المقدّمة
يُعنى هذا البحث باستقصاء التحوّلات المفهومية والمنهجية التي شهدتها مقولة «التجنيس الأدبي» ضمن السياق النقدي العربي، وذلك من خلال تتبّع الجذور الغربية لهذه الفكرة ومدى تأثيرها على تصور الأدب العربي وهويته النوعية. إذ نحاول تبيّن الكيفية التي تسربت بها نظرية الأجناس الأدبية الحديثة إلى المنظومة النقدية العربية، محمّلةً بنسقها الوصفي التفكيكي الذي يتجنب الحصر المسبق، ويحيل في جوهره إلى ثنائية «النوع» و«الشكل» كما تشكلت منذ أفلاطون وأرسطو، وامتدت عبر هوراس وسانت بوف ولوكاتش وباختين، إلى أن أعادت مفاهيم التناص ـ عبر كريستيفا وتودوروف ـ تشكيلها من جديد.
وتتعمق هذه الدراسة في رصد تموضع الخطاب العربي إزاء هذه النظرية، من خلال مساءلة فرضية مركزية مفادها : هل أدّى تبنّي النقد العربي الحديث لمقولات التجنيس الغربية إلى قطيعة إبستمولوجية مع التراث؟ أم شكّل هذا التبنّي مناسبة لإبراز أصالة النوع الأدبي العربي ضمن حوار حضاري لا يخلو من التأصيل والممانعة المعرفية؟ ويتفرع عن هذه الإشكالية جملة من الأسئلة الفرعية :
-
ما هي أبرز المقولات التصنيفية التي بلورتها النظريات الغربية في التجنيس الأدبي؟
-
كيف وجّهت هذه المقولات الرؤية العربية لتصنيف النصوص؟
-
وهل يكمن في « التأصيل العربي » بعدٌ نقديّ مضاد يمكنه أن يفكك أحادية التجنيس الوافد؟
انطلاقًا من هذا الأفق الإشكالي، نعتمد مقاربة منهجية تُفكك المقولات التصنيفية الكبرى لا من باب الانغلاق في نماذج جامدة، بل من منظور انتقائي يفسح المجال أمام التداخل والتكامل، لا الإقصاء أو التضاد. فالفرضية التي نرتكز عليها تتمثل في أن هذه المقولات ــ رغم تباين مصادرها ــ قابلة للتنضيد ضمن نسق نظري متكامل، تتفاعل عناصره البنيوية والوظيفية في إطار رؤية تربوية تطبيقية، تستشرف إمكانات تأسيس « نظرية تجنيس تعليمية » تستجيب لمقتضيات التصنيف المعرفي والنقدي العربي المعاصر.
ولأن المقولات التي تتصل بالمواقف والتوجهات الفكرية تنحلّ غالبًا في صلب المقولات التصنيفية، فقد آثرنا دمجها في سياق التحليل بوصفها دعائم مضمرة لهذا المشروع النقدي، لا عناصر منفصلة عنه.
1. مفهوم « الجنس الأدبي»
يمثّل مفهوم «الجنس الأدبي» إحدى القضايا الأكثر إشكالية وتعقيدًا في حقل الدراسات الأدبية، لما يشوب مصطلحاته وتاريخ تشكله من لبسٍ وتعدد دلالي. فالمفاهيم والتسميات التي صاغت هذا المفهوم على مر العصور تظلّ، كما يشير تودوروف (Todorov)، محفوفة بالمزالق النظرية والانزلاقات الدلالية، وهو ما يجعل من هذا المفهوم ــ في مفارقة لافتة ــ مرشحًا لأن يحتل مركزية فكرية داخل الخطاب النقدي، لكونه يلتقي فيه الهمّ الشعري العام بالتاريخ الأدبي الحداثي (تودوروف، 2006، ص. 32).
وقد عبّر كارل فييتور (Viëtor) عن هذا الإرباك بقوله إنّ غياب توحيد دقيق لاستعمال مفهوم «الجنس الأدبي» يعرقل أي تقدّم منهجي في هذا الميدان (شبيل، 2001، ص. 19). ويعزّز هذا المأزق ما يشير إليه سوسير (Saussure) من أنّ زاوية النظر تسبق الموضوع، وهي التي تحدّد طبيعة المقاربة ذاتها، مما يجعل من تعريف «الجنس الأدبي» رهين النسق الفكري والمرجعي الذي يُقارب من خلاله.
وفي ظلّ هذا التعدد والتشظي الدلالي، فإنّنا نميل إلى تعريف الجنس الأدبي بوصفه «كُلّيّة تصنيفية» تسمح بجمع مجموعة من النصوص وفق معايير شكلية ووظيفية متجانسة. فالعلاقة بين النصوص ضمن الجنس الأدبي لا تُبنى فقط على القرابة الشكلية، بل تتأسّس أيضًا على التفاعل النصي (التناص)، حيث لا يُمكن تعريف جنسٍ ما إلا بالمقارنة بجنس آخر (Hubert، 1998، ص. 124).
ويؤكّد هذا التوجه ما ذهب إليه وارن (Warren)، من أنّ الجنس الأدبي ليس تسمية اعتباطية، بل هو انعكاس لنمط جمالي تراكمي يفرض على الكاتب التزامًا بنيويًا، وفي الآن نفسه يمنحه أدوات التعبير (Warren، 1991، ص. 313).
غير أن إشكالية الجنس الأدبي تتعقّد حين تُطرح في السياق العربي، خاصة فيما يتعلق بالترجمة الاصطلاحية لمفهوم genre من اللغات الأوروبية. ففي حين يترجم البعض genre بـ «الجنس»، يفضّل آخرون «النوع»، على الرغم من أنّ المصطلحين في الثقافة العربية يحيلان إلى مفاهيم منطقية مستقلة ومستقرة، كما هو الحال في القول المنطقي الكلاسيكي : «جنس الأجناس» و«نوع الأنواع» (برادة، 2011، ص. 35).
هذا التفاوت في الترجمة يعكس ما سمّاه محمد برادة بـ «السقف المعرفي» للمترجم، حيث يفترض فيه الوعي بعدم التطابق الدقيق بين المصطلحات المترجمة وتلك المستقرة في المرجعية الثقافية العربية. فالكلمة الأجنبية الوافدة تقتضي عملية نحت دلالي داخل النسق المعرفي والثقافي المتلقي، بما يراعي الفروقات المفهومية والتأصيلية.
ومن ثمّ، فإنّ الخطأ في التعاطي مع genre كمصطلح مجرّد، بمعزل عن خلفيته اللغوية والتاريخية، يوقع في نوع من الإبهام الذي أشار إليه لالاند (Lalande)، حين قال إن «النوع» و«الجنس» يستخدَمان في اللغة الجارية للدلالة على أصناف متقاربة، وإن بتفاوت في درجة الاشتراك (لالاند، 2001، ص. 465).
إنّ استجلاء هذا التداخل الاصطلاحي يمثّل مدخلًا ضروريًا لفهم الديناميات التي تحكم عملية التجنيس الأدبي. فالتفريق بين الجنس، والنوع، والشكل، لا ينبغي أن يُنظر إليه كمجرد تصنيف شكلي، بل كتعبير عن سيرورات إنتاج نصي وفكري، حيث الأجناس الأدبية ليست نواتج نهائية بل مسارات تطورية تفرّعت عن قوالب كبرى شكلت بدورها «أنماطًا» ثم «أجناسًا» وفقاً للنسق البنيوي أو التواصلي الذي تحكمه.
وفي هذا السياق، يقدّم سيد البحراوي قراءة دقيقة لمفهوم «النوع»، حين يربطه بالنثر في مقابل الشعر، معتبرًا الرواية، القصة القصيرة، والمسرح أنماطًا نثرية ناشئة حديثًا في الأدب العربي، لكنّ نشأتها تعاني من إشكالات ناتجة عن علاقتها الملتبسة بالتراث من جهة، وبالآداب الغربية من جهة أخرى (البحراوي، 1997، ص. 6).
هذا ما يبرر تخصيص هذا المحور لتفكيك المفهوم وتبيان أبعاده المعرفية والدلالية، بما يتيح أرضية صلبة لتحليل مقولات التجنيس لاحقًا، ضمن نسق نقدي عربي يسعى إلى استيعاب الوافد دون التفريط في الموروث.
2 مقولات التجنيس الأدبي
ينطلق هذا الالتماس النظري من محاولة تأصيل مفهوم «المقولة» في إطاره المعجمي والفكري والفلسفي واللساني. المقولة لا تقتصر على كونها «مقول القول» بل تتراكم في وعي جماعي يمنحها الصفة المعيارية والنقدية والمنهجية. وتأتي المقولة كذات قيم وأطر فكرية توجه الحكم والتحليل في ميادين مختلفة.
من الملفت أن هذا المفهوم وقد تشكل على يد منظرين في اللسانيات والفلسفة والأنثروبولوجيا قد انتقل ليشكل ركيزة في الدراسات الأدبية ونظرية الأجناس. في هذا الإطار نلتقط المقولات كمعالم تساعد في الفهم والفصل والتصنيف للنصوص وأنماط الخطاب ومدارس الكتابة.
1.2. بناء مفهوم« المقولة »
يُعدّ مفهوم «المقولة» من المفاهيم المركبة التي تستمدّ جذورها من مختلف الحقول المعرفية، بدءًا من الأصل الاشتقاقي في اللغة العربية، حيث يُشتق من الفعل «قال» بمعنى «مقول القول»، وصولًا إلى دلالاته الفلسفية والمنطقية واللسانية الحديثة.
ففي مستواه المعجمي، تحيل المقولة إلى ما يُقال ويُعبَّر عنه من أفكار يمكن تجميعها في وحدات دلالية قابلة للحفظ والتداول، فتتحول إلى حكم أو مثل أو قاعدة سلوكية. أما على المستوى المفهومي، فإن المقولة تشير إلى صياغات معيارية تصنيفية ناتجة عن مجهود تأملي عميق، وخلاصة لنقاشات نقدية ومقارنات واسعة بين عناصر أو وحدات معرفية خاضعة للتقويم والتحليل.
والمقولة لا تكتسب مشروعيتها إلا حين تُصبح موضع إجماع نسبي، وتستوفي شروط التداول الثقافي والفكري، وهو ما يمنحها صفة «الإجمال التشابكي» — إذ ترتبط بجملة مفاهيم وتتشكل ضمن نسق معرفي متكامل، وليس في معزل عنه.
وقد استُعمل مصطلح «المقولة» أيضًا في الفلسفة القديمة (كالمقولات الأرسطية) للدلالة على الخصائص العامة التي تُطلق على الموجودات بوصفها مفاهيم منطقية عُليا. هذه المقولات كانت أساسًا للتحليل الوجودي العقلي الذي يميز الكليات ويضبط أنماط التفكير المنطقي. ويُلاحظ أن هذا المعنى انتقل لاحقًا إلى الحقول الحديثة، كالأنتروبولوجيا السياسية واللسانيات، في صورة «كليات لغوية» أو «مقولات ثقافية»، كما هو الحال في فرضية سابير–وورف حول العلاقة بين اللغة والفكر، وفي أعمال هومبولت، سوسير، بنفنيست، مارتييه، وياكوبسون.
وفي مجال اللسانيات، يُنظر إلى المقولة باعتبارها نسقًا عامًا مشتركًا، مثل : التقطيع المزدوج، أو خطيّة الدال، أو النمط التركيبي، وهي خصائص بُنيوية أضحت من ثوابت البحث اللساني الحديث، وانتقلت بدورها إلى نظرية الترجمة والتعليم.
أما في مجال النحو العربي، فقد تجلّى مفهوم المقولة في تصنيف الكلم وتقسيماتها النحوية استنادًا إلى خصائص شكلية ودلالية، وهو ما يعدّ نموذجًا مبكرًا لصناعة التصنيفات اعتمادًا على معايير معرفية راسخة.
وفي السياق الفلسفي–المعرفي، تمثل المقولة أداة تحليل ذات طبيعة تركيبية، تسمح بإعادة تشكيل العلاقات بين الخطابات، والنصوص، والمفاهيم، وذلك من خلال الربط بين الإحساس، والعقل، والخلفية الفكرية والنسق الثقافي الموجّه للفكر.
تعود إحدى أبرز صيغ المقولات في الفكر المعاصر إلى الإرث الماركسي الذي أعاد بلورة المقولات ضمن ما سُمّي بـ «الكليات الثقافية»، المتأثرة بدورها بالاتجاه النسقي والتاريخي لفوكو ونيتشه، عبر مفاهيم القطيعة والتحول والتشظي والاختلاف.
هكذا، لا تمثل المقولة مفهومًا قاعديًا ثابتًا فحسب، بل تتجاوز ذلك لتصبح نمطًا تنظيميًا للفكر والمعرفة، وأداةً لتحليل الحقول المعرفية، ولا سيّما في الأدب ونظرياته. إنها توليفة تجمع بين الفلسفي، واللغوي، والتربوي، والنقدي، مما يجعلها مناسبة لتأطير المفاهيم وتحليل الصنافات الأدبية وفق أنساق فكرية مختلفة. وبالتالي، يغدو مفهوم المقولة شرطًا ضروريًا لكل مشروع تنظيري يستهدف الارتقاء بالفهم الأدبي والتربوي إلى مستوى من النضج الإجرائي والمنهجي.
2.2 نَسَق المقولات التجنيسية
شهدت نظرية التجنيس الأدبي تراكماً متسارعاً في المقولات التصنيفية، ناتجاً عن تعدد الاتجاهات النقدية وتباين الخلفيات المعرفية التي تحكم علاقة النصوص بأجناسها. فبين مؤيدين لفكرة الجنس الأدبي كأداة ضرورية للفهم والتنميط، ومعارضين يرون فيها قيداً يُحدّ من حرية الإبداع، ظهرت مجموعة من المقولات النظرية التي حاولت الإمساك بجوهر هذه الإشكالية، وفي مقدمتها : مقولة التداخل والتفاعل، مقولة الخلوص التجانسي، ومقولة التشكيك في جدوى التجنيس المكتمل.
1.2.2. مقولة التداخل والتفاعل والاختلاط التولدي
تُعَدّ مقولة الخلوص التجانسي من أعقد المقاربات المتعلقة بمفهوم الجنس الأدبي، حيث يُطرح تساؤل جوهري : هل يعني الصفاء بلوغ الكمال النهائي للجنس الأدبي؟ أم أنّ هذا الصفاء يمثل مجرد مرحلة أولى، نواةً تؤسس لانبثاق أجناس جديدة متفرعة عنه؟
إن معظم الكلمات المفتاحية التي تدور في فلك هذه المقولة (كالبذرة، النواة، الذرة...) تنتمي إلى معجم العلوم الطبيعية والرياضية، كما أن التصورات الناظمة لها مستمدة من البيولوجيا والتصنيف العلمي، بما في ذلك مفاهيم العضوية، المكونات، والعناصر. ويُلاحظ أن بعض الأجناسيين (généalogistes) يرون في هذه المقولة إمكانية لتحديد خصائص أصلية للجنس الأدبي تُمكّنه من توليد أنواع أخرى، والقيام بوظيفة الأم الحاضنة لباقي الفروع.
في هذا السياق، يعرض كارل فييتور منهجًا يُعرف بالمقاربة النمطية، حيث يقترح التمييز بين الأجناس بوصفها ثابتة وموروثة من التقسيم الثلاثي اليوناني، وبين الأنواع المتفرعة عنها بشكل دينامي، فيما ترتبط الأشكال بملامح شكلية خاصة (شبيل، 2001، ص. 19-22). ويتصف هذا التصور بطابع تأصيلي تنازلي، يقابله الاتجاه الحداثي الصاعد لدى تودوروف الذي يرى في التجديد الفني بحثًا عن هوية جمالية متفردة.
وقد أعاد تودوروف في أكثر من موضع تأكيد صلة الأجناس بالنمذجة البنيوية للخطابات، مشيرًا إلى أن الخطاب الأدبي هو حالة خاصة داخل هذه المنظومة، الأمر الذي يستدعي دراسة الأجناس بوصفها مفتاحًا لفهم هذه النمذجة (تودوروف، 2006، ص. 11). وتتقاطع هذه الرؤية مع مفهوم «النص الجامع» لدى جيرار جنيت.
وتبرز هذه المقولة بوضوح في الأدب المقارن، الذي يدعو إلى اعتبار الجنس الأدبي بنية مرجعية كونية، قائمة على نماذج عليا شكلتها روائع الأدب العالمي. وتتحول هذه النماذج إلى معايير إنتاجية ونقدية وتقييمية، تؤثر على الكاتب والقارئ والنّاقد على حد سواء، وتُسهم في ضبط التوقعات القرائية والذوقية (أصطيف، 2002، ص. 759).
كما أن نزعة التجانس هذه انسحبت على المناهج النقدية ذات الطابع التكاملي، التي ترى في تقارب الأجناس تجسيدًا لسُنّة التوافق والتشابه، كما أشار إلى ذلك مفتاح (2011، ص. 11). أما جميل الحمداوي فقد رأى في تعددية التخصصات والمقاربات النقدية الغربية إطارًا لا يتناقض مع الطرح العربي التكاملي، بل يعززه، إذ يشكل مقولة جمعيّة تتأسس على فكرة التكامل.
2.2.2 مقولة الخلوص التجانسي
تُعَدُّ مقولة التشكيك في جدوى التجنيس إحدى أبرز التوجهات التي أفرزها التفاعل النقدي المتراكم مع مفهوم «الجنس الأدبي»، لا سيما في سياق الحداثة وما بعدها، حيث بدأ يُنظر إلى هذا المفهوم ليس كغاية تصنيفية نهائية، بل كإطار نسبي متحوّل، مشروط بسياقات إنتاج الخطاب الأدبي وتلقيه. وقد أثار عدد من المنظرين هذا التوجّس، دون أن يُنكروا واقعية التجنيس، بل ذهبوا إلى اعتباره « واقعة نصية » تتطلّب تحليلاً نقديًا لا يقف عند ظاهر التصنيفات.
في طليعة هؤلاء يأتي تزفيتان تودوروف، الذي وإنْ أسهم نظريًا في ترسيخ التصور الكلاسيكي للتجنيس، فقد عاد في كتاباته المتأخرة ليُبدي تحفظًا صريحًا تجاه نجاعة التصنيف، معتبرًا أن « الإصرار على الاهتمام بالأجناس قد يبدو في أيامنا عديم النفع، فضلاً عن أنه مغلوط تاريخيًا » (تودوروف، 2002، ص. 21). ورغم ذلك، فقد ظل معتمدًا كمرجع تنظيري لتأصيل المفهوم وتحليل تمظهراته التاريخية واللسانية، لا سيما عبر طرحه لمفهوم الاختلاط الأجناسي وإعادة تعريف الأجناس ضمن علاقات تقابلية متداخلة (تودوروف، 2006، ص. 28).
من جهته، اعتبر خلدون الشمعة أن التجنيس ليس غاية نهائية بقدر ما هو وسيلة قابلة لإعادة التشكيل وفق تحولات الذوق والمعايير. وبالمنظور ذاته، يرى عبد النبي أصطيف أن وظيفة الناقد تتجاوز مجرّد الوصف نحو التوجيه، و« تجديد الجنس الأدبي بما يوافق صياغة أفكار المبدع وقولبة رؤاه » (أصطيف، 2002، ص. 38).
هذا التحول في مقاربة التجنيس يستند إلى مقولات مثل التناص والتناسخ، حيث يُستشفّ أن التصنيفات الجاهزة تُقيد حرية المبدع، وتفرض نماذج صارمة قد لا تعبّر عن خصوصية النصوص. ومن هنا، تصبح القراءة الأدبية اكتشافًا لحدود الأجناس كما تتجلى داخل النص نفسه، لا كما تُفرض من خارجه، فيتحول التجنيس إلى أداة وصفية استكشافية لا معيارًا مسبقًا.
ويُلاحظ أن بعض النقاد، ومنهم بلحيا الطاهر، قد ربطوا هذا الاتجاه بظهور رؤية ما بعد حداثية ترى أن الرواية لم تعد تهدف إلى قول شيء بقدر ما تسعى إلى الامتناع عن القول، في إطار فلسفة تشكك في المعنى وتُبشّر برؤية عدمية (بلحيا، 2017، ص. 95). وهو ما يعيدنا إلى نقد الخطاب التجنيسي ذاته، بوصفه خاضعًا لإكراهات شكلية ومفاهيمية، ولكن أيضًا بوصفه مجالاً مفتوحًا للتحايل والتجاوز عبر «مطالب الخطاب» .
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن هذه المقولة لا تُنكر التجنيس، بل تُعيد النظر في آلياته، موقعةً إياه ضمن دينامية النصوص لا خارجها، ومحفّزةً على تطوير منظومة تصنيفية أكثر مرونة وانفتاحًا على الخصوصية النصية والتاريخية.
3.2.2. مقولة التشكيك في جدوى التجنيس المكتمل
تُعَدُّ مقولة التشكيك في جدوى التجنيس إحدى أبرز التوجهات التي أفرزها التفاعل النقدي المتراكم مع مفهوم «الجنس الأدبي»، لا سيما في سياق الحداثة وما بعدها، حيث بدأ يُنظر إلى هذا المفهوم ليس كغاية تصنيفية نهائية، بل كإطار نسبي متحوّل، مشروط بسياقات إنتاج الخطاب الأدبي وتلقيه. وقد أثار عدد من المنظرين هذا التوجّس، دون أن يُنكروا واقعية التجنيس، بل ذهبوا إلى اعتباره « واقعة نصية » تتطلّب تحليلاً نقديًا لا يقف عند ظاهر التصنيفات.
في طليعة هؤلاء يأتي تزفيتان تودوروف، الذي وإنْ أسهم نظريًا في ترسيخ التصور الكلاسيكي للتجنيس، فقد عاد في كتاباته المتأخرة ليُبدي تحفظًا صريحًا تجاه نجاعة التصنيف، معتبرًا أن « الإصرار على الاهتمام بالأجناس قد يبدو في أيامنا عديم النفع، فضلاً عن أنه مغلوط تاريخيًا » (تودوروف، 2002، ص. 21). ورغم ذلك، فقد ظل معتمدًا كمرجع تنظيري لتأصيل المفهوم وتحليل تمظهراته التاريخية واللسانية، لا سيما عبر طرحه لمفهوم الاختلاط الأجناسي وإعادة تعريف الأجناس ضمن علاقات تقابلية متداخلة (تودوروف، 2006، ص. 28).
من جهته، اعتبر خلدون الشمعة أن التجنيس ليس غاية نهائية بقدر ما هو وسيلة قابلة لإعادة التشكيل وفق تحولات الذوق والمعايير. وبالمنظور ذاته، يرى عبد النبي أصطيف أن وظيفة الناقد تتجاوز مجرّد الوصف نحو التوجيه، و« تجديد الجنس الأدبي بما يوافق صياغة أفكار المبدع وقولبة رؤاه » (أصطيف، 2002، ص. 38).
هذا التحول في مقاربة التجنيس يستند إلى مقولات مثل التناص والتناسخ، حيث يُستشفّ أن التصنيفات الجاهزة تُقيد حرية المبدع، وتفرض نماذج صارمة قد لا تعبّر عن خصوصية النصوص. ومن هنا، تصبح القراءة الأدبية اكتشافًا لحدود الأجناس كما تتجلى داخل النص نفسه، لا كما تُفرض من خارجه، فيتحول التجنيس إلى أداة وصفية استكشافية لا معيارًا مسبقًا.
ويُلاحظ أن بعض النقاد، ومنهم بلحيا الطاهر، قد ربطوا هذا الاتجاه بظهور رؤية ما بعد حداثية ترى أن الرواية ـ مثلاً ـ لم تعد تهدف إلى قول شيء بقدر ما تسعى إلى الامتناع عن القول، في إطار فلسفة تشكك في المعنى وتُبشّر برؤية عدمية (بلحيا، 2017، ص. 95). وهو ما يعيدنا إلى نقد الخطاب التجنيسي ذاته، بوصفه خاضعًا لإكراهات شكلية ومفاهيمية، ولكن أيضًا بوصفه مجالاً مفتوحًا للتحايل والتجاوز عبر «مطالب الخطاب» (L’insistance du discours).
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن هذه المقولة لا تُنكر التجنيس، بل تُعيد النظر في آلياته، موقعةً إياه ضمن دينامية النصوص لا خارجها، ومحفّزةً على تطوير منظومة تصنيفية أكثر مرونة وانفتاحًا على الخصوصية النصية والتاريخية.
3. الإبستمولوجيا والإجرائية في التصنيف بين الواقع والتوقّع
يتناول هذا المبحث المسألة الإبستمولوجية المتعلّقة بتصنيف الأجناس الأدبية، ويتوسّع في معالجة إجراءات التصنيف الأدبي من زاويتين متكاملتين : زاوية الواقع كما يتجلّى في الممارسة الأدبية والنصوص المتداولة، وزاوية التوقّع كما يتمثّل في المقاربات التجريدية والنمذجة النظرية. ويتفرّع عن هذين المنطلقين تقابلٌ منهجي بين المفهوم والتسمية، وبين الاستقراء والافتراض، وبين المقاربة التجريبية والمقاربة الاستشرافية.
ويكتسي هذا التناول شرعيته العلمية من اعتبار الجنس الأدبي مسارًا إجرائيًا ومعرفيًا، لا مجرّد تسمية جاهزة أو تصنيف شكلي، وهو ما يدفع إلى ضرورة ربط التجنيس الأدبي بمقوماته النظرية وبممارساته الواقعية معًا، ليتجلّى بوصفه فعلًا تصنيفيًا يخضع لمبادئ تحليلية دقيقة ويُؤَسَّس على منطلقات مفهومية قابلة للتحقّق.
وقد مثّل تودوروف مرجعًا مركزيًا في هذا السياق، إذ أكد على أن التصنيفات لا تكتسب مشروعيتها إلا إذا كانت مضبوطة ومؤسَّسة علميًا، مستندًا إلى تمييز منهجي بين مقاربتين : استقرائية قائمة على الملاحظة التجريبية للنصوص، واستنباطية نابعة من تنظيرات مسبقة للخطاب الأدبي. وفي كلتا الحالتين، يظل الجنس الأدبي نتيجة عملية تسنين لخصائص استدلالية، لا مجرد ملصق اصطلاحي أو قالب شكلي.
ومن هنا، تنبثق الحاجة إلى تحليل المبرّرات الإبستمولوجية والإجرائية للتصنيف، وهو ما يدفعنا إلى التمييز بين منظورين أساسيين :
1.3. منطلق الواقع والمنظور التجريبي الاختباري
ينطلق هذا المنظور من تحليل المدوّنات الأدبية كما هي، من خلال الوصف، والاستقراء، واستجلاء المظاهر النصية التي تستدعي التصنيف دون افتراضات مسبقة. وتُقرأ النصوص الأدبية كحالات واقعية متموضعة تاريخيًا وثقافيًا، تخضع لآليات اختبارية وتجريبية تُستمدّ من طبيعة النص ومكوناته الجمالية والأسلوبية والموضوعاتية.
ويتمثّل جوهر هذه المقاربة في اعتبار الجنس الأدبي مظهرًا ناشئًا من الواقع النصّي، لا مفروضًا عليه من خارج. فالمدونة، من خلال تنوّعها، وكثافتها، وزمنيتها، تمثّل المادة الخام التي تتيح استنباط الأنواع وتحديد ملامحها التصنيفية. وهذا ما جعل تودوروف يُفرّق بين «الجنس» بوصفه مفهومًا مستقرَأ من الممارسة، و«النمط» باعتباره قالبًا مستنتجًا من نظرية أدبية.
وفي هذا السياق، يؤكّد تودوروف أنّ :
« لا يوجد أدب دون أجناس، فكل جنس جديد هو تحوّل لجنس أو أجناس أدبية سابقة »، مشيرًا إلى الطابع التاريخي للتجنيس، حيث تتفرّع الأجناس بعضها عن بعض من خلال التوليف أو التهجين أو الانقلاب.
ويجد هذا المنظور دعمًا في دراسات محمد رشدي حسن حول تطوّر القصة العربية الحديثة، حيث أرجع نشأتها إلى جذور المقامة، وسعى إلى تأصيلها في ضوء التقاليد السردية التراثية، مؤكدًا أن التصنيف لا يمكن أن يتمّ خارج الواقع الأدبي والتاريخي الذي تشكّلت فيه النصوص.
وهذا المنحى التجريبي يكتسب أهمية خاصة في تعليمية الأدب، لأنه يُقدّم للمتعلّم شبكة مفهومية مرنة ومبنية على ممارسات واقعية، تُكسبه القدرة على تحليل النصوص وتمييز خصائصها، وتوسّع ذائقته وتُعزّز تمثّله للتنوّع الأدبي. كما أنه يتجاوز النزعة الإسقاطية التي تفترض الأجناس كقوالب جاهزة وتُسقطها على النصوص دون تبيئة أو تحقق.
2.3. منطلق التوقّع والمنظور التجريدي الاستشرافي
بالمقابل، يعمل هذا المنظور ضمن أفق نظري استشرافي، ينطلق من نماذج تجريدية لتفسير الظواهر الأدبية وتصنيفها، وذلك استنادًا إلى بنى نظرية تنظر إلى الجنس الأدبي بوصفه نموذجًا إجرائيًا يُعاد بناؤه باستمرار وفق تحوّلات الخطاب الأدبي والذوق العام.
في هذا السياق، تبرز المقاربة المفهومية التي لا تكتفي برصد الخصائص الظاهرة، بل تسعى إلى ضبط الخصائص الاستدلالية التي تسمح ببناء الأجناس وتصنيفها وفق ملامح نسقية. وتودوروف، هنا أيضًا، يدعو إلى تجاوز المقاربة اللفظية القائمة على التسميات الجاهزة، لصالح تحليل بنيوي يستند إلى المفاهيم المكوِّنة للنصوص.
ويُعدّ مفهوم «الخاصية الاستدلالية» مفتاحًا لفهم هذه المقاربة، حيث يُنظر إلى الجنس بوصفه مجموع خصائص لازمة، يمكن أن تكون بنيوية (كالصوتية والتركيب) أو موضوعاتية (كالتيمات والأساليب)، وهي التي تتيح قيام التصنيف وتبريره.
ومن خلال هذا التصوّر، يغدو الجنس الأدبي مؤسسة متحرّكة تتفاعل مع التاريخ والثقافة، وتتمأسس من خلال النقد والمدرسة وسوق النشر، فتؤثِّر في طريقة كتابة النصوص وقراءتها، كما أنها تؤطّر أفق الانتظار لدى القارئ وتشكِّل مرجعية ضمنية للكاتب.
وتستمد هذه الرؤية قوتها من قدرتها على التوقّع والتنميط، وهو ما يسمح بتطوير تصنيفات مرنة تواكب تحوّلات الأدب، كما نجد عند كالوفي الذي يعتبر أن التجنيس يمثل «روح الأدب»، وعند خلدون الشمعة الذي يحلّل تجربة بورخيس بوصفها نموذجًا لانبثاق أجناس هجينة تستشرف الكتابة المستقبلية.
وفي المنحى ذاته، يشير لوكاتش إلى أن الرواية، بوصفها جنسًا أدبيًا، إنما تنشأ وتزدهر في مجتمع بورجوازي لأنها تعكس تناقضاته الداخلية، وتقدّم نموذجًا تعبيريًا يستوعب التحولات البنيوية للواقع.
إن التمييز بين المنظور الواقعي والمنظور الاستشرافي لا يعني التعارض، بل يشير إلى بعديْن متكاملين في فهم ظاهرة التصنيف الأدبي : أحدهما ينطلق من المدوّنات الواقعية، والآخر يُبنى نظريًا ضمن أفق تأويلي وتجريدي. ومن خلال هذا التكامل، يمكن بلورة مقاربة إبستمولوجية وإجرائية للتصنيف، تراعي تعدّد السياقات، وتحترم خصوصية النصوص، وتوفّر إطارًا علميًا لتدريس الأدب وتحليله.
خاتمة
في ختام هذه الجولة النظرية والتحليلية، يمكننا صياغة مقترح تركيبي إجمالي مفاده أنّ مجمل الأفكار التي تم تناولها في إطار التجنيس الأدبي، أو تلك التي دارت حوله وتقاطعت معه نقديًا ومنهجيًا، تُصبح أكثر فاعلية وجدوى حين تُدمج ضمن خطاب نقدي منسجم، يهدف إلى صياغة مقولات معرفية متكاملة تسعى إلى تحقيق درجة عليا من التماسك والفعالية الإجرائية.
هذه المقولات ليست مجرد خلاصات طارئة أو استقراءات جزئية، بل تمثل حصيلة لتراكم نقدي طويل ساهم فيه العديد من المنظرين والممارسين، وشكلت بذلك نواة لتأسيس إبستمولوجي للنقد الأدبي من حيث هو ممارسة معرفية ومنهجية. فالمقولة هنا ليست معطى جاهزًا، بل هي نتاج عملية بناء متواصلة ومركبة، شأنها في ذلك شأن «الجنس الأدبي» ذاته، الذي ينمو ويتحول تبعًا لسياقات الإنتاج والتلقي، ويخضع باستمرار لإعادة تعريف وتأويل.
كما ينبغي إدراك أن إجرائية التصنيف لا تقف عند حدود الترتيب الظاهري للنصوص، بل تنطوي على رؤية نسقية تفسّر وتحلل، لا بقصد التبرير أو التثبيت، بل بهدف الكشف عن آليات خفية تحكم تشكّل النصوص وتصنيفها ضمن الحقول الأدبية المتعددة. فهذه الإجرائية تتيح للباحث النقدي الوصول إلى فهم أعمق لميكانيزمات الخطاب الأدبي، وتُسهم في بلورة أدوات قرائية قادرة على استيعاب الأبعاد التعليمية والنمذجية والذوقية معًا.
وفي هذا السياق، يبدو من الضروري أن نُبقي في الحسبان أن الأجناس الأدبية، بوصفها وحدات تصنيفية، تعود أصولها في الكثير من الأحيان إلى أفعال الكلام التي تمثل البنية الأولية للتعبير الأدبي. ومن هنا، فإن صيرورتها باتجاه التوقع والتجريد – مع بقاء جذورها في الواقع والاستدلال – تجعل منها فئة ديناميكية تتغذى من التكوين الأدبي ذاته، وتُصاغ عبر خصائص تمتد من الاجتماعي والنفسي والتاريخي إلى الأسلوبي واللغوي والتخييلي والدلالي.
يتمّ إسقاط هذه الخصائص على هيئة «الجنس الأدبي» بما هو تجسيد لنسق يتأرجح بين البنية والوظيفة، بين التجربة والإنتاج، وبين التوقع والتلقي. ويجري توظيف هذه الأنساق ضمن بنى مفهومية أوسع، تُترجم أحيانًا إلى «أنماط»، أو «أصناف»، أو «صيغ»، وفق درجات متفاوتة من التجريد والمادية.
وما يزيد المشهد تعقيدًا أن التمايزات القائمة بين الأجناس والأنواع تظلّ، في الغالب، طواعية وغير دقيقة، إذ لا تخضع لحدود ثابتة أو معايير نهائية. فحتى المبادئ التي يتم اعتمادها لتحديد الأجناس الأدبية تتغير مع مرور الزمن، وتعكس تحولات في الذوق الجمالي والبنية الثقافية والنسق المعرفي للمجتمع.
لهذا، فإن مستقبل التجنيس الأدبي يظل مفتوحًا على إمكانيات متعددة، تبعًا لتحولات الخطاب الأدبي ذاته، ولقدرة النقد على مواكبة هذه التحولات من خلال تطوير أدواته المعرفية والمنهجية، وصياغة مقولات تصنيفية قادرة على احتواء الغنى والتعقيد والتعدد الذي يميز الأدب بوصفه ممارسة إنسانية خلاقة.
