مقدمة
لو قلنا أن « المشي هو أحد عكازات الفكر » لما جاوزنا الصواب؛ متكئين في ذلك على الشرعية الواسعة والقداسة غير المشروطة، التي أضفاها المفكرون والفلاسفة على المشي ديناميكية للتفكير والتخطيط والتعمق في الأمور وتصفية الذهن.
وقد منح « طه حسين » في كتابه « أديب » هذا الامتياز للمشي محتفيا بمزاياه :
« فخرجت أهيم في الريف، ألتمس راحة النفس في تعب الجسم، ولست أزعم أني خرجت أريد وجهة بعينها، أو أسعى إلى غاية معروفة، وإنما هو المشي، والإبعاد فيه، والخلوة إلى النفس. » (حسين طه، 2014 : 30)
وهو في معانيه هذه على سيرة كل هؤلاء الذين نظّروا للمشي، وأمعنوا في ربطه بمهمات الأمور، وتوظيفه في كل وجوه الكتابة والتأليف.
في الروايات السيرية المحتفية بالترحال في الصحاري والبوادي وقطع مسافات مابين الأوطان والمنافي، تولد التغريبة؛ تلك المعزوفة السردية التي لا يحملها إلا فعل التغرّب والرحيل، ولا يضعها إلا السرد مكتملة، أو مجزأة، فينشأ أدب المشي، حاملا لسيرة المسافات، ينشد الانتهاء إلى وطن.
هذه المعاني اجتمعت وتفرقت في روايتين من أحدث ما صدر عربيا في سرديات الصحراء، بل يمكن عدهما تغريبتين معاصرتين تقاربان صراحة ومجازا معاني الشتات والغربة، تمتشقان في ذلك السرد مشيا؛ أدبا تنشئه الحركة وتصنع أهم أسئلته وقضاياه.
فهل يجعل السرد بضمير المتكلم من هذين العملين سيرة ذاتية، أو رواية سيرة ذاتية؟ أم انسياقها التاريخي وانغماسها في الحقائق التاريخية للإطار الزمني الذي صيغت فيه لا يخرجها من قالب الرواية التاريخية؟
هذا الاشتباك والإرباك، يتوضع غير بعيد عن اهتمامنا، مادام محور هذا الموضوع هو تداعيات المشي والارتحال والهروب والسفر في هذين النصين. لذا يمكننا فكه بأن نقدم لكل مصطلح يضعنا في الإطار النظري التقريبي، ويسهل علينا الانتقال بين هذه المصطلحات في مصادفتنا إياها في ثنايا هذا المقال.
1. الرواية بين السيرة الذاتية والتاريخ
السيرة الذاتية كما يراها «فيليب لوجون»:
«حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده خاصة، فتتمنع نسبة هذا الخطاب، ويختلط أكثر من عنصر في الخطاب الواحد، ذلك أن الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة». (لوجون فيليب، 2016: 13)
وهذا النوع من الحكي أو السرد كثيرا ما تتبناه الخطابات الروائية المعاصرة العناصر المهيمنة داخل جنس أدبي معين في حقبة معينة يمكن أن تتوارى لصالح قيم نصية أخرى تصبح مهيمنة (...) ويرجع ذلك بالأساس إلى قانون التغير والتحول الذي يحكم هوية نوع أدبي ما (الغامدي صالح معيض، 2013: 148، بتصرف). وقد يعود هذا أيضا إلى أن كثيرا من النقاد لا يفرقون (أو لا يرغبون في التفريق) بين السيرة الذاتية المصوغة صياغة روائية (السيرة الذاتية الروائية) والرواية المصوغة بتقنيات السيرة الذاتية (الرواية السير ذاتية). فالأولى في حالة تأكد عقدها القرائي السير ذاتي هي بلا شك سيرة ذاتية، وهي تحيل إلى عالم حقيقي أو على الأقل توهم بالإحالة إليه، على الرغم من أنها تتوسل لذلك بتوظيف كثير من أساليب الرواية بما في ذلك الخيال. أما الأخرى فهي رواية من حيث الجنس الأدبي وسيرة ذاتية من حيث الصيغة، لكنها تحيل إلى عالم متخيل حتى وإن استثمرت بعض جوانب حياة كاتبها وبدت في بعض الأحيان أشد واقعية (يقطين سعيد، 2012: 159).
وقد يكون هناك تخريج مفهومي دقيق، إذا عالجنا هذا الاضطراب المفهومي أو الانتسابي في ضوء الجدلية الثانية، وهي الرواية والتاريخ، ولأن الروايتين كليهما تحيلان إلى هذه الجدل – الرواية والتاريخ، عدا عن الجدلية الأولى –الرواية والسيرة الذاتية-، ولكيلا نخوض طويلا في الجدليتين، فقد يكون في دمج الناقد «سعيد يقطين» للسردي والتاريخي في التعريف الآتي طريقا لتبني مصطلح «سرد الذات» في محاولة فصلنا في موضوعة الرواية والسيرة الذاتية في المدونتين الروائيتين محل الدراسة، حيث يرى أن
«الرواية عمل سردي يرمي إلى إعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخييلية، حيث تتداخل شخصيات تاريخية مع شخصيات متخيلة، إننا في الرواية التاريخية نجد حضورا للمادة التاريخية لكنها مقدمة بطريقة إبداعية وتخييلية». (يقطين سعيد، 2012: 158).
وفي سياق حديثه عن إدراج البعد الذاتي متصلا بـ «التخييل» الفني، يذكر تسمية «التخييل الذاتي» Auto Fiction، أو الحكي الذاتي Auto Récit، وهي تحوير للسيرة الذاتية الكلاسيكية، أو تحول عنها بكتابة نوعية «هجينة»: تجمع بين الذاتي والتخييلي (إبراهيم عبد الله، 2011: 5، بتصرف).
ومن التخييل صاغ الناقد «عبد الله إبراهيم» «مصطلحا بديلا أطلق عليه «التخيل التاريخي» في دعوة للتخلي عن مصطلح الرواية التاريخية، محاولا تخطي مشكلة الأنواع الأدبية وحدودها ووظائفها، ودفعا بالكتابة السردية التاريخية، وتفكيكا لثنائية الرواية والتاريخ، ودمجهما في هوية سردية جديدة. وفي هذا تحييد لمبدأ المطابقة بين السردي والتاريخي (تاج السر أمير، 2012)، وهو الخطوة الأولى التي يتخذها أغلب كتاب الرواية التاريخية في محاولة تحديد مساحة كل نوع على حساب نوع، أو تبرير هذه العلاقة انتصارا للسردي دائما.
وعن هذه العلاقة، قال الروائي السوداني «أمير تاج السر»: «لو كانت تاريخا صرفا مستندا على وثائق ومخطوطات حقيقية فقط، من دون إضافة أحداث متخيلة، لما شدَّت سوى دارسي التاريخ» (تاج السر أمير، 2012). أما الدكتور «حاج أحمد الصديق الزيوان» ، فيفصّل في هذه العلاقة، ويفصل فيها بين المكونين في معرض حديثه عن التاريخي في عمله الروائي الأخير «منا.. قيامة شتات الصحراء»، يقول :
«إن هناك خيطا رفيعا بين التاريخ والرواية التاريخية، فالمؤرخ صارم ولا يغترف إلا بالوثيقة والمصدر، فيما يمكن للروائي أن يؤثث بخياله عديد الثغرات التي يتحاشاها المؤرخ ويخشاها، وهذا هو الفرق بين المؤرخ والروائي، فالروائي لا بد أن يقرأ تاريخ الحادثة، وما يتصل بها في الزمان والمكان والأحداث، ويهدم ذلك، ليعيد تشكيله وفق متخيله، راسما له رؤية متجددة وحية خلاقة، يقف المتلقي خلفها مندهشا، هل أحداث هذا النص حقيقية أم مُتخيَّلة؟ وهنا تكمن براعة الروائي». (الصديق حاج أحمد،أ 2021).
وبين الهدم وإعادة التشكيل الذين تنصهر فيهما الأنواع الثلاثة: السيرة الذاتية والرواية والتاريخ، يأتي مفهوما:
-
«التخيل التاريخي» الذي اقترحه «عبد الله إبراهيم» : «المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية، والوصفية، وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية، ذلك بأن التخييل التاريخي لا يحيل على حقائق الماضي ولا يقررها، ولا يروج لها، إنما يستوحيها بوصفها ركائز مفسرة لأحداثه. وهو نتاج العلاقة المتفاعلة بين السرد المعزز بالخيال، والتاريخ المدعم بالوقائع، ولكنه تركيب ثالث مختلف عنهما» (إبراهيم عبد الله، 2011، ص : 05).
-
و«سرد الذات»: الذي يكشف فيه البطل بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن جانب من حياته وتجربته ورؤيته في الحياة، بصورة لا علاقة لها بكتابة فن السيرة الذاتية التقليدي الذي ينتمي أجناسيا إلى لون آخر، وهو بالتأكيد لا علاقة له باللعبة السردية، أو الميتا-سردية. كما لا يشترط المطابقة بين صدقية التجربة الحياتية للبطل وبنية التجربة السردية. إنه فعل تخييلي صرف، شأنه شأن أي عمل روائي أو قصصي، لا يتوخى المطابقة أو التماهي بين الشخصية الواقعية والشخصية الروائية، لكون هذه الأخيرة افتراضية وغير واقعية، لكن البنية السردية تظل تنتمي إلى فضاء «سرد الذات» مادامت تهدف أساسا إلى الكشف عن العوالم الداخلية للذات الإنسانية في تحولاتها وصراعاتها وانتكاساتها (ثامر فاضل،2018: 375، 376).
وفي عبارَتَي «تركيب ثالث» و«سرد الذات» اختصرت رواية تاريخ ما يمكن أن يكون، اتكاءً على مشاغل زمن الكتابة وقضاياه الراهنة (إحالة إلى مقولة الأخوين جونكور: «إن التاريخ هو رواية ما كان والرواية تاريخ ما يمكن أن يكون»، ومقولة جورج لوكاش: «إن الرواية لا تكون تاريخية إلا إذا حملت من زمن كتابتها مشاغلها لأساسية وقضاياها لراهنة»، ثامر فاضل، 2018: 14)، ممثلة في الشكل السردي الذي جاءت عليه روايتا : «منا.. قيامة شتات الصحراء» للروائي الجزائري: الصديق حاج أحمد، و«أوراق شمعون المصري» للروائي المصري: أسامة عبد الرؤوف الشاذلي.
لا يمكننا أن نعد العملين سيرة ذاتية لبطليهما، لأنهما مصطنعان وغير حقيقيين، بل هما سيرتا شعبين مختلفين كل الاختلاف في موطنيهما وتاريخيهما وفترتيهما التاريخيتين التين طرقهما النص السردي، وكل العوامل التي صنعتهما، والتي دفعت بهما إلى هذه التغريبة الطويلة، التي يختلف فيها الدافع أيضا، لكن الهدف على ما يبدو واحد، لأن مفهوم الوطن وإن تباين في تحديد معالمه المادية، إلا أنه موحد رمزا وقيمة وهوية كذلك.
إن السياق التاريخي للنصين يعفي الروائيين (الزيواني والشاذلي) من أي علاقة خاصة بهما تحصرهما في زاوية «السيرة الذاتية الشخصية»، بل تبرئهما من أي ارتباط بعيد أو قريب نسبيا بهما. وقد التزم الروائيان كلاهما بالإحالة مباشرة على صاحب السيرة المعني، أو مجموع المعنيين بهذا النص.
انطلقت رواية «أوراق شمعون المصري» بصيغة ضمير المتكلم، الذي يحيل على الشخصية البطلة التي امتزجت سيرتها الخاصة بسيرة تاريخية دينية معروفة، وهي تاريخ «بني إسرائيل» محددا بين خروجهم من مصر هروبا من فرعون وجنده إلى وفاة نبي الله موسى عليه السلام، فكان هو وعائلته وبعض الشخصيات المتخيل وسط الحقيقي الذي أصلته كتب الأديان وأكدته مصادر التاريخ. كذلك هو الأمر بالنسبة لرواية «منَّا.. قيامة شتات الصحراء»، التي تبدأ فعليا من حادثة تاريخية حقيقية ومهمة هي الأخرى، لكنها متجاوزة ولا تكاد تذكر في كتابات المؤرخين أو المرويات الأدبية والتاريخية الحديثة، إنها هجرة التوارق والعرب الحسَّان من شمال مالي نحو الجزائر، وما نتج عنه من شتات عبر المدن الجنوبية الجزائرية.
يحاول كل روائي يقارب التاريخ، أن يصدر عن ذاته، وتجاربه وقراءاته، دون أن يسمح بمد أي صلة بين عمله وأعمال سابقة مشابهة، إنه يراهن لا على المادة التاريخية، إنما يبني ثقته على التسريد أو البناء السردي الذي يقربه من ذاته ورؤيته وقراءته للتجربة الروائية في عمله، بعيدا عن ممكنات التماثل والتشابه، خاصة عندما تجتذب المرحلة التاريخية الموظفة التي يقوم عليها هذا العمل الروائي أكثر من قلم، وتلبسها أكثر من رواية.
لأجل كل هذا، عمد الكتاب والمبدعون منذ القدم، إلى الاختلاق، اختلاق الإطار السردي، الذي يعد بطاقة عملهم الشخصية وهويته التي تبرز بصمتهم الشخصية فيه، وهو كذلك المحطة الأولى والأخيرة التي يسلمون فيها قياد السرد إلى شخصهم المصنوع أو شخوصهم التي تتبنى هذا العمل، فينفض الروائي أو الكاتب يديه من الصفحات الأولى، لكنه لا يفعل ذلك إلا بعد أن يكون قد زرع بذرته، وقال كلمته التي سيتكفل باقي العمل ببسطها وشرحها وتفسيرها وتأويلها. هكذا فعل «ابن المقفع»، حين صدَّر لكتابه «كليلة ودمنة»، وربطه بقصة بيدبا الحكيم ودبشليم الملك، وهي قصة –كما ذهب أكثر من ناقد- مختلقة لم تظهر في أي نسخة من نسخ كتاب الأمثال الهندية القديمة، التي قام ابن المقفع بترجمتها، وذهب النقاد أنفسهم إلى أن فعل الترجمة والتأليف الإبداعي لأبواب كتاب الأمثال هذا لم يكن إلا تعمية عما جاء في المقدمة، التي كانت تنتظر قارئا نافذ الذكاء والبديهة ليكشف ما وراءها، وقيل أن الخليفة المنصور قد فعل ذلك، لكن جزاءه لابن المقفع كان على خلاف جزاء دبشليم لبيدبا الحكيم.
إن رواية «أوراق شمعون المصري» ليست في خطر مقدمة كتاب «كليلة دمنة» ولا متنه، لكنها من الحساسية التاريخية بمكان، وليست هذه الحساسية ما دفعت الروائي «الشاذلي» إلى اختلاق هذا الإطار السردي الملفت والخاص، والذي لم يبتعد عن شخوص مختلفة لروايات تاريخية شبيهة، كبطل رواية «عزازيل» ليوسف زيدان. لكن التاريخ الديني والجمع بين ما جاء في الكتب السماوية عن اليهود ولاسيما في القرآن الكريم ثم ما تفرق في التفاسير وكتب التاريخ، يجعل ممن يصب كل هذا في قالب روائي يتحرى تحرير مادته من قداستها الدينية والتاريخية، وإخضاعها لمنطق السرد الروائي المنفتح على كل ما تمليه ضرورات السرد من تقاليد وتجديدات، يجعل منه كل هذا يتلفع في عباءة السرد السير ذاتي، سرد الشخصية البطلة الممتزج تاريخها بتاريخ مرحلتها وأحداثها، فيقع عليها عبء نقل وتفسير وتأويل كل أحداثها والحكم عليها.
عن هذا الأمر يقول «الشاذلي»:
«تعمدت في رواية «أوراق شمعون المصري»، التي بها العديد من الشخصيات التاريخية، أن تكون الشخصيات الدينية الأساسية غير موجودة في الرواية بذاتها، فبطل العمل شمعون يحكي بنفسه كل ما ورد عن هذه الشخصيات، ويسرد الأحداث كما رآها وعايشها بنفسه وتأثيرها عليه». (السمان سها، 2021).
وأضاف :
«بهذا، تعمدت ألا أضع القارئ في حالة جدل وصراع وتساؤلات عن صحة الجمل والحوارات التي قيلت على لسان هذه الشخصيات، وأعتقد أن هذا كان أفضل الحلول، لأنه أعطاني مساحة للحكي على لسان شمعون دون التقيد بما قيل على لسان الأنبياء أو الشخصيات التاريخية الأساسية». (السمان سها، 2021).
وهذه تقنية سردية من شأنها أن تخدّر القارئ المتعصب للدين والتاريخ، وتدخله في غيبوبة اللذة السردية، فيطمئن نفسه بين الحين والحين بمبرر السرد التخييلي أو التخيلي، الذي يرفع عنه قلم المحاسبة والتجريم، والتكفير في بعض الأحيان.
2. سرديات المشي
كثيرا ما التحم السرد الروائي بالواقع التاريخي في تشكيله للسير، سير الهروب والحروب والارتحالات العظيمة من الأوطان، التي صنعت لنا أكثر من تغريبه إنسانية وعربية، أشهرها «تغريبه بني هلال»، وقبلها علمتنا كتب الأديان السماوية وسجلات التاريخ البشري تغريبه «بني إسرائيل» سيرة هروبهم من مصر، وتيههم في صحراء سيناء عقابا من الله.
كل هذه التغريبات والملاحم لم يصنعها المكوث أو الاستقرار، إنما كان الارتحال والحركة والمشي مادة نسيجها ومحرك تشكلها تراثا وتاريخا ومخزونا أدبيا استثمرت فيه كثير من الأقلام الروائية خاصة، توغلت فيما وراء الأقوال والأفعال، استغلت حالات المكاشفة التي تأتي على لسان أبطالها (حقيقيين أو مختلقين)، وتربصت لمقولات الاعتراف التي لايبرزها إلى السطح إلا الانسياق البعيد وراء المسافات والأبعاد، لأن المشي
«طريق ملكي إلى مكاشفة النفس وسبر أغوارها، حتى أن كل اعتراف حميمي يصعب نطقه لسانيا، ينزلق هكذا مع حركة الأقدام، وتتفوه به لغة الجسد. ولهذا كان المشي وسيلة كتارسيسية لإفراغ ما في جعبة الروح أو العكس ملئها» (عدنان يوسف، الجسد المفكر).
إن مقولة الكتارسيسية أو التطهير بالمفهوم الأرسطي، قد لا ينطبق على كل سير المشي، فالتطهير يرتبط بالذنب، أو الخوف من الوقوع فيه، وكلما حضر الذنب حضر العقاب، فنقول عن تيه بني إسرائيل – الذي كان المادة التاريخية لرواية «أوراق شمعون المصري» - تطهيرا، لأنه عقاب تبع معصية، فكان مسيرهم وتيههم وشتاتهم عقابا ربانيا تطهيريا، فكانت الصحراء في قصتهم مكانا لترويض العقل، وهو أيضا طريق العصيان والتمرد على الخالق، ومن هنا جاء القصاص قاسيا من الخالق على المخلوق، فحكم عليه الإله بالتيه وأصبح المنفى أول شروط المعرفة. لكننا لا نستطيع أن نقول الكلام نفسه عن هجرة الأزواد -التي كانت المادة التاريخية لرواية «منَّا.. قيامة شتات الصحراء» - وشتاتهم وتيههم ماديا ومعنويا، لأنها جاءت هروبا من الموت جوعا وعطشا وبؤسا نتيجة القحط والجفاف الذي سجله عام 1973 من القرن الماضي. ولم يرد في النص أن هذا عقاب عن ذنب ما، لا تصريحا ولا تلميحا، عبورهم للصحراء كان اضطرارا منح النفس حريتها في البوح، فلسفة عكازها المشي والأمل في حياة بعيدة عن الموت وربما تحولت فيما بعد إلى طلب حياة أخرى وراء الحياة كما عبر عنها «إبراهيم الكوني»:
«ألا تعطي الصحراء الحرية بلا حدود، وفي نفس الوقت تضع العابر، تضع المريد، في حافة الخطر؟ أليست مملكة الصحراء، من خلال هذه الأضداد، رديفا صارما لأعجوبة اسمها الحياة؟ ألم نختر العبور طلبا لأرض الميعاد؟ ألم نتخلَّ نحن أهل العزلة عن الحياة طمعا في حياة أخرى وراء الحياة؟»
3. المشي والتدوين
تبدأ كلا الروايتين بإطار سردي يحيل على خطاب خارجي سرعان ما يتحول إلى داخل هو المتن نفسه، هذا الإطار هو خطاب المخطوطة، أحدهما سانحة منام، هكذا وصفه صاحب رواية «منا.. قيامة شتات الصحراء» : «الكتاب في أصله سانحة منام، زعم المؤلف أنه نسخها دون زيادة أو نقصان، حتى تلك التي تعتور أقلام النساخ؛ كالتصحيف والتحريف،..» (الصديق حاج أحمد، 2021ب :5، 6)، وهو مدخل بعنوان : «فراش رملي» يفتتحه الروائي بعبارة «هذا ما وجد حاشية، ذيل رسم تمليك باهت، شبه ملفوف، مرقّش بنقط خراج الذباب، من زمام سجلّ فقّارة (حاجة مينة) الأسطورة، بقصر زاوية الشيخ المغيلي، من أرض توات الجزائرية، لمالكه السيد البركة؛ السّي حمَّد ولد عمي الصديق، ما نصه...» (الصديق حاج أحمد، 2021ب :5)، وفي النص شبه ترخيص للخوض في أخبار الجفاف أو ما سماه بالموت المستشري في صحراء تيلمسي، وأدغاغ إفوغاس من شمال مالي، خلال جفاف 1393هـ، الموافق لـ 1973م.
أما في رواية «أوراق شمعون المصري»، فإن البطل شمعون هو كاتب المخطوطات، إرثه الذي سيخلفه لمن سيأتي بعده، ليعرف حقائق ما حدث، حيث يفتتح صفحة مخطوطاته الأخيرة بقوله، وقد صار شيخا يستشعر قرب أجله:
«وبعد، فهذا ختام ما كتبه (شمعون بن زخاري)، والملقب بشمعون المصري، عن أخبار بني إسرائيل في أرض سيناء، وما كان من أمرهم منذ عبور البحر وحتى وفاة نبي الله (موسى) بن عمران، وأعلم أني ما كتبت في هذا الرقاع إلا أحد أمرين؛ أمرا شهدته بعيني أو أمرا سمعته من رجل من الرجال الثقات،...» (الشاذلي، 2021 : 10).
ويعد توظيف المخطوطة في هذا النوع من الروايات
«بنية إطارية سردية مموهة مطبوعة، بالتوازي في الحاشية كمدخل لتحقيق شكل من أشكال الإيهام والمباعدة بين النص والمؤلف، من خلال الإيحاء أن النص هو مجرد وثيقة تراثية لا فضل للمؤلف في كتابتها ولمنحها المزيد من الموضوعية والاستقلالية» (ثامر فاضل، 2018، ص: 187).
لكن بطلي الروايتين يختلفان من حيث حضور التدوين في ترحالهما وسيرة مشيهما، وطبيعي أن خلفية كل شخصية وسياقها التاريخي مهمان في تعاملنا مع تجربة المشي الرحلي الخاص بها.
فـ «شمعون المصري» يصدر عن حضارة، ويهرب من حضارة، لإقامة حضارة أخرى موعودة، وهو مدجج بسلاح المعرفة الذي يملكه، وآلة الكتابة التي ورثها عن شعبه وعلمته إياها أمه المصرية؛
«...، تناولت صحيفة من صحائف البردي التي كانت تصنعها أمي، وقد اشتاقت نفسي للكتابة، جمعت بعضا من سخام الحطب وأذبته في الماء ووضعت عليه قطرات من الزيت ومزجته في قارورة، لأصنع منه حبرا أسودَ كما علمتني أمي، ثم شذبت قلما من البوص، غمست طرفه في قارورة الحبر، وكتبت باللغة المصرية على ورقة البردي، ...» (الشاذلي أسامة، 2021، ص: 135).
فنجده يمشي ويتأمل، ولا يكتفي بسرد ما عاشه وجربه، بل
«اصطحب أوراقه وأدواته وأقلامه طوال رحلته، ليدون سيرته بدءًا من خروجه من مصر طفلا صغيرا مع قومه بني إسرائيل، ثم ترحاله في البلاد بحثا عن الحق وأملا في الوصول إلى الأرض المقدسة، إلى أن توفي نبي الله موسى في التيه قبل دخول الأرض المقدسة» (شناوي شيماء، 2021).
أما «بادي بن غشمان» فلا ملمح في الرواية يدل على معرفته بالقراءة والكتابة، بل يظهر في الفصل الأول - الذي يروي مسيرة قومه من مالي إلى جنوب الجزائر – في صورة بدوي أمِّي لا يعرف غير صحرائه التي عاش فيها، وليس طموحه أكثر من مكان/ وطن يحميه من الموت جوعا وتغربا، وسرعان ما تحول هذا الطموح إلى حلم صارخ بالوطن، وطن اسمه دولة الأزواد، التي يجتمع فيها شتات القبائل الأزوادية المرتحلة من مالي نحو الجزائر وليبيا وموريتانيا، لكنها دولة مشروطة بكثير من الفروض الصعبة التي لا قبل له بها، بل أقحم وسطها، وصار طرفا فاعلا فيها.
4. المشي والذاكرة
لم يكن لدى بطلي الروايتين ترف الاختيار، اختيار المشي والترحل والابتعاد عن الموطن، لذلك لم يفلسفا المشي، ولم يركنا إليه تمرينا للجسد وحثا للفكر وتوغلا في الداخل الإنساني.
لم يمش «شمعون بن زخاري» و «بادي بن غسمان» (شمعون بن زخاري بطل رواية «أوراق شمعون المصري»، و«بادي بن غسمان» بطل رواية «منَّا.. قيامة شتات الصحراء». غسمان أصلها عثمان، لكن التوارق يبدلون العين غينا والثاء سينا) ليتذكرا فقط، بل سردا ما وقع أثناء السير وفي محطات ما بين سير وسير، تلك المساحات الزمنية التي توقفت فيها حركة المشي، واستيقظت الذاكرة، «ليس أشد على المرء، من مغادرة مضارب طفولته قهرا، يقول بادي..» (الصديق حاج أحمد،2021: 27)، ارتبط المسير لدى بطل رواية «منا» بالقهر، الارتحال والمغادرة قهرا، فعل غير طوعي، أمسى -مجازًا- تجربة فلسفية كما يسميها «فريدريك غرو» في قوله: «لكل إطار للمشي تجربته الفلسفية» (عدنان يوسف)، ولأننا «عندما نمشي تأتينا الصور والذكريات والأفكار مهرولة، آخذة بعدا قهريا» (عدنان يوسف). وقد يكون مجرد ذكرى طفولية يتكئ عليها كل ما سيسرد لاحقا، مختصرة في عبارة خاطفة: «لم أكن قد تجاوزت السابعة من عمري يوم أن حدث العبور...» (الشاذلي أسامة، 2021: 11) ليستمر توثيق هذا المسير، في الحفاظ على التفاصيل، والتوقف عند كل ما يؤثث بؤس التجربة وجماليتها، لاسيما إذا ارتبط بمشاعر الحب العذري وبراءته وبعض سذاجاته
«التحمنا بقافلة خالي بتُّو، عند مخارج حاسي إنوكَرْ، قاصدين (تَنْقَارَة) شمالا، التهمنا وقتا غير يسير، في ذلك الخروج الجنائزي من بادية خيامنا، يكون الوقت لحظتها الضحى الأول، شوقي لمرافقة ابنة خالي الساحرة، طمس علي بادئا، تحسس أنين جدتي لُولة، مع منكر تلك العنزة، وأصوات حوافر الأحمرة وأظلاف الإبل؛ لكني سرعان ما عدت إلى رشدي، ...» (الصديق حاج أحمد، 2021: 29، 30).
ليواصل في السياق الممتزج نفسه
«رغم القيامة وأهوالها، ومشاق الطريق؛ غير أني كنت سعيدا جدا، بمرافقة هُكّتَا في نفس الرحلة، نفتعل السبل ونخلق الذرائع المقنِعة والمفضوحة أحيانا، لجلب الحطب من الوديان، ساعة استراحة الطريق، فنحظى بلحظات مفعمة من الوجدان» (الصديق حاج أحمد، 2021: 30، 31).
ولم تخل تجربة شمعون المصري من تجاذبات المشاعر نفسها؛ هول الرحلات وبؤسها تارة،
« آه يا «برية سين»! كم طوينا في ثراك من ذكريات من الأمل والألم؟ سألت أمي ذات يوم لماذا يسمونها « برية سين » فأجابتني بأنها أرض الإله « سين » إله القمر، وغنما سميت بهذا الاسم تيمنا بهذا الإله الذي عبده بدو الصحراء لينير لهم الطريق في تلك الصحراء المخيفة، ...» (الشاذلي أسامة،2021 : 20)
وحلاوتها إذا كانت برفقة من يحب «لمحتني (أروى) فطوت خمار هودجها، وألقت إليّ بابتسامة عذبة وأنا أختلس النظر إليها، ظللنا نقايض النظر بالابتسامات حتى ارتفع صوت حادي القافلة، وهو يأمرنا بالتوقف ومحاذاة جانب الطريق» (الشاذلي أسامة،2021 : 313).
5. التيه وسؤال الهوية
هذان البطلان –على خلاف وصية نيتشه- عاشا الحقيقة وحكياها، لكنهما تاها في أسئلتها الملغزة، فكان لغز السؤال أشد تعقيدا من مسالك الصحراء ومتاهاتها. لقد عاش كل منهما تيه جماعته، وتيهه الخاص به، كلاهما فتح عينيه على ارتحال تاريخي كبير، ابتدأ به مسيره نحو حلم واحد وأمل واحد، وهو الوطن.
اجتمع في رحلة «شمعون المصري» تيهان؛ تيه جماعي عاشه «بنو إسرائيل» ابتدأ بخروجهم من مصر، ولم تسجل له نهاية في آخر الرواية التي ختمت بوفاة نبي الله موسى عليه السلام، ونهاية تدوين هذه التغريبة أيضا،
«وفكرة التيه هنا تمثل المجتمع الذي يحمل حلما وجاءه قائد ليحققه، ليواجه كل ما يقابله القادة في كل مرحلة تاريخية من مقاومة التغيير ومحاولات تثبيط العزم والتمسك بالوضع القائم والقديم ودائرة المصالح، وهي القصة المتكررة في كل المجتمعات، وأن سلوك بني إسرائيل هو سلوك بشري طبيعي، وإذا ما وضعنا الآن في نفس الظروف سنسلك ذات المسلك» (شناوي شيماء، 2021).
وتيه ثانٍ، هو تيه «شمعون بن زخاري»، الشخصية المتأملة كثيرة الأسئلة؛ أسئلة شاكة وشائكة، سرعان ما راحت تتمدد شيئا فشيئا في عقل صاحبها، تخز آلة انتباهه، بل تؤلب عليه قناعاته وثوابته التي نشأ عليها، وهذه الشخصية
«تمثل الأغلبية الذين لديهم إيمان بالحلم مع بعض الشكوك، وثقة في قائدهم لكنهم يحتاجون مزيدا من الفهم، وهو ما يفسر تعلق القراء بالشخصية التي تطرح ما يدور في أذهانهم من أسئلة، وهو ما يبرر حضور المنقذ الذي يعبر بهم من مرحلة التيه إلى منازل اليقين» (شناوي شيماء، 2021).
وحضور شخصيتي «الشيخ عابر» و«الشيخ نابت» جاء بفعل العادة، فلا بد لكل رحلة من مرافق حكيم، شيخ القبيلة وكبيرها، جراب حكمة تخرج منه كلما امتدت إليه يد السؤال:
«- أتدري يا شيخ (عابر)، في كل مرة أتحدث فيها إليك، أجد عندك إجابات لأسئلة تدور في رأسي تؤرق حياتي وأخشى البوح بها أمام أحد،...» (الشاذلي أسامة، 2021 : 216). ولا معنى لفلسفة لا يثيرها سؤال قلق ولو كان ساذجا؛ سذاجة تشي بفتوة وقلة خبرة، ترجمها «شمعون» في تيهه الثاني منفردا بعيدا عن أهله بني إسرائيل، مندمجا فيما بعد في قبيلة البدو العرب من بني إسماعيل، ليبدأ سرد حديث تاريخي آخر يزامن بين وجود بني إسحاق وبني إسماعيل، وأثناء هذه المصاحبة تنشأ حواريات كثيرة تشي بهذا القلق:
« -فسألته في مرارة :
-ولهذا كتب عليهم الرب التيه؟ !
لم يجب، ولعله خشي أن يحزنني، فقلت معارضا:
-أتدري ما التيه يا شيخ (نابت)؟! إنه الحياة على أمل كاذب، أن تشعر بأنك كلما اقتربت ابتعدت، وكلما دنوت بنوت، وأن يحدوك الأمل ثم تتجرع خيبته مرات ومرات، ذلك هو التيه وتلك هي مرارته يا شيخ (نابت)» (الشاذلي أسامة، 2021: 210).
والحيرة والاضطراب:
«تعجبت من سعة علمه، وسلامة منطقه، فتابع وقد بان على وجهه الأسف :
-لولا قومك يا (شمعون) لتحقق وعد الرب كاملا بأبينا (إبرام) ! أرادوا اللبن والعسل وغرتهم أطماع الدنيا والرغبة في الملك ونسوا العهد ! ووالله لو وجد الرب في قلوبهم خيرا لفتحها لهم كي يسكنوها، ولكن حق عليهم التيه حتى تتطهر قلوبهم!
شعرت بألم من كلماته بدا أثره على وجهي، فربت على كتفي في عطف كي يزيل ذلك الأثر وقال:
-ما كان لـ(موسى) أن ينقض شريعة أبيه (إبرام) يا (شمعون) ! وما أظن إن دعوة (موسى) دعوة إلى ملك أو حكم وإنما دعوة لإقامة الدين الحنيف!
تعجبت من كلمته فرددتها مرة أخرى:
-الدين الحنيف؟
قال:
-نعم، ثم لمعت عيناه في عتمة الليل وهو يقول في وجد:
أن تعبد الله الواحد الخالق السرمدي...
شعرت برعدة من كلمته، وقلت متعجبا:
-أهذه شريعتكم؟
-بل شريعة أبينا (إبراهيم) وهذا ما أتى به أيضا أبونا آدم وشيث وإدريس من قبله!» (الشاذلي أسامة، 2021: 202، 203).
وحواريات تلهمها المسافات وبدائع المخلوقات التي يصادفها في مسيره:
«قلت:
-ما أبدع هذا الجمال ! كيف تتلون الجبال بهذا اللون الأرجواني البديع!
قال نابت:
-هذا خلق الرحمن يا غلام! رأيت في حياتي جبالا سوداء، وأخرى حمراء وثالثة بيضاء كالثلج، وكلها من خلق الله.
ثم قال:
-أتدري ما معنى «إدوم»؟ إنها تعني الأرض الحمراء!» (الشاذلي أسامة، 2021: 220).
وإذا كان المشي «يحرض أعمق مشاعرنا على إظهار نفسها، ويجبر عقولنا على البحث، كما يدفعنا إلى الغرق في كميات الجمال الموجودة حولنا حتى نصل إلى الثمالة وسط كل المناظر والمشاهد التي تحيط بنا» (فلسفة المشي، 2019). فإنه يدفعنا كذلك إلى التأمل والتفجع على ما يحوطنا من مآسٍ وآلام، كما جاء على لسان «بادي بن غسمان» بطل رواية «منا»:
« علامات شقاء بؤس الجفاف ولواحقه، مرتسمة وبجلاء، على تضاريس الوجوه، أطفالا، رجالا، نساء، شيوخا وعجائز، حتى الإبل الواصلة مع الحمير، عكست هي الأخرى، فداحة ما وقع. تجلى ذلك في ضمور سنامها، الذي كثيرا ما علق البارعون في كواليس الدعاية التيلمسوكيدالية ومنابرها الفاماميستية؛ أن وطنهم الأزوادي، ظل يتأرجح على شحمتها، طوال مسيرة حياتهم/ من بداية ثورة كيدال 1963 إلى يوم الناس هذا .. » (الصديق حاج أحمد، 2021: 47).
لقد قلّت في هذه الرواية حواراتها الفلسفية ولحظاتها المتأملة، وطغى عليها السرد الواصف والمؤرخ كثيرا، فاجتمع فيها أدب الجوائح وأدب الصحراء وأدب الأسر والسجون أيضا، لكنها لم تكفَّ عن كونها تغريبة للشتات.
خاتمة
في انسجام ظاهر وتآلف لا بد منه، نجد أن موضوعتي المشي والتيه محوران يلتف حولهما نسيج هاتين السرديتين الصحراويتين، بل التغريبتين التاريخيتين، بكل قيمهما وأبعاد تأليفهما.
لكننا لا نكاد نجد نقطة نهاية لسيرة التيه فيهما ومسافاته، لا حدود للوطن المنشود ولا شطآن يستقر عليها هذا الهدير الزاحف في الفضاءات.
لقد خرج بطل رواية «أوراق شمعون المصري» من تيهه الأول الذي يثقله ويثقل جيلا كاملا معه، ووجد في قرب معلمه ودليله (الشيخ عابر) منفذا منه: «وفي تلك الليلة، أدركت أن الشيخ (عابر) قد عبر بي من منازل التيه التي مررت بها في الأشهر السابقة إلى منزلة من اليقين ما كنت لأصل إليها دونه» (الشاذلي أسامة، 2021: 300). لقد كان هذا العبور خطوة في محاولة تبصر أمور بني إسرائيل، وإنقاذ الجيل الموعود بالأرض المقدسة من غضب آخر وتيه آخر. لكنه ظل إلى آخر الرواية ينتظر أن يحل هذا اليوم، لذا جاءت نهايتها مفتوحة، بل مجهولة في آخر أوراقه:
«وأشهد الرب (إيل) أني ما بغيت بهذا الكتاب مجدا ولا شرفا، وإنما إظهار شهادتي على جيل من شعب بني إسرائيل، اصطفاه الله وأنجاه بمعجزة من عدوه، ثم غضب عليه وأهلكه في تلك البرية القفراء بعد أن أذاقه شقاء الارتحال ومرارة التيه.. » (الشاذلي أسامة، 2021: 622)
- أما « بادي بن غسمان » بطل رواية « منَّا. قيامة شتات الصحراء»، فعمر تيهه لم ينقض، وظل حلم العيش بوطن مستقل معلقا «فيما أنا أرجو الفوز بهُكَتا، وقد أنخرط مع إلِّي في أفكاره الانفصالية، وجعلت ذلك مطية، لأن أعيش مع هُكتا بوطننا المستقل بالأزواد، ...» (الصديق حاج أحمد، 2021: 111)، بل لم يكن أكثر من حلم :
«بادي غارق في نومه تحت خيمة خاله، لا يعبأ بشئ من أمور الدنيا حوله، ...، صحيح أنه رأى في منامه، علم أزواده يرفرف عاليا خفاقا في السماء على جبال كيدال، وبوادي تيلمسي ووديانها، وصحراء مَنَكَا كما توقع؛ لكنه في الوقت ذاته، شاهد كل ذلك محمولا على جمل يتمايل به في غمرة ريح قوية تعصف بالمكان...، فاماميستي تارقي من ثوار 1963 بكيدال، عرف بقراءة الكف والمنام، سردت له تفاصيل رؤيا بادي في منامه، بَكَمَ عن الكلام مدة يعبر باطنها.. نطق بالقول أخيرا؛ تفسيرها يا سادتي يا كرام: وطن أزوادي، لا يزال يتأرجح على سنام إبله،... » (الصديق حاج أحمد، 2021 : 373، 374)
حلم افتتحت به الرواية، وبه ختمت.
إبراهيم، عبد الله. 2011. التخيل التاريخي ، السرد والإمبراطورية والتجربة الاستعمارية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 2011.
تاج السر، أمير. 2021. كتابة التاريخ روائيا، موقع الجزيرة نت، https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2012/5/26
ثامر، فاضل. 2018. التأريخي والسردي في الرواية العربية، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر، دار الروافد الثقافية – ناشرون، لبنان، ط1، 2018.
حسين، طه. 2014. أديب، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة ، القاهرة، مصر، د ط، 2014 ،ص : 30.
السمان، سها. 2021. رواية « أوراق شمعون المصري » تناقش التيه المجتمعي وفقدان البوصلة، جريدة المصري اليوم، العدد 6336، الثلاثاء 19/10/2021، 18 :35
الشاذلي، أسامة عبد الرؤوف. 2021. أوراق شمعون المصري، الرواق للنشر والتوزيع، مصر، ط 13، 2021.
شناوي، شيماء. 2021. أسامة الشاذلي : أردت في « أوراق شمعون المصري » القول بأن أي أرض تخلو من الشرور مقدسة، صحيفة الشروق نيوز، الجمعة 24/09/2021.
الصديق، حاج أحمد. 2021. منا قيامة شتات الصحراء، دار الدواية للنشر والتوزيع والطبع، الجزائر،ط1، 2021.
عدنان، يوسف. الجسد المفكر.. حكمة المشي وتفلسف الأقدام، elmawja.net.
الغامدي، صالح معيض. 2013. كتابة الذات، دراسات في السيرة الذاتية، المركز الثقافي العربي، المغرب، لبنان، ط1، 2013.
لوجون، فيليب. 206. ميثاق السيرة الذاتية، عن كتاب : ذخيرة الذات، نصوص السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم، محمود عبد الغني، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2016.
موقع بوديوم، Media https://podium-media.dz/2021/08/28
النقطة الزرقاء blue dot، 05 نوفمبر 2019.
يقطين، سعيد. 2012. قضايا الرواية العربية الجديدة : الوجود والحدود، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان، دار الأمان، المغرب، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2012.