اللسانيات وما وراءها: أثر اللسانيات السوسيرية في تحول الدراسة اللسانية

Explorer la linguistique : l'impact des théories de Saussure sur l'évolution des études linguistiques

The Impact of Saussure's Theories on the Evolution of Linguistic Studies"

عبد المطلب زيوش Ziouche Abd el Moutaleb, خالد بن عميور et Benamieur Khaled

Citer cet article

Référence électronique

عبد المطلب زيوش Ziouche Abd el Moutaleb, خالد بن عميور et Benamieur Khaled, « اللسانيات وما وراءها: أثر اللسانيات السوسيرية في تحول الدراسة اللسانية », Aleph [En ligne], Vol 11 (3-2) | 2024, mis en ligne le 31 juillet 2024, consulté le 09 août 2024. URL : https://aleph.edinum.org/12543

إن التطور الزمني عبر العصور في مجال دراسة اللغة قد ثبت أصوله، ومد فروعه في إطار علمي مع مجيء سوسير الذي يعد أول من وضع اللبنات والأسس النظرية لدراسة اللغة البشرية دراسة علمية. ثم راح هذا العلم يتطور ويتسع باتصاله بعلوم أخرى.

تهدف هذه الدراسة إلى بيان فضل اللساني السويسري في التأسيس لما اصطلحنا عليه بـ : ماوراء اللسانيات من خلال جهوده التي تعد المنطلق الفعلي في مجال دراسة اللغة.

ولقد توصلنا في الأخير إلى أن النظرية السوسيرية تعد محورا رئيسا في ما قبل، وما بعد اللسانيات.

Le développement chronologique de l'étude des langues à travers les âges a démontré ses origines et a étendu ses branches dans un cadre scientifique avec l'avènement de Ferdinand de Saussure, qui a été le premier à poser les bases théoriques de l'étude scientifique du langage humain. Par la suite, cette science a commencé à se développer et à s'étendre en lien avec d'autres disciplines.

Cette étude vise à mettre en lumière le rôle essentiel du linguiste suisse dans l'établissement de ce que nous appelons la méta-linguistique, à travers ses efforts considérés comme le véritable point de départ de l'étude des langues.

En conclusion, nous avons constaté que la théorie saussurienne constitue un axe central de la linguistique, aussi bien avant qu'après son émergence.

The chronological development of language study through the ages has demonstrated its origins and expanded its branches within a scientific framework with the advent of Ferdinand de Saussure, who is considered the first to establish the theoretical foundations for the scientific study of human language. Subsequently, this science began to develop and expand in connection with other disciplines.

This study aims to highlight the importance of the Swiss linguist's role in establishing what we call meta-linguistics, through his efforts that are regarded as the true starting point in the field of language study.

In conclusion, we have found that Saussurean theory is considered a central axis of both pre- and post-linguistics.

مقدمة

لا شك أن التطور في المفاهيم والتصورات التي عرفها الدرس اللساني قد أفضت به إلى ما لم يكن يتصوره الفكر البشري، خاصة بعد ظهور العالم السويسري فردينان دو سوسير الذي استطاع بأفكاره النيرة أن ينتقل باللغة من نمطية الدراسة التاريخية المقارنة إلى الدراسة الآنية الوصفية، فكان عمله هذا بمثابة التنظير الحقيقي للسانيات التي عرفت فيما بعد تجاذبات كبرى، لكن ما لم يكن ينتظره الدارس هو أن تنفتح اللسانيات فيما بعد على آفاق واسعة تفرض فيها منطقها على العلوم الإنسانية، والتجريبية، بالإفادة من عامل اللغة، فعرفت اللسانيات الاجتماعية، والقانونية، والنفسية، والعرفنية كتخصصات علمية مستقلة لها مفاهيمها واصطلاحاتها، وآفاقها الدراسية، وتختلف من حيث موضوعاتها عن اللسانيات بمفهومها الضيق، لهذا ومن أجله تقوم الإشكالية :

  • هل يمكن اعتبار أفكار دو سوسير تأسيس لما وراء اللسانيات؟.

  • هل ظهور حقول لسانية مستقلة هو أثر للتطور اللساني؟.

1. الإطار العام للدراسة

تُعَدّ اللسانيات مجالاً علمياً غنيًا يتداخل مع العديد من التخصصات الأخرى، ويُعزى الكثير من تطور هذا المجال إلى تأثيرات رواد مثل فردينان دو سوسير.

  • الفرضيات

  1. فردينان دو سوسير هو المحرك الفعلي لما وراء اللسانيات: يلعب دو سوسير دورًا محوريًا في تأسيس ما وراء اللسانيات (الميتالسانيات)، حيث تُعتبر أعماله حجر الأساس في فهم وتحليل اللغة من منظور بنيوي يتجاوز حدود الوصف التقليدي للغة.

  2. ما وراء اللسانيات نتيجة من نتائج التطور الزمني لدراسة الإنسان للغته: إن تطور الدراسات اللغوية عبر الزمن أفضى إلى ظهور ما وراء اللسانيات كنتيجة حتمية للتقدم الفكري والعلمي في دراسة اللغة البشرية، مما يتيح للباحثين فرصة التعمق في المفاهيم اللغوية بأبعادها المختلفة.

الأهداف: تهدف هذه الورقة البحثية إلى استكشاف الآفاق التي يمكن أن تصل إليها اللسانيات بفضل تداخلها مع العلوم الإنسانية والتجريبية. كما تسعى إلى فهم النتائج المترتبة على تمازج الاختصاصات في دراسة اللغة البشرية، من خلال تتبع التطور السنكروني للغة ورصد النظرة الإنسانية للغة عبر مختلف المراحل الزمنية.

  • المنهجية: نظرًا لاتساع نطاق هذه الدراسة وتعقيد موضوعها، تم اعتماد منهجية متعددة تشمل:

  1. المنهج التاريخي: لتحليل التطورات الزمنية في مجال اللسانيات وفهم جذور ما وراء اللسانيات.

  2. المنهج الوصفي: لوصف وتحليل الظواهر اللغوية ومقارنتها في سياقات مختلفة.

  3. المنهج التحليلي: لتفكيك ونقد النظريات والمفاهيم المرتبطة بدراسة اللغة وما وراءها، مما يساعد على تقديم رؤى جديدة ومبتكرة في هذا المجال.

تسعى هذه الورقة، من خلال هذه المناهج المتكاملة، إلى تقديم فهم شامل ومعمق للموضوع وتقديم إسهامات بحثية جديدة تفتح آفاقًا مستقبلية للدراسات اللغوية.

2. التفكير اللغوي عند الأمم الكبرى (مرحلة ما قبل اللسانيات)

من المتعارف عليه أن أي علم لم يظهر إلى الوجود هكذا مكتملا في صورته التي يظهر عليها، بل له قاعدته الخلفية الضاربة في جذور التاريخ التي يرجع إليها في كل تجديد أو تحقيق يروم الارتقاء بالبحث العلمي إلى مرتبة تليق بتطلعات الباحثين والمهتمين، لهذا ومن أجله وجب قبل الدخول في صلب الموضوع العودة بالدراسة أو التفكير اللغوي إلى مراحله الأولى، لتشخيص الوضع، ومباشرة المهم لتحقيق النتائج المرجوة من هذه الدراسة، ولأن اللغة تدور بين الوجود والعدم مع الإنسان، فإن النظر في خصائصها، وبنيتها، واصطلاحاتها يعود أيضا إلى أزمان غابرة . ولقد ظهرت الملامح الأولى للغة في شكل تأملات فلسفية تدور بين أسبقية اللغة أو الفكر، والعلاقة بين الدال والمدلول، وأقسام الكلام. أما الدراسات اللسانية الممنهجة فقد ظهرت في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر مع العالم السويسري فردينان دو سوسير، غير أن هذا لا يعني قطيعة ألبتة بين المتقدمين والمتأخرين في مجال دراسة اللغة.

1.2. الإسهامات اللغوية للإغريق

يعد الإغريق من المنظرين اللسانيين الأوائل في العالم وذلك منذ زمن طويل، فهم من الأوروبيين السباقين إلى الاهتمام بالدراسة المنضبطة للنصوص المدونة، وبالتثبيت للمعايير الخاصة بلغة ثقافتهم. فنحن مدينون لهم بتقاليد البحث النحوي التي جرى الحفاظ عليها فيما تلا ذلك من قرون (إفيتش، 2000، ص 9). ولقد اشتغل جميع أعلام الفلسفة القدماء بالتنظير اللغوي، كما اشتملت المحاورات الفلسفية على مناقشات ذات صلة مباشرة بالقضايا اللسانية كتلك التي تتحدث عن إمكانية وجود ارتباط منطقي مباشر بين المعاني التي يعبر عنها بالكلمات، وبين أشكالها الصوتية، أم الارتباط بينهما عفوي ناتج عن المصادفة، وكل هذا يدل على أن مباحث اللغة درست في سياق التعرض لمبحث الفلسفة التي كانت المحور في المناقشات العلمية عند الإغريق مما جعلها تخضع للفلسفة ومبادئها وهذا أمر منطقي لأن الدراسة الفلسفية آنذاك أصل، والدراسة اللغوية فرع حادث عنها. وما يدعم هذا الطرح قول ليونز ( Lyons ) : « إنهم عدوا النحو جزءا لا يتجزأ من الفلسفة، وبالتالي من البحث العام في طبيعة العالم الذي يحيط بهم، والنواميس الاجتماعية التي تتحكم فيهم » (مومن، 2015، ص 15).

ويرى القياسيون أن اللغة هبة من الطبيعة، وهي في جوهرها نظامية ومنطقية، أي هناك توافق تام بين الشكل الصرفي للكلمة والمعنى الملازم لها. أما المشذذون فلم يقتنعوا بوجود ارتباط مثالي بين البنية الشكلية والدلالية للكلمة خاصة على مستوى العلاقة اللغوية كلها، فهم بمعنى يرفضون العلاقة التي تجمع بين الدال والمدلول، أما أفلاطون(Platon ) فقد ذهب إلى أن الكلمة هي الشكل المادي للفكرة، وأنه في الفكرة تكمن بداية معرفتنا عن العالم، ومن هذا الموقف الفلسفي بدأت المحاولات الأولى للتعريف بالمقولات النحويــــة الأساسيــــــة مثل : ( الاسم، الفعل، المسند والمسند إليه )، بالمقابل فإن أرسطو Aristotle (384-322 ق.م) يعد أول من دخل تاريخ الدراسات اللسانية على أنه المؤسس الحقيقي للنحو الأوروبي التقليدي بما قدمه من مقاربة متميزة، لا سيما في مجال بنية الجملة ضمن تأملاته عن اللغة معايير خاصة بالبحوث الفلسفية حين صنف الأشكال النحوية وفقا لما تشير إليه من مادة وكيف وكم وعلاقة ووجود وتغير ...إلخ (إفيتش، 2000، ص 11)، وهذا يدل بلا شك أن الإرث الفكري الفلسفي الإغريقي قد بلغ الغاية في مجال دراسة اللغة والعناية بها بلا منازع، و مرجعه الأساس أنه لم توجد دراسات سابقة له باستثناء ما قيل عن الهنود والبابليين، إلا أنه لا ينقص من قيمة الأفكار النيرة عند فلاسفة اليونان، والظاهر أنهم استفادوا من اجتهادات بعضهم البعض تباعا. كما يعد الإغريق روادا في مجال دراسة فقه اللغة من خلال الوصف المنضبط للغة النصوص المدونة، ويعد أرستراكوس Aristarchaus ( 216-114 ق. م) أشهر فقيه في العصور القديمة، فهذا الأخير درس الإلياذة والأوديسا من منظور لساني بفضل ما وضعه من طرق تحليلية، فهو واحد من الممثلين لما يطلق عليه بالمدرسة الإسكندرية التي كانت مهمتها حفظ الآثار الأدبية بوجه خاص، أين جمع الإسكندرانيون مؤلفات سابقيهم حفاظا على اللغة الكلاسيكية القديمة من التحريف، وكشفوا أيضا عن المؤلفات الصحيحة بالاستناد إلى قواعد مقارنة النصوص، وهذا كله من أجل تقريب النص إلى القارئ المعاصر لهم، بناء على ذلك اعتبر الإسكندرانيون من أصحاب القياس بحيث درسوا انتظام اللغة وسلامتها ( القواعد الإعرابية ) ووضعوا علم النحو القديم وضعا نهائيا، كما توصلوا إلى إضافة أقسام أخرى للكلام من : ظروف، اسم المفعول، اسم الفاعل، الحروف، ... الخ (حمو الحاج، 2012، ص ص 30-31)، مما سبق طرحه يتبين لنا أن الجهود اللسانية عند الإغريق كانت متنوعة وثرية، لكنها كانت جلها مركزة على النحو باعتباره من أهم مستويات الدراسة اللغوية، كما أنها كانت مختلطة بمباحث الفلسفة والمنطق؛ لأن البيئة الإغريقية آنذاك كانت بيئة فلسفية بامتياز في ظل وجود مفكرين كبار أمثال أفلاطون وأرسطو، غير أن هذا لا يقوض من الجهود التي بذلوها لأنها تتسم بالأصالة والإبداعية الدالة على وعي هؤلاء المفكرين بواقعهم اللغوي.

2.2. الإسهامات اللسانية لدى الهنود

تشير الدراسات التاريخية اللغوية إلى أن الهنود بدأوا يفكرون في المسائل اللغوية قبل نظرائهم الإغريق بحقبة زمنية طويلة، ومع هذا اتسمت أعمالهم بالدقة والموضوعية، وقاربت النتائج التي أدركوها إلى حد بعيد جزءا لا بأس به من نتائج الدرس اللساني الحديث وبخاصة في مجال الصوتيات، ويلحظ الدراس للأدب الهندي القديم أنه كان يدور حول مواضيع ذات صبغة دينية أو ميتافيزيقية صرفة، ومرد ذلك أثر الديانة الهندوسية في نفوس الهنود، ويميز الباحثون اليوم بين مرحلتين مختلفتين للغة الهندية : السنسكريتية الفيدية والسنسكريتية الكلاسيكية، لهذا جاءت الدراسات اللغوية عند الهنود محافظة على النصوص المتمثلة في كتب الفيدا المقدسة وحماية اللغة السنسكريتية من التحريف، ولقد أدى تقدم الزمن إلى تغير كبير في هذه اللغة ببروز لهجات جديدة تختلف عن اللغة الأولى مما دفع النحاة الهنود إلى دراسة اللغة بشكل عام والأصوات بشكل خاص، لتمكين أهل العقيدة من الفهم والنطق الصحيحين للكتب المقدسة (مومن، 2015، ص 12)، ولقد تفرقوا في هذا المجال تفرقا شديدا من الناحية النظرية والتعليمية، ومن أشهر من سخر جهوده لتثبيت نماذج اللغة السنسكريتية القديمة بانيني Panini ، وهي اللغة التي اشتهرت طويلا بأنها وسيلة التعبير عن الثقافة الهندية في ذروة عظمتها وثرائها، ولقد قام هذا العالم الفذ بتحليل كل مظاهر اللغة السنسكريتية وتقنينها، ويعد النحو الذي وضعه بانيني عملا تقنيا عظيما لا يشبه الأنحاء التقليدية في شيء؛ لأنه ذو طابع تجريدي يماثل قواعد الحساب وقوانين الجبر، وهو كذلك شديد التعقيد لا يستطيع أن يفهمه إلا من كان متضلعا في السنسكريتية، ولا يمكن الولوج إليه إلا بالعودة إلى شروح سابقة، كما أنه لا يمكن فهم قاعدة إلا بفهم القواعد السابقة لأنها متسلسلة ومترابطة، أما الشروح التي جاءت بعده فلم تكن إلا مجرد شروح وافية تعكس بدقة جهود هذا العلامة، وأعظم من جاء بعده باتنجالي (Patanjali ) وبهارتري (Bahartri ) وكان كلاهما ممثلا للمدرسة النحوية التي أنشأت نظرية تقول بوجود طبقة باطنة وثابتة لا تقبل التغيير تكمن وراء كل التنوعات النظرية المميزة لنظام لغوي بعينه (إفيتش، 2000، ص 23). ومن أشهر الأفكار التي اختصت بالجانب الصوتي نذكر :

  • الإشارة إلى ما يسمى بالصوتيم أو الفونيم حاضرا، ويعني القيمة الصوتية الثابتة التي توجد بوصفها الوحدة الخاصة بنظام لغوي معين وتقوم بوظيفة العلامة الدالة على الاختلاف بين الكلمات في المعنى، وهذا ما ظهر عند بهارتري وباتنجالي.

  • تحديد العلاقات العددية الدالة بين الكلمات المتنوعة والمقاطع في النص ( هذه الطريقة لم تكن تتمتع بالجدوى في البحث اللساني إلا في هذا العصر).

  • اشتغل الهنود أيضا بالوصف الصوتي وكانوا من أوائل الأمم التي رسخت الاهتمام المطلوب بالعناصر المنطوقة في وصف الأصوات، كما كانوا أقل نجاحا في دراساتهم التأثيلية للكلام لأنهم كانوا من علماء اللسانيات الآنية، لهذا ومن أجله يمكن الحكم على الدراسات اللغوية عند الهنود أنها كانت متنوعة وثرية لأنها مست جوانب عدة من اللغة، إلا أن الصوتية منها كانت الأساس الذي بنى عليه المحدثون، وفي هذا الصدد يقول بروفر ألن : « إن الاتصال بين الهنود القدماء والمدارس الغربية الحديثة أشد وأوثق في مجال الأصوات عنه في مجال النحو » (عمر، 1988، ص 59). وهذا القول أصدق منبئ وبرهان على أن الدرس اللغوي الهندي القديم كان صوتيا بامتياز.

3.2. الإسهامات اللغوية لدى العرب

تنتمي اللغة العربية إلى اللغات السامية التي تضم عددا من اللغات القديمة منها العبرية والآشورية والسريانية والآرامية ...الخ، ويجمع الباحثون في حقل الدراسات اللغوية أن هذه اللغات قد ظهرت لأول مرة في أرض بابل بالعراق، ثم انتشرت في البقاع المجاورة لها من المنطقة، ثم اعتراها كثير من التغيير كباقي اللغات مع مرور الزمن، غير أن العربية بقيت محافظة على أهم خصائص اللغة السامية لأنها كانت منزوية عن العالم في شبه الجزيرة العربية، ولا تستعملها إلا القبائل العربية. ويعد العالم الألماني شلوتسر Schlozer أول من جاء بمصطلح اللغة السامية ( 1798) وهذا الاسم منسوب إلى سام بن نوح –عليه السلام- (مومن، 2015، ص ص 34-35). أما عن الدراسات اللغوية العربية فقد بدأت تظهر للوجود بعد ظهور الإسلام في القرن الأول للهجرة الموافق للقرن السابع للميلاد، وبدأت بعض المسائل اللغوية تلوح على الساحة على نحو ما كان عند اليونان والرومان في أصل نشأة اللغة، فذهب طائفة إلى أنها تواضع واصطلاح، وذهب آخرون إلى أنها توقيفية (مومن، 2015، ص 37).

ولأجل تقويم اللسان وحفظه من الاندثار، فقد وضع علماء العربية للغتهم قواعد تعصم الألسنة من اللحن وكان هذا على يد أبي الأسود الدؤلي ثم ذهبوا في هذا الفن المذاهب وأنشأوا له المدارس حتى بلغوا فيه الغاية، فكان من شدة تعظيمهم لهذا الفن أن سموا مصنف سيبويه فيه بالكتاب تشبيها له بالقرآن، وممن برع فيه أيضا الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175 ه) الذي عد عالما متفننا بحق، لأنه عالج عدة مسائل تتعلق بالنحو والصرف والعروض والقياس والمعاجم والصوتيات، فهو صاحب الخلق والإبداع، فكتاب سيبويه في النحو جاء مليئا بأقوال الخليل ...، ولم يقف من الانتفاع بهذه المادة عندما فرغ من النظرية النحوية فقط، وإنما انتفع بها أيضا في حقل اللغة وهذا يدل على أن دراسة العرب للغتهم كانت تشكل كلا متكاملا؛ من نحو وصرف ومعجم وأصوات وتراكيب، ...الخ. (مومن، 2015، ص 38).

ولقد شهد القرن الرابع الهجري ظهور مجموعة من الكتب النحوية التعليمية مثل : الجمل للزجاجي( ت337 ه)، الموجز في النحو لابن السراج (ت 316 ه)، التكملة في الصرف لأبي علي الفارسي (337 ه)، ثم ظهرت المنظومات العلمية بعد ذلك، واشهرها ألفية ابن مالك ( ت 672 ه ) وما لحقتها من شروح، ثم ظهرت بعد ذلك الموسوعات النحوية، أشهرها المفصل للزمخشري (ت 538 ه )، وتولى ابن يعيش شرحها شرحا مفصلا، وأيضا مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري (ت 762 ه)، ولقد ذكر تمام حسان في كتابه الأصول قائلا :

« ولعل الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري أن يكون أوسع الأولين علما بالعربية واللغة على حد سواء؛ فأما في العربية فإن دوره في بناء النظرية النحوية يضعه في منزلة بين النحاة لم يبلغها أحد قبله ولا أحد بعده، فسيبويه جمع واستوعب وسجل، وأما الخلق والابتكار فقد كان من نصيب الخليل في الأغلب ». (حسان، 2000، ص 231)

فهذا كله يدل على أن العرب عكس من سبقهم من الأمم قد بنوا نظرية شبه متكاملة في اللغة بمختلف مستوياتها، وهذا راجع لاعتبارات شتى أولها الإسلام وكتابه القرآن الذي كان حافزا من حوافز النهضة اللغوية خدمة له، وإفادتهم من تجارب الأمم السابقة لهم خاصة في القرنين الثالث والرابع بفعل نشاط حركة الترجمة، وهذا ما دفع النقاد والدارسين إلى وصف تلك الجهود بالنظرية، يقول عبد السلام المسدي فـــي هذا المقام :

« ... فمن هذه المنطلقات وعلى تلك المستندات يمكننا أن تقرر – مصادرة وإجمالا – أن التفكير العربي قد أفرز نظرية شمولية في الظاهرة اللغوية ... حتى كاد تاريخ العربي يتطابق وتاريخ سلطان اللفظ في أمته » (المسدي، التفكير اللساني في الحضارة العربية، 1986، ص 24).

وأخيرا ومن خلال هذا السرد التاريخي المتطور لتطور نظرة الإنسان إلى اللغة نستنتج ما يلي :

  • أن اليونان قد أبدعوا في دراسة اللغة في عدة جوانب، خاصة في النحو، إلا أن هذه الدراسات جاءت ممتزجة بمباحث الفلسفة والمنطق، وهذا ما أثر على النتائج التي توصلوا إليها.

  • أن الهنود قد تميزوا في مجال دراسة اللغة السنسكريتية خاصة في الدرس الصوتي لحاجتهم الحثيثة إلى تلاوة وترتيل النصوص الدينية بمراعاة الجوانب الصوتية.

  • أن الدراسات اللغوية عند الرومان كانت في معظمها محاكاة وتقليدا للإغريق.

  • أن الدراسات اللغوية عند العرب كانت أكثر نضجا وتطورا من سابقيهم، لأنها جاءت جامعة ملمّة بجميع جوانب الدراسة اللغوية حتى كادت تبلغ الكمال في ذلك، وهي نتاج تكوين العقل الإنساني الذي منحه الله للعرب واليونان وسائر الأمم والشعوب، ويبدو ذلك في جهد الأصوليين من الفقهاء استدلالا وقياسا وتعليلا.

  • أن هذه الدراسات على اختلاف درجتها ومرتبتها سيظهر أثرها فيما يأتي بعدها كسند لبناء نظرية متكاملة من جميع الجوانب في مجال دراسة اللغة.

  • أن هذه الدراسات التاريخية تبقى مهما تطور الزمن رافدا من روافد التجديد والتطوير في كل وقت وحين، باستعمال مناهج إعادة القراءة خاصة في ظل تطور أدوات، ومناهج الدراسة اللساني.

4.2. إسهامات دو سوسير في تحويل اللسانيات من اجتهاد فردي إلى نظرية علمية

مما لا شك فيه أن المرحلة التي سبقت هذه الفترة هي مرحلة المنهج التاريخي المقارن الذي ظهرت نتائجه في شكل بحوث تعنى بتصنيف اللغات، وتقنين التغيرات الصوتية، وأشهر من نهج هذا النهج، فرانتز بوب Bopp (1791-1871) الذي صنف كتابا بعنوان : « النحو المقارن للسنسكريتية والزندية والإغريقية والقوطية والجرمانية »، وكذلك أوغست شلايشر Schleicher (1821-1868 ) في كتابه الموسوم ب« الخلاصة الوافية في النحو المقارن للغات الهندية الجرمانية » وأيضا أوغست فيك August Fick (1833-1976) صنف معجما شهيرا موسوما ب : « معجم اللغات الهندوجرمانية المقارن »، وكذلك فرديناند دوسوسير De Saussure ( 1857 – 1913 ) فقد خدم هذا الأخير اللسانيات التاريخية قبل أن يعدل عنها إلى اللسانيات الآنية (حمو الحاج، 2012، ص ص 42-48)، وهذا بحكم وجوده في ألمانيا التي تكون فيها في ظل النزعة التاريخية، فهذه الموجة التاريخية تدل على أن أثر اللغة السنسكريتية في الدراسات التاريخية كان كبيرا خاصة المقارنة منها، وجدير بالذكر أن أسلوب المقارنة هذا ليس من ابتداع اللغويين أنفسهم، لأنه ظهر قبل كتابات بوب، وأبرز مجال عرف فيه هذا الأسلوب هو علم التشريح وعلم الحياة، فشلايشل الذي دعا إلى ضرورة إيجاد القواعد المقارنة صرح بأن ذلك يتم بالوسيلة نفسها التي توسل بها علم التشريح (قدور، 2008، ص 19).

1.4.2. الأفكار التي أسسها دو سوسير في مجال دراسة اللغة

اجتهادات دي سوسير في دراسة اللغة تتضمن عدة أفكار رئيسية تعكس فهمه الشامل للنشاط اللغوي. يمكن تلخيصها على النحو التالي (دوسوسور، 1985، ص 24):

  • تحديد مجال علم اللغة:

    1. وصف تاريخ جميع اللغات المعروفة، بما في ذلك تتبع تاريخ الأسر اللغوية وإعادة بناء اللغة الأم لكل أسرة قدر المستطاع.

    2. تحديد القوى العامة التي تعمل في جميع اللغات واستنتاج القواعد العامة من الظواهر التاريخية الخاصة.

    3. تحديد معالم وطبيعة علم اللغة.

    4. توضيح أن اللغة تتكون من ثلاثة مصطلحات رئيسية: اللغة، اللسان، والكلام. فاللغة ظاهرة اجتماعية ونتاج اجتماعي لملكة اللسان، بينما اللسان لا يمكن تصنيفه كواقعة بشرية، والكلام هو فعل ملموس ونشاط فردي يمكن ملاحظته، ويطابق مفهوم الأداء عند تشومسكي.

  • اللسانيات الآنية والتعاقبية:

    1. يعتبر دي سوسير أن اللسان هو واقع قائم بذاته وتطور تاريخي في نفس الوقت، ويمكن التمييز بين ما هو آني وما هو تاريخي في دراسة اللسان.

    2. يقر سوسير بوجود منهجين للتعامل مع الظاهرة اللغوية:

      • المنهج التاريخي: يهتم بتطور اللسان عبر مراحل زمنية محددة.

      • المنهج الوصفي: يتناول الظاهرة اللغوية كما هي في الواقع.

من خلال هذين المنهجين، يتناول دي سوسير الظاهرة اللغوية بطريقتين: طوليًا (تاريخي) وعرضيًا (وصفي)، وهو ما يعبر عنهما بالسنكرونية والدياكرونية. عبد الرحمن حاج صالح يشير إلى أن دي سوسير ركز على الدراسة الآنية (synchronique) في محاولة لإصلاح الآراء الخاطئة التي أضلت العديد من اللغويين الغربيين الذين افتتنوا بمفهوم التطور كأداة تحليلية، مما أدى بهم إلى نفي صفة العلم عن أي تحليل في زمن معين. سوسير يبرر موقفه بأن النظام أو الاعتدال الوضعي للغة في حالة السكون لا يمكن تفسيره بعوامل تاريخية عارضة (عبد الرحمان، 1972، ص 46).

  • الدال والمدلول: يتألف من وحدات أساسية تعرف بالعلامات اللسانية؛ فالعلامة في نظر سوسير هي وحدة نسقية تتكون من صورة سمعية ومفهوم. فمثلاً، كلمة "امرأة" هي علامة لسانية تتكون من صورة سمعية (تتابع الأصوات "م، ر، أ، ة") ومجموعة من السمات الدلالية مثل "حي"، "ناطق"، "أنثى"، "إنسان"، "راشد". عدل سوسير المصطلحات إلى "الدال" و"المدلول"، مشيرًا إلى أن العلاقة بينهما اعتباطية، أي غير معللة، حيث يتطابق الدال مع مدلول معين في الواقع، والعلامة اللسانية هي تقسيم للواقع من خلال التواضع. ومع ذلك، يقر سوسير بوجود حالات استثنائية تكون فيها العلاقة بين الدال والمدلول غير اعتباطية، ولكن هذه الحالات تبقى استثناء من القاعدة العامة.

  • ثبوت العلامة وتغيرها: نظر دي سوسير إلى العلامة اللغوية من زاويتين: الثبوت والتغير (مومن، 2015، ص ص 128-129).

    1. الثبوت: رغم التغيرات التي قد تصيب اللغة، فإن العلامات تميل إلى الثبوت بسبب قوى تمنع التغير اللغوي.

    2. التغير: تتغير اللغة تدريجيًا عبر الزمن، ويشمل هذا التغير خاصة أشكال المفردات وتغيرات في الدال أو المدلول، مما يؤدي إلى تبدل العلاقة بينهما بفعل عوامل مختلفة.

  • القيمة اللغوية: يرى سوسير أن اللغة ليست نظامًا مجردًا من القيم. قيمة الكلمة تكمن في قدرتها على تمثيل فكرة معينة. استورد سوسير مفهوم القيمة (valeur) من الاقتصاد، حيث أشار إلى أن قيمة قطعة نقدية يمكن تحديدها فقط بمقارنتها بشيء آخر في النظام ذاته. ضرب سوسير مثالًا بكلمة "خروف" في الفرنسية التي تقابلها كلمة "sheep" في الإنجليزية من حيث الدلالة، ولكن ليس لها نفس القيمة في الإنجليزية التي تستخدم كلمة "mutton" للإشارة إلى لحم الخروف على المائدة (مومن، 2015، ص 130).

أثر دي سوسير كان كبيرًا في تحويل اللسانيات إلى علم قائم بذاته، حيث أضاف مقاربات جديدة وأسس لمناهج دراسية وصفية تميز اللسانيات عن غيرها من المجالات. وقد شكلت أفكاره الأساس للمنهج البنيوي، إذ كان سوسير رائدًا في هذا المجال، مقدمًا مساهمات رئيسية في بناء النظرية اللسانية الحديثة (وغليسي، 2008، ص 213).

2.4.2. موقف اللسانيين من أفكار سوسير

رغم الجهود الكبيرة التي قدمها دي سوسير، فقد سجلت اعتراضات علمية على أفكاره من قبل اللسانيين الذين جاءوا بعده (حساني، 2013، ص ص 41-43):

  1. الاعتراض الأول: اعتراض أوجدن وريشاردز اعترض هذان العالمان في كتابهما "معنى المعنى" على تصور دي سوسير، مشيرين إلى أهمية التحليل المزدوج الذي يتناول العلاقة بين الكلمات والأفكار من جهة، والأشياء من جهة أخرى. تطورت هذه الآراء إلى النظرية المنطقية أو الإحالية التي ترى أن الدراسات التي أغفلت الأشياء التي تشير إليها العلامات في الواقع الخارجي تبتعد عن الدقة والإثبات.

  2. الاعتراض الثاني: اعتراض بنفنيست يرى بنفنيست أن حكم سوسير بشأن اعتباطية العلامة خاطئ. وفقًا لبنفنيست، رغم تركيز سوسير على العلاقة النفسية بين الدال والمدلول، إلا أنه يعترف ضمنيًا بوجود طرف ثالث أساسي في هذا التوحد. ويعتبر بنفنيست أن العلاقة بين الدال والشيء في الواقع الخارجي ليست اعتباطية بل تلازمية.

  3. الاعتراض الثالث: اعتراض بارث انتقد بارث تصور سوسير الذي يعتبر اللسانيات فرعًا من السيميائية، مفضلًا عكس هذا الترتيب. حيث يرى بارث أن النموذج اللساني يظل طاغيًا وحاضرًا في تفسير الأنساق غير اللسانية، مما يجعل السيميائية في واقع الأمر فرعًا من اللسانيات وليس العكس.

رغم هذه الاعتراضات، يبقى دي سوسير شخصية محورية في تطور اللسانيات، حيث نقلها من مرحلة الدراسات التاريخية المقارنة إلى مرحلة علمية قائمة بذاتها ذات مناهج وأسس مميزة.

3. ما وراء اللسانيات

يقصد بما وراء اللسانيات دراسة الحقول المعرفية الجديدة التي نشأت نتيجة اتصال اللسانيات بتخصصات معرفية تجريبية وإنسانية، مما أدى إلى نشوء تخصصات لسانية جديدة مثل: اللسانيات العرفانية، الحاسوبية، الاجتماعية، القانونية. هذا الانفتاح ليس وليد الصدفة بل له أسس واضحة، كما أشار إليه سوسير في محاضراته حين تناول علاقة اللسانيات بباقي حقول المعرفة كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والفلسفة وعلم النفس.

1.3. اللسانيات النفسية

اللسانيات النفسية أو علم اللغة النفسي، فرع من فروع علم اللغة، يقع في الجانب التطبيقي من العلوم الحديثة التي لم تتضح معالمها إلا في النصف الثاني من القرن العشرين. هذا العلم نتاج التقاء علم اللغة بعلم النفس.

1.1.3. تعريف اللسانيات النفسية

عرف دافيد كريستال في معجمه اللغوي النظري اللسانيات النفسية بأنها: "فرع من فروع علم اللغة يدرس العلاقة بين السلوك اللغوي والعمليات النفسية التي تفسر هذا السلوك" . عرفها كريست مالمكجاير وجيمس أندرسون في موسوعتهم اللغوية بأنها: "العلم الذي تتكاتف فيه الرؤى والجهود اللغوية والنفسية لدراسة الجوانب المعرفية التي تفسر فهم اللغة وإنتاجها" . هذا العلم يشترك فيه علم اللغة وعلم النفس؛ حيث يهتم بدراسة السلوك اللغوي عند الفرد والعمليات الذهنية النفسية المعرفية التي تحدث خلال فهم اللغة واستعمالها مثل الإدراك والإحساس والحدس.

2.1.3. موضوع علم النفس اللغوي

موضوع هذا العلم هو اللغة ذاتها، دراستها ووصفها وتحليلها وتعليمها، انطلاقًا من المفهوم اللغوي المعرفي الفطري الذي يرى أن وظيفة اللغوي هي الغوص في أعماق اللغة والبحث في جوانبها النفسية المعرفية وما يرتبط بذلك من نواحٍ عضوية واجتماعية. هذا العلم من أحدث التخصصات اللسانية التي بدأت في الولايات المتحدة الأمريكية وانتشرت بين اللغويين الشغوفين بالأبحاث النفسية، حيث يركز على حالات الإنسان أثناء عملية التواصل بالنظر إلى الحالات العضوية والنفسية لإنتاج الكلام وإدراكه والمواقف العاطفية والذهنية تجاه التواصل .

3.1.3. أهداف علم اللغة النفسي ومجالاته

يمكن تقسيمها إلى قسمين: الأهداف والمجالات.

  • أهداف علم اللغة النفسي:

  1. كيف يكتسب الإنسان اللغة وكيف يستعملها؟

  2. كيف يفهم الإنسان الكلام وكيف ينتجه؟

  3. ما وظيفة القواعد العقلية في العمليات التواصلية؟

  4. ما الآليات التي تتحكم في ذلك؟

  5. ما المشكلات التي تؤثر في اكتساب اللغة وفهمها واستعمالها؟

  • مجالات علم اللغة النفسي:

  1. فهم اللغة سواء كانت منطوقة أم مكتوبة.

  2. استعمال اللغة وإصدار الكلام.

  3. اكتساب اللغة سواء كانت أولى أم ثانية.

  4. دراسة العمليات النفسية أثناء القراءة، مثل علم القراءة النفسي.

  5. لغة الإشارة عند الصم.

  6. الذكاء الصناعي الناتج عن ثورة المعلومات الحاسوبية.

4.1.3. مستويات التحليل اللغوي

يرى سوسير أن اللغة نظام، لذا فإن أي دراسة يجب أن تتوغل إلى جزئيات هذا النظام للوقوف على أسراره. وتشمل هذه المستويات الصوتية والصرفية والدلالية والنحوية، وكل مستوى يتفرع إلى عدة فروع، وهذا التحليل ضروري لأي باحث في علم اللغة النفسي لتحقيق أهداف الدراسة. الأسباب في ذلك واضحة:

  1. أن علم اللغة العام يدرس اللغة الإنسانية من جوانبها الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية والأسلوبية والتداولية والثقافية، وأساليب اكتسابها وطرائق تعلمها وتعليمها.

  2. أن اللغة مكونة من جميع المستويات المذكورة، وكل نشاط في أي مستوى مرتبط بالجوانب النفسية الداخلية التي يتحكم فيها الدماغ.

  3. أن الحديث عن وظائف علم اللغة النفسي ومجالاته وموضوعاته كاكتساب اللغة يكون من خلال هذه المستويات اللغوية.

نستنتج أن اللغة وعلم النفس وجهان لعملة واحدة، فعلم اللغة يستدعي علم النفس لأن اللغة مرتبطة بعمليات عقلية متلازمة لإنتاج الخطاب اللغوي. ومن خصائص هذا العلم ومزاياه أنه علم تجريبي تكون نتائجه دقيقة مقارنة بالعلوم التي تخضع للوصف دون تجريب.

2.3. اللسانيات العرفانية

قبل الولوج إلى اللسانيات العرفانية، يجب التعريف بالعلوم العرفانية (Cognitive Science) التي تدرس اشتغال الذهن والذكاء على أساس تداخل مجموعة من التخصصات العلمية كالفسلفة وعلم النفس والذكاء الاصطناعي وعلوم الأعصاب واللسانيات والإثنولوجيا. هذه العلوم تعنى بالذكاء عامة والذكاء البشري خاصة وأرضيته البيولوجية وتجلياته النفسية واللغوية والأنثربولوجية.

1.2.3. اللسانيات العرفانية

تسمية عامة تطلق على مجموعة من النظريات التي تشترك في الأسس والمنطلقات، وتنقسم إلى اتجاهين كبيرين: الأنحاء العرفانية والنحو التوليدي. برنامج اللسانيات العرفانية هو دراسة الأبعاد العرفانية في التواصل اللغوي، إذ أن اللغة هي القاسم المشترك بين اللسانيات وهذه العلوم المختلفة .

2.2.3. علاقة اللسانيات بالعلوم العرفانية

العلاقة بين اللسانيات والعلوم العرفانية تتمثل في:

  1. إفادة اللسانيات من العلوم العرفانية من حيث الحقائق والنتائج ووجوه التناول، مثل تواتر المفاهيم المعتمدة في مختلف النظريات كالتصوير الذهني والجشطلت والمسح والطراز ونظرية الإبصار.

  2. استعارة مفاهيم من الحاسوبية مثل الحوسبة واللمة وأنواع الذاكرة الحاسوبية.

  3. استعارة مفاهيم من علوم الدماغ مثل السبكية والترابطات والتوزع والتزامن في المعالجة.

3.2.3. مبادئ الدرس اللساني العرفني

يرتكز الدرس اللساني العرفني على ركيزتين أساسيتين في تناوله للنشاط اللغوي:

  1. الالتزام بالتعميم: بمعنى استيعاب جميع مظاهر النشاط اللغوي ورفض تناول اللغة كمنظومات مستقلة بعضها عن بعض (صوتية، صرفية، نحوية، دلالية، معجمية، تداولية).

  2. الالتزام العرفني: السعي إلى إقامة حقائق لغوية توافق الحقائق العرفنية الثابتة في سائر العلوم العرفنية، ومراعاة طبيعة العرفنة وخصائصها في إقامة النظرية اللسانية .

3.3. اللسانيات القانونية

العلوم القانونية بتفرعاتها العامة والخاصة هي أكثر العلوم الإنسانية والاجتماعية اتصالًا باللسانيات، حيث تستند القوانين في بناء أحكامها على ضبط لغة الإنسان وسلوكه. القواعد القانونية والعرفية تمثل البنى الذهنية للقانون.

1.3.3. بين العرف والقانون

رجال القانون عكفوا على دراسة العرف باعتباره مجموعة من المفاهيم المتواضع عليها في المجتمع لضبط السلوك الاجتماعي. القواعد العرفية تعتبر لغة تنقل من الحالة الذهنية التصورية إلى الحالة الخطية الكتابية، وتتضمن القواعد القانونية والعرفية حالات لغوية فيها قدر كبير من الحسم الذي يمنع الخلافات الجذرية في الفهم.

2.3.3. مباني التفكير اللغوي في القانون

التفكير اللغوي في القانون له مباني مشتركة تسري على القانون بشقيه العام والخاص في مختلف دول العالم، ومن أهم مباني التفكير اللغوي في القانون:

  1. المباني التصورية: تركز على الحدود الدنيا والقصوى لكل أمر من الأمور التي يعالجها القانون، مثل تحديد مدة العقوبة بين حد أدنى وحد أقصى.

  2. المباني السببية: التفكير السببي في التراكيب والدلالات القانونية، مثل استخدام الفاء للتعقيب الفوري والسببية.

  3. المباني التفسيرية: جزء من حياتنا اللغوية لتفسير القوانين وتبرير المواقف والآراء.

3.3.3. الخطاب القانوني

الخطاب القانوني يشمل نصوص القوانين وشروحها والأحكام الصادرة عن المحاكم والمرافعات والدراسات القانونية. يتميز الخطاب القانوني بسمات عديدة، أبرزها:

  1. الوضوح والتعمق: لضمان فهم النص واستقباله بشكل صحيح.

  2. الإيجاز والتفصيل: الجمع بين الإيجاز في الكلمات والتفصيل في إحصاء الحالات.

  3. البلاغة في عدم بلاغته: الدقة والعمق في التعبير، حتى وإن تضمن تشبيهات ومجازات.

خاتمة

من النتائج التي يمكن الخروج بها في هذه الورقة البحثية :

  • أن ما وصلت إليه اللسانيات في ما تم الاصطلاح عليه هو نتيجة من نتائج التطور على مستوى المفاهيم، والتصورات، والمواضيع، وهذا الأمر لا يختص باللسانيات فقط، بل هو أثر من الآثار نجده في كثير من حقول المعرفة.

  • أن دراسة اللغة في بادئ نشأتها ارتبطت بحوافز معينة؛ فاليونانيون كان الدافع عندهم لدراسة اللغة هو خدمة الفلسفة، أما الهنود فالهدف من دراسة علم اللغة فهو من أجل خدمة النصوص الدينية لكتابهم المقدس المسمى بالفيدا، أما العرب فكما هو معلوم أن دراسة اللغة من أجل خدمة القرآن . إذا نستنتج من ذلك أن بداية دراسة علم اللغة كانت لأسباب دينية صرفة، ثم راحت تتوسع إلى آفاق أكبر.

  • سيطرة المنهج التاريخي على الدراسات اللغوية ردحا من الزمن خاصة في القرن التاسع عشر مع المنهج التاريخي المقارن عند الألمان.

  • الظهور الفعلي للسانيات كعلم له موضوعاته البينة، ومصطلحاته الخاصة، ومفاهيمه العلمية، واتجاهاته البحثية كان مع العالم السويسري فردينان دو سوسير في كتابه الموسوم ب محاضرات في اللسانيات العامة الذي نشر بعد وفاته، واعتبرت أفكار سوسير بمثابة البداية الفعلية لهذا العلم، كما اعتبر بمثابة التنظير الفعلي لدراسة اللغة.

  • تعد فترة ما بعد النظرية السوسيرية بمثابة ثورة كوبرنيكية في دراسة اللغة، حين انفتحت اللسانيات على كافة علوم المعرفة، سواء التجريبية أو الإنسانية، مما أدى إلى قيام تخصصات لسانية جديدة لها مصطلحاتها وموضوعاتها، وأهدافها مثل اللسانيات الحاسوبية، والاجتماعية، والعرفانية، والقانونية.

  • أن الممارسة اللسانية ضمن هذه التخصصات المعرفية الجديدة التي أشرنا إليها لا يفيد بأي حال من الأحوال إعلان القطيعة مع اللسانيات العامة بأدواتها، ومناهجها، إنما هي ممارسة ضمن ما يعرف باللسانيات الموسعة، ودراسة اللغة تبقى ضمن الدراسة المضيقة.

  • أن من أسباب هذا التطور هو أن اللسانيات قد أصبحت بلا منازع مركز الاستقطاب بلا منازع، فكل العلوم أصبحت تلتجئ سواء في مناهج بحثها أو تقدير حصيلتها العلمية إلى اللسانيات، لهذا ومن أجله انتقلت دراسة اللغة من الطريقة الكلاسيكية إلى الدراسة التطورية؛ أي في سياقها الاجتماعي، أو النفسي، أو الحاسوبي، ... الخ.

  • أن من أسباب الانتقال إلى ما وراء اللسانيات تمازج الاختصاص الذي يعد أسا من أسس البحث الحديث، ولقد وضعت اللسانيات قوانينه لما عكفت على تتبع الظاهرة اللغوية أينما كانت، حتى دخلت حقولا مغايرة لها كعلم النفس، علم الأعصاب، علم الاجتماع.

أحمد حساني. (2013). مباحث في اللسانيات (الإصدار 2). الإمارات : منشورات كلية الدراساتالإسلامية والعربية.

أحمد محمد قدور. (2008). مبادئ اللسانيات (الإصدار 3). دمشق : دار الفكر.

أحمد مختار عمر. (1988). البحث اللغوي عند العرب (الإصدار 6). مصر : عالم الكتاب.

أحمد مومن. (2015). اللسانياة النشأة والتطور (الإصدار 5). الجزائر : ديوان المطبوعات الجامعية.

الأزهر الزناد. (د.ت). نظريات لسانية عَرفنية. د.ب : دار العربية للعلوم ناشرون.

تمام حسان. (2000). الأصول، دراسة إبستمولجية للفكر اللغوي عند العرب (الإصدار د.ط). القاهرة : عالم الكتب.

حاج صالح عبد الرحمان. (1972). « مدخل إلى علم اللسان الحديث ». الجزائر : مجلة اللسانيات،المجلد الثاني، العدد 01.

حنيفي بن ناصر، و مختار لزعار. (2011). اللسانيات : منطلقاتها النظرية وتعميقاتها المنهجية (الإصدار 2). الجزائر : ديوان المطبوعات الجامعية.

ذهبية حمو الحاج. (2012). لسانيات التلفظ وتداولية الخطاب (الإصدار 2). تيزي وزو : الأمل للطباعة والنشر والتوزيع.

سمير شريف استيتية. (2008). اللسانيات : المجال، والوظيفة، والمنهج (الإصدار 2). الأردن : جدار للكتاب العالمي.

عبد السلام المسدي. (1986). التفكير اللساني في الحضارة العربية (الإصدار 2). تونس : الدار العربية للكتاب.

عبد السلام المسدي. (2010). مباحث تأسيسية في اللسانيات (الإصدار 1). لبنان : دار الكتاب الجديدة.

عبد العزيز العصيلي. (2006). علم اللغة النفسي (الإصدار 1). الرياض : مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر.

عبد الغفار حامد هلال. (1982). علم اللغة بين القديم والحديث (الإصدار 2). مصر : مطبعة الجبلاوي.

فردينان دوسوسور. (1985). علم اللغة العام، تر : يوسف يوئيل عزيز (الإصدار د.ط). بغداد : دار آفاق عربية.

كعواش عبد العزيز. (2010). « علم اللغة النفسي بين الأدبيات اللسانية والدراسات النفسية ». بسكرة : مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، العدد السابع.

ميلكا إفيتش. (2000). اتجاهات البحث اللساني، تر : سعدعبد العزيز مصلوح-وفاء كامل فايد (الإصدار 2). مصر : المجلس الأعلى للثقافة.

نجاة بوقزولة. (2018). « اللسانيات العرفنية نحو منهج جديد لمقاربة النص الأدبي ». القبة : مركز البصيرة للبحوث والاستشارات والخدمات التعليمية، المجلد10، العدد 03.

يوسف وغليسي. (2008). إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الحديث (الإصدار 1). الجزائر : منشورات الاختلاف.

عبد المطلب زيوش Ziouche Abd el Moutaleb

مخبر اللغة وتحليل الخطاب، جامعة جيجل.

خالد بن عميور

جامعة جيجل. الجزائر

Benamieur Khaled

University of Jijel

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article