مقدمة
خلق الله تعالى الإنسان وميزهُ عن باقي المخلوقات بالذكاء والمتمثل في إعمال العقل لتكوين المفاهيم واكتساب المعارف والاحتفاظ بها واسترجاعها عن الحاجة، وكذا القدرة على التكيُف والتفاعل والتواصل فضلا عن التخطيط والاستنتاج وحل المشكلات واتخاذ القرارات المناسبة...ومضى الإنسان بما له من عقل في اكتساب المهارات وبناء الحضارات وتطوير الفنون والابتكارات والاختراعات في شتى المجالات.
ونتيجةً لذلك ظهرت الحاجة إلى الحماية القانونية لهذه الابتكارات الفكرية التي حققت للإنسان مزيداً من الرفاهية، فجاءت حقوق الملكية الفكرية التي تربعت على عرش كل الحقوق نظراً لاتصالها بأسمى ما يملكه الإنسان ألا وهو العقل الخلاق. فسنت الدول قوانين حقوق التأليف وقوانين العلامات التجارية وقوانين براءات الاختراع ....
وبتطور التكنولوجيات خاصة تكنولوجيا الحاسب الآلي وارتباطها بتكنولوجيا المعلومات لم يعد الذكاء مرتبطاً بالإنسان فحسب، وإنما امتد إلى الآلة حين اخترع الإنسان الحاسوب ثم التطبيقات الذكية ثم الإنسان الآلي الذي ألحقه بالروبوت، كل ذلك أدى إلى ظهور مصطلح الذكاء الاصطناعي.
»تم اعتماد مصطلح الذكاء الاصطناعي لأول مرة سنة 1956 من طرف عالم الكمبيوتر الأمريكي جون مكارثي في بحث مقدم في مؤتمر عقد بكلية Dartmouth college، ومنذ ذلك الوقت تم اعتماد مصطلح الذكاء الاصطناعي في المجال الأكاديمي بشكل شبه رسمي« .( خالد ممدوح ابراهيم، 2022، 53).
ويعرَّفُ الذكاء الاصطناعي على أنّه تخصصاً في علم الحاسوب، يهدِف إلى تطوير آلات وأنظمة بإمكانِها أن تؤدي مهاما تتطلبُ ذكاءاً بشرياً (المنظمة العالمية للملكية الفكرية: «أسئلة متكررة: الذكاء الاصطناعي وسياسات الملكية الفكرية، 20/05/2024).
ولقد امتدت استخدامات الذكاء الاصطناعي لتشمل كافة ماحي الحياة حيثُ أثَّرت هاته التقنيات في استحداث السلع والخدمات وتوزيعها، وفي الاستخدامات العسكرية وفي مجال الطب كالتشخيص والعلاج وكذلك في مجالات الرسم والترجمة والتأليف، وِفقاً لما ذكرَته منظمة العفو الدولية فإنَّ الآلات سوف تتفوقٌ على الإنسان في كتابة المقالات بحلولِ عام 2031 (كوثر سعيد عدنان خالد 2023 ص 30).
فضلا عن ذلك ظهرت الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي سواءً بشكلٍ مستقل أي بدون تدخل بشري بحيث يغير الذكاء الاصطناعي سلوكه أثناء التشغيل لكي يستجيب إلى معلوماتٍ أو إحداثٍ غيرِ متوقعة، أو قد تنتج هذه الاختراعات بتدخل أو توجيه بشري، سواء عن طريق المشاركة في تحديد المشكلة أو إدخال البيانات أو غيرها لِيقوم الذكاء الاصطناعي بتحليل كمية كبيرة من هذه البيانات والاهتداء للحلول التقنية في فتره وجيزة.
وقد ازدادت في الآوِنة الأخيرة الاختراعات المستنبطة من الذكاء الاصطناعي بصفة مستقلة بوتيرة مضاعفة واستأثرت على جانبٍ كبيرٍ من مجالات البحث والتطوير، حيث اقرَّ العديد من المخترعينَ أنَّ اختراعاتهم تمت بواسطة الذكاء الاصطناعي لكنَّهُم أسروا ذلك أمام مكاتب براءات الاختراع، وقاموا بحمايتها إمَّا بموجب السرية مما يحول دون حصول العامة على فوائد البحث العلمي لهذه الابتكارات بصورة كاملة، أو أنّهُم نسبوا هذه الابتكارات لأنفُسِهم الأمرُ المُخالف لفلسفة الملكية الفكرية خاصةً ما تعلق منها بحق أُبوة الإنتاج الفكري الذي تعترف به للمخترع الحقيقي والذي يكونُ دائماً شخصاً طبيعياً، باعتبار هذا الحق من الحقوق الشخصية الملازمة للصفة الإنسانية وأنَّهُ لا يمكن التنازل عنه أو التصرف فيه .
ومنه يمكن القول أنَّ الذكاء الاصطناعي قد أحدث تحديات وأزمات كبيرة في المبادئ التي تقوم عليها قوانين الملكية الفكرية عامةً وفي الأسس والقواعد القانونية المنظِمة لبراءات الاختراع بوجهٍ خاص خاصةً ما تعلق بمعايير وجود الاختراع وأهلية الذكاء الاصطناعي للحصول على البراءة وشروط الحماية وملكية الحقوق .
ولكي تكون ثمة قواعد قانونية واضحة تبين ما إذا كانت الاختراعات المستنبطة بالذكاء الاصطناعي بصفة مستقلة أهلاً للحماية بموجب نظام براءات الاختراع لابد من الوقوف على تأثيرات الذكاء الاصطناعي على النظام القانوني لبراءات الاختراع، ولذلك تثور الإشكالية محل الدراسة والمتمثلة في : ما هي التحديات التي أحدثتها الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي في نظام براءات الاختراع ؟ وهل يمكن حماية هذه الاختراعات بموجب القواعد القانونية القائمة حاليا في القوانين المنظمة براءات الاختراع ؟
للإجابة على هذه الإشكالية تم الاعتماد على منهجا بحثيا تحليلياً وصفياً عبر استعراض المفاهيم المستجدة وتحليل النصوص القانونية المنظمة لحماية الاختراعات ومنح البراءات.
1. تأثر الجوانب الموضوعية للإبراء بالذكاء الاصطناعي
شهِدت البشرية في الآونة الأخيرة امتداد الذكاء الاصطناعي إلى مختلف ميادين الإبداع والابتكار المشمولة بالحماية بموجب قوانين الملكية الفكرية، وإن لم تُثر المصنفات والإبداعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي أية إشكالات قانونية في مجال الملكية الأدبية والفنية، كون أنَّ الحماية بموجب قوانين التأليف تتطلب شرط الأصالة، والمتمثل في إضفاء البصمة الشخصية للمؤلف على مصنفه حتى يحظى بالحماية ولان الآلة - الذكاء الاصطناعي– تفتقد لهذه البصمة الشخصية فإنَّهُ لا مجال للحديث عن الحماية القانونية للمصنفات الناتجة عن تقنيات الذكاء الاصطناعي .
غير أنَّ استنباط الذكاء الاصطناعي للاختراعات أحدثَ العديد من التأثيرات في الجوانب الموضوعية للإبراء خاصة ما تعلق منها بالمبادئ والأسس التي يقوم عليها النظام القانوني لبراءات الاختراع وفي شروط الموضوعية لوجود الاختراع كشرط النشاط الاختراعي.
1.1. قصور مبادئ وأسس الإبراء من استيعاب الاختراعات المستنبطة عن الذكاء الاصطناعي
بدايةً لابد من الإشارة إلى أن حقوق الملكية الفكرية هي حقوق مزدوجة التركيب هجينة التكوين تتضمن جانبين كلٌ منهما يكفل قدراً من المزايا والسلطات ويختلف تماماً عمّا يكلفه الجانب الآخر أحدهما مالي يكفل حماية المصالح المالية للمبتكر، والشق الثاني للحق الفكري هو الحق الأدبي الذي يهدف في نظام براءات الاختراع إلى الدفاع عن شخصية المخترع كمبتكر والحفاظ على الرباط المقدس بينه وبين ابتكاره وإنتاجه الفكري، ومن هنا كان طبيعياً أن يُعد هذا الحق من المقومات الشخصية ويكون داخلاً في إعداد الحقوق الملازمة لها يظهر قبل ظهور الحق المالي ثم يعاصره ثم يستقل عنه ليبقى بعد زوال الحق المالي، أي أنّه حقٌ ابدي غير قابل للتصرف فيه ولا التنازل عنه ولا يسقط بالتقادم .
ويعتبر الحقوق الأدبية في الملكية الفكرية أهم من الحقوق المالية وأنّ المساس به يتعدى في جسيم آثاره مجرد الإضرار بأحد الأفراد في ذمته المالية وإنما يترتب عنه المساس بشخصية المبتكر ويؤدي إلى التلوث الروحي للتراث الفكري.
وتتعاظم أهمية الحق الأدبي في الملكية الفكرية كونها تدمج هذه الحقوق ضمن الحقوق الأساسية للإنسان الذي له حرية التفكير والابتكار، وأنَّ الأصول الفكرية إنما وجدت بمناسبة مظهر من مظاهر الشخصية الإنسانية إذ تنقل للعالم الخارجي جزء من الوجود الداخلي للإنسان، أي أنَّ الابتكار ليس إلا امتداد للشخصية الإنسانية إلى العالم الخارجي ولا يقطع الكشف عن الابتكارات هذه الصلة ولذلك نصت العديد من المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان على اعتبار أن حقوق الملكية الفكرية هي حق من حقوق الإنسان «خير مثال على ذلك ما جاء في الفصل 27 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق اقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأيضا المادة 42 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان » .
لذلك وعند التطرق إلى الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي التي يمكن تعريفها على أنَّها اختراعات جديدة نتجت عن الآلة عن طريق الأنظمة الذكية سواءٌ بشكل مستقل أو بمساعدة بشرية تسمح عملياً بإيجاد حلول محددة في المجال التقني سواء كانت هذه الاختراعات منتج جديد أو طريقة صناعية مبتكرة ّ يمكن القول أنَّ هذه الاختراعات قد أثرت في الكثير من المفاهيم الأساسية لنظام الملكية الفكرية عامة ونظام براءات الاختراع بوجه خاص ومن هذه المفاهيم مكانة الحقوق الفكرية ضمن الحقوق الأساسية للإنسان.
فمن المسلم به أنَّ هذه الاختراعات قد ستلقي بثمارها على البشرية في مختلف المجالات الحيوية فعلى سبيل المثال ما قدمته شركة IBMتحت مسمى Watson وهو أحد الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي لإجراء البحوث واكتشاف الأدوية وإجراء التجارب السريرية وتحليل الجينات لمرضى السرطان ووضع خطط العلاج، حيث أعلنت شركة IBM أنَّه يمكن ل Watson تفسير الجينوم للمريض وإعداد ملف تقرير عملي بدقة كبيرة للتجربة السريرية في غضون عشرة دقائق وهي مدة تتطلب حوالي 160 ساعة من العمل لفرق من الخبراء(.عبد المنعم عاطف عبد المنعم إبراهيم، المجلة العلمية للملكية الفكرية وإدارة الابتكار، 4 /7/ 2021، ص37).
وعليه بات لزاما الاعتراف بالحق الأدبي بأبوة الذكاء الاصطناعي لاختراعه وأنَّ ذلك ليس لتحفيز مهندسي التطبيقات الذكية على الإبداع في هذا المجال فحسب، وإنما لحماية المخترعين البشر بمنع أبوة الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي لأشخاص لم يكن لهم الفضل في ابتكارها وهذا ما ينتج عنه آثار قانونية تصل إلى التجريم والعقاب، كما أنَّ الاعتراف بحق أبوة الذكاء الاصطناعي على اختراعه من شأنه أن يحافظَ على مكانة ومركز المخترعين البشر اللذين يقدِمون للبشرية اختراعات جديدة بطرق شرعية حتى لا يكونوا في نفس المركز مع أشخاص لم يقوموا بشيء سوى استشارة الذكاء الاصطناعي كما أنَّ ذلك من شأنه صون نزاهة نظام براءات الاختراع(المنظمة العالمية للملكية الفكرية : مشروع المخترع الاصطناعي، متاح 02/06/2019) .
وإذ كان لابد من الاعتراف بحق أُبوة الروبوت لاختراعه فما طبيعة هذا الحق؟ وهل يعتبر حقاً ملازماً للشخصية، مقتصراً على الأشخاص القانونية والأشخاص الطبيعيون بوجه خاص؟ أم أنّهُ يمتد إلى الآلة تمهيداً للاعتراف بالشخصية المعلوماتية أو الرقمية للروبوت؟ فضلا عن ذلك يُثار إشكالٌ آخر حول مكانة الحقوق الفكرية والحقوق المقررة للمخترع ضمن التصنيفات الأساسية لحقوق الإنسان، فهل تبقى هذه الحقوق تحظى بهذه المكانة ليمتد لواء النصوص القانونية التي تكفل حماية حقوق الإنسان إلى حماية حقوق الروبوت أم يؤدي ذلك إلى خفض مكانة الإنسان ليتساوى مع الآلة؟
هذا ولقد كشفت الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي الحجب عن ضيق مبدأ قابلية جميع الابتكارات في مختلف مجالات التكنولوجيا للإبراء الذي أرسته اتفاقيةTRIPS في المادة 27 منها والذي يقضي بقابلية جميع الابتكارات في مختلف ميادين التكنولوجيا للحصول على براءات الاختراع سواءٌ تعلق ذلك الاختراع بمنتجات جديدة أو بطرق صناعية مستحدثة، وسواء تم التوصل إليه داخل إقليم الدولة أو خارجها شريطة كونها جديدة وتنطوي على خطوة إيداعيه وقابلة للتطبيق الصناعي، كما يستبعد هذا المبدأ التمييز في منح الحقوق الناشئة عن ملكية براءة الاختراع على أساس موضوعها أو أهميتها وعدم التفريق بين الاختراعات في مدة الحماية وهذا ما نص عليه المشرع الجزائري في المادة الثالثة من قانون براءات الاختراع .
وما دامت الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي جديدة وتنطوي على الخطوة الإبتكارية وقابلة للتطبيق الصناعي فلا مانع من شمول البراءة لهذه الاختراعات، غير أنَّ القصور الذي يعتري مبدأ قابلية جميع مجالات التكنولوجيا للحصول على براءة الاختراع وكشفت عنه اختراعات الربوت هو هل كل طرق التوصل للاختراع تؤدي إلى الحصول على البراءة؟ .
من المؤكد أنَّ مبدأ قابلية جميع مجالات التكنولوجيا للإبراء قد وضعَ دون النظر إلى إمكانية حدوث النشاط الإبتكاري بواسطة الذكاء الاصطناعي، وعليه ولِسد قصور هذا المبدأ ولتشجيع البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي الإبتكاري لابد من توسيع المبدأ والإقتداء بالقانون الأمريكي الذي يجيز الحصول على براءة الاختراع مهما كانت الطريقة التي صنع بها الاختراع حيثُ ينص على أنَّه لا يجوز إبطال أهلية الحصول على براءة الاختراع استنادا إلى الطريقة التي صنع بها الاختراع، وهو ما يشير إلى امتداد البراءة لهذه الاختراعات بغض النظر عن المخترع(كوثر سعيد، ص 19) .
2.1. أزمة معيار تقرير النشاط الإختراعي
يشترط للحصول على براءة الاختراع انطواء الاختراع على الجدة والنشاط الإختراعي وقابلية التطبيق الصناعي فضلاً عن عدم مخالفة الاختراع للنظام العام والآداب العامة.
وخلافاً لشرط الجدة وقابلية التطبيق الصناعي فلقد أثار شرط تقرير النشاط الإختراعي في مجال الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي عدة إشكالات حول من يجب اعتباره رجل المهنة المتخصص في فحص الاختراع؟ وهل يبقى كما هو أم يجب استبداله بالروبوت؟ وما آثار ذلك على مستويات تقرير النشاط الإختراعي؟ وهل يمكن اعتبار النتائج غير المحدودة المتوصل إليها بموجب الذكاء الاصطناعي حالة تقنية سابقة؟، لذلك لابد من التطرق إلى مفهوم رجل الصناعة المتخصص، وإلى معيار عدم الوضوح في الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي.
1.2.1. معيار رجل الصناعة المتخصص في فحص الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي
إنَّ النشاط الإختراعي هو عمل فكري يتوصل من خلاله المخترع إلى تقنيات مبتكرة تغيب عن رجل الصناعة المتخصص، ويتيميز بالتقدم التقني مقارنةً بالفن الصناعي السابق.
ومنه فإنَّ رجل الصناعة المتخصص هو المرجع لتحديد أهلية الاختراع للحماية بموجب براءة الاختراع، وهو شخصية خيالية تتمتع ببعض المهارات الأساسية والمعرفة العامة بالمجال الذي ينتمي إليه الاختراع، ولديها القدرة على القيام بعمل روتيني وكذا العثور على المعارف المتعلقة بمجال الاختراع في الكتب والمجلات العلمية ووثائق البراءات السابقة وكذا لديها القدرة على الفهم والإلمام المسائل التقية التي تتعلق باختراع المُطالب حمايته بموجب البراءة (محمد أحمد عبد العال محمود، 2012، ص 304).
ولتوافر النشاط الإختراعي لابد أن يكون الاختراع غير واضح وغير بديهي لرجل الصناعة المتخصص في المجال الذي ينتمي إليه الاختراع.
وعند الحديث عن اختراعات الذكاء الاصطناعي يثور سِؤال عن المجال التكنولوجي الذي تنتمي إليه هذه الاختراعات؟
يمكن القول أنَّ الاختراعات ذات التقنية العالية كالإختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي والتي تنطوي على معارف متنوعة تنتمي إلى فروع مختلفة من العلم، لابد أن يكون معيار رجل الصناعة المتخصص فيها أكثر اتساعا وتنوعاً ويحل محل رجل الصناعة الفرد فريقٌ من المتخصصين ينتمون إلى فروع مختلفة من العلم تجمع بين متخصصين في المجال الذي ينتمي إليه الاختراع ومتخصصين في علوم الحاسوب والبرمجيات، ولا مانع من الاستعانة بأحد خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تكون مدربة ومجهزة لهذا الأمر.
ولقد اعتمد مكتب براءات الاختراع الكندي عند فحصه لطلب براءة لاختراع قامت به آلة الذكاء الاصطناعي والمتمثل في تطوير فرشاة الأسنان أورال بي كروس، ذات الشعيرات المتقاطعة للحصول على تنظيف مثالي بالفرشاة على فريق يضم مبرمجين في الحاسوب وعالِم بيانات تقني ذو خبرة في منتجات طب الأسنان (كوثر سعيد، ص 68).
ولقد طورت الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي رجل الصناعة المتخصص والمعارف التي يجب عليه الإلمام بها، فأصبح مفهوم هذا المعيار – أي رجل الصناعة المتخصص – يضم فريق بحث أوسع إطلاعاً وأكثر خبرةً هذا الوضع سيصحبه بالضرورة رفع معايير الحماية بموجب براءات الاختراع (المنظمة العالمية للملكية الفكرية: مشروع المخترع الاصطناعي) .
وفي المستقبل قد يحل الرجل الآلي أو الروبوت محل رجل المهنة المتخصص عندها وبكل تأكيد سيشهد النظام القانوني لبراءات الاختراع أزمة في استيفاء الاختراعات لشروط منح البراءة.
حيث أنَّ منصات الذكاء الاصطناعي قادرة وبشكل روتيني على حفظ ومعالجة كميات هائلة من البيانات واكتشاف الارتباطات المحتملة اللانهائية بين الفن الصناعي السابق في مجالات علمية غير متصلة، مما يشكل عائقا في استفاء الشروط الموضوعية لمنح براءات الاختراع (أحمد حمزة منصور، مجلة الشريعة والقانون، أفريل 2023، ص 1145) وإلى تضييق نطاق الاختراعات القابلة للإبراء فيما يُعرف بظاهرة تآكل نظام البراءات وأفوله .مما ينعكس بالسلب على تشجيع البحث والتطوير وبمعيار عدم الوضوح .
2.2.1. واقع معيار عدم الوضوح في الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي
يجب أن يكون الاختراع غير واضح لرجل الصناعة المتخصص بالنسبة للفن الصناعي السائد ولقد عرّفت توجيهات المكتب الأوروبي الوضوح بأنّهُ
«يشير مصطلح الوضوح إلى عدم تجاوز التقدم التقني العادي، ليس هذا فحسب بل مجرد أتباع وحذو بوضوح ومنطقية الفن الصناعي السائد أي التوصل لشيء لا يتطلب أية مهارة أو براعة تتجاوز ما هو متوقع من طرف رجل الصناعة المتخصص»( محمد أحمد عبد العال، ص 312).
لقد كان الرأي السائد في دراسة النشاط ألاختراعي هو ما إذا كان الاختراع واضحا لرجل المهنة العادي، أي أنها تقوم على أساس التمييز بين القدرات العقلية والمعرف النظرية للشخص العادي في مجال الاختراع، والنشاط الفكري للمخترع.لكن فيما يتعلق بالاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي الخاصة في ظل اعتماد المنصات الذكية لتقييم النشاط ألاختراعي، فمن الصعب الحكم من الناحية الادراكية على ما يعد بديهيا وواضحا للذكاء الاصطناعي الذي له القدرة على تحليل كمية هائلة من البيانات التي تبدو غير مرتبطة ويقوم بمحاولات لا حصر لها لحل المشكلة التقنية .
لذلك بات لزاما تعديل معيار النشاط ألاختراعي من خلال مراعاة التطورات الحاصلة في مجال الذكاء الاصطناعي وذلك باستبدال معيار النشاط الاختراعي الذي يحدد وضوح الابتكار من عدمه بناءا على المعيار الشخصي الذي يرتبط بالقدرات الذهنية كرجل الصناعة المتخصص في مواجهة مشكلة موضوع الاختراع، بمعيار موضوعي يرتبط بعوامل موضوعية واقتصادية مختلفة (المنظمة العالمية للملكية الفكرية : مشروع المخترع الاصطناعي) أهمها جدة وصعوبة المشكلة المراد حلها، الإحتياجات والمشاكل التقنية القائمة منذ وقت طول بدون حل والحلول غير المتوقعة للمشكلة، والاختراعات المتزامنة فضلا عن الاعتبارات الاقتصادية كالنجاح التجاري والمزايا غير المتوقعة الناتجة عن اختراعات الذكاء الاصطناعي .
2.زعزعة الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي للجوانب الشكلية في القوانين المتعلقة بالبراءة
من المسلم به أن قوانين براءات الاختراع في مختلف النظم القانونية هي قوانين شكلية، يهيمن عليها الجانب الإجرائي، حيث لا يمكن لصاحب الحق في البراءة التمتع بالحماية المقررة، إلا بإتباع مجموعة من الإجراءات التي تمكنه من حماية اختراعه واكتساب ملكيته.
ولقد جرت العادة أن يتقدم المخترع الذي لا يكون إلا شخصا طبيعيا بطلب الحصول على البراءة إلى الجهات المتخصصة في الدولة بمنح البراءة، لكن في شهر أوت من سنة 2018 تم إيداع طلبي براءة اختراع باسم نظام الذكاء الاصطناعي « دابوس »، الواقعة التي أسفرت على معضلة في تحديد مالك البراءة والحقوق الناتجة عن منحها، وتحدت النصوص والفكر التقليدي لمنح البراءة في العالم .
1.2. معضلة تحديد مالك الحقوق في الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي
عند الحديث عن الجوانب التشكيلية للإبراء تثير الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي العديد من الإشكالات تتقدمها مسألة من له الحق في تقديم طلب البراءة، خاصة وأنَّ المخترع هو آلة تفتقر للإدراك وعاجزة عن وصف الاختراع الذي توصلت إليه، وصفا مستوفيا للشروط الشكلية للحصول على البراءة، فضلا عن ذلك تثير هذه الاختراعات تساؤلا آخر من مفاده من يملك الحقوق الناتجة عن منح البراءة خاصة إنَّ المخترع هو نظام يفتقر إلى الشخصية القانونية لذلك لابد من التطرق إلى الإشكالات التي تثيرها الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي عند طلب الحصول على البراءة وإلى نحو الاعتراف بالشخصية القانونية للذكاء الاصطناعي.
1.1.2. الإشكالات المثارة عند طلب الحصول على براءة الاختراعات عن اختراعات الذكاء الاصطناعي
توجب قوانين براءة الاختراع على كل من يرغب في الحصول على براءة الاختراع أن يقدم طلب صريح إلى المصلحة المتخصصة، وعليه فإنَّ المخترع الذي مكنته ملكاته من تطوير الفن الصناعي السائد هو المؤهل بتقديم طلب الحماية، غير أنَّه بالنسبة للاختراعات الناتجة عن الأنظمة الذكية يثور تساؤلٌ حول من هو الشخص المؤهل بتقديم طلب الحماية، ومن يملك الحقوق الناتجة عن منح براءات الاختراع عن مخرجات الذكاء الاصطناعي؟
للإجابة عن ذلك يمكن طرح تساؤل آخر مفاده هل يمكن اعتبار أنظمة الذكاء الاصطناعي مخترعاً؟
بداية لابد من الإشارة على وجوب التفرقة بين أبوة الاختراع، وملكيته حيث أن المسميان قد يجتمعان في شخص واحد أو العكس، ولقد أشارت المنظمة العالمية للملكية الفكرية إلى أن إدراج الذكاء الاصطناعي بوصفه مخترعا إليه ليس معناه السماح للآلات باكتساب الحقوق، وإنما غاية ذلك حماية المصالح الأدبية للمخترعين البشر(المنظمة العالمية للملكية الفكرية، كوثر سعيد، ص 32).
وعليه يكاد يكون هناك إجماعا في الفقه والقضاء على عدم منح الذكاء الاصطناعي صفة المخترع المالك للحقوق وذلك للأسباب الآتية:
-
أنه يمكن تحديد صاحب الحق في طلب الحصول على براءة الاختراع باللجوء إلى إحدى النظامين إما نظام « أول مخترع » المعمول به في التشريع الأمريكي ومفاده اقتصار حق طلب الحصول على البراءة في بادئ الأمر باسم الشخص أو الأشخاص الطبيعية التي قامت بالاختراع فقط دون غيرها.ومن هنا يستحيل تسجيل نظام الذكاء الاصطناعي بوصفه صاحب الحق في طلب الحصول على البراءة باعتباره ليس شخصا طبيعيا (فرحة زراوي صالح ص 122).
أما النظام الثاني فيرمي إلى منح الحق في طلب براءة الاختراع إلى « أول مودع » سواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا شريطة تقديم هذا الأخير سند انتقال الحقوق إليه، سواء بموجب عقد عمل، أو عقد مقاولة أو النظام الأساسي للشركة أو المؤسسة، أو وكالة من المخترع تفوضه بتسجيل البراءة باسم المخترع الحقيقي، وإن كان هذا الأمر وارد في الاختراعات التقليدية فإنه يستحيل بالنسبة للذكاء الاصطناعي الذي يفتقد لأهلية التصرف ومن ثم استحالة تسجيل البراءة باسمه، وبالرغم من وجود تيار فقهي يرى أن القوانين التي تشترط إدراج الشخص الطبيعي بوصفه مخترعاً، قد وضعت دون النظر إلى إمكانية حدوث النشاط الابتكاري بواسطة الآلات في المستقبل، وأن الذكاء الاصطناعي قد طور الأوضاع والمفاهيم، وأنه يجب أن نكون منفتحين في آرائنا ويمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي مخترعا، فإن المنظمة العالمية للملكية الفكرية أكدت أنه سيكون من المكلف جداً تغيير القوانين للسماح بمنح الذكاء الاصطناعي حق ملكية براءة الاختراع(أحمد مصطفى دبوسي السيد، مجلة معهد دبي القضائي، أفريل 2021 ص 91) . -
إن الفلسفة التي قام عليها النظام القانوني لبراءة الاختراع هي فلسفة نفعية غايتها تحفيز الابتكار والاختراع والرقي برفاهية المجتمع بتوفير الحماية للاختراعات البشرية.
-
أن قوانين براءة الاختراع تشترط أن يرفق مقدم طلب البراءة وصفا تفصيليا للاختراع يتضمن بيانا كاملا عن موضوعه وعن أفضل أسلوب يمكن ذوي الخبرة من تنفيذ الاختراع، هذا الشرط – أي تقديم أفضل أسلوب لتنفيذ الاختراع – الذي يعتبر معيارا شخصيا للوقوف على الحالة الذهنية للمخترع ولكشف الارتباط بين المخترع واختراعه(نيفين حسين كرارة، 2014، ص 168)، كما يتضمن الوصف بيان المنتجات والطرق محل طلب البراءة استنادا لمبدأ ارتكاز المطالب على الوصف، وعند الحديث على اختراعات الروبوت فهي تتطلب مشغلاً ومبرمجاً يفهم طبيعة المشكلة المطروحة، ويمكنه تحديد معطيات الحل المطلوب، والخيارات المناسبة للخوارزميات والمداخلات ووظائف تقديم الأداء بما يمكن الذكاء الاصطناعي من إنتاج حلا جديدا ورغم ذلك فإن الذكاء الاصطناعي غير مبالي بالخصائص الخاصة بإنتاجه، كما أنه غير قادر على تقديم عرض قوي لكيفية استخدام اختراعه وبالتالي يفقد ارتباط المخترع باختراعه الذي يعد أساسا للإفصاح ومن ثم للحماية بموجب البراءة(كوثر سعيد، ص 28).
4 أن الذكاء الاصطناعي لا يملك الشخصية القانونية ولا الذمة المالية المستقلة تجعله أهلا لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات (سهير سعيد حلمي، المجلة العلمية للملكية الفكرية وإدارة الابتكار سبتمبر2022، ص 118) لذلك ترى المنظمة العالمية للملكية الفكرية أنه يجب أن يكون مالك نظام الذكاء الاصطناعي هو من يملك أي صادرة عن هذا النظام، بما يتماشى والمبادئ العامة لملكية الممتلكات وكذا القواعد المطبقة على الجوانب الأخرى لقانون الملكية الفكرية مثل حماية الإسرار التجارية(المنظمة العالمية للملكية الفكرية : مشروع المخترع الاصطناعي).
في حين يرى جانب من الفقه أنه يمكن اعتبار نظام الذكاء الاصطناعي الذي يبتكر اختراعا دون تدخل بشري أنه المخترع المعنوي المشارك يضاف اسمه جنبا إلى جنب مع المخترع البشري مقدم الطلب الذي صمم النظام الذكي أو زوده بالمعلومات أو بسببه صنع الروبوت (هيثم هشام عطية، ص 1). غير أن التساؤل الذي يفرض نفسه في هذه الحالة هو من يمتلك الحق في طلب البراءة؟ هل هو مخترع الروبوت أم المبرمج، أم المستعمل النهائي للروبوت؟
يرى جانب من الفقه أن الحق في تقديم طلب البراءة يعد حقا مشتركا بين مخترع أو مبرمج الذكاء الاصطناعي ومالكه (أحمد مصطفى دبوسي السيد، ص، 120 - كوثر سعيد، ص 40) في حين يرى جانبا آخر من الفقه ضرورة منح الذكاء الاصطناعي الحق في ملكية الاختراع وذلك للأسباب الآتية:
-
أن مبرمج الذكاء الاصطناعي وبالرغم من تأثيره الكبير على مخرجات هذا الذكاء إلاَّ أنَّه من الصعب إيجاد العلاقة بينه وبين اختراعات الروبوت، فهذه الاختراعات قد تكون نتيجة التعلم والتنبؤ وتطوير الذكاء الاصطناعي نفسَه بنفسه وتأثير العامل البشري لا يكاد يُذكر (سهير سعيد حلمي، ص 120).
-
أنَّ مستعمل الذكاء الاصطناعي يقتصر دوره على تحديد الفكرة لا أكثر وهو بلا شك دورٌ صغير لا يستحق معه منح البراءة عليه، فهو لا يمكنه التحكم في عمليه الابتكار ومن ثم ليست لديه مساهمة للمطالبة بحقوق براءة الاختراع.
ولذلك يرى هذا التيار الفقهي ضرورة منح الذكاء الاصطناعي الشخصية القانونية (أحمد مصطفى دبوسي السيد، ص، 120).
2.1.2. تحديات الاعتراف بالشخصية القانونية للذكاء الاصطناعي
لقد أثارت التطورات الحاصلة في مجال الذكاء الاصطناعي العديد من الإشكالات القانونية خاصة في مجال الملكية الفكرية وبراءات الاختراع.
لذلك ظهر تيار فقهي ينادي بضرورة منح الذكاء الاصطناعي الشخصية القانونية ومن ثم منحه الحق في ملكية براءة الاختراع عن الاختراعات المستنبطة منه بصفة مستقلة حتى لا تصبح هذه الابتكارات متناولة دون مقابل ومن ثم تفقد قيمتها وأهميتها، الأمر الذي ينعكس سلباً على تطوير الذكاء الاصطناعي والاستفادة من ثماره.ويستند أنصار هذا الرأي إلى القرارات التي تبناها البرلمان الأوروبي سنتي 2017 و2020 حيث اعتمد اقتراحا دعت فيه مؤسسة الإتحاد الأوروبي المفوضية الأوروبية لاستكشاف وتحليل ومراعاة الآثار المترتبة عن إنشاء وضع قانوني محدد للروبوتات على المدى الطويل بحيث يمكن اعتبار الروبوتات المستقلة الأكثر تطوراً على الأقل تتمتع بوضع الأشخاص الإلكترونيين(خالد ممدوح إبراهيم، ص 120) .
ويرون أنَّه طالما أصبح الذكاء الاصطناعي قادراً على الابتكار بصفة مستقلة عن التدخل البشري فإنّه لا يوجد ما يمنع من الاعتراف بالشخصية القانونية للذكاء الاصطناعي وهي شخصية غير كاملة كالتي يتمتع بها البشر لافتقار الذكاء الاصطناعي لبعض العناصر في الشخصية كالإدراك والرغبات والاهتمامات.
وقد مضى أنصار هذا الرأي قدماً واعترفوا بالشخصية القانونية للروبوت ومن الأمثلة الشائعة منح المملكة العربية السعودية الجنسية للروبوت «صوفيا» سنة 2017 واليابان للروبوت الصبي « شيبوبا مراي » .
وفي المقابل إنتقد جانب كبير من الفقه مسألة منح الشخصية القانونية للذكاء الاصطناعي مستندين إلى العديد من الحجج يمكن إيجاز البعض والمتعلق بموضوع الحقوق الفكرية منها في :
-
أنَّ الذكاء الاصطناعي يفتقر للقدرة على فهم القاعدة القانونية والإمتثاللها .
-
أنَّ منح الشخصية القانونية للذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى كسر الحدود بين الإنسان والآلة وبالتالي يؤدي إلى خفض الإنسان إلى مرتبة الآلة، لذلك يجب تصميم الربوتات في خدمة الإنسانية لا غير(كوثر سعيد، ص 42) .
-
أنَّ الذكاء الاصطناعي لم يصل بعد إلى درجة البرمجة الذاتية دون تدخلٍ بشري ومن ثم فإنَّ هذه التقنيات لم تصل كذلك إلى درجة التطور الذي يجعلها تتحمل المسؤولية الكاملة عن أعمالها (كوثر سعيد، ص 92).
-
أنه لا يوجد مبرر قانوني لمنح الذكاء الاصطناعي الشخصية القانونية ففي مجال الملكية الفكرية لا يمكن للذكاء الاصطناعي التمتع بالحقوق الناتجة عن إبتكاره لأنَّ هذه الحقوق تحتاج إلى وعي لازم لاستحقاقها وحمايتها والمسؤولية عنها كما أنَّ حقوق الملكية الفكرية تتقرر لمن يمكنه الاستفادة منها وهذا الأمر غير متوفر بالنسبة للذكاء الاصطناعي.
ولقد تم تفنيد حجج الاعتراض عن منح الذكاء الاصطناعي للشخصية القانونية بـ :
-
أنَّ الشخصية القانونية لا تقتصر على الإرادة والإدراك فقط ولا على الصفة الإنسانية وإنما تمتد لتشمل قيمة إجتماعية وهي مقررة لمن يكون أهلاً لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات بدليل أنَّ القانون يعترف بالشخصية القانونية للأشخاص الاعتبارية كالشركات رغم انعدام الوعي لديها(حسام الدين محمود حسن، مجلة روح القوانين، أفريل 2023، ص 228)
-
أنَّ الخوف من كسر الحدود بين الإنسان والآلة هو قول غير صحيح فالواقع يشهد وجود ربوتات وأنظمة الذكاء الاصطناعي لخدمة الإنسانية والمساهمة في رفاهيتها(كوثر سعيد،ص 50).
-
أنَّ الذكاء اللإصطناعي وصل إلى درجة كبيرة من التطور والاستقلالية في اتخاذ القرارات والابتكار دون التدخل البشري، فالعالم يشهد أجيالاً جديدة من ربوتات الذكاء الاصطناعي بما يطلق عليه « انترنت الأشياء» وهو يتمثل في نظام يربط الأشياء الذكية يبعضها البعض، فتقوم بإرسال المعلومات والتعليمات وإنشاء شبكة اجتماعية آلية قادرة على القيام بعمليات متكاملة دون تدخل إنساني، مما يسفر عن ظهور مجتمع آلي مستقل قادر على التعلم الذاتي واتخاذ القرارات(حسام الدين محمود، ص 159) .
-
أنَّ منح الشخصية القانونية ليس لاستفادة أنظمة الذكاء الاصطناعي من الحقوق، وليست لحماية مصالحه، وإنما لإقرار أمر قانوني هو إسناد صفة المخترع لهذه الأنظمة.
2.2. قضية دابوس تتحدى الفهم التقليدي لأحكام قانون البراءات
تعتبر قضة دابوس هي الأولى من نوعها التي تتحدى الفهم التقليدي لأحكام النظام القانوني لبراءة الاختراع، وتعود وقائعها إلى شهر أوت من سنة 2018 عندما رفع خبراء المعهد الأمريكي للفيزياء طلباً إلى مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية بالولايات المتحدة الأمريكية USPTO لتسجيل اختراعين نيابةً عن عالم التكنولوجيا الدكتور ستيفن تالر رئيس شركة « إيمجينيشن انجر » وبدل من وضع اسم بشري تم وضع اسم آلة تتعلق بالذكاء الاصطناعي أمضى الدكتور تالر أكثر من عشر سنوات في تطويرها تسمى بجهاز الإقلاع الذاتي للحاسة الموحدة، Autonomous Bootstropping of Unfained Sentience وتعرف اختصارا باسم DABUS وبعد اكتساب دابوس العديد من المعلومات في العديد من المواضيع قام الجهاز بنفسه، وبصفة مستقلة باختراع حاوية طعام سهلة الحمل ذات شكل فكتالي، وبمصباح يومض بنمط يعكس نشاط الدماغ وهو جهاز لجذب الانتباه قد يكون مفيداً في عملية البحث والإنقاذ في حالة الحروب أو الكوارث الطبيعية، وأدرج مالك النظام ستيفن تالر مودع للطلب ومالك مستقبلي لأي براءات قد تمنح، كما تم إيداع الطلبان بناءاً على أحكام معاهدة التعاون الدولي بشأن البراءات « PCT » التي تسهِل عملية الحصول على الحماية بموجب البراءة فيما يزيد عن 150 دولة(كوثر سعيد، ص 31).
ولقد خلص كل من مكتب الولايات المتحدة للبراءات والعلامات التجارية UPTSO والمكتب الأوروبي للبراءات ومكتب الملكية الفكرية في المملكة المتحدة إلى رفض تسجيل الاختراعين رغم قرارهم أنَّ الاختراعين يفيان قدر الإمكان بشروط أهلية الحماية بموجب البراءة، معللين أساس الرفض بأنَّ نظمهم القانونية تتبنى مبدأ الحق في تسجيل طلب البراءة لأول مخترع والذي لا يكون إلاّ شخصا طبيعياً، كما علل المكتب الأوروبي رفضه بضرورة تعيين المخترع لأنَّ ذلك ينتج عنه آثار قانونية كاكتساب الحقوق المرتبطة بمنح وصف المخترع وأنَّ صلاحية اكتساب الحقوق تكون للأشخاص القانونية وهو مالا ينطبق على الآلات(جين كروفت الصحيفة الاقتصادية يوم 23/04/ 2023).
ورداً على ذلك جادل مقدم الطلب أنّهُ لا يوجد نص قانوني صريح يستبعد الاعتراف بالذكاء الاصطناعي كمخترع، أو يشترط أن يكون المخترع إنساناً كما أنَّ هناك التزام أخلاقي بتحديد المخترع الحقيقي.
وبناءاً على رفض المكاتب هذه الطلبات رفع ستيفن تالر عدة قضايا اعتراضا على تلك القرارات.
ولقد قضت المحكمة الفيدرالية بالولايات المتحدة الأمريكي سنة 2022 على عدم أحقية الذكاء الاصطناعي بوصف المخترع، رغم أنَّ قانون براءات الاختراع الأمريكي ينص بصراحة على أنَّ المخترعين هم « أفراد » ولم يقم المشرع الأمريكي بوضع تعريف صريح للفظ « الفرد » غير أنَّ المحكمة العليا قضت أنَّ كلمة « فرد » تعني إنسان ما لم تكن هناك بعض الدلائل التي قصدها الكونغرس لقراءة مختلفة لهذا اللفظ(أحمد حمزة منصور، ص 1149) وبعد فشله في الولايات المتحدة الأمريكية، خاض ستيفن تالر نزاعاً مع مكتب البراءاات في المملكة المتحدة ونقل قضيته إلى المحاكم البريطانية بحجة أنَّ قانون براءات الاختراع البريطاني سنة 1977 لا يستبعد المخترعين غير البشر، غبر أنَّ المحكمة العليا في المملكة المتحدة خلصت إلى ضرورة أن يكون المخترع شخصاً طبيعياً وأنَّه بموجب الإطار التشريعي الحالي لا يمكن منح الذكاء الاصطناعي براءة الاختراع ولا يمكن اعتباره مخترعاً، الأمر الذي يؤكد مبدءاً قانونياً هاماً مفاده ارتباط صفة المخترع ارتباطا جوهرياً بالشخصية الإنسانية .
وفي إطار التسجيل الدولي لطلبي البراءة بناءا على أحكام معاهدة التسجيل الدولي بشأن البراءات (PCT) تم تسجيل الطلب في أستراليا تحت رقم 2019363177 غير أنَّ مكتب البراءات اعترض على الطلب بحجة عدم توافقه مع قانون براءات الاختراع لعام 1991 وأنَّه استنادا لقانون البراءة الأسترالي لابد أن يكون المخترع شخصاً طبيعيا استنادا إلى المادة 15 من هذا القانون وعليه قام ستيفن تالر بالاعتراض على هذا الرفض أمام المحكمة الفدرالية الأسترالية التي قضى فيها القاضي « دجاستس بيتش » في سابقة تعتبر الأولى من نوعها، بأنَّ الذكاء الاصطناعي قادر على أن يكون مخترعاً لأغراض نظام براءة الاختراع الأسترالي معللا ذلك بعدم وجود حكم يدحض صراحة فرضية أن يكون نظام الذكاء الاصطناعي مخترعاً وأنَّه نظراً للطبيعة المتغيرة للاختراعات المؤهلة للحصول على البراءة ومبدعيها، وبدلاً من اللجوء إلى الاستخدامات القديمة لهذه الكلمة في الألفية الماضية يفضل الإنكباب على الفكرة الأساسية والاعتراف بالطبيعة المتغيرة للاختراعات المؤهلة للحصول على البراءة ومبدعيها وكلانا من وحي مبدعٍ ونبدع فلماذا لا تستطيعُ إبداعاتنا أن تبدع ؟(ربيكا كوري ودجين أوين مجلة WIPO، سبتمبر 2021، ص 36).
ولقد أخذ هذا الحكم ضجة كبيرة في أوساط المهتمين بالذكاء الاصطناعي لكن في 13 أفريل 2022 قضت محكمة الاستئناف بكامل هيئاتها بأنَّ «أصل استحقاق منح البراءة يكمن في» المسعى البشري «وأنَّهم يختلفون بكل احترام مع الاستنتاج الذي توصل إليه قاضي المحكمة الابتدائية.
أما في جنوب إفريقيا فلقد وافق مكتب الملكية الفكرية والمعروف بلجنة الشركات والملكية الفكرية على طلب تالر ولقد نجح المشروع في الحصول على براءة اختراع تدرج اسم دابوس باعتباره مخترعاً، وتم تأكيد ذلك في مجلة براءة الاختراع الخاصة بهم، غير أنَّ جانب الفقه يرى أن هذه الموافقة ليس لها أي قيمة حقيقية، كون أنَّ النظام القانوني لبراءة الاختراع بجنوب إفريقيا يأخذ بنظام الفحص الآلي أو الشكلي لطلبات البراءة، وعليه فإنَّ قبول طلب البراءة في هذه الدولة لا يدل البتة على اتساع قانون البراءات ليعترف بملكية الاختراعات للذكاء الاصطناعي(الهيئة السعودية للملكية الفكرية : حماية اختراعات الذكاء الاصطناعي) .
والجدير بالإشارة أنَّه بالرغم من رفض العديد من المحاكم الاعتراف بملكية الذكاء الاصطناعي لبراءة الاختراع، إلاَّ أنَّ هناك محاكم بدأت في الاعتراف بإسهامات الذكاء الاصطناعي في مجال الابتكار فلقد قضت محكمة البراءات الفدرالية في ألمانيا أنَّ المخترع المسجل في طلب البراءة يجب أن يكون شخصاً طبيعياً، لكن يمكن أيضاً إضافة الذكاء الاصطناعي المسؤول الأساسي عن الاختراع.
خاتمة
في ختام هذا البحث الذي يتعرض للعلاقة بين الذكاء الاصطناعي والنظام القانوني لبراءة الاختراع من خلال التطرق إلى تأثيرات النظم الذكية على أسس ومبادئ وعلى الشروط الموضوعية لمنح براءة الاختراع، ثم التطرق إلى الإشكالات المثارة عند التقدم بطلب الحصول على براءة الاختراع الناتج عن الذكاء الاصطناعي، وملكية الحقوق الناتجة عن البراءة خلصت الدراسة إلى النتائج التالية:
-
أن الذكاء الاصطناعي هو إنتاج فكري يندرج في زمرة المصنفات الفكرية، وبصورة أدق ضمن برامج الإعلام الآلي المحمية بموجب القوانين المنظمة لحقوق التأليف، أي أنه مال منقول معنوي يندرج في فئة الأشياء القابلة للتعامل فيها.
-
تعاظم أهمية الذكاء الاصطناعي يوما بعد يوم نتيجة لما يتميز به من استقلالية وقدرة على التعلم والاستنباط والتكيف والاستجابة للمؤثرات الخارجية.
-
ازدياد الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي بوتيرة مضاعفة وقصور النظم القانونية لبراءات الاختراع من استيعاب وتنظيم هذه الاختراعات.
-
تأثير الاختراعات الذكاء الاصطناعي على منح براءة الاختراع للبش حيث تؤدي هذه التقنيات إلى رفع مستويات الحماية مما يحول دون منح المخترعين البشر لبراءة الاختراع.
-
أن منح الشخصية القانونية للذكاء الاصطناعي ومنحه الحقوق الفكرية سيؤدي إلى خفض قيمة الذات البشرية وسيصطدم لا محال بالحقوق السابقة المقررة للإنسان البشري.
-
أن خاصية الاستقلالية والقدرة على التفكير والابتكار التي يتميز بها الذكاء الاصطناعي لا تبرر البتة إخراجه من زمرة الأشياء، وإدراجه في زمرة الأشخاص القانونية.
ولذلك فمن الضروري التوصية ب:
-
عدم الاعتراف للربوت بملكية الحقوق أن بالشخصية القانونية والنص على استحقاق براءة الاختراع يكمن في المسعى البشري لا غير .
-
الاعتراف بأبوة الربوت لاختراعه بأن يضاف اسمه جنبا إلى جنب إلى المخترع البشري الذي طور الذكاء الاصطناعي وزوده بالمعلومات.
-
تعديل النظام القانوني لبراءات الاختراع بتعديل منح براءة الاختراع مهما كانت الطريقة المتوصل إليها للاختراع شريطة أن تكون شرعية.
-
إدراج أحكام قانونية خاصة بالاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي تختلف عن الأحكام الخاصة بالاختراعات الناتجة عن البشر.
-
تعديل شرط النشاط ألاختراعي في الاختراعات الناتجة عن الذكاء الاصطناعي بتعديل معيار رجل المهنة المتخصص بجعله أكثر اتساعا وتنوعا يضم فريقٌ من المتخصصين ينتمون إلى فروع مختلفة من العلم تجمع بين متخصصين في المجال الذي ينتمي إليه الاختراع ومتخصصين في علوم الحاسوب والبرمجيات.
-
تعديل معيار عدم الوضوح الذي يرتكز على معيار شخصي بجعله يرتكز على عوامل موضوعية واقتصادية.
-
اقتصار ملكية الحقوق وصفة المخترع على المخترع البشري لا غير.