الانسجام في الفكر اللغوي الغربي عند فان دايك كتاب علم النص وكتاب النص والسياق أنموذجا

La cohérence dans la pensée linguistique occidentale selon Van Dijk dans Text and Science et Text and Context

Coherence in Western linguistic thought according to Van Dijk Book Text Science and Text and Context

نورة بقرني Nora Beguerni

p. 563-575

Référence(s) :

Van Dijk, T. A. (1977). Text and Context: Explorations in the Semantics and Pragmatics of Discourse. Longman Linguistics Library.

Citer cet article

Référence papier

نورة بقرني Nora Beguerni, « الانسجام في الفكر اللغوي الغربي عند فان دايك كتاب علم النص وكتاب النص والسياق أنموذجا  », Aleph, Vol 11 (3-2) | 2024, 563-575.

Référence électronique

نورة بقرني Nora Beguerni, « الانسجام في الفكر اللغوي الغربي عند فان دايك كتاب علم النص وكتاب النص والسياق أنموذجا  », Aleph [En ligne], Vol 11 (3-2) | 2024, mis en ligne le 14 juin 2024, consulté le 24 novembre 2024. URL : https://aleph.edinum.org/12251

إنّ الهدف من هذه الورقة البحثية، هو دراسة وصفية تحليلية للانسجام عند فان دايك في كتابيه علم النص والنص والسياق، وإظهار آلياته ومظاهره. فقد تبوأ هذا الأخير مكانة كبيرة عنده، كونه من المعايير الأساسية المعتمد عليها في النّصية، فبحضوره يكتمل الاتّصال بين منتج النّص ومتلقّيه، وبغيابه يفقد النّص نصيته، فهو معيار الترابط المفهومي وله صلة وثيقة بالنص. وانطلاقا من هذا نسعى إلى الإجابة عن الإشكالية الآتية: كيف ينظر فان دايك للانسجام من خلال كتابيه؟ وما هي آلياته ومظاهره؟ وما هي أبرز جهود فان دايك التي ساهمت في مجال الدراسات النصية؟

Le but de cette recherche est la réalisation d’une étude descriptive et analytique de la cohérence de VAN DIJK dans ses deux livres : La science du texte et texte et du contexte et la démonstration de ses niveaux et ses manifestations. La cohérence occupait chez lui une grande place, car c’est l’un des critères de base sur lesquels s’appuie la textualité. Avec sa présence, la communication entre le producteur du texte et son destinataire est complète, et en son absence, le texte perd sa textualité. C’est le critère de la cohérence conceptuelle qui a un lien étroit avec le texte. Partant de là, nous cherchons à répondre à la problématique suivante : Comment VAN DIJK envisage-t-il la cohérence à travers ses livres ? Quelles sont ses mécanismes et manifestations ? Et quels sont les efforts les plus marquants de VAN DIJK qui ont contribués au domaine des études textuelles ?

This research aims to introduce a descriptive and analytical study of “: coherence” according to “Van Dijk” which is presented in his two books; “Text Science” and “Text and Context” presenting its levels and features as well. This later has played an important role since it is considered one of the basic criteria on which textuality is based; moreover, it contributes to the communication between the author and the reader; otherwise, the text loses its textuality. It is the criterion of conceptual coherence and it is directly connected to the text. In this research we answer the following: Based on his two books, what is Van Dik’s view towards coherence? What are its levels and features? What are Van Dijk's most prominent efforts that contributed to the field of textual studies?

مقدمة

يتمحور موضوع اللّسانيات النصية حول النظرة الكلية للنص، كون النص يمثل كلاّ مترابطا في أفكاره ومعانيه، أي بنية لغوية محكمة بضوابط ومعايير متباينة، جعلته محكم البناء متوافق المعنى. وأحسب أنّ هذه الضوابط ضرورية قامت لسانيات النص بتحليل النصوص من خلالها، لتصل في الأخير إلى إنتاج نص أكثر اتساقا وانسجاما ومنه الحكم عليه بالنصية من عدمها. والمستشفّ من هذا أنّها أولت اهتماما كبيرا في تناولها لمبحثي الاتساق والانسجام.

الاتّساق هو التماسك الحاصل بين المفردات والجمل المشكّلة للنص، أمّا الانسجام فيمثّل أحد المعايير المهمة في تحقيق تماسك النص على مستوى بنيته العميقة. فقد حظي هذا الأخير باهتمام بالغ في الدرس اللغوي الغربي، وأخصّ بالذكر عند فان دايك في كتابيه «علم النص» و «النص والسياق».

1. الجانب المنهجي

1.1. الإطار العام للدراسة

انطلاقا من هذا، يشتمل البحث على الأسئلة الآتية: كيف ينظر فان دايك للانسجام من خلال كتابيه؟ وما هي آلياته ومظاهره؟ وما هي أبرز جهود فان دايك التي ساهمت في مجال الدراسات النصية؟ لتحقيق هذه الأهداف، قمنا بدراسة وصفية تحليلية لكتابي فان دايك، محاولين اكتشاف آليات الانسجام ومظاهره من خلال عرض بعض النماذج وقراءتها وتحليلها.

بالإضافة إلى ذلك، الهدف من هذه الورقة البحثية هو محاولة دراسة الانسجام عند فان دايك من خلال كتابيه. ولهذا الغرض، قمنا برصد آلياته ومظاهره من خلال أخذ عيّنة من النماذج التطبيقية. من خلال هذه النماذج، نأمل أن نتمكن من الوصول إلى الهدف المنشود.

بالتالي، يسعى هذا البحث إلى تقديم فهم شامل لجهود فان دايك في مجال الدراسات النصية، وذلك عبر تحليل النماذج التطبيقية واكتشاف الآليات المختلفة التي يستخدمها لتعزيز الانسجام في النصوص.

اعتمدنا في بحثنا هذا على المنهج الوصفي التحليلي، كونه المنهج الأنسب لهذا النوع من الدراسات، كذلك المنهج اللساني النّصي، من خلال الاعتماد على كتابي فان دايك خاصّة.

2.1.الجوانب النظرية للانسجام

1.2.1. تعريف الانسجام 

عرّفه هاليداي ورقية حسن(Halliday M. A. K and Ruquaia Hassan) بأنّه : « علاقة معنوية بين عنصر وعنصر آخر، يكون ضروريا لتفسير هذا النّص، هذا العنصر الآخر يوجد في النص، غير أنّه لا يمكن تحديد مكانه إلاّ عن طريق العلاقة التّماسكية. »(أحمد عفيفي، 2001: ص90). فهما يشيران إلى أنّ الاتساق مرتبط باللّفظ، أمّا الانسجام فمرتبط بالمعنى دائما، فهو يعتمد أيضا على الإحالة في ربط دلالات النّص. في حين أطلق درسلر Dressler مصطلح التّماسك النّصي على الانسجام «وبين بأنّه يتعلّق بالبنية الدّلالية المحورية للنّص، وبين المفاهيم والتّصورات والعلاقات الأساسية في عالم النص بمعنى البنيات المعرفية.» (سعيد حسن بحيري، 1997: ص132). فالانسجام بالنسبة له متعلّق بالبنية الدّلالية العميقة للنّص. ويعرّفه كلاوس برينكر (Klaus Brinker) بأنّه: «المفهوم النواة في تعريف النّص. (كلاوس برينكر، 2005: 189) وهو عنصر أساسي أشار إليه فان دايك Van Dik)) عندما تطرق للعلاقة بين النّص والسّياق.

وقد وحّد إبراهيم الفقي بين مصطلحي الاتّساق والانسجام كونهما يدلاّن على التّماسك النّصي، «فوجب بذلك التّوحيد بينهما، واقترح مصطلح (Cohésion) ثمّ قسّمه بعد ذلك إلى التماسك، بما يحقّق التّماسك الشكلي للنّص، والثّاني يهتمّ بعلاقات التّماسك الدّلالية بين أجزاء النّص من ناحية، وما يحيط به من سياقات من ناحية أخرى.» (صبحي إبراهيم الفقي، 2000م: ص9). فهو يؤكّد على أنّ المصطلحين يندرجان ضمن مصطلح واحد وهو التّماسك النصي، إذ الأول يكون على مستوى التّركيب وبالتّالي يحقّق التماسك الشكلي للنص، أمّا الثاني فيختص بالجانب الدّلالي، مهتمّ بعلاقات التّماسك الدّلالية الموجودة بين مقاطع النص والسياقات التّي تكتنفها.

إلاّ أنّ محمد خطابي يجعل الانسجام أعمّ من الاتّساق من خلال مقارنته بين المصطلحين نحو قوله: «الانسجام يتطلّب من المتلقي صرف الاهتمام إلى العلاقات الخفية التي تنظّم النص وتولّده، أي تجاوز المتحقّق فعلا أي الاتّساق إلى الكامن وهو الانسجام. » (محمدخطابي، 1991م: ص09).

فهو في هذا التّعريف يشير إلى دور المتلقّي في كشف العلاقات الداخلية التي تساهم في ربط أجزاء النص بعضها ببعض، وهذا لا يظهر إلاّ بعد قراءات عديدة ودقيقة ومتمعّنة للنص، فالانسجام بهذا أعمق من الاتّساق باعتباره متجاوز مستوى الترابط الشكلي، خاص ببنية النص العميقة.

وعرّفه رمزي منير البعلبكي (Ramzi Munir Baalabaki) والذّي كان قد ترجمه بالتلاحم أو التناسق بـ : « مدى كون النص المكتوب أو المنطوق (بما في ذلك التحاور) متّصل الأجزاء، كما تظهر دراسة بنيته من الناحية الوظيفية. »Ramzi Munir Baalabaki , 1990, p) (97.

يكون النّص متّصل الأجزاء سواء أكان مكتوبا أم ملفوظا إذا توافرت أدوات الاتّساق التي تعدّ علامة تمكّن من انسجام الخطاب لدى المتلقي، من جهة ومن جهة أخرى يتعلق الانسجام بمستوى التّحقق الدّلالي وبالتالي تحقّق النّصانية، وهذا لا يعني أنّ كلّ نص متّسق هو منسجم، بل يتوقّف حكم الانسجام من عدمه على المتلقّي ، وفي هذا المقام يعدّ دوميينيك مانغونو (Maingueneau Dominique)الانسجام : « بؤرة رئيسية في النّص والمتلفّظ المشارك وظيفة هامّة في بنائه، والحكم الذّي يقضي بانسجام النّص من عدم انسجامه قد يتغيّر تبعا لتغيّر الأفراد ووفقا لمعرفتهم بالسّياق والحجة التّي يخولونها للمتلفّظ » ) دومينيك مانغونو، 2008م: ص21. )

2.2.1. أهمية الانسجام 

الانسجام ثاني معيار تعتمد عليه لسانيات النص في الحكم على نصية النص، وهذا الحكم يحدّد من قبل المتلقي الذّي يؤدي دورا فعّالا في تحديد مدى انسجام النّص من عدمه، على عكس الاتّساق الذّي يتعلّق بصاحب النّص من خلال وضعه الأدوات التي تقود إلى الربط في النّص.

فسعيد حسن بحيري يؤكّد هذا قائلا: « التّرابط الدّلالي للنص مكمّل لترابطه الشّكلي، ونقطة الوصول إلى تماسكه الكلّي، لأنّ النّص عندما يكون مترابطا من الناحية الشكلية ولا يكون مترابطا من الناحية الفكرية، نقول أنّ نصيته لم تكتمل. » (سعيد حسن بحيري :ص146. )

2. الانسجام عند فان دايك 

يجمع الباحثون على أنّ لكتابي فان دايك (علم النص، النص والسياق) قيمة كبيرة في مجال الدراسات النصية، لما وصل بهما إلى نتائج فعالة تخص الأبنية النّصية الكبرى، فقد ثُمّن هذا الأخير من طرف الكثير ممّن اشتغلوا بالدراسات اللّغوية أو الدراسات النقدية.

1.2. مستويات تحليل الخطاب 

ركّز فان دايك على ثلاثة مستويات خاصّة بتحليل الخطاب لأنّها متكاملة ومتداخلة فيما بينها والمخطّط التالي يوضّح ذلك:

Image 10000201000002800000012C19BE972D4FCA4FD0.png

مستويات الخطاببدليل قوله:

« . . . وتدعي المسلمة الأولى أنّ البناء النظري للعبارات على المستويين الصوري (الشكلي) والدلالي، ينبغي أن يكملّ ويتمّم بالمستوى الثالث أعني مستوى فعل الكلام (المستوى التداولي) ». (فان دايك، 2000: ص18).

ينبغي أنّ كلّ عبارة منطوقة عدم وصفها من وجهة تركيبها الداخلي والمعنى الذي يحدّدها فقط، بل علينا النظر إليها من جهة الفعل التام الإنجاز الذي يؤدي إلى إنتاج تلك العبارة.

«ووصف هذا المستوى التّداولي من هذا القبيل هو الذي يهيّئ شروطا حاسمة لغاية إنشاء وتركيب جزء من ضروب التواضع والاتّفاق ممّا يجعل العبارات مقبولة.». (فان دايك، 2000: ص18).

والمقصود أنّ تركيب هذه العبارات يكون مناسبا لمقتضى الحال بالنظر إلى السياق التواصلي.

بينما المستوى الأوّل فيختصّ بالجوانب الشكلية التي تمثّل البنية السطحية للنص، غير أنّ تركيز فان دايك منصبّ على الجانب الدّلالي الذي يجسّد البنية العميقة للنص، ودراساته هي التي تشهد له بذلك.

وقد كان يهدف من خلال القواعد التي وضعها للسانيات النص كي تكون الرؤية واحدة ومتكاملة ومنسجمة، إلى نقطتين مهمّتين هما:

Image 100002010000028000000090C9B89237A5673386.png

وقد عزّز كلامه بعدة أمثلة منها ما أخذه من رواية بوليسية تحكي أحداث جريمة، وهذه الرواية لجيمس هادلي تشيز (1944م) James Hadley Chase:

« اتخذت كلير راسل طريقها إلى المكتب في (كلاريون) في هذا الصباح الباكر، وهي تشعر بالعياء والكآبة، واتّجهت توا إلى غرفة العمل، فوضعت قبّعتها وزيّنت وجهها بأن ذرت عليه مسحوقا ثم جلست إلى الطاولة، لقد كانت حقيبتها ممدّدة في ترتيب، وكانت منشفتها باردة كالثلج، والمحبرة مملوءة، إلاّ أنّها لم تكن راغبة في العمل (. . . ) » (فان دايك، 2000: ص143).

ذهب فان دايك إلى أنّ «مقتضى العلاقات إنّما يقوم على خاصية التّضمن، والانتماء، والجزء – الكل، والملكية.» (فان دايك، 2000: ص143).

بالنظر إلى المقطع السابق نكشف عن العلاقات المساعدة لعلّة الانسجام:

  • الذاتية الشخصية: كلير راسل = هي.

  • التطابق بين العنصر الإشاري (المحال عليه = كلير راسل) والعنصر الإحالي (الضمائر المتّصلة والمنفصلة والمستترة) وفي قوله: طريقها، وهي، اتّجهت، وضعت، قبعتها، زينت، عليه، جلست، حقيبتها، منشفتها، تكن، أنها، ناهيك عن تعالق الجمل وأجزائها.

  • الانتماء والتضمن والجزء بالكلّ والملكية، وذلك أن الغرفة تمثل جزءا من المكتب (الغرفة)، بينما القبعة والمنشفة والدواة كلّها من الأشياء الخاصة (عالم)، أما القبعة ومسحوق التزيين يمثلان الملكية للإنسان (الأنثى) كفرد.

ليشير بذلك إلى أنّ العناصر المذكورة تمثّل نسبة يسيرة من علاقات الانسجام والتي

«تقوم على افتراض الحالة السوية الاعتيادية للعوالم المقتضاة والتي تتضمّن معلومات عن تنظيم العوالم وترتيبها في أعمّ أحوالها وأخصّها أو بجريان الأحداث وتجانسها والأطر الدلالية التّي تحكمها. » (فان دايك، 2000: ص144).

يضيف بهذا شرطا آخر مكمّلا لتحقيق الانسجام، وهو:

  • فتراض الحالة السوية الاعتيادية للعوالم المقتضاة ويقصد بها ضرورة معرفتنا بجريان الأحداث. لنخلص في الأخير إلى أنّ الانسجام عند فان دايك مرتبط بالدلالة والعناصر المذكورة أثبتت ذلك.

2.2. مظاهر الانسجام عند فان دايك 

1.2.2. ترتيب الحدث وترتيب المتوالية (الخطاب) 

ويسمّى هذا التّرتيب للخطاب ترتيبا عاديا (طبيعيا) وهو يمثّل جريان الأحداث والأفعال وفق ترتيب معين، وينبغي أن يكون الترتيب اعتياديا مؤسّسا على معايير (معرفة العالم) ومعايير أخرى كان قد لخّصها فان دايك في :

« أ-عام – خاص.
ب-كل – جزء / مركب.
ج-مجموعة – فئة – عنصر.
د-المتضمن (بتشديد الميم وكسرها) – المتضمن (بفتحها).
ه-كبير – صغير.
و-خارج – داخل.
ز-المالك – المملوك. » (فان دايك، 2000م: ص154).

وهذه جملة الضوابط المحدّدة للترتيب الطبيعي لجهة اعتبار الأحوال الموصوفة التي تجعل مجموعة من متواليات الجمل مرتبة ترتيبا طبيعيا وقد وضّحها بالأمثلة الآتية في الصفحة نفسها (ص154).

1. « -يجيء بيتر دائما متأخرا، وفي هذه الليلة لن يكون هنا في الوقت المحدّد أيضا.
.2. إنّها يمكن أن تستحضر صورة هاري دوك، إنّها يمكنها أن ترى ذراعه القوية.
.3. لقد صعد بيتر الجبل الذي كانت تغطيه أشجار الصنوبر، كانت تحت الأشجار أعشاب كثيفة.»

كما نبّه إلى مبادئ معرفية أخرى نحو قوله:

«وإنما يتأسس الترتيب أيضا على مبادئ معرفية عامة كالإدراك والانتباه، ذلك أننا عادة ما ندرك الموضوع ككل قبل إدراك أجزائه، كما ندرك شيئا كبيرا قبل إدراكه صغيرا في محيطه المجاور. » (فان دايك، 2000م :154).

فعنصر الترتيب له دور فعال في انسجام الخطاب، وأي خلل يحدث فيه حين تغييره، يتعذر تحقيق هدف معين وبالتالي يخل انسجامه.

2.2.2. المعلومات الصريحة والضمنية في الخطاب 

يميّز فان دايك بين الخطاب الناقص (غير التام) الذي يتضمن الخطاب الضمني (المفهوم) والخطاب التام الذي يتضمّن الخطاب الصريح (المنطوق)، فالخطاب الناقص ليس صريحا، فهو موجز بدليل أنّ القضايا التي يعبر عنها المتكلّم لا تكون بطريقة مباشرة، بل يتدخّل المتلقي ليستشفوها من قضايا أخرى كان قد عبّر عنها المتكلّم تعبيرا سليما، ورغم هذا النقص إلاّ أنّ هذا الخطاب يعدّ منسجما لأنّ المتلقي استطاع أن يكمّل الناقص عن طريق الاستدلال ، أمّا الخطاب التام فهو ما دلّ على وصف أحداث وقعت في مقام معين أي خطاب منجز أشار فيه المتكلم إلى سائر الأفعال و التّصرفات في مقام واحد .

ويضرب فان دايك أمثلة توضّح الفرق المميّز المذكور آنفا :

« رجع جون الى منزله على الساعة السادسة، فخلع سترته، وعلّقها على المشجب، وقال لزوجته (هاك حبيبتي)، ثم سأل (كيف كان العمل اليوم في المكتب) وتناول جرعة نبيذ من الثلاجة قبل أن يشرع في غسل الصحون (. . . ).
1. رجع جون إلى منزله على الساعة السادسة وتناول طعام عشائه على الساعة السابعة.
2. رجع جون إلى منزله على الساعة السادسة، وبينما كان يمشي في المدخل الرئيسي من العمارة أدخل يده في الجيب الأيسر من سترته يفتّش عن مفتاح الباب، فوجده، وأخرجه ووضعه في القفل وأداره فيه ثم دفع الباب لينفتح ودخل المنزل وأغلق الباب من خلفه. » (فان دايك، 2000م :158).

فالمثال (01) يعدّ خطابا تامّا وما يثبت ذلك أنّ كلّ الأفعال من المستوى ذاته لها إحالة مرجعية. أمّا المثال (02) فيعتبر خطابا ناقصا كون جون لم يشر إلى الأنشطة التي قام بها بين السادسة والسابعة، بينما المثال (03) الخطاب فيه إطناب إذا ما قورن بمستوى الوصف في المثال (01) فهو خطاب فوق التام. وعليه فالخطاب في المثال (01) ضمني أي مستوى وصفي غير كامل إذا ما قارناه بالمعلومات الواردة في المثال (03)، في حين الخطاب في المثال (02) فهو ناقص بالقياس مع المعلومات المعطاة في المثال (01).

وبالمعنى الأكثر شمولية للاستنباط يمكن القول: إنّ الخطاب في المثال (03) يمكن استنباطه في المثال الأول وخاصة من الجملة الأولى من المثال (01) في حين الخطاب في المثال (01) لا يمكن استنباطه من (02).

والخلاصة أنّ كلاّ من الخطاب المفرط في الإطناب، والخطاب الأكثر إيجازا، خطاب غير منسجم على عكس الخطاب الناقص، فهو منسجم كون المتلقي يستطيع ملء الفراغ وإتمام الناقص من خلال الاستدلال.

3.2.2. موضوعات الخطاب (البنية الكبرى = Macro-Structure) 

يطلق فان دايك على مصطلح البنية الكبرى «مصطلح موضوع نص ما أو موضوع الخطاب (Topic of discourse) أو موضوع الحوار (Topic of coversaion). » (فان دايك، 2001م : ص89) ، ويقصد بها تلك البنية التي تعمل على وصف بنية النص الدلالية فهي بنية كلية بفضلها يتحقّق انسجام الخطاب.

ويعدّ موضوع الخطاب الموضوع الذي يدور حوله البحث عند فان دايك وغايته الأساسية، ففي نظره كلّ نص له موضوع معين، يمثّل نقطة أساسية، وبنية شاملة لمحتواه ويتوضّح ذلك بالأمثلة الآتية: (فان دايك، 2000م: ص186).

« لقد كانت مدينة فيرفيو متّجهة إلى الموت، ففي الماضي كانت هذه المدينة نشيطة، متقدّمة، وأصغر مدينة مزدهرة، وكان مصنعاها الواسعان المختصّان في صنع الأدوات اليدوية مصدرين مربحين للثروة.
وفي هذه الأيام، تحقّق لها عصرها الذهبي، وقد شهد لذلك مجمل الإنتاج فيها، غير أن طرق إنتاج هذه المدينة الصغيرة لا تستطيع أن تنافس المصانع المعاصرة التي برزت فجأة في ضواحي المنطقة.
إنّ مجمل الإنتاج ومدينة بنتونقيل كلفا فيرفيو ثمنا باهظا، ذلك أن بنتونقيل كانت مدينة تتّسع الصناعة فيها سريعا، وهي تبعد بثلاثين ميلا عن فيرفيو، وكانت مشتهرة بالفطريات، فاتّجه إليها الشباب لبريق حوانيتها المصبوغة النظيفة، وانخفاض ثمن مساكنها المنبثة في كل مكان، ثم عربات حافلاتها السريعة، وكذلك قلبها الشاب القوي النابض بالتجارة.

فموضوع هذا المقطع يدور حول: « فيرفيو مدينة صغيرة » أو « أفول وانحطاط العصر الذهبي لفيرفيو ».

يقول فان دايك : « كما يكون الخطاب منسجما في عمومه، كذلك يكون الحوار منسجما نتيجة تخصيص معاني مختلف العبارات لبنية موضوع كلّي واحد. » (فان دايك، 2000م: ص196). وقد مثّل لموضوع التحاور بالحوار القائم بين السيد أوكنر والعجوز جاك من قصة جيمس السابقة.

« العجوز جاك : نعم من الصعب أن تعرف الطريقة التي بها يمكن أن نربي بها الأطفال.
وإذن من كان يفكّر أنّه سينقلب على هذا النحو! لقد أرسلته إلى مدرسته، ودفعت ما يمكن أن أدفعه إليه، ثم إنه كان يمشي كالمخمور، وحاولت أن أجعله تلميذا مهذبا . . . فجعلت أحمل العصا من خلفه وأضربه ما دمت أستطيع مراقبته، كما كنت أفعل مرارا . . .
 السيد أوكنر: إن هذا لممّا يفسد الأطفال.
العجوز جاك: نعم إنّ الأمر على ما تقول: وأيّ تعنيف يناله لا يزيده إلا وقاحة وطيشا حتى صار يرفع يديه عليّ كلّما رآني أتناول الطعام . . .
السيد أوكنر : كم عمره؟
العجوز جاك : تسعة عشر سنة.
السيد أوكنر : لماذا لا تجعله يقوم بشغل ما؟
العجوز جاك : بالتأكيد . . .
موضوع التّحاور في هذا المقطع يدور حول « صعوبة تربية الأطفال » أو « الطريقة التي يمكن بها تربية الأطفال. »

فالبنية الكلية تظهر من خلال تحديد موضوع النص، وهذا الأخير يحدّده المتلقي أثناء تلقيه أو قراءته.

« ولا يتحدّد بالنسبة للقضايا المفردة والعلاقات بينهما، بل بالنسبة لتتابعات كاملة فقط، يتحدّد الموضوع إذن من خلال مصطلحات الأبنية الكبرى للنصوص. » (فان دايك، 2001م: ص71).

يشير إلى ضرورة دراسة العلاقات الدلالية بين الجمل، فهو لا يرّكز على التماسك الأفقي بل على التماسك الدلالي.

تعدّ البنية الكبرى عنصرا هاما في الكشف عن الجوانب الدلالية، فهي بنية شاملة لمحتوى النص، وللوصول إليها اعتمد المتلقي على عناصر جوهرية تتمثّل في:

  • قاعدة الحذف (Règle de suppression): وتتضمّن حذف كل معلومة غير أساسية من البنية الكبرى، أي شرط الإيجاز كأن تكون لدينا سلسلة من القضايا بهذا الشكل : (أ، ب، جـ) / نستطيع حذف القضيتين (ب، جـ) إذا لم يكن لهما دور في النص، ولتفسيرها تكون فرضية مسبقة لها، حينها يمكن الاختصار في الجملة التي مثّل بها فان دايك :« مرت فتاة ذات ثوب أصفر »، التي تضم القضايا التالية :

أ .مرت فتاة.
ب. ترتدي ثوبا.
ج. كان الثوب أصفر.

وفق القاعدة السابقة توجز هذه القضايا في قضية واحدة وهي :« مرت فتاة »، فالمعلومات التي تمّ حذفها من القضيتين (ب، جـ) ليست مهمّة فهي عناصر غير جوهرية لتحديد مضمون النص، لأنّه ليس من الضروري لتفسير النص المتبقي أن يعرف أن الفتاة ارتدت ثوبا (وليس جينز ولا بلوزة)، أو أنّ الثوب كان أصفر (وليس أزرق).

  • قاعدة الاختيار (Règle de sélection) :وهذه القاعدة قائمة على اختيار القضايا الأساسية، لتفسير القضايا الأخرى التي تعدّ فرضيات مسبقة لها، نحو :

« أ. عاد بيتر إلى سيارته.
ب. ركبها.
ج. سافر إلى فرانكفورت. »

يتمّ اختيار القضية جـ (سافر إلى فرانكفورت)، لما لها من أهمية دلالية للنص، فبها تفسّر القضايا الأخرى (توابع لها)، بناء على معارف عامة عن المواقف والأحداث.

  • قاعدة التعميم (Règle de généralisation): تقوم على حذف المكوّنات الأساسية لتصوّر ما، وتحلّ محلّ القضية القديمة قضية أخرى جديدة مثل:

« أ .على الأرض دمية.
ب .على الأرض قطار خشبي.
ج .على الأرض مكعبات.
فالقضية الجديدة التي تحلّ محلّ القضايا القديمة هي
(د .على الأرض لعب)، لأنّ القضايا أ، ب، جـ» تتضمن مفهوم القضية د « . (فان دايك، 2001م: ص84).

  • قاعدة التركيب أو الإدماج (Règle de la construction): لهذه القاعدة دور مهمّ، فهي تشبه في وظيفتها القاعدة الثانية (الاختيار)، بحيث تحلّ محلّ المعلومة القديمة معلومة جديدة، أي هذه القاعدة تتيح بناء قضية من عدة قضايا أخرى، بغية بناء تصورات أعمّ أي تكوين قضية كبرى.
    فالبنية الكبرى تحدّد بأنّها الكمّ النصي أو بمعنى آخر:» كلّ النصوص التي لها المعنى الكلّي ذاته. « (فان دايك، 2001: ص86). ويتمّ تحديدها من قبل المتلقي الذي يعمل على انتقاء العناصر الضرورية من النص، وهي متباينة من شخص لآخر لأنّها تختلف بحسب معرفته وآرائه، ورغم الاختلاف المتباين في تفسير النصوص، إلاّ أنّه يحصل اتفاق كبير بين مستعملي اللغة.

  • البنية العليا (Super structure) :تختلف البنية العليا عن البنية الكبرى كونها تداولية خاصّة بشكل النص، بينما البنية الكبرى فهي تختصّ بمضمونه.
    يقول فان دايك عن البنية العليا في تعبيره:» هي نمط من شكل النص (text form) . . . وهي نوع من المخطّط المجرّد الذي يحدّد النظام الكلي لنص ما. « . (فان دايك، 2000م: ص209).
    والمقصود بها تلك البنية التي تساعدنا على تمييز أنماط النصوص عن بعضها بعض.
    وقد أشار فان دايك في نفس الوقت، إلى أنّ هناك نصوصا لا تشتمل على بنية عليا، لأنّها تتكوّن من جملة أو كلمة وقد مثّل لذلك بـ: (الأمر : تعال ! مثلا) أو الرجاء أو الاعتذار.
    وعليه فالبنية العليا » ليست سمة ضرورية للنّصوص، وأنّ نظام الأبنية الكبرى يمكن أن تعني بتقسيم عام للنص. «  (فان دايك، 2000م :ص245). وهذا لا يعني أنّها ليست مهمّة، بل في غالب الأحيان» ذات أهمية كبيرة للتقسيم العام للمعلومات الدلالية. « (فان دايك، 2000م: ص295).

  • البنية الصغرى (Micro structure) : تمثّل البنية الصغرى جزءا من مجموع المتتاليات التي بدورها تشكّل بنية نصية كبرى، فهذه المتتاليات تحكمها علاقات من حيث اللفظ والمعنى، وكل بنية صغرى قد تصبح فيما بعد بنية كبرى.
    يقول فان دايك :

» أنه في نص ما يمكن أن تصلح بنية ما أن تكون بنية صغرى، وتكون في نص آخر بنية كبرى وبوجه عام توجد مستويات مختلفة للبنية الكبرى في النص، بحيث يمكن أن يقدم مستوى أعلى (أعم) من القضايا في مقابل مستوى أدنى بنية كبرى. ». (فان دايك، 2000م: ص75).

خاتمة 

وختاما خلصنا إلى أنّ الانسجام من المسائل المهمّة التي طرحتها لسانيات النص، ومن أهمّ القضايا المحقّقة للنصية. وخرجنا بأهمّ النتائج أبرزها:

ـــ حظي الانسجام بأهمية بالغة عند فان دايك ، كونه مرتبطا بالبنية الدلالية الكلّية للنص

ـــ وحدة النص عنده لا تتحقق إلاّ بوجود علاقات داخل النص (علاقات معنوية) .

ـــ انسجام الخطاب عنده متوقف على عنصر الترتيب.

ـــ البنية الكبرى والصغرى عنصران هامّان في الكشف عن الجوانب الدلالية.

هذه أبرز النّتائج المتوصّل إليها من خلال بحثنا ولا ندّعي أنّها نهائية. ونظرا لأهمية الموضوع فهو بحاجة إلى التّعمق أكثر في دراسته.

قائمة المصادر والمراجع باللغة العربية :

أحمد عفيفي، 2001، نحو النص اتجاه جديد في الدرس النحوي، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، ط1 (2001).

تون فان دايك، 2000، النص والسياق (استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي)، ترجمة عبد القادر قنيني، أفريقيا الشرق، بيروت – لبنان، 2000م.

تون فان دايك، 2001، علم النص (مدخل متداخل الاختصاصات) ترجمة وتعليق د/ سعيد حسن بحيري، دار القاهرة للكتاب، ط1 (2001م).

دومينيك مانغونو، 2008، المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب، ترجمة محمد يحياتن، الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف، بيروت، ط1(1428ه ــــ 2008م).

سعيد حسن بحيري، 1997، علم لغة النص، المفاهيم والاتجاهات، مكتبة لبنان، القاهرة، ط1(1997م).

صبحي إبراهيم الفقي، 2000، علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق ـــ دراسة تطبيقية على السور المكية ــ دار قباء، القاهرة، ج1، ط1(1431ه ــ 2000م).

كلاوس برينكر، 2005، التحليل اللغوي للنص(مدخل إلى المفاهيم الأساسية والمناهج)، ترجمة سعيد حسن بحيري، مؤسسة المختار، القاهرة، ط1(1425ه ــــ 2005م).

محمد خطابي، 1991، لسانيات النص(مدخل إلى انسجام الخطاب)، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1(1991م).

المراجع باللغة الأجنبية :

Ramzi Munir Baalabaki, Dictionary of linguistic terms, English, Arabic, Dar El Ilm Lilmalayin, 1990, p 97.

نورة بقرني Nora Beguerni

جامعة الجزائرAlger 2

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article