مقدمة
نعيش حياتنا بين واقع وخيال نصبو إليه، فنصنع لأنفسنا عالما يناسبنا في مخيلتنا ونعيش أحلاما تراودنا... فتصير جزءا منا.... هكذا هوا لإنسان منذ خلق.
وباعتبار أن الأدب هو التجربة الشعورية للإنسان فإنه أفضل وسيلة لنقل ما يعيشه الفرد من سوداوية كنتيجة حتمية لظروفه الاجتماعية، فالرواية المابعد حداثية اهتمت بتجسيد الكثير من الوقائع الاجتماعية وركزت كثيرا على الجوانب المظلمة في حياة الأفراد، لهذا اتخذ هذا النوع بالأدب الديستوبي.
قصص بابل المعلقة للكاتبة « تغريد فياض » نموذج للرواية الديستوبية التي حاولت فيها الكاتبة تجسيد الحياة من جوانبها المختلفة : الإنسانية والاجتماعية لتحدد لنا العوامل المعيقة لتحقيق واقع اجتماعي يجد فيه الفرد العدالة والحياة المريحة، ونجد لدی الكاتبة تغريد فياض اهتماما كبيرا بالتغيير وذلك من خلال رسم عالم ينفر المتلقي ويجعله يجتنب الوقوع في المحضورات التي أشارت إليها وإلى الأخطاء التي قد تودي بصاحبها للهلاك، فقد صورت الأوضاع الاجتماعية السائدة في عدة ضواحي، وربطها بالتخييل، و لهذاسنستعين بإجراءات المنهج البنيوي التكويني المساعد على تقصيها.
يهدف الأدب الديستوبي إلى تصوير الجانب المظلم في المجتمع من خلال تسليط الضوء على الروابط الاجتماعية التي تربط أفراده فيما بينهم وبين مجتمعهم.
فما المقصود بمصطلح ديستوبيا، وكيف تمثلت في الرواية العربية المعاصرة؟ وهل رواية قصص بابل لتغريد فياض يمثل نموذجا لهذا النوع من الخطاب؟ مامدي تمثل الأدب الدستوبي في هذه الرواية ؟
1. مفهوم الأدب الديستوبي
إن الرواية العربية كغيرها من الخطابات الأدبية المعاصرة تنقل الواقع الاجتماعي الذي يصور الجانب الفاسد أو الجانب الجميل لزرع الأمل أو لتغير آلام المجتمع ولو بالتخييل، وقد صور أدب المدينة الفاسدة أو الديستوبيا جوانب مظلمة في المجتمعات العربية لفتا للتغيرات السريعة التي حدثت فيها وغيرت من مبادئ وأخلاق الأفراد وقد : « تُرجمت الديستوبيا باللغة اليونانية بالمكان الخبيث أو المدينة الفاسدة »1 وهي نموذج للرواية المابعد حداثية والتي تصور جوانب مهمة في المجتمع لكن من زاوية واحدة يسلط فيها الكاتب الضوء على الفساد من ظلم وذل وفقر وسوء الأخلاق وهي زاوية قد يبرزها الكاتب لنقل رؤيته أو رؤية جماعة معينة ناقلا من خلالها ايديلوجية ما محاولا الاشارة بالرمز تارة والتعبير بالنقيض تارة أخرى فهو يمكنه الاشارة أيضا لأحلامه وأحلام أبناء مجتمعه بالتغيير وتأسيس المدينة الفاضلة أو عالم اليوتيوبيا والتي هي عكس الديستوبيا : « فقد صور توماس مور اليوتيوبيا على أنها المدينة الفاضلة المليئة بالمثاليات ولا مكان للشر فيها عالمها يتميز بالأخلاقيات الحميدة والخير المطلق، وقد وجد كتّاب الأدب الديستوبي أن هذا المجتمع المثالي غير موجود في الواقع مما جعلهم يؤلفون روايات وكتب على النقيض تماما من الأدب اليوتيوبي.
والديستوبيا تعني المدينة الفاسدة، حيث يسود هذا المجتمع الخيالي الفوضى ويحكمه الشر المطلق، ومن أبرز ملامحه القتل والخراب والقمع والحروب وكان أول من استخدم هذا المصطلح الفيلسوف الانجليزي جون ستيوارت ميل عندما كان ينتقد سياسة الحكومة المتعلقة بالأراضي الايرلندية وهدفت هذه الكتابات عن الديستوبيا للحذر من عوالم مستقبلية محتملة غير مرغوب فيها وشبهت العديد من التجارب الإنسانية الواقعية بهذا المصطلح. »2
ولما كانت الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر ملائمة لتصوير الواقع الاجتماعي فإن الروائي يتخذها وسيلة لمحاولة التغير أو سعيا منه في بسط افكاره وتأملاته، فغالبا ما يكون هدف الرواية المابعد حداثية : « تمثل الواقع وعرضه ولأن هذا الجهد يستحق كل ما يبذل لأجل تحقيقه، والثانية هي الناتج من وراء الجهد الروائي يمكن أن تكون له نتائج وتأثيرات طيبة للغاية على صعيد الجمال أو الحقيقة أو الاتساق أو المنظورات الروائية »3
إن الرواية العربية المابعد حداثية أصبحت تتسم بالخطاب الديستوبي الذي لا يمكن اخفاؤه فهو الصورة البارزة للواقع المعاصر الذي لا يخلو من صعوبة الحياة وسط التطورات والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر على أسلوب المعيشة، لهذا تهتم الرواية العربية بهذا الجانب وبالتالي يسودها الفضاء الفاسد، ويعمل الروائي الحاذق على ربط الأحداث بشخصيات تناسب الجو الفاسد، ويَعد إبراهيم طه آليات ما بعد الحداثة في بناء الحبكة والتي تتمثل :4
« - كسر تتابع الأحداث.
- الخروج عن المألوف في الحبكة الروتينية المتصاعدة في رتابة متوقعة .
- تحرير السرد من الحبكة المعنية بتطوير حدث مركزي.
- شد انتباه القارئ إلى عملية السرد نفسها أكثر من شد انتباهه إلى موضوع السرد.
- تفتيت زاوية السرد، وتوزيعها على شخصيات مختلفة، أي تعدد الأصوات polyphony5
- زوال سلطة الأبوبة بزوال البطل التقليدي، وظهور فكرة اللابطل، وعلى الأقل تشظي هذه السلطة وتوزيعها على شخصيات عديدة في النص.
- تميع الحدود بين سلطة الراوي وسلطة البطل.
- توظيف التناص على أشكاله المختلفة.
- توظيف تقنيات متنوعة من الباروديا والمعارضة والمفارقة والإغراب.
- اللجوء إلى الرمزية بأشكالها، والالتفاف حول المعنى والاحتماء بالغموض.
- إحلال التعقيد والتفتيت محل الوضوح والبناء المتكامل.
- موت المؤلف ومصادرة العملية الإبداعية منه ونقلها إلى القارئ.
- تنصل الكاتب من مسؤولية الكلاسيكية عن تقديم حلول وأجوبة للهموم والتساؤلات المطروحة في النص، وتهجين النص بمعنى تحميله هوية متعددة الأجناس والأنواع. »6
ويبدو أن هذه الآليات التي بينها ابراهيم طه هي نفسها التي يستعين بها أي روائي يعمل على تجسيد الواقع المظلم في نصوصه، ليكون بذلك نصا مثيرا بواقعيته وجذابا بتأملاته التي غالبا ما تكون فيه الحقيقة متجسدة أكثر من التصوير الخيالي في الرواية الديستوبية.
إن الرواية الديستوبية من روايات ما بعد الحداثة التي : » تجل لها يبتعد عن كل القوالب السردية السالفة الذكر، وهذا ما يعيه جيدا « مالكوم برادبري Malcom Bradbry » حينما وضع الرواية في السابق على مصدرين أساسيين هما : الجمالية الواقعية لرواية القرن التاسع عشر التي تؤكد على المرجعية والتعبيرية التاريخية للرواية، متمثلة في خطاب يعتمد على الحبكة والشخصية والأخر، الجماليات الحديثة لرواية أوائل القرن العشرين التي تؤكد على المصادر الشكلية والرمزية للعمل الأدبي، متمثلة في إعطاء أهمية كبرى للقالب والشكل والأسطورة والخلق الروائي »7
الرواية الديستوبية التي لا تتصل بالواقع تكون من وحي خيال الكاتب الذي يتصور مجتمعا فضيعا تسوده أنواع المفاسد وانعدام الأخلاق ولا يكون هذا سوى انعكاس لمخاوف الكاتب مما يحدث وخوف مما ستؤول إليه المجتمعات العربية فهي : » تبتعد عن كل هذا نحو نص من إنتاج وعي مؤلفه، ليس مشروطا أو محكوما بالشخصيات، أو بأبعاد مخططة مسبقا، ولا بأنساق من القيم والعواطف، ولكن الإنشاء نفسه بحيث يصبح النص مكتفيا بذاته، ومن ناحية أخرى الافتتان بالعملية الروائية كمحاكاة تهكمية للشكل- بحيث يصبح تشبيها ببنية اللعبة يمكن أن تقوم بها بالإبدال والتبديل- ويصبح الكاتب والشخصية والحبكة والقارئ جزء من موضوع الرواية. »8
كما يمكن أن تكون الرواية الديستوبية هي فعلا رؤية العالم التي تتجسد في نصوص يكتبها الروائي ويصور فيها وعي مجتمع بأكمله محاولا نقل الحقيقة المظلمة وبذلك فهو يحاول : « إقناعنا -نحن القراء- بأن النصوص الروائية هي إطلالات مشرعة على العالم، نتمكن من خلالها رؤية العالم الروائي (المتماهي مع العالم الحقيقي)ن فإن ما بعد الحداثة تبتغي بكل توق وعزيمة لا هوادة فيها طرح هذه الفكرة وإلغائها كليا، إذ تستأنس الرواية ما بعد الحداثية بفكرة أن الرواية محض خيال وأنها هيكل مختلف »9، فمن البديهة أن يميز المتلقي بين كل ما هو واقعي وبين ما هو تخيلي حتى لا يعيش الأفراد في أحلام واهية قد لا تتحقق.
ولهذا نجد الروائي يصنع عالما يحقق فيه التوازن بين الحقيقة والخيال، فيعمد إلى بناء أحداث مناسبة لشخصيات يختارها بعناية دون أن يقع في تشبيهها بشخصيات واقعية، فتكون : « الشخصيات لم تعط أسماء كاملة بل تم الاقتصار على حروفها الأولية فحسب، مثل(G)أو(V)، الأمر الذي يعكس القناعة السائدة بعدم الحاجة إلى أي أساس بهوية تلك الشخصيات وحل مقابل هذا مجموعة عشوائية قابلة للتغيير من السمات فحسب »10
.2. الديستوبيا في رواية قصص بابل المعلقة للكاتبة تغريد فياض
1.2. الوعي القائـم والوعـي الممكــن
تفتتح الكاتبة روايتها بمقولة : « لكلٍّ منَّا حدائقه المُعَلَّقة في سماء روحه »11، وكأنها منذ البداية تعلن رغبتها كأي فرد في المجتمع، في تحقيق أحلامه في مجتمع أصبح، لا يحقق أدنى الحقوق، وهي بذلك تحاول أن تجعل الرواية انعكاسا للواقع الاجتماعي من كل جوانبه، بالرغم من : « أن النتاج الأدبي ليس انعكاسا بسيطا للوعي الجماعي الواقعي ولكنه يميل دائما إلى أن يبلغ درجة عالية من الانسجام تعبر عن الطموحات التي ينزع إليها وعي الجماعة التي يتحدث الأديب باسمه »12
وفي هذا المقطع من الرواية تحاول الكاتبة تصوير مجتمع، يكون فيه الموت أمنية أفرادها، فالموت مع الجماعة خير من العيش في وحدة، وتحمل مسؤولية وضعها القدر على عاتق الفرد الذي ينجو من موت منتظر، ففي عالم يكثر فيه الموت، يفضل الشخص أن يموت مع الجماعة ولا يبقى وحيدا ليؤسس المجتمع من جديد، في قرية من عالم أسطوري يتجدد الاحتفال، فيلبس الكبار والصغار ملابس مزخرفة، ولكن كغير العادة، بدل ما يتهيأ الناس للفرحة بعيد قادم أو عرس عزيز عليهم، فإنهم يستعدون للموت الجماعي، وكل شخص يتمنى أن لن ينال الجائزة هذه المرة، أمر غريب يدور في هذه المدينة، فالهدايا والجوائز أكثر الأشياء التي يطمح إليها الأشخاص، لكن هنا الهدية مختلفة، إنهم يفضلون الموت مع الجماعة، فالجائزة هي أن يبقى شخص واحد على قيد الحياة ليبدأ من جديد.
في هذه القصة تركز الكاتبة على العالم الفاسد الذي يفضل فيه أفراد المجتمع الموت الجماعي بدل الحياة بعيدا عن الأهل والأحباب، فما فائدة العيش دونهم، وتحمل بناء مجتمع بأكمله مسؤولية لا يتحملها الفرد وحده: « اليوم الاحتفال، والجائزة الكبرى، تضج المدينة بالحياة، الأمهات يلاحقن الأطفال ليلبسنهم ملابسهم الجديدة، والمعطرة بالورد والياسمين والليلك.... »13
في هذا اليوم تريد كل امرأة أن تكون في أفضل تجليات سحرها.
« يجتهد الرجال أيضا في ارتداء أفضل ما لديهم.......رغم ذلك، فإن الجميع، حتى أصغر واحد منهم يعرف السر، ويحتفظ بداخله بتلك الأمنية : ألا يحصل على الجائزة الكبرى.......يتفاعل معهم البركان ليشارك في الاحتفال تكفيرا عن ذنبه... وأخيرا ينتهي الاحتفال...يتوقف أهل المدينة عن الاحتفال ويقفون متجاورين، يمسكون بأيدي بعضهم بعضا، وينتظرون لحظة اختيار صاحب الجائزة الكبرى، حيث سوف يموت الجميع ولن يبقى إلا ناج واحد فقط، لم يكن أي منهم يرغب في أن يكون هو ذلك الناجي ( الجائزة التي يريدها كل منهم هي أن يموت مع الآخرين)14
إن الرواية تجسيد لوقائع تمثل وعي مجتمع بأكمله ومهما حاول الروائي اخفاء اديولجيته أو إيديولوجية المجتمع الذي ينتمي إليه إلا أنه يقع في كثير من المواضع في ابرازها، فالرواية رغم بنائها الفني واعتمادها على التخييل فتبقى دائمامزيج من الاتجاهات الفكرية والايديولوجية لجماعة معينة فالروائي بطل ينقل وعي جماعته بفنية وجمالية ف : » الكاتب لا يعكس الوعي الجمعي...بل على العكس يقدم بشكل متقن درجة المطابقة البنائية التي أدركها بعمق الوعي الجمعي نفسه فقط، وهكذا فان العمل يلون نشاطا جمعيا عبر الوعي الفردي لمبدعه »15
وقد أبدعت الكاتبة في ربط أحداث القصص وبين الشخصيات الواقع الاجتماعي المحيط بها، فحسب قولدمان : » لا يمكن أبدا الفصل بين أي عمل أدبي وبين السياقات الخارجية المحيطة به، فالعمل الروائي لا ينمو إلا وسط بيئته التي تعتبر رؤية للعالم ينقلها الروائي بجمالية التخييل لأن : » العلاقة الموجودة بين الوعي الجماعي وبين الأعمال الإبداعية الفردية الكبيرة على الخصوص، سواء كانت أدبية أم فلسفية أم لاهوتية،لا تكمن في شكل تطابق تام في المستوى، ولكنها تتجلى في نوع من الانسجام على مستوى أعلى، أو نوع من التطابق على مستوى البنيات،لأن الأعمال الإبداعية تبني مضامينها في شكل صياغة مجازية تختلف اختلافا كبيرا عن المضمون الواقعي للوعي الجماعي »16
2.2. رؤيـة العالـم
تقول تغريد فياض : « قالت لي إحدى الجنيات : كي تمضي نحو القادم من أحلامك لابد أن من أن تخفف من كل الأرواح العالقة في فضائك »17، وهنا توجه الكاتبة هذه النصيحة التي يمكن اعتبارها بمثابة رؤية خاصة، لكنها قد تكون لها علاقة بالمجتمع الذي تتحدث عنه الرواية : » فالنتاج الإبداعي الذي يقابل بنية فكرية لجماعة ما، يمكن أن يكون في بعض الحالات من إبداع فرد ليست له إلا علاقة طفيفة مع هذه الجماعة، ومع ذلك فالخاصية الاجتماعية لهذا المؤلف تكمن على الخصوص في أن الفرد ليس في مقدوره على الإطلاق أن يضع من تلقاء نفسه بنية فكرية منسجمة تقابل ما يدعى عادة « رؤية العالم »، فمثل هذه البنية لا يمكنها أن تكون إلا من إبداع الجماعة، والفرد يمكنه فقط أن يرتفع بها إلى درجة عالية من الانسجام بتحويلها إلى مستوى الإبداع الخيالي أو إلى مستوى الفكر النظري. »18
في رواية قصص بابل المعلقة تنقل الكاتبة رؤية محددة قد تكون أقرب للواقع منها للخيال فهي رغم الصور البيانية التي تنتشر في كامل النصوص تقريبا إلا أن رؤيتها تتجسد جليا من خلال ما توجه به القارئ لمعرفة مغزى النصوص، فهي لا تكتفي بنقل رؤيتها من خلال أحداث صنعتها شخصيات محددة بدقة، بل تعمل على زرع بعض من الوعي الذي قد يكون بابا للتغير، حرصا منها على تحقيق العدالة الاجتماعية وهذا كله دليل على تجسيد لتجربتها الشعورية، وما تشعر به إتجاه مجتمعها مشاعر صادقة تدل على حبها ووفائها ف : » رؤية العالم « يعتبر من أهم العناصر التي تنبني عليها البنيوية التكوينية كما صاغها »غولدمان«، وهذا المفهوم استعمله كثير من المفكرين السابقين لـ »غولدمان« أمثال : »ديلثي«، »ياسبرز«، »لوكاتش«، »كارل مانهايم« و »ماكس فيبر« . ... فإن كل كائن يرد على ما يتولد عن موقفه في المجتمع من مشاكل بواسطة نموذج يبنيه بشكل تدريجي، وحينئذ لا يبدو التحديد المجتمعي إلا عاملا ثانويا يضفي صبغة الوحدة على تنوع النظرات كما هي عند الأفراد »19، « أما » كارل مانهايم « فالمفهوم عنده يوافق المفهوم الكلي للأيديولوجيا، وهكذا فالأيديولوجيا بما هي كذلك، تتخذ بعدا ضيقا، ومن ثمة يقصد » مانهايم « إلى التفريق بين النظرة إلى العالم والأيديولوجيا، فيوضح بذلك الالتباسات التي تقع فيها الماركسية، حيث تتخذ نظرية الأيديولوجيا معاني متعددة »20
3. تكريس الطبقية
الطبقية ظاهرة تتوغل في جذور التاريخ ولا تزول بزوال العبودية فالفقر سيد والفقير عبد وكلاهما من صنع الظروف الاجتماعية التي جعلت هذه الطبقية من العناصر الديستوبية الواضحة في أي رواية ديستوبية ومنطقي وجودها فهي تصنيف الناس إلى فئات، فئة ظالمة تحتكر كل شيء لنفسها وتبني مجتمعها اليوتوبي، وتهمش فئة أخرى تحرمها من كافة حقوقها، ولو لم يوجد هذا التقسيم لكنا نتحدث حينها عن اليوتوبيا والتكافل والديمقراطية وليس عن الديستوبيا، ولتحدثنا عن جنة لا توجد على الأرض، ولكل فئة مكانها الخاص بسماته ولكل فئة كذلك قواعدها المحددة، ويظهر ذلك في كل الروايات الديستوبية.
صورت الروائية تغريد فياض من خلال رواية قصص بابل المعلقة نماذج من الواقع ممزوجة بصور تخييلية، فتصور حياة أسرة تتكون من أب وأم يمضيان أغلب الوقت في العمل، وطفلين ترعاهما خادمة، وفي كل مساء يحضر الوالدين هدايا تكفيرا منهما لذنب الغياب المتكرر، لكن للأسف لم يعد الطفلان يهتمان للهدايا فرغبتهما أكبر بكثير مما قد يتصوره الولدين، فهما يعملان كل ما باستطاعتهما لتوفير العيش الرغيد... » يزن وفراس شقيقان في الصف الأول والثاني على الترتيب، بالغي الذكاء والحساسية، الأب والأم مشغولين أغلب الوقت في وظائفهما، فالأب أستاذ جامعي في الاقتصاد، والأم مذيعة تلفزيونية ناجحة بقناة فضائية... »21
يعتقد الوالدان أن وضع خادمة يدفع لها لتعتني بالولدين هو توفير للرفاهية وبيتهما نموذج للفخامة، وقد صورت الكاتبة الطبقية القائمة في المجتمع، فالخادمة مقابل المال مستعدة للبقاء مع ولدين ورعايتهما كل الوقت الذي يكون فيه الأهل منشغلين عنهم ف » يقضي يزن وفراس أغلب أوقاتهما في المنزل مع الخادمة التي تجهز لهما كل شيء وتعتني بالمنزل، ولا يريان والديهما إلا في العطلات، وما ندر »22، وينظر الطفلين إلى الخادمة كعنصر فعال في حياتهما لكن في حدود خلقها نظام الطبقية فهي تحترم القوانين وتلبي طلبات الولدين دون تردد مادامت من طبقة أدنى وبحاجة للمال فقد وضحت الكاتبة الموقف وبينت أن الخادمة بالنسبة للطفلين لا تعني لهما شيئا مادامت من مستوى مختلف عنهما، فاختارا صنع شخصيات خيالية رسموها على الورق بمواصفات محددة تجعلها أقرب الناس إليهما، وعاشا سعادة فائقة وهما ينظران للأب والأم المصنوعين من الكرتون كما تقول الكاتبة في روايتها : « الولدان يشعران بسعادة بالغة لأن لديهما أب وأم مثل بقية الأولاد، يلازماهما ويعيشا معهما كل تفاصيل الحياة العادية لأسرة حقيقية »23، وعندما علم الولدان بالأمر صدما، فقد أصبحت الشخصيات الورقية التي صنعتها مخيلة الطفلين أهم أفراد الأسرة تقول الروائية : « عاد الأب والأم الحقيقيين إلى المنزل في غير مواعيدهما المعتادة، رأيا إبنيهما يجلسان إلى طاولة العشاء مع أم وأب مصنوعين من الكرتون، اتجها إليهم، توقفا عند الطاولة، كتنت صدمتهما هي شعورهما ينظران إلى أسرة متكاملة أب وأم حقيقيين مع ولديهما »24
صورت الكاتبة نموذجا لواقع الأسر العربية التي تترك تربية أبنائها للخادمة، وهم يعتقدون أن السعادة الكبرى للأولاد هي توفير المال الفائض من أجل حياة الرفاهية، هذه الحياة التي تنعدم من حنان الوالدين، الاحساس بالأمان في وجودهما، تصوّر الكاتبة ولدين لجأ كل منهما لتخيل نموذج مثالي لوالدين يقضيان كل تفاصيل الحياة معهما، وهي تحاول أن تغير ما قد يؤول إليه الولدين في غيابهما، إنه عالم مليء بالفساد، وليس هذا الفساد مقصود لكنه الغفلة التي تصنعها ثقافة محكاة الغرب، وبهذا تكون الكاتبة قد رسمت لنا بخطابها الدستوبي عبرة يجب على الأسر العربية اتخاذها نصب العيننين، الخادمة قد تساعد في أعمال المنزل وقد تحقق بعض مطالب الأبناء لكنها لا توفر أبدا ما يحتاجه حقا أبناؤنا،ولا تملأ الفراغ الذي يخلفه غياب الأبوين المستمر، الطفل في مراحل نموه يحتاج إلى حضن والديه أكثر من حاجته للطعام.
خاتمة
في ختام هذه الدراسة توصلنا إلى أن الخطاب الديستوبي في الرواية العربية المعاصرة صار بارزا بشكل كبير وهذا جاء كنيتجة حتمية لما تصوره الرواية، فالرواية كما يعتبرها النقاد والدارسين المعاصرين أصبحت أكثر الأجناس الأدبية نقلا لواقع المجتمعات، خاصة مع أدب ونظريات ما بعد الحداثة التي تعتبر أن المجتمع جزء من الرواية، والكاتب بطل واعي ينقل رؤية العالم الذي يعيش فيه.
مهما حاول الروائي التعبير عن أفكار ينقلها من المجتمع، فهو لا يمكنه أن يتخلص من ايديولوجيته، ولو مزج ذلك بالتخييل وهو السمة الفنية التي تعطي النص جمالية، تثير بها القارئ وتجذبه ليشارك في عملية القراءة والنقد.
تمكنت الكاتبة تغريد فياض من تصوير جوانب مهمة من الواقع المعيش، وهي بذلك تنقل صفات المدينة الفاسدة من خلال مجموعة قصصية أحسنت اختيارها.
رواية قصص بابل المعلقة نموذج للأدب الدستوبي الذي يصور الجانب الديستوبي المنتشر في المجتمع العربي، كما تصور العبر التي يجب أن ينظر إليها القارئ بتمعن حتى لا يقع في نفس الأخطاء.
تناولت الروائية تغريد فياض رواية قصص بابل المعلقة - وهي نموذج من الأدب المابعد حداثي- جانبا مظلما يمثل العالم الديستوبي الذي تحاول من خلاله الاشارة إلى رغبتها في التغيير وذلك من خلال تصوير السوداوية وكيف يمكن أن تنتشر بين أفراد المجتمع الذي غابت عنه التوعية والتوجيه، وكان الايمان بالله السبيل الأمثل لتقبل الفرد لظروفه الاجتماعية فالرضا بما يعطينا الله جز مهم في تحسن الحالة النفسية لكل فرد.
تصوير الجانب المظلم في المجتمعات العربية أصبح هاجس الكتاب العرب كمحاولة للفت إنتباه القارئ او كنوع من محاولة التغيير من خلال تصوير الواقع الذي آلت إليه المجتمعات العربية.