مقدمة
من الحقول العلميّة الحديثة التي جعلت من اللّغة مادتها الثّمينة حقل اللّسانيات التّطبيقيّة، إذ تقوم هذه الأخيرة على كشف حقائق اللّسان البشري، إضافة إلى اتّجاه هذا الحقل اللّساني الحديث اتجاها مهمّا للغاية، يتمثّل في تعليم/تعلّم اللّغات، كما يطلق عليه اللّسانيّون ميدان تعليميّة اللّغة، وهو عمليّة ديناميكيّة قائمة أساسا على ما يقدّم من معارف (قواعد وأسس) لتعلّم/تعليم اللّغات
تهدف العمليّة التّعليميّة/التّعلميّة إلى تمكين المتعلّم من امتلاك الكفاية اللّغويّة والكفاية التّواصليّة، لذا يعدّ التّمرين اللّغوي احدى المقوّمات والمرتكزات باليداغوجية الهامة في حقل اللّسانيات التّطبيقية عامة وتعليميّة اللّغات على وجه الخصوص، فمن خلال تنويع هذه التّمارين وتكرارها يكتسب المتعلّم الملكة اللّغويّة، إضافة إلى تنوّع أساليبه التّعبيريّة، بإدراكه لمختلف البنى اللّغويّة للنّظام اللّغوي لتلك اللّغة.
بنظرة فاحصة للسّياسات التّربويّة التي عرفتها الجزائر نلحظ اهتماما متزايدا بالتّمارين اللّغويّة : فماهية التّمارين اللّغويّة؟ ما أهميّتها في امتلاك الملكة اللّغوية والتّواصليّة؟ وما هي خصائصها؟ وما هي مكانتها في حقل تعليميّة اللّغات؟ ما هي صيغ وأشكال هذه التّمارين؟
1. مفهوم التّمرين اللّغوي وأهميته في حقل تعليم/تعلم اللغات
تبوّأ التمرين اللغوي مكانة مرموقة في حقل التعليمية، باعتباره من أهم المرتكزات والسندات البيداغوجيّة في حقل تعليميّة اللّغات، التي يعتمد عليها كلّ من المعلّم والمتعلّم، فهي أداة تقويم للمعلّم، كما تسمح للمتعلّم بامتلاك القدرات اللازمة للممارسة الفعليّة للحدث اللّغوي، كما يعمل على تقويم ملكته اللّغويّة، وذلك عن طريق ادراج النّماذج الأساسيّة التي تكون الآلية التّركيبيّة للنّظام اللّساني المراد تعليمه إيّاه.
1.1. تعريف التّمرين اللّغوي
تعاريف التّمرين في اللّغة عديدة، فعرّف التّمرين في القاموس المحيط، « من مرن، مرانة ومرونة ومرونا » لان في صلابة ومرنته تمرينا : لينته، ورمح مارن : صلب لدن، ومرن على الشّيء مرونا ومرانة : تعوده والمارن، الأنف أو طرفه أو ما لان منه، ومرنه تمرينا فتمرن : دربه فتدرب« 1 فالتّمرين حسب هذا التعريف من التّدريب، تعدّدت تعريفات التمرين –أيضا- اصطلاحا فقد عرّف التّمرين حسب تخصّص المعرّف، تكاد تجمع على لأنّ التمرين نشاط ولكن ليس أي نشاط، بل يجب أن يكون عمليا منظّما ومستمرّا، محوره الفرد في مجمله، كما يهدف إلى احداث تغيّرات محدّدة، في الوقت الحالي أو في المستقبلي (القريب أو البعيد) يتطلّبها الفرد والعمل الذي يؤدّيه والمؤسّسة التي يعمل بها والمجتمع بأكمله، في حين يرى معجم التقنيات التّربويّة أنّ التّمرين drill نوع من أنواع أنشطة التّعلّم تتميّز بالتّنظيم والتكرار، كما أنّها تهدف إلى تنمية أو تثبيت مهارة من المهارات، أو جانب من جوانب المعرفة »2 أمّا معجم علم النّفس فركّز في تعريف التمرين على التّكرار في العمل قصد تحسين الأداء أو لكوين عادة3 كما عُرف التّمرين أنّه نوع من ممارسات اللغويّة التي يقوم بها المتعلّمون أو المتمدرسون، وقد تكون هذه الممارسة داخل الفصل أو خارجه، وتساعدهم هذه الممارسات على نموهم اللّغوي4كما عرّف أيضا أنّه ألوان متنوّعة ومختلفة من النشاطات التّطبيقيّة لمختلف مهارات اللّغة [...] يقوم بها المتعلّمون سواء داخل الفصل أو داخل المدرسة أو خارجهما في مختلف المواقف الطبيعيّة التي تتطلّب احدى المهارات اللغوية الاستماع أو الكلام أو القراءة أو الكتابة، ويقتصر دور معلّميهم على التوجيه فقط5 نستنتج من التعاريف السابقة أنّ التّمرين اللّغوي وسيلة من أهمّ الوسائل المساعدة على تنمية وتطوير الحصيلة اللّغويّة للمتعلّمين، حيث يهتم بجميع الفنون أو المهارات اللّغويّة الأربعة من استماع وتحّث وقراءة وكتابة دون استثناء، فنظرا لأهميّة التّمرين اللّغوي، والمكانة التي يتبوّؤها لا بدّ من البحث عن أنجع الطّرق قصد ترقية هذه التّمارين، وذلك عن طريق تحديد أهدافها التّعليميّة والبيداغوجيّة وضبط إجراءاته، قصد تذليل الصّعوبات التي تعترض المتعلّمين والمعلّمين على حدّ سوى، وتفادي الأخطاء اللّغوي التي تشكّل عائقا أمام تطوير العمليّة التّحصيليّة في مجال تعلّم اللّغة6 ونظرا لأهمية ودور التمارين اللغوية عرفت–في العصر الحاضر- عدّة تغييرات هامة على مستوى النوع والكم و كذا في كيفيّة صياغة وطرح الأسئلة.
2.1. وظائف التّمرين اللّغوي
وظائف التّمرين اللّغوي عديدة، ويمكن اختصارها فيما يلي :
-
التّمرين اللّغوي ميدانا للتّطبيق العملي والفعلي للدّرس اللّغوي المتناول في حصة (القواعد) الظّاهرة اللّغويّة: حيث تشكّل الدّروس والقواعد المادة الخامّة أو الوجه الثاني لعملة الظّاهرة اللّغويّة، ليتم تجسيدها فعليّا في حصة التّمارين أو التّدريبات اللّغويّة، وبالتالي تساهم في تنشيط ذاكرة المتعلّمين.
-
التّمرين اللّغوي أداة ووسيلة للتقويم : يستخدم المعلّم التّمرين اللّغوي –غالبا- لمراقبة وتقويم مكتسبات ومعارف المتعلّمين، وذلك عبر مختلف مراحل الدّرس، من خلال تقييم قدراتهم وكفاءاتهم قبل بداية كل درس جديد وبعد الانتهاء منه، والغرض من ذلك هو معرفة مستوى كلّ متعلّم، إضافة إلى الكشف عن نقاط القوّة والضّعف لديهم.
-
التّمرين اللّغوي أداة ووسيلة عرض ترسيخ : إذ يعتبر التّمرين اللّغوي وسيلة جدّ فعّالة لتقديم وعرض الدّرس أو الظّاهرة اللّغويّة المراد تعليمها، وترسيخها، حيث يكتسب المتعلّم الملكة اللّغوية المستهدفة، بفضل التّكرار والممارسة المستمرّة للسّلوك اللّغوي.
-
التّمرين اللّغوي أداة ووسيلة للتّصحيح والتّصويب : يعتمد المعلّم في الكثير من الأحيان على التّمرين اللّغوي كوسيلة تقويم لتصحيح أخطاء المتعلّمين المختلفة : الصّوتية منها والتّركيبيّة والنّحويّة حتى يتمكّن المتعلّم من إدراك واستدراك لخطأ الذي وقع فيه.
3.1. خصائص التّمرين اللّغوي
خصائص التمرين اللغوي عديدة، نذكر منها:
-
التّمرين أو التدريب اللّغوي نشاط: تتسّم النّشاطات اللّغويّة بالتّعدّد والتّنوّع، فقد تكون مرئية كما قد تكون مسموعة، أو منطوقة أو مكتوبة حسب المهارة التي تهدف إلى تحقيقها، وحسب طبيعة المتعلّمين وحاجياتهم التّعلّمية المتباينة، إضافة إلى طبيعة المادة اللّغويّة المراد تعليمها، ومن خصائص هذا النّشاط –أيضا- أنه يبعث الحركة والديناميكيّة داخل الصف، فلا يضع المتعلّم موضع المتلقي السّلبي مجرّد خزان لاستيداع المعلومات فحسب، بل يدفعه إلى أن يكون ايجابيّا، وعنصرا فعالا مستقبلا ومنتجا في نفس الوقت.
-
التمرين اللّغوي منظّم (نشاط منظم) : يتّسم التّمرين اللّغوي بالخاصية النّظامية، وهي من أهم خصائص التّمارين، حيث لا يتم إعداد التّمارين اللّغويّة وإجرائها عشوائيا، بل بناءً على مجموعة من المقاييس والمعايير العلميّة، يمكن اختصارها في الدّراسة والانتقاء والتّدرّج والتّخطيط والتّرتيب، فعدم احترام هذه المقاييس سيأثر سلبا وستكون نتائجها هزيلة وغير مرضية، أن لم نقل كارثية.
-
للتمرين اللّغوي هدف محدّد: لا يعتبر التّمرين اللّغوي هدفا في حدّ ذاته، بل هو مجرّد وسيلة تجري بطريقة منظّمة ومضبوطة تسعى إلى تحقيق هدف تربوي معيّن ومسطّر، كتذليل الصّعوبات أو اكساب عنصر لغوي أو بنى لغويّة جديدة، وهذا يستوجب أن تكون مطابقة بين الاهداف المسطّرة والتّمارين المطروحة.
فالتّمرين اللّغوي وسيلة مهمّة بل ضروريّة في العمليّة التّعليميّة/التّعليمية؛ حيث تعمل التّمارين على مساعدة المتعلّم في اكتساب الملكات اللّغويّة والتّواصليّة، كما تعدّ وسيلة لترسيخ المعلومات التي يكتسبها المتعلّم أثناء الدّرس.
2. أهميّة ومكانة التّمرين اللّغوي في حقل تعليميّة اللّغات
لا نبالغ إذا قلنا أنّ التّمرين جوهر العمليّة التّعليميّة/التّعلّمية؛ لذا هتمت اللّسانيات التّطبيقيّة أيّما اهتمام بالتّمرين اللّغوي، إذ يسمح للمتعلّم باكتساب القدرة الكافية التي نمكّنه من الاستعمال الفعلي والحقيقي للحدث اللّغوي عن طريق « ادراج النماذج الأساسيّة للنّظام اللّساني المراد تعليميه »7 فالتّمرين اللّغوي وسيلة مهمة وضرورية بمكّن من تحويل الظّواهر اللّغويّة (القواعد) النظرية إلى مهارات تطبيقية فإذا انطلقنا من مبدأ ضرورة تعليم القواعد اللغويّة، فإنّ التّدريب والتمرّن والتّكرار من أجل ترسيخ الأنماط اللّغويّة الصّحيحة من أهم الوسائل التي تعمل على تحويل هذه القواعد من معرفة نظريّة (فهم القواعد أو الظواهر اللغوية) إلى تمثّل حقيقي [...] فلا يرتقي المتعلّم إلى مستوى التمثّل اللّغوي إلاّ بعد عدّة تدريبات ترسخ لديه القواعد المنشودة، حتى تتحوّل اللّغة لديه إلى ملكة8 فللتمرين دورا فعّالا في ترسيخ مختلف البنى اللّغويّة لدى المتعلّم، وهذه البنى هي التي تجعل منه متكلّما فصيحا ومبدعا، لذا يعتبر التّمرين اللّغوي القاسم المشترك بين مختلف طرق التّدريس-القديمة منها والحديثة- فرغم اختلافها وتباينها إلاّ أنّها تلتقي جميعا عند نقطة توظيف التّمارين اللّغويّة في العمليّة التّعليميّة/التّعلّمية، وهذا من أجل الضرورة العلميّة التي تتطلّبها عمليّة التّلقين9 حيث تمثّل التمارين اللغوية مجال التّطبيق الفعلي والعملي لعمليّة تعليم/تعلّم اللّغة، هذا ما جعل من التّمرين اللّغوي مرتكزا بيداغوجيّا هاما في عملية تعليميّة (تعليم/تعلم) اللّغات، حيث أنّه يسمح للمتعلّم بامتلاك الناصية والقدرة الكافية للممارسة الفعليّة للحدث اللّغوي، وذلك عن طريق ادراج النّماذج الأساسيّة التي تكون الآلية التّركيبيّة للنّظام اللّغوي الهدف المراد تعليمه10 إذ يعمل لتّمرين اللّغوي على ترسيخ المعارف والمكتسبات اللّغويّة ومختلف الأنماط التّركيبيّة، إضافة إلى تعديل السّلوك اللّغوي لدى المتعلّم، فنظرا لهذه الأهميّة وجّه المختصون في الميدان اللّساني والتّربوي كلّ اهتماماتهم إلى البحث عن أنجع السّبل والطرق قصد ترقية التّمرين، وتحديد أهدافه التّعليميّة والبيداغوجيّة مسبقا وضبط مختلف إجراءاته؛ لتذليل الصّعوبات التي تعترض المتعلّم، وذلك لتفادي الخطأ اللّغوي الذي كثيرا ما شكّل عائقا أمام تطوّر العمليّة التّحصيليّة في مجال تعلّم اللّغة11 لأنّ اكتساب للّغة تمرّن متواصل، ونموّها مرهون به، فبمجرّد التّوقّف عن التّمرّن فيها يتوقّف نموّها.
نستنج مما سبق عن وظائف التّمرين اللّغويّ وأهميّته أنّه لا يخص محطّة معيّنة من الدّرس اللغوي، بل مرتبط بجميع مراحل الدّرس، فقد يكون مفتاحا أو مقدّمة لبداية الدّرس أو عند نهايته كخاتمة له، لأنّ مرحلتا المراقبة والعرض تحتاجان للتّمرين، كما لا يمكن لمرحلتي التّرسيخ والاستثمار الاستغناء عن التّمرين، ففيهما يجري الجزء الأكبر من التّمارين اللّغويّة.
إضافة إلى كون التّمرين اللّغوي أداة أو وسيلة لتصحيح وتصويب لكلّ ما تعلّمه ودرسه المتعلّم، ووسيلة لمراقبتهم ومراجعتهم، وتقييم مدى استيعابهم للدّروس، فهو بالتّالي جزء من عملية التّقويم، وهذا الدّور المنوط للتّمرين اللّغوي جعله جدير باحتلال مكانة هامة في حقل اللسانيات التّطبيقية عامة وفي حقل تعليمية اللّغات على وجه الخصوص.
3. مفهوم التعليمية وتعليمية اللّغات
يعتبر حقل تعليم اللّغات من أهم مجالات اللّسانيات التّطبيقيّة، فهي مركز استقطاب في الفكر اللّساني المعاصر والحديث -بلا منازع- باعتبارها الميدان المتوخّى لتطبيق ما أثمرت به النّظريّات اللّسانيّة، وذلك باستثمار النّتائج المحقّقة في حقل اللّسانيات النّظرية، في ترقية وتطوير طرائق تعليم اللّغات12حيث تهتم اللّسانيات التّطبيقيّة بتدريس اللّغة وتنمية مهاراتها (التّحدّث، والقراءة، والكتابة، والكلام) في المراحل التّعليميّة المختلفة، ذلك أنّ التّعليميّة تركّز على الجانب المنهجي لتوصيل المعرفة، فهي بذلك لا تهتم بدراسة وضعيّات التّعليم/التّعليم من زاوية المضمون والمحتوى، بل تجاوزت ذلك للاهتمام بعدّة ابعاد منها البعد المعرفي للتّعلّم إضافة إلى الأبعاد النّفسيّة والاجتماعيّة، وذلك بالتّركيز على شروط اكتساب المتعلّم للمعرفة، والعلاقة التّربويّة التي تربط المعلّم بالمتعلّم من منظور التّفاعل في قاعة الدّرس.
التّعليمية(Didactique) جزء لا يتجزّأ من البيداغوجيا، حيث تسند إليه هذه الأخيرة العديد من المهمات التربويّة العامة، كي ينجز تفاصيلها، فتتّخذ التّعليميّة التّدريس موضوعا لها، ومصطلح التعليمية حديث النّشأة، حيث ظهر في النّصف الثّاني من القرن العشرين، والتّعليميّة حسب بورسو هي دراسة علميّة لتنظيم مختلف وضعيّات التّعلم ليحقق المتعلّم من خلالها جملة من الأهداف المسطرة، منها المعرفيّة العقليّة أو الوجدانيّة أو النّفس-حركيّة13 كما عرّفت التّعليميّة على أنّها دراسة علميّة غايتها وضع برنامج تربوي يسهّل للمتعلمين تعليم اللّغات14 أو أنّها الدّراسة العلميّة لمختلف طرق وتقنيات التّعليم ولأشكال تنظيم مختلف مواقف التّعلّم التي يخضع لها المتعلّم قصد بلوغ الأهداف المسطّرة15 فغاية وهدف التّعليميّة هو بناء المناهج التعليمية، إضافة إلى إعداد المقرّرات وتقويمها، أمّا مصطلح تعليميّة اللّغات (Didactique des langues) فيقصد به ذلك الاختصاص الذي يغطي مجموع المقاربات العلميّة في حقل عليم اللّغات، ويكون نقطة تأليف بين جملة من العلوم المتكاملة، أهمّها اللّسانيات وعلوم التّربية وعلم النّفس وعلم الاجتماع16 فتعليميّة اللّغات هي دراسة اللّغة بطريقة ممنهجة وموضوعيّة ، تهدف من خلالها إلى وضع محتوى أو برنامج لغوي يتماشى مع المراحل الدّراسيّة للمتعلّم، كما يجب أن تراعى فيه جملة من الأمور، مثل السّهولة والتّدرّج في عرض المادة(البدأ من السهل وصولا إلى الصعب) وحاجات المتعلّم إضافة إلى الحجم السّاعي، والغرض من ذلك هو التمكّن والتمرّس في اللّغة الهدف، فمفهوم تعليمية اللّغات –حسب هذه التعريفا- علم يقترن بذلك الميدان أو المجال العلمي الذي يهتمّ بالبحث في المسائل المتعلّقة بتعليم/تعلم اللّغات وذلك في إطار نظاميّ وفق شروط معيّنة، تحكمه مجموعة من القوانين الثّابتة، وذلك باعتماد برامج مسطّرة محدّدة وطرائق فعّالة، قادرة على تحقيق الغايات والأهداف المسطّرة لتعليم اللّغة الهدف، وقد تكون هذه اللّغة لغة أم أو لغات أجنبيّة، وتعليميّة اللّغات علم مستقل بذاته رغم نشأته في كنف اللّسانيات التّطبيقيّة، ورغم علاقاته الوطيدة وانفتاحه على عدّة حقول مرجعيّة كعلم النّفس وعلم الاجتماع...
من خلال ما سبق يتضح أنّ التّعليميّة تعني الدّراسة العلميّة لجميع مكوّنات العملية التّعليميّة/التّعليمية المتفاعلة مع الموقف الصفّي، تهدف إلى تحقيق أهداف النّظام التّربوي.
4. التمارين اللّغوية بين الجيل الأول والجيل الثاني
قبل الحديث عن التّمرين اللّغوي في المقاربة بالكفاءات (الجل الثاني) لا بدّ من استعراض أو التّطرّق إلى هذه التّمارين في المقاربات السّابقة (الجيل الأول)، حتى نكتشف ويتبيّن لها خيط التّجديد من التّقليد –إن وجد- أو بطريقة أخرى ما هو الجديد في التّمارين اللّغوية بين الجيلين؟ فالمتتبّع للسّياسة التّربويّة يدرك أنّ ثمة عدّة أنواع من التّمارين –حسب الهدف والغاية المنشودة منها-، حيث تتوزّع هذه التّمارين إلى ثلاثة أنواع وهي : التّمارين التّقليديّة، والتّمارين البنيويّة والتّمارين التّواصليّة، إذ اقتصرت التّمارين اللّغوية في المناهج القديمة على التّمارين التّقليديّة المتمثّلة في التّمارين التّركيبيّة التّحليليّة، أمّا في العصر الحديث وبتطوّر طرائق تعليم اللّغات تطوّرت التّمارين اللّغويّة، ولم تعد تعتمد على التّمارين التّقليديّة، كطريقة النّحو والتّرجمة... فقط، فيجب تنويع التدريبات والتركيز على تدريبات الضبط والاستخدام الصحيح والتحويل، فامتلاك الملكة اللّغويّة لدى المتعلّم مرهون بالتّدريب والتّكرار فضلا عن تنويع هذه التّدريبات اللّغويّة.
1.4. التّمارين التّقليديّة (التّحليليّة التّركيبيّة)
تستهدف بالدّرجة الأولى اكساب المتعلّمين معلومات نظريّة حو اللّغة، بتقييم مدى استيعاب التلاميذ للظاهرة النحوية، وهي ذات طابع كتابي (أهملت مهارة التّحدّث) تكون مدخلا لاحقا للتّحكم في الملكة اللّغويّة، ولتطبيقها، حيث « تتوسّل الشّواهد القديمة، وتبرز أهمية محاكاتها والقياس عليها، مؤكّدة أنّ الكلام الأقدم هو على العموم الأصوب لدراسة القضايا اللّغوية »17 كما أن أغلب هذه التدريبات يعتمد على أبسط وجوه التأليف الكلامي ويتميّز هذا النّوع من التّمارين بالطّابع التّحليلي المتمثّل في (عيّن، استخرج، وضح، أعرب) إضافة إلى الطّالع التّركيبي المتمثّل في (أكمل، املأ الفراغ، أدخل...)
2.4. التّمارين الحديثة
وتنقسم بدورها إلى تمارين بنيوية، وتمارين تواصليّة:
1.2.4. التّمارين البنيوية (Les exercices structuraux)
يعدّ مصطلح البنيويّة أو التّمارين البنيويّة من المصطلحات الحديثة في حقل تعليم اللّغات، وأظهرت هذه الطّريقة –رغم حداثتها- ضرورة التّمحيص وإزالة المشاكل بتحليل الصّعوبات، ونظرا لأهميّتها في حقل تعليم/تعلّم اللّغات استقطبت العديد من المؤلّفين، الذي تسارعوا لتأليف كتب تضمّنت هذا النّوع من التّمارين، لتصبح التّمارين البنيوية موضة التّعليم اللّغوي الحديث، حيث تبنّاها العديد من التّربويّين واللّسانيّين.
يهدف هذا النّوع من التّمارين إلى إكساب المتعلّم المهارة الكافية لاستعمال مختلف البنى والعناصر اللّغويّة (الصّوتية الصّرفيّة والنّحويّة والمعجميّة) حتى يتحكّم المتعلّم التّصرّف فيها عند الضّرورة، فالغاية منها هي « أن يتدرّب الطّالب تدريبا منظّما ومستمرا على استعمال البنى المذكورة حتى تترسّخ في ذهنه »18 عن طريق الاستعمال المنتظم في سلسلة من الأنماط التركيبيّة قياسا على المنوال أو النّموذج أو المثال المقدم في مقدّمة التّمرين، يستدرج المعلّم من خلاله المتعلّمين إلى إنتاج ما لانهاية من الجمل أو العبارات على غراره، فنموذج : فعل+ فاعل+ مفعولا به يعدّ نمطا لغويّا، مثال : المعلّم : اشترى خالد كرّاسا المتعلّمون : اشترى خالد كراسا
|
|
|
|
فبهذه الطّريقة يتمّ تعليم العناصر اللّغويّة الجديدة للمتعلّم مثلا تاء التّأنيث في المثال السّابق، من خلال تمارين وتدريبات لغويّة يقوم فيها المعلّم بتقديم النّموذج أو المثال، وما على المتلّمين إلاّ استبدال العناصر اللّغويّة القديمة بعناصر لغويّة جديدة يقدّمها لهم المعلّم ويساعده في استبدالها، وتختلف درجة بساطتها وتعقيدها حسب العناصر المراد استبدالها، وكانت نقيضة التّمارين التّقليديّة، حيث كانت فيها الأولوية للسّيطرة اللّفظيّة (مهارات التّحدّث)
والمبدأ الأساس لهذا النّوع من التّمرينات هو المشاركة الفعالة والايجابيّة للمتعلّم، عن طريق ارشاد وتوجيه المعلّم، أثناء القيام بعمليات الاستبدال او التّحويل لعدد من عناصر جملة الانطلاق، ومن أهم الوظائف التي حدّدها اللّسانيون للتمارين البنيوية هي الوصول بالمتعلّم إلى مرحلة يصبح فيها قادرا على إنتاج جمل جديدة ومفيدة، لكن دون حشو ذهنه بالقواعد النّحويّة، أي دون أن يحفظ القواعد المتعلّقة بالنحو والصّرف... كأن يكون اسم كان مرفوعا وخبرها منصوبا... بل يستنبطها تلقائيّا.
1.1.2.4. خصائص التمارين البنيوية
2.1.2.4. مزايا التّمارين البنيويّة
لا يمكن أن ننكر الدّور الفعّال للتّمرين البنيويّة في ترسيخ البنى والعناصر اللّغويّة للمتعلّم، هذا ما سمح لها بالتّميّز بجملة من المزايا منها:
-
تعدّ وسيلة هامة لإيصال المعلومات ونقلها إلى أذهان المتعلّمين، بطريقة بسيطة دون الحاجة إلى الشّرح والتّحليل.
-
تركيزها على جانبي اللّغة، الكتابي والشّفوي.
-
تحسين مردوديّة المتعلّمين، حيث يكون المتعلّم فيها مشاركا فعّالا في العمليّة التّعليميّة/ التّعلمية، من خلال التّمرين والتّكرار، ممّا يؤدّي إلى ترسّخ تلك البنى اللّغويّة الت تعلّمها في ذهنه.
فكلّما كثرت التّمارين وتنوّعت كلّما ترسّخت في ذهن المتعلّم، ممّا يمكّنه ويساعده على استعمال البنى والضّوابط اللّغويّة فضلا عن سهولة استذكارها.
2.2.4. التمارين التّواصلية (Les exercices de Communication)
مصطلح التّمارين التّواصليّة –كذلك- حديث النّشأة، أتى هذا النّوع من التّمارين لسدّ الثّغرات المتروكة في تعليميّة اللّغات، والمتعلّقة بالجانب التّداولي، باستعمال أنماط جديدة تهدف إلى « الوصول بالمتعلّم إلى التّواصل باللّغة واستعمالها في سياق سوسيو ثقافي وفي وضعيات تواصلية محدّدة مسبقا قصد اداء نوايا تواصلية »19 وهو ثمرة من ثمار الطّريقة التّبليغية، التي قامت على أنقاض الطّريقة البنيويّة بعدما فشلت في اكساب المتعلّم القدرة على التّواصل بالبنى اللّغويّة التي اكتسبها من خلال الدّروس، فقامت في ظلّ النّظريّات اللّغويّة السّيكولوجيّة والاجتماعية، حيث راعى واضعوها البعدين الاجتماعي والتّواصلي في تعليم اللّغات، حين نبّه « ديل هايمز » على الملكة التّواصليّة، أو القدرة على التّبليغ، ولم يكتفوا بالملكة اللّغويّة فحسب –كما كان الحال في الطّرائق السابقة- وكان انطلاق أنصار هذا الاتّجاه من التّساؤل عن فائدة إتقان التّراكيب اللّغويّة والقدرة التّامة على تركيب الجمل الصّحيحة، إذا عجز المتكلّم عن الاستخدام الفعلي لها في مختلف المقامات الحياتيّة، ومن هنا اتسّع البحث لدى المختصّين من التّركيز على المتعلّم وحاجاته اللّغويّة إلى التّركيز على المتعلّم وحاجاته التّبليغية20 فالتّمارين التّواصليّة هي مختلف النشاطات الهادفة إلى تدريب وتمرّس المتعلّم على اكتساب التّلقائيّة في التّعبير عن المقامات والأحوال الخطابيّة المختلفة، من وصف وتقرير وجواب، وموافقة ورفض وطلب... فكلّ تدريب يمارسه المتعلّم ليعرف ما يمكن قوله في ومان معيّن، ومكان معيّن مع متحدّث معيّن، بطريقة معيّنة في ظروف اجتماعيّة معيّنة لتحقيق هدف معيّن21 فهو تمرين تواصلي.
تسعى أو تهدف هذه التّمارين إلى إكساب المتعلّم مختلف المستويات اللّغوية الصّوتية والصّرفية والمعجمية والتّركيبيّة، والتي تمكّنه من فهم اللّغة واستيعابها استيعابا يسمح له التّواصل بها في مختلف الحالات اليومية، في البيت في الشارع في المدرسة... فيهدف هذا النّوع من التّمارين إلى حفظ لسان المتعلّم، ليس من الخطأ اللّغوي فحسب، بل كذلك حفظه من خطأ استعمال المقال في غير مقامه، حيث لكل مقام مقال لا بدّ من مراعاته، فهدف التّمرين التّواصلي هو تمكين المتعلّم من استعمال اللّغة استعمالا تلقائيّا.
1.2.2.4. أنواع التمارين التّواصليّة
يمكن تصنيف التّمارين التّواصليّة إلى نوعين رئيسيين، هما التّمرين الموجّه يكون فيه المتعلّم مقيّدا نوعا ما بوضع الكلمات أو الجمل...من اقتراح التمرين) ، وتمارين التّعبير الحر (يكون فيها المتعلّم أكثر حرية في اختيار الكلمات وانتقاء الجمل...)، تقوم هذه تمارين أساسا على أسلوب السّؤال والجواب أو الحوار بمفهومه الواسع، ونقصد أو نعني بالحوار تعليم العناصر والوظائف اللغوية من خلال محادثة بين فردين أو أكثر .
أما أهم الأشكال التي تدخل تحت هذا النوع من التدريبات نذكر : الإجابة على أسئلة تبليغية عامة، إكمال عبارات ناقصة بأسلوب المتعلّم دون إعطاء كلمات مساعدة، مناقشة شفوية لموضوعات قصيرة، سؤال المتعلّم عما يقول أو يفعل في أحوال ومقامات معينة، محادثة حرة، مناقشة عامة، تدوين ملاحظات، تقارير شفوية وكتابية وانشاء حر ...الخ.
سبق أن أشرنا إلى أنّ هذا النّوع من التّمارين يسعى إلى إكساب المتعلّم المهارات اللّغويّة المختلفة، فيمكن تقسيمها من حيث المهارة المستهدفة إلى تمارين فهم المسموع، وتمارين فهم المقروء :
-
تمارين فهم المسموع : تبنى أساسا على الفهم، عن طريق القاء المعلّم الجملة أو الجمل المراد تعليمها على مسامع المتعلّمين، ويختبر بعدها مدى فهمهم واستيعابهم لما سمعوه، عن طريق سؤالهم، للتّأكّد من قدرتهم على التّمييز بين مختلف الأصوات والمفردات والتّراكيب التي سمعوها، لأنّ اكتساب مهارات الاستماع يتطلّب انتقاء الألفاظ والجمل والنصوص وظيفيّا، حيث تسهم هذه التمارين في تدريب الآذان (حاسة السّمع) على حسن الإصغاء للبنى اللّغويّة بأصواتها وتراكيبها.
-
تمارين فهم المقروء أو المكتوب : وهي مهارة استقبالية تعتمد على النّصوص المكتوبة، ويساعد على التّعرّف على الحروف ونطقها، كما تساعد على إدراك المعاني وفهمها من خلال التّفاعل مع النّص، فمهارة القراءة تعتمد على الإدراك البصري للنص، وفهم معانيه وفكّ رموزه حتى يتم بذلك كسب مهارة فهم المقروء أو المكتوب واستيعابه.
2.2.2.4. مزايا التّمارين التّواصلية
تتميّز التّمارين التّواصلية بجملة من المزايا، منها:
-
توفّر للمتعلّم التّكلّم بتلقائيّة وعفويّة.
-
امكانية المزج فيها بين التّمارين الشّفويّة والكتابيّة وإنجازها في وقت واحد.
-
اعتمادها على مبدأ التّحاور، فهي تحتاج وتتطلّب وجود محاورين فأكثر، نظرا لطبيعة الحوار.
-
تنمية القدرة اللّغويّة من خلال توفير المواقف التّواصلية المناسبة.
-
مشاركة المتعلّم فيها مشاركة فعّالة، ويكون له نصيب جيّد من الوقت لممارسة اللّغة.
كلّ هذه الأنماط تمظهرت في بيداغوجيا الجيل الثاني (المقاربة بالكفاءات) في صور وضعيات إشكالية وأنشطة وتمارين تجبر المتعلّم وتفرض عليه تجنيد كلّ معارفه، ثم انتقاء الأنسب منها للوصول إلى الحل، ثم تقييم مدى اكتسابه للكفاءة المستهدفة من هذه النشاطات.
5. نقاط التقاطع والتلاقي بين الوضعيات المشكلة والتّمرين
نصت الأبحاث والدراسات الحديثة في ديداكتيك المواد الدراسية على تغيير الممارسة البيداغوجية التقليدية التي ترتكز على منطق التعليم المبني على أصول التلقين والشرح للمحتويات والمعارف والمفاهيم، وغياب الممارسة الناجعة التي تقوم على منطق التعلّم، كما يكاد يجمع منظّرو الكفايات على أنّ « الوضعية المشكلة هي التي تبني كفاية فعلية لا كفاية افتراضيّة أو متوقّعة، وفيما يتمّ تقويم الكفاية وتعديلها »22 فبناء الدرس انطلاقا من بيداغوجيا حلّ المشكلة يحفز المتعلم على المشاركة الإيجابية ويدفعه إلى التفكير العلمي والرغبة في التعلّم الذاتي؛ من أجل بناء معارف جديدة، باتخاذ إجراءات أكثر فعالية تقوم أساسا على الملاحظة وافتراض الحلول الممكنة ثم الوصول إلى الاستنتاج والاكتشاف، وبذلك يحصل التعلّم وهذا ما أدى بأحد المربين إلى القول بأنّ المشكلة أم التعلّم قياسا على قولهم الحاجة أم الاختراع، وطريقة التدريس التي ينبغي اختيارها في المقاربة بالكفايات هي طريقة الوضعية المشكلة التي يوضع فيها المتعلّم أمام صعوبة معينة تتحداه حتى يشعر بأنّها فعلا مشكلته ويتعين عليه إيجاد الحلّ المناسب لها، باتخاذ التدابير اللازمة واستخدام كافة قدراته، نستنتج من هذا أنّ « الوضعيّة المشكلة تربطها علاقة عضوية بمفهوم الكفاية، إذ من المستبعد الحديث عن كفاية في منعزل عن الابعاد السّياقيّة »23 والتي تعدّ خاصية لازمية في الوضعيات، فالعلاقة بينهما علاقة تلازم ، فالحديث عن إحداهما يستعي ويستوجب الأخرى مباشرة في الآن نفسه،
ويقتصرن دور الأستاذ هنا في التوجيه والإرشاد لتذليل العقبات وبناء التعلمات، فأي محاولة أو ممارسة بيداغوجية تحاول بناء الكفاءات أو تقويمها بدون الوضعيّات تعدّ مبتورة، كما أنّ نصاب الكفاءة لا يكتمل إلاّ بوجود هذه الوضعيات التي تعدّ « بمثابة المحكّ الذي يسمح بالتثبّت من حصول الكفاية »24 في آخر المطاف، فمفهوم الوضعيّة يتحدّد تبعا أو وفقا لسياقين اثنين يرتبط الأوّل ببناء الكفاءة، ويتحدّد الثاني بتقويمها، فتتحدّد بسلسلة من النّشاطات والظّروف المحيطة التي يؤمّنها المعلّم لمواجهة المتعلّم بما هو جديد، وبما يشكّل قطعا مع المفاهيم المعروفة لديه، هذا إذا كان السّياق سياق تعلم (بناء) يساهم فيها المتعلم بنفسه ووفق ميولاته وتوقّعاته ومعارفه وأهدافه، فوضع المتعلّم « داخل فضاء يساعده على التّفكير، ويخوّل له تحليل كلّ العناصر التي تحيط بالمشكلة وهو وضع يساعده على إغناء عملية التعلم، حيث تضاف مكتسبات جديدة إلى رصيد المتعلّم »25 أمّا السّياق الثّاني، أي إذا كان السّياق سياق تقويمي فتتحدّد هذه الوضعيات في كلّ « نشاط تطبيقيّ مركّب، تتوخّى [الوضعيّة فيه] تجنيد المكتسبات التي بناه المتعلّمون، وهي تستهدف إدماج ما تمّ اكتسابه واستثماره ضمن وضعيات مختلفة قصد إعطائها معنى في حياة المتعلّمين »26فإنّ المدرسة مطالبة بتوفير بيئة تعليمية تسمح باستثمار مختلف الذكاءات المرتبطة بالقدرات، ومن خلال أنشطة مؤسّسة على الإدماج، لذا شاع في الآونة الأخير في حقل التّعليمية مصطلح الوضعية الادماجية، لذا يستوجب علينا المقام التّوقّف قليلا عند هذا المصطلح التّعليمي/ التعلّمي، والمتكوّن من مفردتين هما مفردة الوضعيّة التي تأتي دائما مقرونة بمصطلح الادماجية وهي صفة للوضعية، ونلمس فيها إحالة لصعوبة أو عائق يتطلّب أو يستوجب البحث عن حلول لتجوازها، « ويصبح المتعلّم مطالبا بالتوسل بمعارفه المختلفة كي يقوى على مواجهة الوضعيّة المشكلة27 تتكون الوضعية من ثلاثة عناصر أو ثلاثة مكوّنات أساسيّة وهي : السند أو الحامل أو الدعامة (le support) المهمة (les missions) والتّعليمات (les consignes)، فأوّل أو قاعدة هذه العناصر هو السّند، وهو مجموعة من العناصر المادية التي يقترحها المدرّس، وله الخيار في انتقائها أو اختيارها، فقد تكون نصا، أو وثيقة، أو صورا، أو حتى الوسائل التّعليميّة (مسموعة أو مرئية) التي تكشف عن السياق الذي تتواجد فيه، لأنّ السند يحدّد بالنّظر إلى السياق الطي تتحدّد فيه الوضعية، والمعلومات التي يتفاعل معها المتعلّم ، وقد تأتي هذه المعلومات تامة كما قد تأتي ناقصة، جديدة أو معروفة سابقا، إضافة إلى الوظيفة التي تحدّد الهدف من النتائج المنتظرة، العنصر الثاني وهو المهمة أو المطلوب، وهو توقع الانتاج المنتظر، يتمثّل في انخراط أو مشاركة ننتظرها من المتعلّم، أمّا العنصر الثالث والأخير التعليمات، فتتمثّل في مجموع التّوجيهات التي تقدم للمتعلم وبشكل صريح، قصد مساعدته على أداء مهمته، ويشترط فيها الدقة والوضوح، وتحديد معايير كالجودة، وعدد الأسطر، وبعض المميزات الكتابية كأنماط النصوص وأنواعها، أو بعض المصطلحات المدروسة أو المبادئ اللغوية ...وتأتي عادة في صيغة الأمر أو صيغة المتكلّم المفرد، فهذه المكونّات هي التي تعطي للوضعية خصائصها العامة، الممثّلة اساسا في الشّمولية والدّلالة والّقعيد، فوضعيات المشكلة في -أغلب الأحيان- تدمج أكثر من مورد معرفي معروف عند المتعلّم لها معنى في نفسه، وتضعه في صرع معرفي يتطلّب استحضار مكتسبات قبلية ومهارات لانجازها.
أمّا التّمرين فهو نشاط مثله مثل الوضعية لكّنه يختلف عنها في كونه أحادي الهدف، يسعى إلى ترسيخ وتثبيت محتويات تعلّمها المتعلّم في حصّة دراسيّة واحدة (نحو/ صرف، بلاغة...) بغرض التمرّن على استحضارها واسترجاعها أو استظهارها وقت الحاجة، ويتمّ تناول التّمرين على مرحلتين أو جرعتين، هي : تطبيقات جزئيّة تتخلّل مسار الدّرس أو الحصّة، قد تكون شفويّة أو كتابيّة، وتمارين ختاميّة أو نهائية تستعمل في نهاية الدّرس، لا تختلف في الأسلوب عن السابقة، لكنّها غالبا ما تكون أكثر كثافة وتنوعا وشمولا، حيث يتكتف في الأولى بتمرينين أو ثلاثة، في حين تكون أكثر في الصّنف الثاني.
فبهذا لتّحديد لحدود كلّ من الوضعية المشكلة والتّمرين، نلحظ خطوط التّمايز أو الاختلاف بينهما، حيث يكون التّمرين مجزّأ، يستهدف –فقط- المعارف المنعزلة المنفصلة عن بعض، في إطار بعيد عن السياق، في حين تتميّز الوضعية المشكلة أو الوضعيّة الإدماجية بالطّابع الإدماجي، وتتوخى »تطوير بناء الكفاءة المحدّدة اعتمادا على الاستثمار والتوظيف« 28 لكن بشكل لا ينفصل عن واقع المتعلّم، وهو ما يعطي للوضعية معناها.
6. العلاقة الإجرائية بين الوضعية المشكلة والتّمرين
عند فحص هذا المخطّط نجد أنّه يلتقي مع تصنيف المقاربة بالكفاءات للوضعيات المشكلة، وذلك حسب موضع استعمالها في العملة التعليميّة/التّعلمية، التي تأتي على شكل هرم، تمثّل وضعية الانطلاق قاعدة الهرم، والتي تستهدف الوقوف على مدى حضور المتعلّم إضافة إلى استعداده للانخراط في العملة التّعليمية /التعلمية؛ إذ »تنطلق... من لغز أو أحجية، أو طرح مشكل أو فرضية، او حتى تمرين« 30 وليس لزوما منه الإجابة عنها بشكل صحيح، فلا تتعدى أهدافها التّعليمية التّحفيز، فكما أشرنا سابقا، فالوضعية المشكلة تعلّمية ديداكتيكية، تستهدف بناء معارف جديدة »يكون فيها المتعلّم أمام عقبة أو تناقض يجعله يعيد النّظر في معارفة ومعلوماته"31 ومكتسباته القبلية، إلى جانب هذه الوضعية المشكلة نجد الوضعيّة الإدماجية التي تستهدف التقويم، وتنقسم بدورها إلى شقّين أو قسمين، هما :
وضعية إدماجية جزئية: وهي عملية تفحصّية أي يتم من خلالها التّأكّد من اكتساب المعرفة الجديدة ودرجة التحكم فيها فقط.
وضعية الإدماج الكلي: تهدف إلى الوقوف على مدى تحكم المتعلّم في الكفاءة المستهدفة أو أحد مستوياتها، وتأتي بعد عدد من الحصص التّعليمية التّعلمية، قد تصل إلى فصل دراسي، فالتّعليم بالوضعيات في طار الكفاءات عبارة عن سلسلة لا تخلو منه محطّة من محطّات تقديم الدّرس، كما يوضّح ذلك الشّكل التالي
7. الدّراسة التّطبيقية للتّمارين اللّغويّة في كراريس نشاطات اللّغة للسنة الرّابعة من التّعليم الابتدائي
1.7. من حيث النوع: جاءت التّمارين اللّغويّة في كتب اللّغات للسّنة الخامسة من الابتدائي
الجدول رقم (1) : تصنيف التّمارين في كراس النّشاطات في اللغة العربية واللغة للسنة الرّابعة من التعليم الابتدائي
نوع التمارين |
التكرار |
النسبة المئوية |
التّحليلية التركيبة |
258 |
75 |
البنيوية |
37 |
10.75 |
التواصلية |
49 |
14.24 |
المجموع |
344 |
99.99 |
بلغ عدد التّمارين في هذه المدونة ثلاثة مئة وأربعة أربعون (344) ، وهذا الكم ضعيف جدّا ضئيلة مقارنة بما تدعو إليه المناهج التّعليميّة الحديثة، من ضرورة تكثيف للتّدريبات والتّمارين اللّغويّة، ولا سيما البنيويّة والتّواصليّة التي تمكّن المتعلّم من اكتساب المهارات اللّغويّة وتنميتها، لأنّ عملية اكتساب للّغة يعتمد بالدرجة الأولى على التمرّس، وتطورها مرهون بالتدريب والتمرّس، فكلّما توقفت توقف معها النّمو اللّغوي، وصارت الملكة اللّغوية فيها شيئا فشيئا إلى الزّوال، حتى ولو كان صاحب الملكة يحفظ قواعد اللّغة كلّها، فرغم هذه الأهمية إلاّ انّ حضور التنوع جد محتشم، لا يعكس مستوى طموح مصمّميها، فتتعارض فلسفة ومبادئ الكفاءات في توجّهاتها النّفعيّة البراغماتية مع هذه النّتائج ، حيث أنّنا وجدنا التّمارين التّقليدية أكثر ورودا لتليها في المرتبة الثّانية التّمارين التّواصليّة وفي المرتبة الثالثة والأخيرة التّمارين البنيوية، فلا تزال التّدريبات والتّمارين اللّغويّة في هذه الكراريس تقوم على تقديم المعارف بالدّرجة الأولى، وتنأى عن تقويم الكفاءات والمهارات اللّغوية المكتسبة، ويتجلّى ذلك في تكريس مسألة حفظ القواعد وترسيخها في ذهن المتعلّم، وهذا ما يفسّر كثرة التّمارين التّقليديّة الخاصة بالاستخراج، والتّصنيف والتّعيين... فعرف هذا النوع من التمارين اللغوية في المقاربات التعليمية القديمة (المقاربة بالأهداف)، وتهدف هذه التمارين إلى تقيم مدى استيعاب المتعلمين للظاهرة النحوية، كما ان أغلب هذه التدريبات تعتمد على التحليل/ التركيب، كما تتميز بالطابع التحليلي المتمثل في )عين بين وضح استخرج( إضافة إلى الطابع التركيبي المتمثل في الجمل املآ الفراغ اربط كوّن، فكان حضور هذا النّوع قويّ جدّ إذ تجاوز ثلثي العدد الإجمالي للتمارين.
2.7. من حيث ملائمتها للمحتوى المقرّر والأهداف المسطّرة
من خلال تصفّحنا لمختلف التّمارين اللّغويّة الواردة في كراس نشاطات في اللغة العربية للسنة الرّابعة من التّعليم الابتدائي، والتي تناولت مختلف المسائل والظواهر اللّغويّة المتناولة في الدّروس لاحظنا أنّها جدّ قليلة، من حيث الكم، إضافة إلى عدم التّوافق بين الأهداف المنتظرة المسطّرة والتّمارين اللّغويّة المبرمجة، ففي حين تؤكّد أهداف البرنامج على ضرورة اعتماد التّقويم على تمكين المتعلّم من استثمار معارفه اللّغويّة المختلفة، واكسابه الكفايات اللازمة لتوظيفها توظيفا فعليّا في ممارسته اللّغويّة اليوميّة، يفاجئنا مضمون تمارين الكتب التي يغلب عليها الطّابع التّقليدي (تمارين التّحليل والتّركيب) وهي أسئلة مباشرة، لا تتطلّب من المتعلّم التّفكير إذ تطلب منه الاستخراج من النّص، والتّعيين، وملء الفراغ بمفردات جاهزة، أو الرّبط بين معلومات مقدّمة أو إعادة ترتيب المفردات... فهذا النّوع من التّمارين تهدف إلى التّحصيل الكمي للمعرف اللّغويّة، لا إلاّ التّدرّب على استعمالها.
8. كراس النّشاطات اللّغويّة بين الوضعيات المشكلة والتّمارين
إنّ المتصفّح كراس النشاطات في اللغة العربية يستوقفه تبويب التّمارين فيها؛ كونها تعكس فلسفة المنهاج الجديد (الجيل الثاني) الذي يقوم على مبدأ المقطع التّعليمي في هيكلة التّعلّمات حسب فترات تمتدّ لأربعة اسابيع (شهر) لكلّ مقطع، فالتّمارين بوّبت في ثلاث صفحات لكلّ نص وفق المقاربة النصّية المعتمدة، حيث تجعل هذه الأخيرة من النص محورا تدور حوله مختلف الفعاليات اللّغويّة (قواعد، نحو، صرف...) وتمارس من خلاله جميع الميادين، كما وضعت عناوين فرعيّة توضّح وتميّز ملّ مجموعو تمارين بالميدان اللّغوي المراد التّدرّب والمران عليه، وهو ما يوضّح الجدول التالي :
الجدول رقم 2: العناوين الفرعية لأنشطة اللّغة حسب كلّ وحدة تعليمية
الميدان |
العناوين الفرعية |
فهم المنطوق |
أتذكر وأجيب |
التعبير الشفوي |
أستعمل الصيغة |
فهم المكتوب |
أفهم النص |
القواعد النحوية |
|
الصرف والإملاء |
|
التعبير الكتابي |
أتدرّب على التعبير الكتابي |
جميع الميادين |
الإدماج الجزئي |
إنّ الجديد الذي أتى به هذا الكراس هو استحداث صفحة للإدماج الجزئي، في نهاية كلّ مقطع من المقاطع التّعليميّة، تغطّي تمارينها لجميع الميادين المعرفية (ميدان فهم المنطوق، ميدان التعبير الشّفهي، ميدان فهم المكتوب وميدان التعبير الكتابي)، كما تستهدف أو تسعى إلى دمج جميع مكتسبات المقطع اللّغويّة فضلا عن استثمارها، فمبدئيّا يكون التّدريب وفق المقاربة بالكفاءات سيكون محلّه هذه الصّفحة، أي الإدماج الجزئي، أمّا غيرها فتستعمل فيه التّمارين بشكلها التّقليدي،-وهو الطّاغي في هذه المدوّنة كما أشرنا إليه سلفنا- وهذا ما يدفعنا إلى طرح تساؤل بسيط، وهو إلى أيّ مدى تم توظيف الوضعيات الإدماجية في هذه الصّفحة؟ وبصياغة أخرى هل الوضعيات الإدماجية في هذه الصّفحة مكثفة حسب ما تقتضيه المقاربة بالكفاءات؟ وللإجابة عن هذا لسؤّال الجوهري قمنا بتحليل وتصنيف التّدريبات اللّغويّة الواردة في كراس نشاطات اللّغة العربية إلى وضعيات إدماجية وتمارين إحصائيّان حسب الميادين اللّغويّة، حسب ما يوضّحه الجدول التّالي :
الجدول رقم 3 : تصنيف التّدريبات اللّغوية إلى وضعيات إدماجية وتمارين تقليديّة إحصائيّا
الميدان |
العنوان الفرعي |
عدد الوضعيات |
النسبة المئوية |
عدد التمارين |
النسبة المئوية |
فهم المنطوق |
أتذكر وأجيب |
14 |
51.85 |
13 |
48.14 |
التعبير الشفوي |
أستعمل الصّيغة |
06 |
20 |
24 |
80 |
فهم المكتوب |
أفهم النّص |
04 |
14.81 |
23 |
85.18 |
القواعد النحوية |
03 |
6 |
47 |
94 |
|
الصّرف والإملاء |
04 |
7.54 |
49 |
92.45 |
|
التّعبير الكتابي |
أتدرّب على التّعبير الكتابي |
25 |
100 |
00 |
|
جميع الميادين |
الادماج الجزئي |
13 |
17.80 |
60 |
82.19 |
المجموع |
56 |
20.58 |
216 |
79.41 |
نستنتج من الجدول أعلاه أنّ مبدأ التّعليم بالكفاءات باستغلال الوضعيات الادماجية في التّدريبات اللّغويّة شهد محاولات دمج ضمن التّمارين، وهذا تعزيزا لمبدإ التّعليم بالكفاءات بدل التّعليم بالأهداف، الذي أظهر فشله في العملية التّعليمية /التّعلمية، لكن حضور هذه جدّ محتشم وغير كاف، إذ بلغ مجموع الوضعيات خمس 1/5، بنسبة مئويّة تقدّر ب 20.58 % من هذه التّدريبات، إضافة إلى ظهور هذه الوضعيات في صفحة الادماج الجزئي حضورا محتشما، بل طغت التّمارين التّقليدية على هذه الصّفحة.
كما لاحظنا حضور الوضعيات الإدماجية في ميدان فهم المنطوق، وهذا راجع لارتكازها على الادماج والإنتاج.
خاتمة
من النّتائج المتوصّل إليها:
-
الشّح الكمي والضّعف النّوعي للتّمارين اللّغويّة في كتب اللّغات (العربية والأمازيغيّة والفرنسية والانجليزية)، فمن حيث الكم، فعدد التّمارين قليل جدّا لا يسمن ولا يغني عن جوع، أمّا من ناحية النّوع فالتمارين تقليديّة هي المسيطرة عليها، رغم تبنّي البيداغوجيا الجديدة بيداغوجيا الكفاءات.
-
اختلال التّوافق والتّوازن بين الأهداف المسطّرة والتّمارين اللّغويّة المبرمجة، فلم تتجسّد المقاربة بالكفاءات فعليّا في التّمارين اللّغويّة المبرمجة.
-
غياب التّنويع في الأسئلة، وذلك بسيطرة التّمارين التّقليديّة على نظيرتيها البنيويّة والتّواصلية، حيث لاحظنا الحضور المحتشم لكلّ من التّمارين البيوية والتّمارين التّواصليّة.
وبناءً على النتائج المتوصّل إليها من خلال هذا البحث، يمكن القول أنّ التّمارين اللّغويّة الواردة في كراس النشاطات في اللغة العربية بحاجة إلى تغيير جذري، على المستويين الكّي وذلك بتكثيف عدد التّمارين المتعلّقة بجميع الدّروس، حتى يتمكّن المتعلّمون من استيعاب القواعد اللّغويّة وترسيخها في ذهين، أمّا على المستوى النّوعي، فيجب مراعاة البيداغوجيّا الحديثة القائمة على المقاربة بالكفاءات، والتّنويع في نوع الأسئلة والتّركيز على التّمارين البنيويّة والتّمارين التّواصليّة؛ لأهميّتها في العمليّة التعليميّة التّعلّمية.