مقدمة
تعدّ الفاصلة القرآنية من أبرز الخصائص التي انفرد بها القرآن الكريم عن غيره من الكلام نثرا كان أو شعراً، وطريقاً فريداً من طرق التّعبير الواضح المعالم في كتاب الله؛ الذي بلغ في ترابطه وتعانق آياته مبلغا لا يدانيه فيه كلام.
ولا تُذكر الفاصلة القرآنية - التي عبارة عن الكلمة المفردة في أواخر الكلام - إلاّ «أخذت الأسماع، وتتشوف إليها النّفوس، ويرى وجه رونقها باديا غامرا سائر ما تقرن به، كالدرّة التي ترى في سلك من خرز، وكالياقوتة في واسطة العقد»1، وذلك من خلال ثلاث زوايا:
-
أوّلا: اختيار الفواصل أو الألفاظ المفردة، ومثلها مثل اللآلئ المبددة، تُتخيّر وتنتقى قبل النّظم.
-
ثانيا: نظم كلّ فاصلة مع الآية التي وردت فيها، وحكم ذلك حكم العقد المنظوم في اقتران كلّ لؤلؤة منه بأختها المشاكلة لها.
-
ثالثا: الغرض المقصود من تلك الفاصلة على اختلاف أنواعها، ومثلها مثل الموضع الذي يوضع فيه العقد المنظوم، فتارة يجعل إكليلا على الرّأس، وتارة يجعل قلادة في العنق، وتارة يجعل شنفا في الأذن، ولكلّ موضع من هذه المواضع هيئة من الحسن تخصّه.
فهذه ثلاثة مواضع نبّهت على الأوّل منها والثّالث، ووقفت عند كلّ واحدة منهما بالشّرح والبيان والبحث والتّنقيب، أمّا الثّاني منها فسيكون في مقال آخر مستقل - إن شاء الله تعالى -.
تعريف الفاصلة
-
لغة: الفصل الحاجز بين الشّيئين، فصل بينهما»2، «والفصل كلّ ملتقى عظمين من الجسد»3، تدلّ كلمة (فصل) على تمييز الشّيء من الشّيء وإبانته منه، ومنه: فصلت المرأة رضيعها فصلاً يعني فطمته4.
-
اصطلاحا: قال أبو عمرو الدّاني الفاصلة هي: «كلمة آخر الجملة»5؛ والكلام نفسه نجده عند بدر الدّين الزّركشي الفاصلة: «هي كلمة آخر الآية، كقافية الشّعر وقرينة السّجع»6، وقال الرّاغب الأصفهاني: «والفَوَاصِلُ: أواخر الآي»7.
وهكذا يمكن أن «يقصد بالفاصلة القرآنية ذلك اللّفظ الذي ختمت به الآية، فكما سموا ما ختم به بيت الشّعر قافية، أطلقوا على ما ختمت به الآية الكريمة فاصلة»8.
والذي دعاهم – والله أعلم - إلى تسمية كلّ ما في القرآن فواصل، رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة؛ كما أنّ العادة جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة منها: الشّعر، ومنها السّجع، ومنها الرّسائل، ومنها المنثور الذي يدور بين النّاس، فأتى القرآن بطريقة فريدة، لها منزلة في الحسن تفوق كلّ طريقة.
وأصبح الدّارس أو النّاظر في القرآن الكريم9 والواقف على مظاهر بلاغته يتناول هذا المصطلح ويُبرز بعض اللّطائف البلاغة فيه، وذلك في أغلب البحوث التي تطرّقت إلى بيان إعجاز القرآن الكريم.
وظيفة الفاصلة القرآنية
لو كرّر الباحث النّظر في القرآن بتمعّن وتدبّر لازداد يقينا بإعجازه في ترتيبه، ومتانة أسلوبه، وقوّة اتّصاله، ودقيق سبكه، وإحكام سرده، واتّساق مبانيه، واتّحاد معانيه، وانسجام دلالاته؛ آخذا بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله؛ كأنّه سبيكة واحدة، ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك ولا تخاذل؛ كأنّه سِمط وحيد، وعقد فريد، يأخذ بالقلوب والأبصار.
الوظيفة النّصية (اتّساق الفواصل وانسجامها)
هذا هو البعد الأوّل من أبعاد الفاصلة في القرآن الكريم، وهو البعد الاتّساقي الذي يقوم بوظيفة نصّية فضلاً عن دوره ووظيفته الجمالية والتأثيرية، حيث تندمج في نسج السّورة المتشابك، وتعمل على أن تكون أداة اتساق تمسك حدود الآية عبر تحقيقها للاستمرارية؛ فلها مزيّة هامّة في ارتباطها بما قبلها؛ فلو حذفت لاختلّ المعنى، وكذلك علاقتها في السيّاق بما بعدها؛ بل وبمقطعها الذي جاءت فيه، لهذا نجد لتناسب الفواصل أثره العميق والمعتبر في اعتدال نسق الكلام وحسن موقعه من النّفس تأثيرًا عظيمًا، فتسهم في تحقيق الاتساق النّصي، كما يسهم الوزن والقافية في تحقيق صفة الاتّساق للنّص الشعري.
ومن الطبيعي أن تكون فواصل أيّ سورة متناسبة مع محورها الرئيس من حيث تعزيزه أو الدّلالة عليه، وما تحدثه من ربط وإحكام لما سبقها وما يأتي من الكلام، وما تضفيه من معان مقصودة سواء على المستوى القريب أم البعيد؛ وهذه المناسبة بين فواصل الآيات أمر لا يطيقه بشر بحال من الأحوال مهما أوتي من البلاغة والفصاحة، ناهيك عن التّلاؤم الحادث بينها وبين الألفاظ في الآيات، والتّناسب بينها وبين الفواصل المتجانسة معها، مع شرف المقاصد والمعاني المطلوبة، وسواء أكانت تعرض للتّشريع أم للقصّة أم للأمر والنّهي أم للوصف أم للتّرغيب والتّرهيب.
يروى أنّ أعرابيّا سمع قارئا يقرأ قوله عز وجلّ: ﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)﴾ [البقرة]، قائلا: (فاعلموا أنّ الله غفور رحيم)، فقال الأعرابيّ ولم يكن يقرأ القرآن، إن كان هذا كلام الله فلا، الحكيم لا يذكر الغفران عند الزّلل؛ لأنّه إغراء عليه10، فختام الآية بالعزّة والحكمة يناسب ذكر الزّلل بعد وضوح الحقّ وتبيينه.
ويشهد لذلك ما حكي عن الأصمعي أنّه قال: كنت أقرأ ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ قرأتُ: والله غفور رحيم [المائدة، 38] وبجنبي أعرابيّ؛ فقال: كلام من هذا ؟ فقلت كلام الله؛ قال: أعد؛ فأعدت، فقال: ليس هـذا كـلام الله؛ فانتبهـت فقرأت: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فقال: أصبت، هذا كلام الله؛ فقلت: أتقرأ القرآن ؟ قال: لا، فقلت: من أين علمت ؟ فقال: يا هـذا؛ عَزَّ فحكم، فقطع؛ ولو غفر فرحم لما قطع11.
لا جرم كان القرآن في نظمه وتركيبه على الأصل، نمطا واحدا في القوّة والإبداع، ولا يقع منه على لفظ واحد يخلّ بطريقته، ما دامت تنعطف على جوانب هذا الكلام الإلهي وما دام في موضعه من السيّاق، فإذا حرّفت ألفاظه من مواضعها أو أخرجتها من أماكنها، وأزلتها عن روابطها حصلت معك ألفاظ كغيرها بما يدور في الألسنة ويجري في الاستعمال، ورأيتها – وهي في الحالين لغة واحدة - كأنّما خرجت من لغة إلى لغة، لبعد ما كانت فيه ممّا صارت إليه12.
وذكر أنّ أعرابيا سمع رجلا يقرأ قوله تعالى: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)﴾ [القمر] فقرأها القارئ بفتح الكاف (كَفر)، فقال الأعرابي: لا يكون، فلمّا قرأها القارئ بضمّ الكاف وكسر الفاء قال الأعرابي يكون.
كلّ هذه الآثار التي سبق ذكرها تدلّ على تناسب الفواصل مع الآيات التي وردت فيها، وإلاّ فكيف لهؤلاء أن يتمكّنوا من بيان خطأ أولئك القرّاء من غير أن يكونوا هم حفاظا لكتاب الله تعالى.
وهذا مثال آخر من القرآن الكريم13 يبيّن تناسب الفواصل مع باقي الآية واتّساقها مع باقي الكلام:
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)﴾ [الحج].
إنّما فصل الأولى بـ ﴿لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ لأنّ ذلك في موضع الرّحمة لخلقه بإنزال الغيث وإخراج النّبات من الأرض، ولأنّه خبير بنفعهم.
وفصل الثّانية بـ ﴿الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ لأنّه قال: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ أي لا لحاجة؛ بل هو غنيّ عنهما جواد بهما، وليس غنى نافعا غناه إلاّ إذا جاد به، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليه، واستحق عليه الحمد، فذكر الحمد على أنّه الغنيّ النّافع بغناه خلقه.
وفصل الثّالثة بـ ﴿رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾، لأنّه لمّا عدّد للنّاس ما أنعم به عليهم من تسخير ما في الأرض لهم، وإجراء الفلك في البحر لهم، وتسييرهم في ذلك الهول العظيم، وجعله السّماء فوقهم، وإمساكه إيّاها عن الوقوع، حسن ختامه بالرّأفة والرّحمة.
الوظيفة البلاغية
إنّ قيمة الفاصلة في بلاغة النّظم القرآني وحلاوة إيقاعه حقيقة لا تقبل المراء، وما كان للقرآن أن يحافظ عليها ويختارها بعناية فيأتي بها متمكّنة في موضعها مستقرّة في نسقها لو لم يكن لها شأن كبير في بلاغته وتحقيق أهدافه؛ حيث تجمع حسن النّظم، مع عذوبة اللّفظ، وكثرة الفائدة، وحسن الدّلالة، فتأتي كالعاقدة للمعاني والبصمة للبنان، «وإنّما حسن في الفواصل .. لأنّه يكتنف الكلام من البيان ما يدلّ على المراد في تمييز الفواصل والمقاطع، لما فيه من البلاغة وحسن العبارة»14.
هكذا تتجلّى روعة البلاغة في القرآن العظيم في فواصل الآيات لاسيما سور المفصل يقول ابن جني: «ألا ترى أنّ العناية في الشّعر إنّما هي بالقوافي؛ لأنّها المقاطع، وفي السّجع كمثل ذلك، نعم وآخر السّجعة والقافية أشرف عندهم من أوّلها والعناية بها أمسّ، والحشد عليها أوفى وأهمّ، وكذلك كلّما تطرّق الحرف في القافية ازداد عناية به، ومحافظة على حكمه»15.
ويقول الزركشي: «إنّ إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل حيث تطّرد متأكّد جدّا، ومؤثر في اعتدال نسق الكلام، وحسن موقعه من النّفس تأثيرا عظيما»16؛ ولذلك تأتي الفاصلة متمكّنة في موقعها، مستقرّة في مكانها، يتعلق معناها بمعنى الآية حيث لو غيّرت لختلّ المعنى وفسد النّظم؛ لأنّها لم تكن مجرد حلية لفظية، بل جزء أصيل من البناء المحكم للعبارة - إنّ لم تكن هي حجر الأساس في ذلك البناء -.
بوب ابن رشيق القيرواني17 بابا بأكمله تناول فيه قضية المقاطع والمطالع، وبين فيه الوظيفة الجمالية التي يظفر بها، روى الجاحظ أنّ شبيب بن شيبة كان يقول: «النّاس موكّلون بتفضيل جودة الابتداء وبمدح صاحبه، وأنا موكّل بتفضيل جودة المقطع وبمدح صاحبه»18، وحظّ جودة القافية – وإن كان كلمة واحدة - أرفع من حظّ سائر البيت أو القصيدة، وحكاية الجاحظ هذه تدلّ على أنّ المقطع آخر البيت أو القصيدة، وهو بالبيت أليق لذكر القافية.
وحكى أيضا عن صديق له أنّه قال للعتابيّ: ما البلاغة ؟ فقال: كلّ كلام أفهمك صاحبُه حاجتَه من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ، قال: قلت: قد عرفت الإعادة والحبسة، وما الاستعانة ؟ قال: أما تراه إذا تحدّث قال عند مقاطع كلامه: يا هناه اسمع مني، واسمع إليّ، وافهم، وألست تفهم ؟ هذا كلّه عيّ وفساد19، وهذا القول من العتابيّ يدلّ على أنّ المقاطع عبارة عن أواخر الفصول، ومثله ما حكاه الجاحظ عن المأمون أنّه قال لسعيد بن سلم: «والله إنّك لتصغي لحديثي، وتقف عند مقاطع كلامي»20.
وقيل لبعض الحذّاق بصناعة الشّعر: «لقد طار اسمك واشتهر، فقال: لأنّي أقللت الحزّ، وطبقت المفصل، وأصبت مقاتل الكلام، وقرطست نكت الأغراض بحسن الفواتح والخواتم ولطف الخروج إلى المدح والهجاء»21 وقد صدق؛ لأنّ حسن الافتتاح داعية الانشراح ومطيّة النّجاح، ولطافة الخروج إلى المديح سبب ارتياح الممدوح، وخاتمة الكلام أبقى في السّمع وألصق بالنّفس؛ لقرب العهد بها؛ فإن حسنتْ حسن وإن قبحتْ قبح، والأعمال بخواتمها كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
إنّ الانتهاء هو قاعدة القصيدة، وآخر ما يبقى منها في الأسماع، وسبيله أن يكون محكما: لا يمكن الزّيادة عليه ولا يأتي بعده أحسن منه، وإذا كان أوّل الشّعر مفتاحا له وجب أن يكون الآخر قفلا عليه، فهذا الكلام فيما يخصّ عمل الشّعراء في شعرهم، وهو كلام البشر فما بالك بكلام ربّ البشر.
ودراسة كهذه تحتاج إلى طول معالجة بالفكر والتّأمل وإلى نظر ورويّة، لتبيّن في الأخير كيف التحمت الأطراف وتماسكت الأصول، وكيف التفت وترابطت وتآلفت فأمسك آخرها بأوّلها، وعقدت أطرافها على أصولها.
الوظيفة التّداولية (الفهم / والتّأثير)
إنّ معرفتنا بهذا المنهج يعيننا على فهم القرآن والوقوف على معانيه، ويُبعدنا عن الوقوع في الخطأ في فهم المراد من الآية، فالسورة الواحدة مهما تعدّدت قضاياها فهي كلام واحد يتعلّق أوّله بآخره وآخره بأوّله، ويترامى بجملته إلى غرض واحد، كما تتعلّق الجمل بعضها ببعض في القضيّة الواحدة، ولأنّه لا غنى لمتفهم نظم السّورة عن استيفاء النّظر في جميعها، كما لا غنى عن ذلك في أجزاء الآيات، وفي هذا يقول الرماني: «وفواصل القرآن كلّها بلاغة وحكمة لأنّها طريق إلى إفهام المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة يدلّ بها عليها»22.
وقال أيضا: «الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع، توجب حسن إفهام المعاني»23، وهو الكلام نفسه الذي نجده عند أبي بكر الباقلاني: «الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع، يقع بها إفهام المعاني»24.
وقوله: (توجب حسن إفهام المعاني)، يكشف منهجيةً في التّحليل تحفل بالعلاقة ما بين التّحسين الصوتي والاستقبال النّفسي للمعنى الذي يحمله هذا التّحسين، فالمعاني ضروب ولكلّ آلته التي تنفُذه إلى قلب السّامع، ولولا ذلك ما تكاثرت عناصر الاتّصال؛ لأنّ تنوع العناصر البيانية من تنوع المعاني المبين عنها.
كما أنّنا نلمس علاقة وطيدة بين هذا البعد وبين ما عرّفوا به البلاغة حين قالوا: «إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللّفظ»25، وعلى المتكلم أن يتخيّر في سعيه لإيصال معانيه إلى قلب متلقيه الوسيلة التبليغيّة أو البيانية الأخصّ بالمعنى المراد الإبانة عنه؛ و«حسن الإفهام إنّما يكون بحسن الإبانة، وحسن الإبانة يعني توخي أفضل الوسائل وأوضحها وأكثرها استيعابا لأحوال المعاني، وأهواء النّفوس، وإذا كان البناء في تلاؤم الفواصل موجبا حسن الإفهام كان ذلك غير راجع إلاّ إلى ما تحفل به أجراس الكلام ... بل ومن صور عقلية كما أبان أهل العلم»26.
وفي هذا الغرض نفسه الذي مضى ذكره يقول الفخر الرّازي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)﴾ [القمر] «جَعَلْنَاهُ بِحَيْثُ يَعْلَقُ بِالْقُلُوبِ وَيُسْتَلَذُّ سَمَاعُهُ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ يَتَفَهَّمُهُ وَلَا يَسْأَمُ مِنْ سَمْعِهِ وَفَهْمِهِ وَلَا يَقُولُ قَدْ عَلِمْتُ فَلَا أَسْمَعُهُ بَلْ كُلَّ سَاعَةٍ يَزْدَادُ مِنْهُ لَذَّةً وَعِلْمًا»27.
ذكر القاضي عياض في كتابه "الشفاء" أنّ أعرابيا سمع رجلا يقرأ هذه الآية ﴿فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا (80)﴾ [يوسف] «فقال: أشهد أنّ مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام»28، أيُّ معنى أعجب من أن تتجاذبك معاني الوضع في ألفاظ القرآن فترى اللّفظ قادرا في موضعه لأنّه الأليق في النّظم، ثم لأنّه مع ذلك الأوسع في المعنى، ومع ذلك الأقوى في الدّلالة، ومع ذلك الأحكم في الإبانة، ومع ذلك الأبدع في وجوه البلاغة، ومع ذلك الأكثر مناسبة لمفردات الآية ممّا يتقدّمه أو يترادف عليه حتى خرج بذلك كلّه في تركيب قصر معارضته أن تنتهي إليه بعينه29.
روي أنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يملي على زيد بن ثابت قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ﴾ [المؤمنون12/13/14] وهنا قال أحد الصحابة فتبارك الله فابتسم النبي عليه الصلاة والسلام ثم قال بها ختمت، وختام الآية ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾30، لأنّ للفاصلة القرآنية تأثيرا يبلغ مداه في انعطاف نفس قارئه وسامعه نحوه، وإصغاء الأذن إليه، حيث يسهم بصورة فعّالة على حفظ الكلام واختزانه في الذّاكرة لسهولة ترداده وتذّكره، ولذلك كان حفظ الشّعر أيسر من حفظ النّثر وحفظ النّثر المسجوع أيسر من حفظ النّثر المرسل.
الخاتمة
تمثل لسانيات النّص نقلة نوعية في مجال الدّراسات اللّغوية، حيث تحوّل معها اهتمام اللّغويين من الجملة - التي كانت موضوع الأبحاث اللّغوية منذ أقدم العصور - إلى النّص، وحصل الاقتناع بأنّه الوحدة الأساسية التي يتحقق من خلالها التّواصل اللّغوي.
تجاوز الدّرس القديم لحدود الجملة إلى تحليل النّص، بمختلف أحجامه، والجمع بين الاعتبارات اللّفظية والتّركيبية والاعتبارات المعنويّة والمقاميّة في تقرير أشكال التعبير وإجراءاته.
تجاوز الحواجز التي أقيمت بين علم النّحو وعلم البلاغة؛ بل وعلم النّقد؛ إقرارا بأنّ كثيرا من مسائل التّفكير في اللّغة وقضايا التّعقيد لا تستقيم إلاّ بالاحتكام فيها إلى أحوال الكلام بمختلف مظاهره.
إنّ الكلمة الأخيرة تستقر عندها المقاصد، ويعول عليها غالبا في تنظيم ما تشعث في الكلام من أغراض وما تفرّق وسطها من سياقات.
التّنبه إلى أهمّية السّياق في التوصل إلى الفهم الصحيح للنص القرآني؛ ومراعاته لازم من لوازمه، وشرط للترابط الصحيح؛ لأنّ العرب أولته العناية واعتبرت الكلمة بسياقها الذي هي فيه.