق ويرفضه الزوج؛ فتهجره وتهجر الحارة والوطن. وكما تلفظ هذه الشخصية المكان المنغلق يلفظها بحصاره عليها طول الوقت بعاداته وصعوبته وانغلاق حدوده حتى الاختناق فترحل دون عودة. هنا « يتخذ المكان صفة المجتمع الأبوي بهرمية السلطـة في داخلـه، وعنفه الموجه لكل من يخالف التعليمات، وتعسفه الذي يبدو وكأنه ذو طابع قدري » (صبحية عودة زعرب، 2006، ص98)

ينتقل عكلة الصرماتي من العمل في السيرك وينضم الى عصابة فتوة ويصبح ثريا ثم يفتح دكان حلوى ويربح ثم يسأم؛ فيفتح مطعم لحمة رأس وكبدة ويحقق ثروة ثم يتاجر في المخدرات والأراضي ويبتاع بيتا ودوكارا. ثم يفكر في الانتقال من الحارة إلى المدينة الكبيرة يبني قصرا ويشتري عزبة. ويعشق الترحل مرة في الإسكندرية وأخرى في أسوان ويزور البلاد العربية ورحلات إلى أروبا « عندما تعجبه بقعة من الأرض يفتتن بها ويصرح بأنه لن يبرحها حتى نهاية العمر، ثم يعتادها ويروم غيرها، ويعذبه عشق الأماكن كما عذبه عشق النساء والمال » (نجيب محفوظ، دت، ص 166)

ويرجع أحيانا للحارة لرؤية الأصدقاء وعقد الصفقات، ويدفعه عشقه للتنقل التساؤل عن جبال الواق وسور الدنيا وماذا يجد الإنسان إذا أطل منه؟ ويطول غيابه حتى يظنوا أنه لن يرجع و« ذات صباح يعثر على جثة كهل في الساحة أمام التكية شبه عار » (نجيب محفوظ، دت، ص 167)

للمكان سلطته التي يفرضها على أبنائه تماثل سلطة الأب على أبنائه في عدم السماح لهم بالخروج عن طاعته وولائه وهو نوع من الإنتماء فمهما خرجوا فانتهاؤهم فيه. و« يمكن النظر إليه كحركة داخلية تدور في إطار عالم مغلق » (حسن بحراوي، 1990، ص59)

يأتي الكاتب على ذكر الريف والقاهرة كمكانين متضادين من حيث الاتساع والعادات، وعادة ما تكون المدينة مطمح لأهل الريف لمزاولة الدراسة أو الهروب من خطر ما يهددهم. كما حدث ذلك في الحكاية رقم « 13 » ينتقل صبري إليها بعد انتشار خبر نشاطه الثوري إلى مراكز الأمن، فتكون القاهرة المكان الأكثر تأمينا لحريته.

بالرغم من انغلاقية المكان إلا أن الأحداث تتحرك فيه بسرعة وبكثافة مما يدعم فكرة أن الحارة تحافظ على خصوصيتها ويتعايش أهلها مع الصراعات بشجاعة من غير محاولات للهروب بالرغم من الظروف القاسية التي يعانون منها. والانغلاق يعبر عن « الواقـع المريـر، واقع الانحباس في الزنزانة عن الذات، والغياب عن فضاء الجماعة، بحيث يصبح كل ما فيه ممثلا لقوى عدوانية تتحدى إرادة الإنسان » (الطاهر رواينية، 1991، ص20) واستطاع أهل الحارة أن يتحرروا من هذا الإحساس وجعلوا من الحارة مساحة للتعايش متقبلين المكان دون شكوى من قوانينه الصارمة.

للمواصلات أهميتها في فتح الأمكنة على بعضها ويؤثر انقطاعها بشكل كبير على المكان فتتحول مصر إلى دويلات مستقلة عن بعضها، ويصاحب ذكر الحانطور حركة بطيئة توازي المكان الذي يركن إلى التفافه حول نفسه دون أن يحتاج من الكاتب أي دعم أو تهويل.

عند الحديث عن الانتماء فهذا يعني وجود ضغط شديد يخففه التآزر في مكان واحد وتناسي جميع الخلافات العرقية والطائفية والدفاع عن شيء واحد فقط هو المكان المتجسد في الوطن والخوف النابع من القلق يزيد من التقارب وهذا ما يسمح بتداخل أكبر بين الأمكنة تعززه ثنائية الدخول والخروج بين البيوت، أو التجمع في مكان واحد لدرأ الخطر، وفي « حكايات حارتنا » الميدان هو المكان الذي يسع الجميع ويعزز من الإحساس بالانتماء إلى القاهرة.

يتضاعف الإحساس بالانتماء في لحظات الترقب والخوف من المجهول وفي هذه الرواية الإحساس متيقظ طول الوقت يزيد وينقص بحسب الأحداث المستجدة. والإحساس بالانتماء يعني زيادة الاندماج بالمكان ويعني حدوث توحد بينهما؛ فالمكان يحمي الفرد بأسواره وبيوته والفرد يحمي المكان بالدفاع عنه ضد العدو بأسلحته وقوته. والرجوع الدائم إلى الحارة بعد فترات الغياب والتجمع في الميدان وأوقات المناسبات، وحدوث الأمور الغريبة القادمة من المجهول كلها تعضد مفهوم الانتماء إلى مكان دون غيره هو القاهرة.

المصادر

نجيب محفوظ : « حكايات حارتنا »، دار مصر للطباعة، القاهرة، د، ت.

المراجع

حسن بحراوي : « بنية الشكل الروائي الفضاء، الزمن، الشخصية »، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1990.

شاكر النابلسي : « جماليات المكان في الرواية العربية »، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ط1، 1994.

صبحية عودة زعرب : « غسان كنفاني، جماليات السرد في الخطاب الروائي »، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، الأردن، .2006

الطاهر رواينية : « الفضاء الروائي في الجازية والدراويش لعبد الحميد بن هدوقة، دراسة في المبنى والمعنى »، اتحاد الكتاب الجزائري، العدد1،1991.

محمد برادة وآخرون : « الرواية العربية واقع وأفاق »، دار ابن رشد للطباعة والنشر لبنان، ط1، .1981

صوالـح وهيبـة

جامعة عبد الرحمن ميرة- بجاية

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article