تأثير النحت الأفريقي على الفن الأوروبي الحديث « بيكاسو أنموذجا »

Influences de la sculpture africaine sur l'art européen moderne: Picasso comme paradigme

Influences of African Sculpture on Modern European Art: Picasso as a Paradigm

حمزه تريكي Hamza Triki

حمزه تريكي Hamza Triki, « تأثير النحت الأفريقي على الفن الأوروبي الحديث « بيكاسو أنموذجا » », Aleph [],  | 2024, 04 May 2024, 04 October 2024. URL : https://aleph.edinum.org/11904

تختلف مظاهر الفنون في القارة الافريقية منذ القدم، ولا شك أن أقنعة الطقوس والشخصيات الاحتفالية وكذا ممارسات فن النحت المتنوعة من أهم تلك المظاهر، لتتعداها إلى صناعة الأسلحة والأزياء وزخارف الجسم والأشياء اليومية الأخرى، حيث يتميز الإنتاج الإبداعي للشعوب الأصلية في إفريقيا بلمسة خاصة للتعبير والحيوية، لذلك تمتع الفن الأفريقي بتاريخ طويل من الاستقبال في الغرب، فقد تأثر العديد من الفنانين المعاصرين بالفنون التقليدية لمناطق مختلفة بإفريقيا، والتي لا تزال مصدر إلهام للفنانين المعاصرين اليوم، وعليه سنحاول من خلال ورقتنا البحثية هذه التطرق إلى موجز تاريخ الفن في افريقيا العميقة وانعكاساتها على الممارسات الفنية المعاصرة.

Les manifestations artistiques sur le continent africain varient depuis l’Antiquité, et il ne fait aucun doute que les masques rituels et les figures festives, ainsi que les pratiques des divers arts de la sculpture, comptent parmi les plus importantes de ces manifestations. Elles s'étendent à la fabrication d’armes, de mode, de décorations corporelles et d’autres objets quotidiens, où la production créative des peuples autochtones en Afrique se caractérise par une touche particulière d’expression et de vitalité. Ainsi, l’art africain a connu une longue histoire de réception en Occident ; de nombreux artistes contemporains ont été influencés par les arts traditionnels de différentes régions d’Afrique, qui demeurent une source d’inspiration pour les artistes contemporains aujourd’hui. Dans cet article, nous tenterons d’aborder brièvement l’histoire de l’art en Afrique profonde et ses implications pour les pratiques artistiques contemporaines.

Les manifestations artistiques sur le continent africain varient depuis l’Antiquité, et il ne fait aucun doute que les masques rituels et les figures festives, ainsi que les pratiques des divers arts de la sculpture, comptent parmi les plus importantes de ces manifestations. Elles s'étendent à la fabrication d’armes, de mode, de décorations corporelles et d’autres objets quotidiens, où la production créative des peuples autochtones en Afrique se caractérise par une touche particulière d’expression et de vitalité. Ainsi, l’art africain a connu une longue histoire de réception en Occident ; de nombreux artistes contemporains ont été influencés par les arts traditionnels de différentes régions d’Afrique, qui demeurent une source d’inspiration pour les artistes contemporains aujourd’hui. Dans cet article, nous tenterons d’aborder brièvement l’histoire de l’art en Afrique profonde et ses implications pour les pratiques artistiques contemporaines.

The manifestations of arts in the African continent have varied since ancient times, and there is no doubt that the masks of rituals and festive figures, as well as the practices of various forms of sculpture, are among the most important of these manifestations. They extend to the manufacture of weapons, fashion, body decorations, and other daily items, where a special touch of expression and vitality characterises the creative production of indigenous peoples in Africa. Thus, African art has enjoyed a long history of reception in the West; many contemporary artists have been influenced by the traditional arts of different regions of Africa, which are still a source of inspiration for modern artists today. In this paper, we will try to address a brief history of art in deep Africa and its implications for contemporary artistic practices.

مقدمة

لا شك أن الفن الصخري (ممثلا في اللوحات الجدارية والنقوش المختلفة) هو أقدم أشكال التعبير الإبداعي، والذي جسّد من خلاله الانسان الماهر مشاهد مجرّدة ومُنمنمة لمظاهر حياته الاجتماعية على جدران الكهوف والمغارات، وغالبا ما تناولت تمثيلات لأعمال طقوسية تمثّل في مجملها الجانب العقائدي، وهو الجانب الذي كثيرا ما ارتبط به الفن الافريقي كأحد أشكال التعبير الإنساني، هذا من خلال المنحوتات والأقنعة التي كانت سائدة انذاك بشكل واسع على شكل أحد أهم الأعراف القبلية، حيث تُظهر لنا النماذج المقدمة مدى عراقة هذا الأسلوب من التصوير في حياة المجتمع الافريقي القديم، وهو الأسلوب الذي تطور مع الوقت وضمن خصوصية كل قبيلة على حدا من حيث التقنية والخامات التي تراوحت ما بين الأخشاب المحليّة والنحاس والبرونز، وقد تمتعت هذه المنحوتات والأقنعة بأسلوب تنفيذ بسيط في الأداء لكن ملامحه التجريدية كانت ذو تأثير عميق على المشاهد، وهو ما جعل من أسلوب الفن الافريقي ملهما فيما بعد لعديد من الفنانين في العالم، سواء من خلال مشاهدتهم لنماذج من الفن الافريقي بالمتاحف وقاعات العرض في بلدانهم والتي ساهم فيها الرحالة والمستكشفون، أو من خلال زياراتهم هم بأنفسهم لبعض المناطق الافريقية.

خلال مطلع القرن العشرين، كان العديد من أساتذة الفن العظماء أمثال : « بيكاسو وماتيس وموديلياني » معجبين جدًا باساليب الفن الأفريقي، خاصّة وأنهم روادا شبه منتظمين للمعارض والمتاحف التي تعنى بالفن الإفريقي، ولعلّ هذا مردّه إلى محاولة منهم لاستيعاب مختلف العناصر الانشائية والأسلوبية لمختلف الأعمال الفنية ذات البعد التجريدي البسيط، وهو ما أصبح فيما بعد بمثابة دمج حقيقي للأشكال الابداعية من الفن الإفريقي كعناصر بنائية في الفن الأوروبي المعاصر، فقد ألهمت هاته الأشكال وعلى بساطتها هؤلاء الفنانين وأمثالهم لابتكار تقنيات تجريدية أبسط في كسر جديد لقواعد الفن الكلاسيكي.

ومن خلال المعطيات السابقة، ورغبة من في الكشف عن جوهر هذه الأسلوبية المؤثر في حداثة الفن كان التساؤل الجوهري لدراستنا كالتالي :

  • ما هو تأثير الفن الأفريقي على الثقافة التصويرية في القرن العشرين؟، وكيف تغلغل الفن الأفريقي في حداثة أعمال بيكاسو التكعيبية؟

وللإلمام بهذه الاشكالية من جميع النواحي ولإعطاء الموضوع كما معرفيا أكبر عزّزنا تساؤلنا السابق بأسلة فرعية أهمها :

  • ماهي أبرز أوجه الابداع الفني في تاريخ الفن الافريقي؟

  • من أي منظور (سواء أكان إثنولوجيًا أم نظريًا فنيًا) تم تفسير وظيفة أو جودة هذه الأشياء؟

  • كيف أثر الفن الأفريقي على تكعيبية بيكاسو؟

1. تاريخ الفن في إفريقيا

لا شك أن الفن الصخري (ممثلا في اللوحات الجدارية والنقوش المختلفة) هو أقدم أشكال التعبير الإبداعي، والذي جسّد من خلاله الانسان الماهر مشاهد مجرّدة ومُنمنمة لمظاهر حياته الاجتماعية على جدران الكهوف والمغارات، وغالبا ما تناولت تمثيلات لأعمال طقوسية تمثّل في مجملها الجانب العقائدي، وهو الجانب الذي كثيرا ما ارتبط به الفن الافريقي كأحد أشكال التعبير الإنساني، هذا من خلال المنحوتات والأقنعة التي كانت سائدة انذاك بشكل واسع على شكل أحد أهم الأعراف القبلية، حيث تُظهر لنا النماذج المقدمة مدى عراقة هذا الأسلوب من التصوير في حياة المجتمع الافريقي القديم، وهو الأسلوب الذي تطور مع الوقت وضمن خصوصية كل قبيلة على حدا من حيث التقنية والخامات التي تراوحت ما بين الأخشاب المحليّة والنحاس والبرونز، وقد تمتعت هذه المنحوتات والأقنعة بأسلوب تنفيذ بسيط في الأداء لكن ملامحه التجريدية كانت ذو تأثير عميق على المشاهد، وهو ما جعل من أسلوب الفن الافريقي ملهما فيما بعد لعديد من الفنانين في العالم، سواء من خلال مشاهدتهم لنماذج من الفن الافريقي بالمتاحف وقاعات العرض في بلدانهم والتي ساهم فيها الرحالة والمستكشفون، أو من خلال زياراتهم هم بأنفسهم لبعض المناطق الافريقية.

من منظور أوروبي، تندرج معظم الأعمال الفنية الزنجية الأفريقية في فئة « الفن الشعبي المجهول »، فصحيح أن هذه أعمال تم التكليف بها والتي تم إنشاؤها لأسباب محددة ولهذا فإن مختلف صناعها مجهُولون، فمعظمهم من المجتمعات الريفية، حيث يقوم المزارعون والحدادون بإتاجاتهم الفنية كخط جانبي في العديد من المجموعات العرقية، أين يُعدًّ إنشاء هذه الأشياء السحرية مهمة ذكورية، حيث تتجلى مهنة الفنان مع التدريب المهني والتخصص الذي استمر لعدة سنوات في مختلف المناطق وبشكل خاص في الممالك، مثل صناعي الأساور البرونزية ونحاتي العاج في « بنين » التي يلبسها الزعماء خلال الاحتفالات الرسمية، ولا شك أن هؤلاء الحرفيين قد كان يتم تنظيمهم أيضًا في مجموعات ونقابات مهنية. (Osaze, 2022, pp. 05-06)

تُظهر مختلف الانتاجات الفنية أن الممالك الفردية تخصّصت في إنتاج فني معين، وأنه كان هناك أيضًا تبادل بين المجموعات العرقية، ومن سمات الفن الأفريقي انخراطه الوثيق في الظروف الدينية والاجتماعية، ليتيح ذلك نظرة عامة على الاختلافات الإقليمية والتاريخية في الفن الأفريقي التقليدي الذي يُمثل لغة اتصال وخطاب يشتمل على مختلف الرموز والأشكال ودلالاتها المتباينة، (صارة، التوليف في الفنون الإفريقية كمدخل لإثراء التصوير المعاصر، 2018، صفحة 422) ولأنها توضّح الاختلافات بين الأساليب في الوقت نفسه، تعمل الأعمال الفنية كمصادر للتاريخ الثقافي كمظهر من مظاهر المعرفة الثقافية، في حين تكشف لنا المقارنة بين العديد من الأعمال لمجموعة عرقية عن الصفات والمهارات الإبداعية للفنانين الفرديين في إطار المعايير الجمالية للثقافة المعنية.

طوال القرن العشرين، تم الاعتراف بشكل متزايد بالأشياء الفنية الجميلة من جنوب الصحراء الأفريقية (الأفارقة الزنوج) كأعمال فنية، بينما فسّرت الأبحاث الإثنولوجية هذه الأعمال بشكل أساسي على أنها أشياء من الممارسة اليومية والتاريخ الثقافي لتلك المناطق، (سمر محمد، 2012، الصفحات 432-433) وفي نفس الفترة تطورت المعرفة بتاريخ الفن الإفريقي، أمّا من وجهة نظر أوائل القرن العشرين كان للفن الأفريقي طابع هجين، حيث كان أيضًا مفتونًا بشكل خاص بالفنانين في باريس ومختلف الدول اللاتينية الأخرى، وقد كان التغيير في المعنى من كائن طقوسي إلى عمل فني واضح بشكل خاص منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، (سمر محمد، 2012، صفحة 436) ومن الأمثلة الشهيرة انتقال فنّاني « الفن الزنجي الإفريقي إلى الانفتاح على العالم، في خطوة مدلولها إعطاء المشاهدين نظرة ثاقبة لتقاليد الفن الأفريقي من منظور جديد ومعاصر.

Ateu Atsa (Bangwa, ca. 1840–1910) | Commemorative figure of a chief

Ateu Atsa (Bangwa, ca. 1840–1910) | Commemorative figure of a chief

New York. The Metropolitan Museum of Art. "Heroic Africans: Legendary Leaders, Iconic Sculptures," September 19, 2011–January 29, 2012.Zürich. Museum Rietberg. "Heroic Africans: Legendary Leaders, Iconic Sculptures," February 26–June 3, 2012.

https://www.metmuseum.org/art/collection/search/320474

لكن ومع ذلك، وفي معظم الحالات يظلّ منشئو الأعمال الفنية المختلفة في افريقيا العميقة مجهولين للعالم (رجوعا إلى عدة عوامل)، لذلك وحتى اليوم لا يمكن الإجابة على سؤال  »سيادة«  الفن الأفريقي الزنجي إلا بشكل بدائي للغاية، وعلى الرغم من ذلك وصلتنا نماذج فريدة من نوعها لفنانين أفارقة مميّزين، لعلّ أهمهم  »أتو أتسا«  Ateu Atsa 1840-1910))، وهو من بين أشهر فناني ثقافة  »البانغوا«  (Bangwa)1 بالكاميرون، كان له العديد من المنحوتات الفنية التي لاقت انتشارا واسعا في ذلك الوقت، لكننا نجهل الكثير عن مسيرته الفنية، وهذا لا شك أن مردّه إلى ضعف تأريخ الفن في القارة الافريقية وعمقها ككل، وعلى الرغم من ذلك نلمس صبغة جمالية متناهية الاداء والتكوين، خاصة إذا ما تحدثنا عن منحوتته المجهولة الاسم والتي تمثل شخصية لزعيم قبيلة. (Alisa, 2007, p. 101)

Yu, Fon of Kom : Commemorative thrones of Chief Tufoyn and Queen Mother Naya

 

Commemorative thrones of Chief Tufoyn and Queen Mother Naya Artist: Yu, Fon of Kom (1830–1912) Date: Mid-19th century Geography: Cameroon, Grassfields region, Laikom Medium: Wood, copper Dimensions: H.: Male 74 7/8 in. (190 cm), Female 72 7/8 in. (185 cm) Classification: Wood-Sculpture.

Commemorative thrones of Chief Tufoyn and Queen Mother Naya Artist: Yu, Fon of Kom (1830–1912) Date: Mid-19th century Geography: Cameroon, Grassfields region, Laikom Medium: Wood, copper Dimensions: H.: Male 74 7/8 in. (190 cm), Female 72 7/8 in. (185 cm) Classification: Wood-Sculpture.

https://www.pinterest.com/pin/436567757606964845

نجد كذلك مواطنه المعروف بـ »الملك يو«  (Yu, Fon of Kom 1830-1912)من مقاطعة  »كوم«  شمال الكاميرون، والذي يمتلك المتحف الإثنولوجي في برلين أعمالا فنّيا لشخصيتين تذكاريتين، تم نهبهما في عام 1905 من قبل الضابط الاستعماري الألماني  »فون بوتزليتس«  (von Putlitz)، حينما فرّ الملك من القوات الألمانية وترك هذين الشخصين في القصر، ولم يكن  »يو«  حاكماً مهماً لـ »كوم«  فحسب، لكنه لا يزال يعتبر فنانًا مهمًا حتى اليوم، والتمثالان منحوتان من خشب ونحاس وربما كانا مطرزين ببعض الزجاج الملون بألوان زاهية وجلد البقر، تجدر هنا الإشارة إلى أن اراء الباحثين ترى بأن مصطلح  »Yu, Fon of Kom«  ربما يشير إلى ورشة عمل وليس مجرد فرد. (Christraud, 1983, p. 46)

Olowe d’Ise. Les panneaux de porte et un linteau en bois. Yoruba, Nigéria, 1910-1914

Olowe d’Ise. Les panneaux de porte et un linteau en bois. Yoruba, Nigéria, 1910-1914

المصدر  https://www.alamyimages.fr/

أما في نيجيريا فقد ذاع صيت  »أولوي«  (1938-1878 Olowe)، والمعروف بنحات  »اليوروبا«2  في نيجيريا، حيث ظل نشطا في مقاطعة  »إكيتي« ، في حين يعتبر  »أولوي«  من قبل العديد من هواة الجمع ومؤرخي الفن : أهم فنان  »يوروبا«  في القرن العشرين، وقد اشتهر في أوروبا عندما تم عرض باب منحوت ومزيّن بأشكال ملونة (يمثل باب القصر الملكي في  »إكيري« ) في معرض الإمبراطورية البريطانية في لندن عام 1924، والملاحظ أن أسلوبه يختلف عن نقوش اليوروبا الأخرى في العمق، كما ابتعد عن التمثيل الأمامي واستخدم حركات دائرية للجسم، بالإضافة إلى هذا كله تتميز أعمال الفنان بالعناية الفائقة والدقة في التنفيذ والوعي بالأشكال، (Michael, 2022) وعلى كل ينبغي للمرء أن يمتنع عن تفسير الأشياء الأفريقية على أنها تقليد جماعي لقبيلة معينة، لأن الفنانين. لم يكونو مستقرين بالضرورة ولم يتم ربط الأشياء بأنفسهم بأماكن محددة.

1.1. السمات والوظائف والموضوعات الأسلوبية للنحت الأفريقي التقليدي

تحقق معظم المنحوتات والأقنعة في الفن الافريقي التقليدي زيادة في أثرها من خلال الواجهة والتناسق وتقليل التفاصيل الفردية، حيث يتم نحتها دائمًا وتقريبًا من قطعة واحدة من الخشب، كما أن مجموعة المواد التي يمكن رؤيتها من خلالها نادرة للغاية نظرا لعدة عوامل ومؤثرات، وعلى الرغم من ذلك يجب على المرء ألا يغفل حقيقة أن الخصائص الأسلوبية للأعمال يمكن أن تتراوح من الطبيعة إلى التجريد القوي إلى التنفيذ بأشكال هندسية، ويمكن ملاحظة هذا النطاق من التباين على مدى فترة زمنية أطول مما يجعل التأريخ البسيط للعديد من الأعمال الفنية أكثر صعوبة إلى حد ما.

على سبيل المثال، يستخدم متحف  »برلين الإثنولوجي«  خمس صور لوجوه بشرية من منطقة  »يوروبا«  الواقعة في جنوب غرب نيجيريا وجمهورية بنين، لإظهار الاختلافات الأسلوبية الرئيسية التي يمكن ملاحظتها بين القرنين الثاني عشر والعشرين، وعليه يمكن رفض الافتراض القائل بأن الفن الافريقي يجسّد شكلًا من أشكال التمثيل المبسط للغاية، وعلى ما يبدو تُمثّل هذه البساطة بداية تطور ما يمكن رفضه بوضوح في المجتمعات الاخرى والعكس صحيح، ويمكن هنا الاستدلال يفاجئ برؤوس الطين من مدينة  »إيف«  التي تم التنقيب عنها سابقا في جنوب غرب نيجيريا، فعندما رأى الأنثروبولوجي  »ليو فروبينيوس« Leo Frobenius (1873-1938) مثل هذه الرؤوس لأول مرة في عام 1910 فجر من خلالها خيال الأوروبيين تمامًا وغيّر نظرتهم إلى مفهوم المضمون في العمل الفني، لذلك وصفها بأنها من بقايا مستعمرة يونانية مفقودة واعتقد أنه وجد  »أتلانتس« . (Herta, 1961, pp. 544-555)

ويمكن القول اليوم بأن لا جدال في أن هذه المنحوتات هي تمثيلات مثالية أو صور للعائلات الملكية الحاكمة ومحيطها المباشر، فقد تم تأريخ الرؤوس من  »إيف«  (غرب افريقيا) من القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس عشر، وفي القرون التي تلتها أصبحت مملكة بنين واحدة من القوى الرائدة في المنطقة حيث لعب الرؤساء التذكاريون للملوك (أوبا) والأمهات (إيوبا) أدوارًا مهمة في ذلك الوقت، ومن القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر كان هناك أسلوب متزايد وإضفاء الطابع الرسمي على ملامح الوجه، (Nationalgeographic, 2022)حيث يبدو جليا أن الشارة المجسّدة أكثر أهمية من الشخص الذي يرتديها، وتعتبر الرسوم التي تعود إلى أوائل القرن العشرين من بين أكثر الصور تقدمًا وتجريدًا في  »اليوروبا«  وهذا على الرغم من أنه يمكن أيضًا وصف تأثير اللمسات الطبيعية اعتمادًا على وظيفة النحت وهذا من خلال صور للعائلات الحاكمة ومحيطها المباشر. (The British Museum, 2016)

إذن، ومما لا شك فيه أن الفن الافريقي خدم  »تمثيل«  الحكام، ولم تُستخدم لهذا الغرض صور ضخمة لملوك وكبار الشخصيات المتوفين فقط (يبلغ ارتفاعها أقل من متر بقليل)، ولكن أيضًا الأبواب المنحوتة وأعمدتها بشكل مجازي في القصور، والتي يمكن أن تتكون من عدة مئات من المباني الفردية، حيث زيّنت منازل الملوك والمنظمات الاجتماعية برسومات متعددة الشخصيات بنقوش بارزة، ومن بين الأعمال الأكثر شهرة من حيث الرمزية نجد : تشكيلات مملكة  »باموم«  والأراضي الشمالية المتاخمة لها والتي كانت مطرزة باللآلئ والأصداف، حيث برع الفنانون في إتقانهم للحياكة وفن التطريز المزخرف ذو الأشكال الهندسية البسيطة والمعبرة في آنٍ واحد، وهو ما يدُل على أنهم استبدلوا المعدن والعاج بخامات أخرى أكثر وظيفية حسب سياقها. (Alexandre, 1998, pp. 30-31)

2.1. الرجل في الفن الأفريقي التقليدي

يُعدُّ تصوير الشخصيات البشرية أو الشبيهة بالإنسان (مجسمات) جزءًا مهمًا من الفنون البصرية في إفريقيا، وهذا على الرغم من أن الفن الأفريقي التقليدي كان مرتبطًا في كثير من الأحيان بالطقوس، إلا أن هناك شخصيات من كلا الجنسين لا يبدو للوهلة الأولى أنها تمثل سلفًا أو ملكًا أو أي صفة أخرى، وهذه فرضية، لكن هذا الافتراض عادة ما يكون غير صحيح، لذلك عادة ما تنتمي الشخصيات الفردية إلى فئة صور الأشخاص الذين ماتوا بالفعل ولهم تأثير بطريقة أو بأخرى على المجتمع الصغير/ الكبير.

blolo bla asye usu Baule people, Côte d’Ivoire, Wood; 33 x 9.5 cm, 20th century

blolo bla asye usu Baule people, Côte d’Ivoire, Wood; 33 x 9.5 cm, 20th century

Collection of Allen and Barbara Davis. https://exhibitions.psu.edu/s/african-brilliance/page/catalogue-27

لعلّ مثل هذه الصور المثالية هي دائمًا إشارات إلى العلاقات الاجتماعية والثقافية التي صورها الشخص (الفنان)، لذلك تم صنعها للمناسبات الخاصة ومعاملتهم ورعايتهم لتشحنهم بالطاقة السحرية، وبإمكانها أيضا (الصور المثالية) أن تصبح موضوعات نشطة في سياق طقسي أو اجتماعي، وهنا نلمح نوعا آخر من التصوير في ساحل العاج وهو تصوير الأرواح المساعدة، كمثال عن ذلك نجد منحوتة تمثّل شخصية ّزوج الروح » من قبائل « الباولي »، حيث من المفترض أن تجسد المنحوتة الزوج الأنثوي أو الذكر في العالم الروحي، في حين تراوحت جمالياتها بين القيم الر مزية وجماليات الشكل واللون البسيطين الذين لهما دلالتهما وفق سياق العمل الفني، ويرى فن الـ« بلولو » من خلال مضمونه أن كل شخص لديه رفيقه من الجنس الآخر، وهي التي تمثّل أزواجهم في العالم الآخر (البلولو) قبل ولادتهم، وفي بعض الحالات إذا كان الرجل أو المرأة يعاني من مشاكل زوجية أو صعوبة في الخصوبة فسوف يوصي أحد العرافين بتكليفهم بشخصية منحوتة كزوج روحهم. (Michèle, 2005, pp. 12-13)

وينتشر تصوير الأزواج على نطاق واسع في الفن الأفريقي، لدرجة أنه يمكن للمرء التكهن بما إذا كانت بعض الشخصيات الفردية المنحوتة لها نظيرها في الأصل، وقد سعى الفنانون إلى جعلهم متشابهين باستثناء جنسهم، ولعل معظمهم عبارة عن تمثيلات للأسلاف أو أرواح طبيعية أو لشخصيات للذكريات أو أشخاص متوفين قد يكونوا مهمين، وقد تُصوّر فكرة الترابط أو الوحدة في المجتمع، والملاحظ خلال تعاملنا مع تصاوير لمنحوتات افريقية وضع العديد من النحاتين للأشكال على قاعدة دائرية مشتركة خاصة بمنحوتات « اليوروبا »، (AfricanArts, 2021) ومن الممكن أن تمثل هذه المنحوتات حالة خاصة لا يمكن تفسيرها إلا من خلال قوى خارقة للطبيعة.

3.1. انعكاسات النحت الافريقي على الأعمال الفنية الحديثة والمعاصرة

حتى لو أصبح الفن الواقعي من إفريقيا معروفًا في هذه الأثناء خاصة إذا تحدثنا عن المنحوتات الشهيرة لـ Ife of Yoruba في نيجيريا، والتي اكتشفها Leo Frobenius في عام 1910، فإن غالبية الأقنعة والمنحوتات من إفريقيا (جنوب الصحراء) تتميز بالتجريد واستخدام مبسط للنموذج، فمنذ عام 1905 ترك الفن الافريقي انطباعًا عميقًا عن طلائعي التكعيبية : « بابلو بيكاسو » و« جورج براك »، (هديل، 2015، صفحة 2024) وهو نفس الأمر بالنسبة للتعبيرية قبلها، من خلال تحوّله إلى فضاء ومكان جديد لدراسة طرق جديدة للرؤية الفنية، فقد أعجبوا بالبدائية المزعومة لافريقيا والتي تمثّل أساسا « الأصالة » و« الخلود » من خلال التصوير البصري للأشياء بقوة دينية سحرية، وهكذا قام فنانو الطليعة ببناء صورة لأفريقيا ككل تتكيف مع شوقهم لاكتشاف عالم جديد في الفن البصري، ولعلّ ذلك مرده شعورهم بالملل من التقاليد الأكاديمية للفنون الأوروبية.

لكن وفي الوقت نفسه، استفاد هؤلاء الفنانون من أسطورة قديمة كانت سائدة منذ العصور الوسطى الأوروبية والتي ترى بأن إفريقيا قارة الطبيعة الساحرة والغموض والقوة الحيوية، حيث تُنسب الحياة الجنسية الوحشية والجامحة إلى الأفارقة، هنا تتأرجح علاقة الفنانين الأوروبيين بالفن الافريقي الذي هو جديد وغريب بالنسبة لهم، للتراوح أعمالهم المتأثرة بالفن الزنجي بين النسخ ومصدر الإلهام، ولعل هذا السحر قد مسّ حتى فناني السريالية، حيث قاموا بتخطي الأعمال الفنية الكلاسيكية وإزالتها من الطابع الاجتماعي، بل ورأوا في الفن الافريقي تحررًا للشكل والسحر الباطني، ولم يكن السرياليون متحمسين للقطع الأثرية الأفريقية فحسب بل حاربوا أيضًا اضطهاد المستعمَر للشعوب الافريقية.

2. اكتشاف الفن الافريقي في أوروبا

منذ زمن بعيد، قيل إن الفنان الاسباني « بيكاسو » (Pablo Picasso 1881-1973) كان على اطلاع واسع بما كان يسمى أولاً بالنحت التقليدي الإفريقي، وقد كانت زيارته (1907) لصديقته الأمريكية الروائية وهاوية جمع التحف الفنية « جيرترود شتاين » (Gertrude Stein 1874-1946) بفرنسا والتي التقى فيها مع زميله الفنان « هنري ماتيس » (Henri Matisse 1869-1954)، بمثابة أولى فرصه للإطلاع على المشغولات الفنية الافريقية؛ (فرانكلين، 2013، صفحة 24) من خلال منحوتة قدا اشترتها صديقته جامعة التحف الفنيّة، وهي الفرصة التي ألهمته إلى حد بعيد في إيجاد شكل جديد لأسلوبه كنوع من التجديد الذي يتطلب أوّلا ملاحظة وتحليلا معمقين لاستنباط الخطوط الرئيسية لتشكيلاته المعاصرة، لهذا كثيرًا ما توجّه « بيكاسو » إلى المتحف الإثنولوجي لـ«  تروكاديرو » (Musée d’Ethnographie du Trocadéro) والمعروف اليوم باسم « متحف الانسان » (Musée de l’Homme)، قصد فهم واستيعاب العناصر البنائية في الفن الإفريقي، لكنه سرعان ما غادر وبدأ في جمع المنحوتات والأقنعة من إفريقيا بنفسه. (Bishop, 2002, p. 394)

مثل العديد من معاصريه، كان للشكل الغريب للنحت الإفريقي وجمالياته المختلفة تأثيرات ظاهرة على شخص الفنان، بالموازات مع ذلك وفي البدايات الأولى للقرن العشرين كان « بيكاسو » وزملاؤه من الفنانين يبحثون عن أسلوب جديد ورسمي من شأنه أن يُطور الفني ليتغلب في النهاية على التقليد الأوروبي للواقعية، (كريستوفر، 2016، صفحة 44) وفي ظل تواجد المستعمرات ورحلات المستشرقين وغيرهم كان من الممكن جدا التواصل المباشر وعن كثب مع الأشياء الجميلة في الفن الإفريقي، خاصّة إذا تحدثنا عن التماثيل والأقنعة، هاته الأخيرة التي سحر تجريدها البسيط « بيكاسو » ولعب دورًا رئيسيًا في تطور أسلوبه الفني، حيث قاده فحصه للأشكال والجماليات الإفريقية إلى ما يسمى بـ« المرحلة الإفريقية » وظهور التكعيبية التي تُمثّل بداية الحداثة الكلاسيكية وثورة الفن الأوروبي بشكل عام.

عليه، وخلال القرن العشرين انتشرت صورة « الآخر » (الثابتة والبدائية والجماعية والتي تحددها ثقافة الفرد) في الخطابات الفنية على وجه الخصوص؛ وفي الخطابات الاثنولوجية في المجال العام الأوروبي، أين تم تصنيف إفريقيا على أنها النقيض (البدائي) لأوروبا؛ بحيث يمكن للأخيرة أن تجعل تفوقها مرئيًا. وبهذه الطريقة تضفي الشرعية على « العولمة » و« الحضارة » وكذلك الاستغلال الاقتصادي والقمع السياسي للمستعمرات الأفريقية، إثنولوجيا بدأت هذه الصورة تتغير تدريجيا بعد الحرب العالمية الثانية ونهاية الاستعمار، ولم تتعرض إلا للنقد الراديكالي مع ظهور نظريات ما بعد الاستعمار في نهاية السبعينيات.

1.2. الفترة الأفريقية

أدى اهتمام بيكاسو بما كان يطلق عليه في المجتمعات الغربية الفن البدائي إلى تطوّر جذري في أسلوبه الفني، وقد كانت فترته هذه عقب الفترة الوردية حيث ظهر جليّا تأثير الأقنعة الافريقية في تشكيلاته الفنية التكعيبية، وهذا ما تعكسه منجزاته الفنية ما بين سنوات 1907م و1909م والتي تمثل أساسا انعكاس ثقافة الاخر وفكره من خلال جماليات الموروث الثقافي، أين جسّدها الفنان في لوحاته بخطوط بسيطة نتجت عنها أشكال زاوّية مبسطة تتراوح ألوانها ما بين الأحمر والبني بدرجة أولى، وهو ما كان بمثابة تحول أساسي في الآفاق الفكرية نتج عنه فيما بعد ما يعرف بالتعامل مع ما يسمى بالفن البدائي. (الربيعي، 2005، صفحة 21)

Pablo Picasso. Les Demoiselles d’Avignon, Huile sur toile ; 244 x 233 cm, 1907

Pablo Picasso. Les Demoiselles d’Avignon, Huile sur toile ; 244 x 233 cm, 1907

https://www.kazoart.com/blog/loeuvre-a-la-loupe-les-demoiselles

عُرفت هذه الفترة أيضا باسم « فترة الزنوج »، حيث رسم بيكاسو أشكاله بمساحات مسطحة بألوان أكثر حيوية مما كانت عليه في السابق، هنا تظهر تأثيرات النحت الأفريقي جنبا إلى جنب مع التأثر التقني بأعمال زميله الفنانين : « بول غوغان » و« بول سيزان »، وقد ظهرت هذه الانعكاسات جلية للغاية في لوحته الشهيرة « آنسات أفينيون » (Les Demoiselles d’Avignon)؛ حيث عكست اللوحة تصويرا لخمس نسوة عاريات كانت وجوههم رمزية ومجرّدة بطريقة لا تعكس تشريح الوجه، وهو ما يذكرنا بالنحت الافريقي بدرجة أولى وكذا تصاميم الأقنعة لدى شعوب وقبائل غرب ووسط افريقيا. (غانم، 1981، صفحة 173)

وسرعان ما أحدثت اللوحة لغطا ونقاشا كبيرين لدى المجتمعات الغربية وفي الأوساط الفنية على حد سواء، حيث كانت بمثابة الصدمة في تناول فنّه والأساليب الفنية عموما من خلال تغييرها لكافة المفاهيم الجمالية للعناصر البصرية بدءا بالبناء العام وتمثيلات الأشكال ووصولا عند منظور الفنان إلى موضوعه، فقد غلب التسطيح بشكل مُلفت على الشكل النهائي لسطح اللوحة كمرحلة أولى في أسلوبه التكعيبي، لكنه سرعان ما تخلّى عن هذه التقنية ما بين سنوات 1909-1910م ليختزل بذلك الشكل العام عن طريق توظيف تفاصيل الأشكال الهندسية الأساسية، وهنا كانت تكعيبية بيكاسو في أقصى درجاتها من التمثيل.

كما أعطت أسلوبيته هذه مناهج وتفسيرات مختلفة لتأثيرات الفن البدائي على أعمال بيكاسو الابداعية، وهو ما تعارض إلى حد بعيد مع ما كان متعارفا عليه في التقاليد التصويرية الأوروبية القائمة على مبدأ تمثيل الواقع من خلال الصور التي تشبه النموذج بلمسات خاصّة، وهو ما كان بمثابة كسر بيكاسو للمبادئ الجمالية الغربية للتقليد والتوازن وتفكيكها بطريقة تشويهية من شأنها أن تعطي العمل رؤية معقدة أكثر، وهذا بسبب مادية الأشكال وصرامة تنفيذها بأسلوب مُضاد للمنظور التقليدي، لكن هذا لم يحدّ من شخصية الفنان في تعامله الشخصي مع مواضيعه الفنية برؤية ذاتية تعتمد في كثير من الأحيان على توظيف تأثير الثقافات الأخرى.

2.2. تأثير النحت الإفريقي على أعمال بيكاسو

لقد كان المعرض الذي أقيم في « جوهانسبورغ » عام 2006م استثنائيا لعدد من الأسباب، أولاً : لم يتم عرض عدد أكبر من أعمال بيكاسو في إفريقيا، وثانيًا : كونه أوّل معرض في العالم يعرض أعمال « بيكاسو » جنبًا إلى جنب مع الأقنعة والمنحوتات التي استوحى منها الكثير من الإلهام، أين تمّ تقديم تأثيرهم الحاسم على تطوير أعمال بيكاسو بشكل أكثر وضوحًا وشمولية من أي وقت مضى، وبرعاية كل من « لورانس مادلين » من متحف « بيكاسو » في باريس و« مارلين مارتن » من متحف « إيزيكو بـ : كيب تاون » قدم المعرض أكثر من اثنان وثمانون عملاً لبيكاسو، جنبا إلى جنب مع تسع وعشرون منحوتة مستمدة بشكل أساسي من مجتمعات في مناطق : « ساحل العاج والغابون وجمهورية الكونغو الديمقراطية وليبيريا ومالي ونيجيريا. (Iziko, 2007, p. 08)

وعلى الرغم من أن القيّمين على المعرض شددا على إبراز دور إفريقيا المهم في إحداث ثورة في عالم الفن الأوروبي، إلا أنهما لم يخاطبا أيضًا أنماط الفكر الأوروبية المتضمنة في الاستيلاء الثقافي لبيكاسو، حيث لا يخفى استغلال  »بيكاسو«  -تماشياً مع روح عصره- بثقة وبلا رحمة لأعمال فنانين مجهولين من إفريقيا ليصبح أشهر فنان في العالم، وفي عدد من الصحف الكبرى في جنوب إفريقيا اتهم الصحفيون  »بيكاسو«  بـالسرقة بشكل مثير للجدل وهاجموا غطرسة أوروبا التي كانت إنجازاتها الثقافية الأوروبية العظيمة التي يُفترض أنها حقيقية تستند في الواقع إلى الثقافة الأفريقية. (Patricia, 1990, pp. 627-628)

بناءًا على هذا المقالات الجدلية نشأت نقاشات كبيرة، نوقشت فيها مسؤولية كل من  »بيكاسو«  وأوروبا عن مثل هذه الاعتمادات من منظور ما بعد الاستعمار، ولعل ما تناوله الناقد والمُنظّر  »إدوارد سعيد«  حول عملية صياغة شكل وطبيعة ثقافة الآخر الجديدة حيث يرى بأنه لا يوجد فرق حقيقي بين الاستيلاء الثقافي للأشكال أو الجماليات أو اللغة والاستيلاء المادي للأرض أو الموارد أو الناس، (إدوارد، 2008، صفحة 118) وفي كل الحالات يبقى التفكير الأساسي هو نفسه، كون الشعور القوي يمكنه السيطرة على نظيره الأضعف على مختلف الأصعدة والمستويات، وهنا يمكن القول بأن استلهام بيكاسو للأشكال والجماليات الأفريقية يمثّل بحد ذاته استيلاءا كلاسيكيا على هوية الشعوب على غرار ما يفله المستعمر.

من ناحية أخرى لا يمكن القاء اللّوم عليه بل وجب النظر إلى ذلك بشكل نقدي من زاوية واسعة تحيلنا إلى مسار امتداد الفن، بينما يمكن أن يكون سبب آخر محتمل لاستقبال بيكاسو الأفريقي الواسع هو حضوره المطلق إلى جانب توظيفه للأشكال الأفريقية في تاريخ التصوير الأوروبي، والذي يمنح للجمهور الاوروبي وغيره من الدول اللاتينية وصولاً أسهل إلى فنه وثقافة الاخر مقارنة بالفنانين الأوروبيين الآخرين.

في مقاله المعنون بـ : » القضايا الجمالية للوحات ليوناردو دافنشي وبابلو بيكاسو...« ، تحدّث  »جورج فيفوس سارجنتيس«  (G.-F. Sargentis) عن جماليات لوحات بيكاسو التي وصفها كأنها نوع من الاختزال البصري للأشكال حيث يمكن مشاهدتها بجزئياتها في لمحة سريعة من خلال النظر إلى مختلف العناصر التشكيلية الجزئية في الشكل الواحد، وبهذا فإننا نتجنب مهمة الجمع بين الجوانب الجزئية المختلفة ككل، وهو أمر ممكن فقط في الروح، ومن خلال دراسته هذه فهو يُؤكد على أن هذه اللوحات ليست مجرّد تمثيلات ثنائية الأبعاد، حيث قام بيكاسو بتلوين الأسطح بدرجات مختلفة من الصباغ الساطعة ولعلّ الهدف من ذلك هو محاكاة الكتل والأجسام كأشكال أساسية ثنائية الأبعاد. (G.-F., P, & D, 2020, p. 286)

خاتمة

لقد مثّلت القطع الأثرية والمنحوتات والتي تعتبر في حدّ ذاتها منجزات فنية عصرا حديثا في الفنون الأوروبية الحديثة، ومادة  »غير عقلانية«  من وجهة نظرا الفنانين الغربيين الذين أعادوا صياغتها في أعمال فنية جديدة وبأساليب معاصرة لوقتها زادت من جماليتها الخاصة، وبهذا يمكن القول بأن النحت الافريقي ساهم بطريقة أو بأخرى في في بناء حضارة جديدة، ومن هنا فالفن الافريقي ومن خلال أصالة تعبيره قد قدّم مساهمة لا غنى ولا انكار لها في ظهور الفن الحديث.

وعلى الرغم من أن بعض النقاد يجادلون بأن بيكاسو نسخ عمداً الفن الأفريقي، إلا أن المرجح أنه استغل ببساطة خياله وسمح له بإنتاج أعمال أظهرت هذا التأثير، وقد تسمح لنا مسيرته الشخصية بفهم هذا الجدل بشكل أفضل، حيث يشير بعض النقاد إلى التأثير الذي كان لبول سيزان وأشكاله ثلاثية الأبعاد على أسلوبه، بينما يرى آخرون أن الأقنعة الأفريقية المنمقة كان لها تأثير ملحوظ آخر عليه وعلى العديد من فنانيه المعاصرين الآخرين وهو الأمر الذي تعكسه الأشكال البصرية ورمزيتها في لوحاته.

في أعماله الفنيّة الحديثة، أظهر بيكاسو اهتمامًا شديدًا بالنحت الإفريقي حيث قاده ذلك إلى استكشاف الأشكال التكعيبية، ومنه تجريد الخطوط وتبسيط العناصر التشكيلية واختزالها بعيدا عن أسلوب المدرسة الانطباعية التي ركز فيها الفنانون على رسم وتشكيل الضوء واللّون بدرجة أولى، ومن هنا فالفنان قد كان يبحث عن طريقة جديدة لتمثيل الواقع والتأكيد على أشكال وهياكل الأشياء مع مراعاة خصوصيتها الثقافية، وعلى الرغم من أن الفنون الحديثة قد قلّلت من شأن الفن الأفريقي والثقافة الافريقية عموما، إلا أن أعمال بيكاسو ساهمت في التعرّف على الآخر، وكذا منح تقدير جمالي أكبر من طرف الفنانين الأوروبيين الذين ساروا فيما بعد على نهجه التشكيلي، وهذا من خلال اعطائهم فكرا واسعا عن الفن البدائي في افريقيا وتقديمه في وعاء فني جديد يحتمل أفكار ملؤها الأحاسيس والعاطفة الروحية التي يغلب عليها الحدس، وهو ما يتجلى من خلال : الايقاع، الأسلوب، الابداع...

1 "بانغوا" (Bangwa): مدينة في مقاطعة "ندييه" بالمنطقة الغربية في الكاميرون.

2 "اليوروبا": أكبر المجموعات العرقية في نيجيريا، ويمثلون 16% من سكانها.

African Arts Gallery. (2021, May 15). African Art Items. Retrieved July 14, 2023, from https://www.african-arts-gallery.com/african-art?search=Yoruba&pn=4&min=0&max=32100.

Alexandre, M. (1998). African Art: The World Bank Collection. Washington: The World Bank.

1 "بانغوا" (Bangwa): مدينة في مقاطعة "ندييه" بالمنطقة الغربية في الكاميرون.

2 "اليوروبا": أكبر المجموعات العرقية في نيجيريا، ويمثلون 16% من سكانها.

Ateu Atsa (Bangwa, ca. 1840–1910) | Commemorative figure of a chief

Ateu Atsa (Bangwa, ca. 1840–1910) | Commemorative figure of a chief

New York. The Metropolitan Museum of Art. "Heroic Africans: Legendary Leaders, Iconic Sculptures," September 19, 2011–January 29, 2012.Zürich. Museum Rietberg. "Heroic Africans: Legendary Leaders, Iconic Sculptures," February 26–June 3, 2012.

Commemorative thrones of Chief Tufoyn and Queen Mother Naya Artist: Yu, Fon of Kom (1830–1912) Date: Mid-19th century Geography: Cameroon, Grassfields region, Laikom Medium: Wood, copper Dimensions: H.: Male 74 7/8 in. (190 cm), Female 72 7/8 in. (185 cm) Classification: Wood-Sculpture.

Olowe d’Ise. Les panneaux de porte et un linteau en bois. Yoruba, Nigéria, 1910-1914

Olowe d’Ise. Les panneaux de porte et un linteau en bois. Yoruba, Nigéria, 1910-1914

blolo bla asye usu Baule people, Côte d’Ivoire, Wood; 33 x 9.5 cm, 20th century

blolo bla asye usu Baule people, Côte d’Ivoire, Wood; 33 x 9.5 cm, 20th century

Pablo Picasso. Les Demoiselles d’Avignon, Huile sur toile ; 244 x 233 cm, 1907

Pablo Picasso. Les Demoiselles d’Avignon, Huile sur toile ; 244 x 233 cm, 1907

حمزه تريكي Hamza Triki

جامعة قسنطينة 3/ صالح بوبنيدر

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article