مقدمة
نتطرق في هذا البحث إلى واقع العلوم الإنسانية من خلال مجهر أركيولوجيو جنيالوجي، أي من خلال فكر ميشال فوكو 1Foucault Michelأهم الفلاسفة الفرنسيين ومنعرجا فارقا في الفلسفة المعاصرة، عمل لمدة ربع قرن على تفكيك شفرات المجتمع الغربي الحديث والكشف عن مدى مصداقية شعارات الأنوار، وحقيقة الأنظمة التي تسمي بالديمقراطية. وتتغنى بحقوق الإنسان وتشجيع المعرفة الموضوعية وكشف أن كل عصر لديه خطاب معرفي خاص به، يشجع على ظهور وتطور أنماط معينة من المعرفة دون غيرها حسب حاجة السلطة التي تستثمر في المعرفة، لهذا تظهر وتزول بعض المعارف من خلال ظهور وزوال ما يسميه فوكوب الإبستمية وظهور العلوم الإنسانية تزامن مع انحلال الإبستمية المعرفية للعصر الكلاسيكي، وظهور ابستمية جديدة أي القاعدة العلمية، التي تبنى عليها النظريات العلمية لأي عصر والإبستميةEpistim ، مصطلح رئيسي في كتابه أركيولوجيا المعرفة أو حفريات المعرفة 1969. والتي يقصد بها القاعدة المعرفية لكل حقبة تاريخية والتي تحدد نظام الخطاب العلمي المعرفي لهذه الفترة وهذا التغير ساعد في تبلور الإنسان كمفهوم للبحث، وكموضوع للخطاب. فبعد أن كان الخطاب الديني والذات الإلهية هما المواضيع التي حضت بالاهتمام والبحث، لقرون طويلة. لكن مع عصر النهضة أصبحت الفلسفة متفائلة لوضعية الإنسان خصوصا بعد أن استبعد الإله كموضوع مركزي للمعرفة بالتالي تأملت أن الإنسان سيحل محله فيخرج من دائرة اللا مفكر فيه إلى دائرة التفكير والاهتمام والبحث.
لكن فوكو يخالف هذا التفاؤل تماما معلنا موت الإنسان، ولكي نتحقق من واقع الإنسان الفعلي في مجال المعرفة والبحث سننطلق من الفرضية التالية، باعتبار أن الإنسان كموضوع للتفكير ظهر حديثا، نتيجة لظروف سياسية. واجتماعية شاهدتها المجتمعات الغربية، وهي الحروب العالمية وتداعياتها ونتيجة للمشروع النقدي عند الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط 2Emmanuel Kant الذي أنزل الإنسان من برجه العالي وحوله من ذات متعالية كما تصورها ديكارت.3René Descartes، لتصبح للقدرات المعرفية الإنسانية حدود وقوالب أو ما يسميه بالمقولات (مقولة المكان والزمان) وبذلك الإنسان بحد ذاته يصبح موضوعا قابلا للإدراك ما يعلن نهاية فكرة الإنسان المتعالية وهذا المفهوم الحديث بدوره سينحصر تدريجيا ليتلاشى في النهاية، معلنا بذلك موت الإنسان. أي تلاشي الاهتمام بالعلوم التي تجعل من الإنسان موضوعا لها. وبالتالي ستشهد هذه العلوم أزمة طويلة قد لا تنتهي كون أن العالم سيشهد انهيار إبستمية العصر الحديث وظهور ابستمية أخرى في الفترة المعاصرة.
أم أن العالم اليوم يشهد إحداثيات ستفرض مجددا الإنسان كموضوع للمعرفة وتعيده إلى مشهد التفلسف والتفكير. أي هل الأزمات الصحية الاقتصادية، ستولد نمطا جديدا في التفكير حول الإنسان وضرورة البحث وإعادة النظر في كل المفاهيم الوجودية؟ ما يدحض نبوءة ميشال فوكو. ويسقط هذه الفرضية تماما؟
والإشكالية المحورية للبحث، هل فوكو تنبأ بالموت البيولوجي للإنسان ؟ أم أنه تنبأ بنوع آخر من الفناء؟ وكيف ظهرت العلوم الإنسانية ؟ وهل هذه العلوم تعاني فعليا أزمة؟ وللتوسع أكثر سنعالج مجموعة من المشكلات الجزئية وهي كالتالي꞉
كيف فرض الإنسان نفسه كموضوع للمعرفة ؟ ولماذا ضنّ فوكو هذا الموضوع سيختفي كما ظهر بسرعة من المشهد العلمي والفلسفي ؟ وهل العلوم الإنسانية تبحث فعليا في حل المشاكل الاجتماعية النفسية والتاريخية بموضوعية ؟ أم أنها علوم شأنها شأن باقي العلوم تخدم منظومة سياسية اقتصادية معينة ؟ وكيف ظهرت العلوم الإنسانية ؟ وهل هذه العلوم تعاني فعليا أزمة؟
أما المنهج المعتمد في هذه الورقة البحثية هو المنهج التحليلي، إذ سنعتمد للتحقق من صحة هذه الفرضية على الإرث الفلسفي لفيلسوف القوة نيتشه Friedrich Nietzsche4 إذ يعتبر فيلسوف القوة أول من هدم ركائز الفكر الحديث وبين أكذوبة جعل حداثة الإنسان محور المعرفة. ومركز العام فبالنسبة إليه « الذّات سجينة المعنى والمعرفة، وإنها تحت حكم السلطة » (بول رابينوف.1990: 23)
نجد هذه الفكرة عند فوكو كذلك. أكد أن الحداثة التي حملت شعار حرية وعالمية حقوق الإنسان وان هذا الأخير هو مركز وهدف كل معرفة في الواقع همشت فكرة الإنسان واستبعدت في نفس الوقت العلوم التي تهتم به « الإنسان من حيث هو فكرة مركزية ولدت مع كانت، وتأسست حولها العلوم الإنسانية قد انتهى وتلاشى وحلت محله مجموعة معقدة من العلاقات » ( فيصل عباس. 2005 : 232).
اعتمد فوكو أساسا على أدوات هذا الفيلسوف الذي يعتبر منعرجا رئيسيا وفارقا في الفلسفة الحديثة، نيتشه أعلن موت الله وموت القيم، وهذا ما نستحضره من مؤلفاته هكذا تكلم زرادشت عدو المسيح، إنسان مفرط في إنسانيته، مولد المأساة، ليسير فوكو فيلسوف ما بعد الحداثة على خطى نيتشه معلنا موت الإنسان. فأي موت يقصد فوكو؟ هل سيكشف المنهج الجنيالوجي مع فوكو عن مصير مجهول لكل علوم الإنسان ( علم الاجتماع، علم النفس وعلم التاريخ) وهل تشاهد هذه الأخيرة الإقصاء أم يمكن أن تبعث من جديد ؟ وما مدى مصداقية هذه العلوم؟ وسنركز أكثر على التاريخ ومدى مصداقية خطاباته؟
نعتمد على مؤلفات فوكو الكلمات والأشياء 1966، نظام الخطاب، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، وغيرها لنكشف عن تبلور واقع جديد للإنسان والوقوف على حقيقة العلوم الإنسانية حاليا ما يساعد على تشكّل نظرة على مصير الإنسان والعلوم التي تهتم به في ظل الصّراع على التقدّم في مجالات أخرى كالتكنولوجيا، الفلك، الأسلحة... وكما أن الكشف عن حقيقة وضع الإنسان في المجتمع الحديث لا تتحقق إلاّ من خلال التطرق إلى العلوم التي اهتّمت فعليا بها المنظومة الليبرالية. فهناك علوم خاصة ومحددة حضت بالاهتمام دون غيرها نظرا لكونها علوم موجهة للسيطرة على الإنسان وعلى سلوكه. وليس لغرض فهمه نذكر على سبيل المثال علم الجريمة، كما تهتم بعلم التاريخ أكثر من أي علم أخر، فلماذا يمثل هذا الأخير المجال الخصب للسلطة-المعرفة؟
1. فوكو وموت الإنسان
1.1. فوكو وموت الإنسان
اهتم فوكو بالعلوم الإنسانية، وعمل على الكشف عن مكانتها في الخطاب العلمي والمعرفي، وذلك في مؤلفه المعنون الكلمات والأشياء الذي نشر سنة 1966، وتجدر الإشارة أن هذا العنوان عدله فوكو بعد طلب من دار النشر، حيث كان العنوان الأول الذي اختاره فوكو لمؤلفه هو ابستملوجية العلوم الإنسانية، ليصبح هذا العنوان عنوانا جانبيا. اعتمد مجددا فوكو على المنهج الأركيولوجي، فيحفر في المفاهيم ويتتبع تشكلها زمنيا وتغير أنماط الخطاب في تتبع تاريخ العلوم الإنسانية، ليربط ظهورها بانحلال إبستمية العصر الكلاسيكي وظهور إبستمية جديدة، فكل المعارف حسبه تنطوي داخل نمط خطابي لعصر ما. والذي يتشكل وفق قاعدة معرفية محددة »والإبستمية ليست نوعا من المعرفة، أو نمطا من العقلانية يعبر باجتيازه العلوم الأكثر تنوعا، عن الوحدة المطلقة لموضوع ما، لعقل ما، أو لعصر ما، إنها مجمل العلاقات التي يمكن اكتشافها بين العلوم في وقت معين « (أحمد الطريق 2015: 234) فكل عصر لديه إبستمية خاصة به ويقسمها فوكو إلى ثلاث مراحل عصر النهضة، العصر الكلاسيكي والفترة الحديثة.
ظهرت ابستمية التشابهresemblance، ثم النظامordre ، وأخيرا الدلالة signification، ولكل ابستمية قواعد تحكمها ولا تزول إلا بزوال كل تلك القواعد ( ينظر أحمد الطريق، ص 235.) وزوال ابستمية ما يفسح المجال ظهور ابستمية جديدة لم « يكف الإنسان عن التفكير انطلاقا من التشابه إلا بعد أن تأسست قواعد النظام، ولم يكف عن التفكير انطلاقا من النظام إلا بعد أن تأسست قواعد الدلالة » ( ينظر أحمد الطريق. 236)
2.1. الإبستمية الحديثة وعلاقتها بظهور الإنسان
أولا ظهور العلوم الإنسانية تزامن مع انهيار إبستمية، عصر النهضة، وظهور ابستمية العصر الحديث « استشراف الجذور الأركيلوجية التي حددها فوكو لظهور الإنسان كمقولة معرفية منذ القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر » (مؤمنون بلا حدود.2018 : 17). تكشف لنا حفريات فوكو أولا أن الإنسان ابتكار جديد وحديث، فقبل القرن الثامن عشر لم يكن للإنسان وجود « رغم أن علم النحو، التاريخ الطبيعي، وتحليل الثروات كانت كلها أشكالا وصيغا تعترف بالإنسان، بيد أن الوعي الإبستملوجي بالإنسان كموضوع للمعرفة كان غائبا تماما » ( جواد كريعة 2016 : 4 )
ثانيا ركز فوكو على ثلاث ميادين معرفية مهمة الاقتصاد، البيولوجيا واللغة، فهذه الميادين بدورها هي التي هيأت الشروط لظهور الإنسان كموضوعه للمعرفة، أي كفرد ناطق عاقل وعامل، له بعد بيولوجي واقتصادي وتواصلي وهذا التحديد ظهر في القرن التاسع عشر ما فسح المجال للإنسان أخيرا ليفرض نفسه على الخطاب المعرفي. « دخلت قوى الإنسان في علاقة مع قوى الخارج الجديدة، التي هي قوى التناهي، هذه القوى هي الحياة، الشغل واللغة : الأصل الثلاثي لتناهي الذي ستتولد عنه البيولوجيا والاقتصاد السياسي وعلم اللغة » (جيل دولوز. 1987 : 140). فظهور الإنسان كان أمر بديهي، ونتيجة ضرورية تتزامن مع التطور الملحوظ الذي عرفته هذه الأشكال المعرفية الثلاثة كان لا بد لمعرفة الإنسان أن تظهر، في هذه الظروف، وفي تطلعها العلمي كمعاصرة ومن ذات بذرة البيولوجيا والاقتصاد وفقه اللغة (أنظر. جيل دولوز144).
ترافق زوال القواعد القديمة، بروز قواعد معرفية جديدة، وبالتالي استقبال معارف وموضوعات علمية جديدة، وبذلك « ظهر الإنسان الذي لا يوجد إلا عبر تناثر مخططات تنظيم الحياة، وتبعثر اللغات، وتباين أنماط الإنتاج » (أنظر. جيل دولوز. ص 145)، أما السبب الثالث الذي ساعد في ظهور العلوم الإنسانية، هو أزمة اليقين الرياضي أي مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر نظهر ما يسمى بتعدد الأنساق أو وجود هندسات مختلفة عن هندسة إقليدس وبالتالي لم تعد هناك حقيقة واحدة ثابتة، وكأن كل شيء غدا نسبيا فا « انحسار الرياضيات وليس تقدمها هو الذي أدى لظهور العلوم الإنسانية » (مشال فوكو .1989 : 286)
إذا اتفقنا مع فوكو مبدئيا بأن ظهور البيولوجيا الاقتصاد وفقه اللغة، هو ما ساعد في ظهور الإنسان كموضوع للمعرفة، لكن السؤال المطروح ما هو واقع العلوم الإنسانية في هذا الجرم الثلاثي السطوح؟
3.1. العلوم الإنسانية وتشكل مفهوم جديد للإنسان
أن كان البارز هو علم البيولوجيا، علم الاقتصاد واللغة بالتالي المشهد يبدوا خاليا تماما من الإنسان كموضوع للمعرفة « العلوم الإنسانية لا يمكن الوقوع عليها على أي من أبعاده ومسطحاته، غير أنّه يمكن القول أنّها موجودة ضمنه، إذ تجد مكانها في ثغرات تلك المعارف فيجعلها هذا الوضع الثانوي والمميز معا تتصل بسائر أشكال المعرفة » يميّز فوكو العلوم الإنسانية عن باقي العلوم، فهي مختلفة عن كل الأشكال المعرفية الأخرى، رغم أنّها تتّصل بها كلها. إذ تربطها علاقات مع باقي العلوم، وهذه العلاقات ضمنية، فعلوم الإنسان موجودة في الواقع في كل من البيولوجيا، الاقتصاد واللغة...، كما تعتمد على كل هذه المعارف فيعتبر فوكو، أن كل هذه العلوم وإن كانت« لا تلتقي داخل أي بعد من الأبعاد الثلاثة المكونة لثالوث فإنها تقبع داخل الفجوة التي تفصل بين هذه الجهات مثلا، يمكن القول أن المنطقة السيكولوجية تتموضع في المسافة التي تفصل العامل الاقتصادي عن تصور المجتمع وأما الأساطير والأدب فهي تتواجد في المسافة التي تفصل اللغة عن تصورنا لها » (أنظر ميشال فوكو. ص 287). لم يحتل الإنسان هذه الأهمية التي حظي بها في العلوم الإنسانية، ضمن أي معرفة أخرى كون هذه الأخيرة لديها نظرة ضيقة عنه، بنما تهتم العلوم الإنسانية به« ككائن حي ينتج تمثلات وتصورات عن حياته وشأن توفيرها وتدبيرها والذي ينتج كذلك تمثلات عن القوانين التي تفسّر كلامه وعباراته » (أنظر ميشال فوكو: 239).
العلوم الإنسانية لا تدرس الإنسان كجسم طبيعي، بل « بالأحرى تقدم تحليلا يمتد بين ما هو عليه الإنسان في وضعيته ككائن حي عامل وناطق وما يخول لهذا الكائن أن يعرف أو يحاول أن يعرف وعلى ما يستند جوهر العمل وقواعده » (أنظر ميشال فوكو.ص 240).
يمكن أن نستنتج، مبدئيا أن الإنسان احتّل مركز التّفكير في الأزمنة الحديثة، معلنة بذلك أنّه أصبح موضوعا للمعرفة مركز الوجود والتفكير، وهذا الظهور المتأخر للإنسان الذي هو حديث العهد، يرجعه فوكو إلى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر واقترن هذا الظهور بتطور بعض العلوم والمعارف، التي هيأت التربة المناسبة لنمو علوم الإنسان التي تختلف عن باقي المعارف والعلوم من حيث كون موضوعها هو الإنسان الذي يعتبره فوكو موضوعا شديد التعقيد لكون الإنسان متعدد الأبعاد، فهي تعمل على فهمه من حيث بعده النفسي، الاجتماعي والتاريخي والاجتماعي. وهذا الفهم أو محاولة تحديد ودراسة الإنسان هل هو فهم موضوعي؟ أم أنّه يدخل ضمن علاقة السلطة بالمعرفة، وهو اهتمام لغرض التصنيع التحديد وإخفاء وموت الإنسان؟ وما هو العلم الرئيسي والمحوري الذي يخدم مصلحة السلطة ؟
تأكد لدينا أن الجذور الأركيولوجية للعلوم الإنسانية، حديثة العهد، كما توصلنا أن الموت الذي تنبأ به فوكو ليس موتا بيولوجيا، بل موت الذّات المتعالية التي انتهت مع كانط والتي رفضها فوكو كذلك، كما أن الموت الأخر والأكثر بشاعة للإنسان هو أن هذه العلوم التي ظهرت أساسا من أجله ستنحرف عن مجالها، كونها ابتعدت عن الاهتمام بالإنسان وتجردت تجريديا من الموضوعية.
لم يكن اهتمام فوكو منصبا على مدى اليقين في العلوم الإنسانية، أو التاريخ بوجه التحديد فبدلا من أن نحاول مقارنة منهج هذه العلوم ونتائجها، بالعلوم الدقيقة واليقينية علينا أن نبحث في مدى حضور الإنسان فيها فعليا أم أن الأزمة الجديدة التي تحوم في الأفق هو كون هذه العلوم تخلت وانتهى حضور الإنسان فيها بقدر ما أصبح الحضور الحقيقي والطاغي هو الخطاب الرسمي والمستثمر للمعرفة.
2. السلطة والخطاب التاريخي
يعدّ « التاريخ » من أهم المعارف التي يدعونا فوكو لدراستها بطريقة جديدة، ليبيّن استثمار السلطة للعلوم الإنسانية. فيقدم نظرة جديدة ومعايير جديدة لفهم وكتابة التاريخ، فالشيء الذي ينبّه إليه فوكو في محاضرته في 1976 تحت عنوان يجب الدفاع عن المجتمع Il faut défendre la société » »
إن التّاريخ أصطنع لأغراض السلطة، فهو مجالها المفضل الذي تطور فيه مشروعيتها
«فالتاريخ هو دائما تاريخ السلطة بطريقة مزدوجة فهي الدارسة والمدروسة في نفس الوقت، التاريخ هو خطاب السلطة حول ذاتها فبواسطته تنهي فوزها وانتصارها عن طريق حكايات تجعل من هذا الانتصار حقيقة تاريخية مثيرة» (Zarka 144)
بمقابل هذا التّاريخ المزيّف الذّي تستعمله السلطة لتبرّر انتصارها، والذّي لا تزال الدّول تستخدمه، أي تعتمد على حوادث وواقع تألف بواسطتها حكايات تبرّر وجودها وأحيانا تبرّر بها تدخلاتها في الدول المنهزمة، فالتّاريخ الذي ترسمه السلطة هو تاريخ ذرائع، والتّاريخ الحقيقي الذّي يقابل ويناقض الخطابات التاريخية للسلطة الرسمية هو تاريخ المنهزمين والمستغلين من قبل السلطة، هذه الفئة التي لا تتكلم أو لا تريد السلطة التكلم عنه فيجب تحرير هذه الخطابات التي أسكتت من قبل الخطابات الكاذبة والمزيفة، التي تنشرها السلطة « فوكو يدافع عن خطابات المنهزمين خطابات الثوريون الذين يقلبون التاريخ الرسمي (Zarka145). » فن كتابة التاريخ عند فوكو يكمن في فهم ألاعيب الإستراتيجية السياسية لكل تاريخانية، هنا يظهر الجانب الثوري عند فوكو حيث ينبه إلى أن التّاريخ هو دائما يؤرّخ لانتصارات السلطة، فمن غير المعقول أن تقدم السلطة التاريخ الحقيقي، لذلك يجب إعادة البحث في كل التدوينات التاريخانية، حتى تلك التي تدّعى الحيادية والكشف عن القيم التي تؤسسها، وإظهار الحقيقة التي كثيرا ما تشوهها وتخفيها، ولا يمكن النفاذ إلى هذه الحقائق دون استعمال أداة التنقيب « فهذه العلاقة بين التاريخانية والفلسفة كانت مغطاة فيما سبق في مصطلح الاركيولوجيا مصطلح يستدعى التفكير حول الحوادث التاريخية وحول جنيالوجيا القيم » ( الزاوي بغوره 2000: 324).
هنا يظهر مرة أخرى تأثير نيشته على فوكو خصوصا في أداة فيلسوف القوة التي يستعيرها فوكو وهي الأركيولوجيا، ويسمح هذا المنهج الجديد من التخلص من فلسفة التاريخ والاقتراب أكثر من العلوم الإنسانية «يترتب عن هذا المفهوم الجديد للتاريخ نتائج مباشرة على ميدان عمل الفيلسوف ونعني بذلك تاريخ الأفكار، ذلك التّاريخ القائم على مبدأ الاتصال والذّات المؤسسة، وتمّ تعويضه بمبدأ الانفصال discontinuity كمفهوم مركزي في البحثالتاريخي » ( Yves Charles Zarqa.p146) إنّ هذا الاهتمام الفوكوي بالتاريخ، كان لغرض التخلص من الصورة التقليدية لمؤرخي الأفكار
« والحقيقة أن فوكو لا ينكر التاريخ وإنما ينكر تاريخا معينا أو تصورا معينا لتاريخ ذلك التصور القائم على الاتصال وسيادة الوعي والذّات... عندما يتخلص المؤرخ من مفاهيم التاريخ الشامل يجد نفسه، كما يقول فوكو أمام ميدان رحب يمكننا في تعريفه القول بأنه يتكون من المنطوقات الفعلية منطوقة أو مكتوبة في تبعثر أحداثها وفي اختلاف مستوياتها » (أنظر الزاوي بغوره : 325).
الهدف من الأركيولوجيا والجنيالوجيا رغم اختلافهما هو إظهار أنّه لا يوجد تاريخ شامل بل توجد حوادث تاريخية منفصلة ومتميزة « وإذا كانت الجنيالوجيا والأركيولوجيا تتأسسان على مبدأ الانفصال فإن هدفهما واحد ويتناسب وتحليل الخطاب » (أنظر الزاوي بغوره. ص328) هذا ما يجعل مفهوم فوكو عن التاريخ متجدد ورافض خصوصا للفلسفات التي تدّعي وجود تاريخ واحد وتؤرخ للأفكار، أن فلسفة هوبز5Thomas Hobbes، فلم يعد من المهم التنظير بقدر ما يهم دراسة واقع تاريخ السلطة، كون هذه الأخيرة بحد ذاتها حرب من أجل الحفاظ على ذاتها لذلك يقدم فوكو نقد لاذع لهوبز في كتابه اللفياتان، حيث يصف فيه هوبز السلطة على أنها تفويض الأفراد وتجسد لإرادتهم في تجاوز الشعوب الخوف، الذي يلازم وجودهم في المرحلة الطبيعية التي تعتبر حرب الكل ضد الكل. فحالة العقد أي وجود السلطة هي إنهاء لهذا الصراع ولهذه الحرب.
لكن فوكو يرفض هذا الطرح فالسلطة لا تنهي الحرب بل تنظمها. فلا يمكن أن تسكت الحرب إلى حرب أخرى أكثر قوة « فليست حرب الكل ضد الكل أي حرب الأفراد المتساوين فيما بينهم هي في الواقع حرب جماعات ضد جماعات أخرى من أجل مصالح متضاربة هي حرب طبقات لنيل حقوق متناقضة فالسلطة لا تنهي الحرب بل تقودها بتنظيمها وتوجيهها وفق مسار يضمن لها الاستمرارية وتحقيق مصالحها» (Gros : 2000 :7) وفي القرن 18 و19 نقل مجال الحرب إلى خارج وإلى هوامش المجتمع أي ضد الأفراد الذين لا يساعدون في تطور الآلة الإنتاجية الرأسمالية، وكذلك تحول في معظم الأحيان إلى حرب خارجية وهو غزو وتدخلات الدول الأوروبية في دول أخرى، إضافة إلى الحروب الأهلية التي أبانت تنخر جسدها كالثورة الإنجليزية 1688 والثورة الفرنسية 1789.
بالتالي يرفض فوكو مقولة كلزوفيش Karlvou Clausewitz6 القائلة بأن « الحرب هي استمرار للسياسية بطرق أخرى، هذه المقولة تقلب الواقع التاريخي للقرن السابع عشر ولهذا السبب بدوره فوكو يقلب هذه المقولة ويعتبر السياسية هي حرب مستمرة بطرق أخرى « (Zarka :118)
فالسلطة تمارس الحرب بوسائل وآليات القوة وهي مؤسساتها، وإن كانت السلطة تكرّس نسبة من السلام، ليس لأنها تسعى لوضع حد لنتائج الحرب أو لإزالة المتفاوتات التي تخلفها الحرب، فالسلطة في هذا الاحتمال تمارس حرب صامتة، وتعيد ممارسة الحرب في المؤسسات كالسجن، المدارس والمستشفيات، كما تمارسها في اللا عدالة الاقتصادية، وهي حرب صامتة ضد جسد الأفراد، فالسياسة حالة اشتباكات دائمة من أجل السلطة ومع السلطة.
فاقتراح هوبز الذي يوكل السلطة لإنهاء الحرب التي يجب حسبه أن تحوي ثلاث مبادئ أساسية للمحافظة على سيادتها، وهي وحدة السلطة، القانون، والأفراد الذين يوكلونها للمحافظة على السيادة، بالنسبة لفوكو أطروحة هوبز « حول السيادة في الواقع تقدم تبرير لحماية السيادة حول المحيط الذي تتحرك السلطة بداخله بكل مشروعية، فهي تجعل الأفراد يقبلون وحدة السلطة، وكذلك ضرورة الخضوع لها » (.(Zarqa153)
1.2. السلطة واستخدام المعرفة لغاية تحقيق الانضباط
يعتقد فوكو أن السيادة تمارس على الأقاليم وليس على الأفراد، وما تمارسه السلطة في الواقع على الأفراد هو الانضباط الذي تفرضه على العقل، النفس، وحتى على الجسد بواسطة مؤسساتها، لذلك السيادة هي ذريعة من أجل استغلال، وإخضاع الأفراد الذين يقبلون هذا الانضباط لغاية يتصورها هوبز، وهي السيادة. « فهوبز ليس بفيلسوف الحرب كما يوصف بذلك بل فيلسوف السلام، فهو مفكر يقترح إنهاء الحرب وحرب هوبز ليست حرب حقيقية، أين هناك منتصرين، ومنهزمين حقيقيين، بالتالي لا يمكن دراسة تحركات علاقات القوي لأنها حرب فلسفية خالصة ». (Zarqa :154)إذن فكر هوبز لا يحلل الحرب كحقيقة تاريخية، بين قوى متصارعة تخضع إحداها للأخرى، بل هي حرب فلسفية بحتة، وبالتالي لا يمكن أن نعتمد عليها لدراسة ممارسات السلطة الفعلية. إن درس هوبز عن السيادة، والسلم في الواقع محاولة لإسكات ضجة حرب واقعية، وفعلية لها إفرازات، ونتائج وخيمة على الإنسان. حرب فيها منتصرين، وخاضعين منهزمين، ففكر هوبز يدخل ضمن فترة الحرب الإنجليزية7، حرب تاريخية بين السكسون (Saxon)، وبين النورمند (Normand’s).
هذه الحرب الواقعية التي يحاول هوبز إلغاؤها، وإخفاؤها، وتناسيها أراد هوبز أن يلغي الحرب كحقيقة تاريخية وخطاب القوانين السياسية هو خطاب مضلل، فالسياسة تضع القوانين، وتوجهها ليس لإنهاء الحرب، ولكن لاستمرارها الخاص، وتبرير أخطائها للحفاظ على مصالحها الخاصة، « فالقوانين هي مغالطات، وألاعيب ليست بحدود للسلطة بقدر ما هي آليات السلطة، ليست آليات للحفاظ على العدالة هي آليات لحماية المصالح» (Zarqa :154)
2.2. السلطة وحق سلب الحياة
هنا أيضا نلمس الجانب الثوري لدى فوكو، حيث يعتبر أن الثورة الحقيقية هي التي تلغي وتنهي هذه القوانين وكذلك ينتقد هوبز فيما يخص أن الملك هو الذي يحفظ الحياة وبالتالي يملك السيادة على الحياة، وتضمن الاستمرار، فبالتالي السلطة تملك آنذاك حق سلب الحياة لغاية حفظ البقاء.
ينظر فوكو للسلطة بنظرة جديدة، حيث لا يتوجه إلى هرم السلطة مثل الملك أو الحكومة، أو الإدارة العامة، كما ذهب إلي ذلك الفلاسفة السياسيون بل يدرس السلطة في مؤسساتها الجزئية، ليبين أن السلطة هي التي تضع الفرد وليس الفرد من يضع السلطة كما ذهب إلى ذلك فلاسفة العقد الاجتماعي هوبز، (Thomas Hobbes) روسو( Jean-Jacques Rousseau )، ولوك.( (John Lok) بالتالي ليس الفرد من يطالب السلطة بالسهر على حقوقه، بل الفرد هو الذي يصبح خادما، وذلك بسبب الاقتصاد السياسي والخلفية الإمبريالية التي تمارسها السلطة على أجساد الأفراد، وتفكيرهم، ورغباتهم. كما أن الخطابات السياسية التي صاحبت الحداثة ليست بخطابات محايدة، كون فوكو يعتبر السلطة لا تقبل إلا بالمعرفة التي تناسب مصالحها، وتجعل الفرد يقبل بشرعيتها وتفيد منظومتها الاقتصادية. فوكو شأنه شأن نيتشه اعتبر التاريخ أداة ضرورية للتنقيب والحفر في ممارسات السلطة على الجسد وباعتباره رفض القبول بهذا النوع من النظريات حول التاريخ، كيف يمكن أن تنظم العلوم الإنسانية بصفة عامة أوراقها؟ لتستعيد المصداقية وأهم من ذلك لإعادة إحياء الإنسان من جديد.
خاتمة
إن البحث في العلوم الإنسانية بمجهر فوكو، يجعلنا أولا نستشرف الجذور التاريخية، لهذه العلوم، والأسباب المعرفية التي أدّت لظهورها، كما نكتشف أن نبوءة موت الإنسان، تحققت تاريخيا، لعل أهم دليل على ذلك هو تراجع الاهتمام بهذه العلوم.
وفوكو تمكّن من تشخيص الأسقام التي تعانى منها العلوم الإنسانية، وذلك بتحويل السؤال حول مدى دقة هذه العلوم وقدرتها على الارتقاء شانها شأن الفيزياء والكيمياء؟ إلى التساؤل هل فعلا هذه المعارف لا تزال تهتم بالإنسان كموضوع لها أم أنها أفرغت من مضمونها؟ ولعل بقاء واستمرار العلوم الإنسانية مرهون بإعادة النظر في مدى كون العلوم ونتائجها تخدم هذا الكائن العاقل، أم أن ما نشهده اليوم من أوبئة وكوارث طبيعية، هو نتيجة لتقدم أعمي يهتم بكل تفاصيل التطور المالي التكنولوجي؟ ولا يهتم بالإنسان وضرورة إعادة النظر في نمط عيشه ومكانته داخل المعرفة. كما تكن فوكو اعتمادا على التاريخ الكشف عن أن المعرفة والعلوم بما فيها الإنسانية. أصبحت متضمنة داخل المنظومة السياسية والاقتصادية. أي أنها موجهة لخدمة واستمرار هذه الأخيرة أكثر من خدمتها للإنسان الذي هو موضوعها، ومن اللائق والضروري أن يكون هدفها، في ذات الوقت.