مقدمة
تعد الصناعات الدوائية أهم أسلوب لتحقيق التطور والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في كافة المجالات، وهذا لا يتأتى إلا من خلال بناء منظومة دفاع صحية ركيزتها الأساسية هي مراكز البحث والتطوير للصناعات الدوائية، وكذا العمل على الاستثمار فيها، ، بدليل أن الطلب الدولي على المنتجات الدوائية لا يمكن أن ينخفض، مما يعني ضرورة العمل على تشجيع الاستثمار في هذا القطاع الاستراتيجي، حيث أن عملية تطوير الصناعات الدوائية الجديدة، والمبتكرة من أجل الحصول على تكنولوجية دوائية تساهم في نجاح التنمية الاقتصادية والاجتماعية تعتمد بالأساس على الجمع بين الجهود البحثية، والطرق الابتكارية، والتي تعتبر من أهم الاستراتيجيات المتبعة من طرف الشركات الدوائية خاصة في هذا المجال المرتبط بالصناعات الدوائية، وذلك بالتزامن مع إقرار تطبيق تريبس لحقوق الملكية الفكرية من طرف العديد من الدول خاصة المتقدمة، تم اعتبار الصناعات الدوائية أحد مدخلات الحماية الفكرية، وإدراجها تحت بند براءات الاختراع، والذي هو من قبيل الإنجازات الحديثة نسبيا لأوضاع الملكية الفكرية وقوانينها، حيث أثارت مشكلة التوافق بين الحماية القانونية لحقوق الملكية الفكرية والوصول إلى التكنولوجيا الدوائية معضلة كبيرة، مما ترتب عنه إحجام بعض الدول النامية، خشية أن تمنعهم من الوصول إلى التقنيات الحديثة، إضافة إلى أن مستويات الحماية لا يمكن أن تكون متطابقة.
الأمر الذي يدفعنا إلى طرح الإشكالية التالية : ما مدى تأثير نظام الإبراء الدوائي الذي جاءت به اتفاقية تريبس في اقرار نظام قانوني للصناعات الدوائية في ظل التحديات الدولية؟.
وتهدف هذه الورقة البحثية يتمثل في الوقوف على جدلية الصراع الاقتصادي الدولي حول إبراء الأدوية بموجب اتفاقية تريبس، والتي خلقت جدلا واسعا حول مسألة الوصول للدواء، و ما ترتب عنه جملة من المشاكل خاصة بالنسبة للدول النامية ومدى إمكانية وصولها إلى الدواء، إذ أدى نظام الإبراء الدوائي بموجب اتفاقية تريبس إلى نشوء احتكارات من شأنها فرض سطوة واحتكار الشركات الدوائية المبتكرة للمنتجات الدوائية، والمغالاة في أسعارها، خاصة في ظل أزمة كورونا.
وللإجابة عن الإشكالية المطروحة تم الاعتماد على المنهج الوصفي لإعطاء وصف حول الحقائق القانونية للتحديات المفروضة بسبب نظام الإبراء الدوائي، والمنهج التحليلي لتحليل بعض نصوص الاتفاقية.
1. نظام إبراء الأدوية تكريس للاحتكار وتوسيع للفجوة الاقتصادية
إن مسألة تنظيم قوانين البراءات على مستوى الاختراعات الدوائية كانت على وجه الحصر وتقريبا على المستوى الوطني، حيث كان لكل دولة حرية تقرير ذلك وفقا لمصالحها الوطنية، مراعية في ذلك المدى الذي سيؤدي إلى الاستفادة من الأبحاث الوطنية لأي مشروع إذا ما تم إنشاء حق الإبراء له، حيث توجد العديد من الاختلافات بين أنظمة العالم لبراءة الاختراع الدوائية، حيث أن الدول المتقدمة توفر حماية قوية للاختراعات الدوائية وذلك نتيجة قدرتها على البحث والابتكار، واستبعدت بعض الدول مثل الهند والجزائر الصناعات الدوائية من نطاق الإبراء (Choatre, 2008).
ولقد أدى انفتاح الأسواق العالمية في نظام العولمة إلى قلق الشركات الكبرى على منتجاتها، مثل شركات القطاع الصحي، ونتيجة لذلك قامت الشركات الكبرى بتقديم طلبات للحكومة الأمريكية بإضافة مزيد من القيود على الملكية الفكرية لكي تضمن هذه الشركات إنتاجها في دول العالم، فقامت منظمة التجارة العالمية في عام 1994 بعقد اجتماع عالمي في مدينة مراكش وتم توقيع الاتفاقية المعروفة بـاتفاقية تريبس وهي اتفاقية حول الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية، وفي هذه الاتفاقية تمت إضافة المزيد من القيود على الملكية الفكرية، من بينها أن تمتد الحماية للملكية الفكرية لأكثر من 20 سنة لحماية براءات الاختراع وكذلك 20 سنة لحماية المعلومات السرية وبنود أخرى مفصلة على موقع منظمة التجارة العالمية، وقامت أكثر من 140 دولة بالتوقيع على هذه الاتفاقية، حيث ألزمت هذه الاتفاقية الدول الأعضاء بإجراء تعديل للقوانين الداخلية لهذه الدول لكي تواكب قوانين حماية الملكية الفكرية العالمية حسب اتفاقية تريبس، وبالتالي أصبحت الدول الأعضاء أسيرة قوانين الملكية الفكرية للشركات الكبرى وبالتالي منحت حصانة وحماية مستقبلية للشركات الكبرى واحتكارا للتجارة لها ليس فقط على مستوى القطر بل على مستوى العالم (خليل، 2021).
واعتبر العديد من الفقهاء والمشرعين أن إنشاء نظام الإبراء للأدوية من شأنه تفعيل حدة التحديات في ظل ما كرسته اتفاقية تريبس، وهذا الأمر يبدوا جليا أمام المساعي التي تبذلها الشركات الدوائية للدول المتقدمة قصد الاستحواذ على هذه الصناعة، وذلك من خلال تعزيز الحماية للاختراعات الصيدلانية والصناعات الدوائية عن طريق المطالبة بالتشدد في حماية حقوق الملكية الفكرية، والتسابق نحو تسجيل المنتجات الدوائية، وذلك من أجل فرض سيطرتها على الأسواق العالمية وتحقيق الأرباح للمطالبة دون النظر إلى أوضاع الدول النامية، والتي لم تجد من خلالها إلا بتوفير الأدوية لمواطنيها بأسعار معقولة تتناسب مع إمكانياتها من جهة، ومع دخل الفرد فيها من جهة أخرى، وذلك من خلال قيام بعض شركات الأدوية المتواضعة فيها بإنتاج أدوية تعتمد على نتائج الأبحاث التي قامت بها الشركات الكبرى، والتي غالبا ما تكون قد كلفت الشركات في الدول المتقدمة أموالا طائلة، وجهود شاقة تستغرق سنوات طويلة، إذ لا يكون التوصل إلى منتح دوائي معين إلا نتيجة لسلسلة من الأبحاث العلمية والنظرية في مجال التكنولوجيا الحيوية (كوثراني، 2010).
ووفقا لما سبق تناوله فإنه لا يمكن إنكار أن تعميم نظام براءة الاختراع ضروري لتمويل البحوث الصيدلانية، وأن مسألة البحوث الصيدلانية ومسألة الحفاظ على الصحة العامة لا تخلو من مشاكل حقيقية تتعلق بالحصول على الأدوية، فالدراسات تؤكد أن أغلب الدول النامية تعاني من النقص في التغطية الدوائية الأمر الذي ترتب عنه بالضرورة قيام التبعية الاقتصادية والمحافظة على حقوق الشركات المتعددة الجنسيات وتسمح لها بممارسة الاحتكار ومنافسة المنتجات المحلية وإبعاد مجالات البحث والتنمية عن النواحي التي تحتاج إليها تلك الدول فضلا عن رفع الأسعار في المجال المتعلق بالأدوية (نبيل، 2019).
وعليه فإن تقرير نظام الإبراء التي سعت الدول المتقدمة إلى تقريره بموجب اتفاقية تريبس، وفي إطار منظمة التجارة العالمية، هو في حقيقته تكريس للاحتكار، وتوسيع للفجوة الاقتصادية، والتي تظهر من خلال النقاط التالية (وليد، 2019، 2020) :
1.1. التأثير على البحوث والاكتشافات في المجال الدوائي
إن توسيع نظام حماية براءة الاختراع وتعزيزها له تأثير إيجابي على سرعة البحث الابتكار، ولا شك أن الاعتراف ببراءة الأدوية قد زاد من إجراءات الشركات الحائزة على براءات الاختراع من حيث المزايا والفوائد، ولكن وفي المقابل فإن الابتكار في مجال المستحضرات الصيدلانية قد بدأ في الانخفاض وذلك نتيجة للاستخدامات الواسعة النطاق لبراءات التي أدخلتها اتفاقية تريبس، حيث كشفت دراسة قام بها الاتحاد الأوروبي بعد 10 سنوات من نفاذ اتفاقية تريبس أكدت فيها على انخفاض الابتكار في مجال المستحضرات الصيدلانية، ومن ناحية أخرى زيادة في عدد طلبات براءة الاختراع الأمر الذي يدل على أن شركات الأدوية ترغب قدر الإمكان من الاستفادة من نظام حماية براءة الاختراع، وعلى الرغم من تخصيص مورد أكبر للاستثمار في البحث والتطوير إلا أن إنتاج الدواء تراجع بشكل كبير، وبالتالي فإن براءة الاختراع في العالم المتقدم تؤثر مباشرة على نوع الأبحاث في مجال الدواء وخاصة تلك التي ستجرى من أجل الناس في الدول النامية (عبد الرحمان، 2013).
2.1. التأثير على أسعار الأدوية
إن التأثير الوحيد الذي لا يمكن إنكاره على براءة الاختراع الدوائية نتيجة للتغييرات في قوانين حقوق الملكية الفكرية الوطنية خاصة في الدول النامية هو الزيادة في أسعار الأدوية ومع تعميم حماية براءة الاختراع في جميع البلدان بموجب اتفاق تريبس اضطرت الدول النامية لمراجعة تشريعاتها تشمل تدابير لحماية جميع الاختراعات الدوائية، خاصة وأن المصادر الوحيدة لإمدادات الأدوية هي الشركات التي تملك براءات اختراع والتي تبيع منتجاتها بسعر مرتفع، كما أنها تؤثر على الأشخاص الذين ليس لديهم القدرة المالية على دفع ثمن الأدوية وخاصة في الدول النامية، لأن العبء المالي للإنفاق على الأدوية لا يقع على هياكل التأمين الصحي كما هو الحال في الدول المتقدمة، ولقد جاءت الزيادات في أسعار الأدوية نتيجة إلغاء التنافس في الأسعار، وانفراد الشركات الدوائية بالأسواق الصيدلانية العالمية واحتكارها، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة التقنية المستخدمة في صناعة الدواء، والاستحواذ عليها من قبل الشركات الدوائية التي تسعى للربح والسيطرة على صناعة الدواء في العالم دون وضع اعتبارات لصحة الأفراد وسلامتهم خاصة في الدول النامية، كما يأتي ارتفاع أسعار الأدوية بحجة إعادة استثماراتها التي أنفقتها على البحث والتطوير، في المنتجات الدوائية حتى بعد سقوط البراءة في الملك العام أو الدومين العام، وذلك من أجل المحافظة على قدرتها وريادتها المالية ولو على حساب مرضى وفقراء الدول النامية (ليندة، 2018، 2019).
3.1. المطالبة بإبراء بعض المركبات الدوائية تكريسا للفجوة والتبعية الاقتصادية
في ظل التطور التكنولوجي في صناعة المنتجات الدوائية، وكذا ارتفاع مؤشر البحوث والدراسات في مجال صناعة الدواء وكذا الطرق الجديدة لتفاعل المركبات الدوائية مع الأجسام الحية، وذلك عن طريق الاتحاد بالمستقبلات البروتينية أو تثبيط إنزيمات معينة داخل الجسم، وكذا المركبات الكيميائية ودورها في التوصل إلى الدواء (وليد، 2019، 2020).
الأمر الذي بموجبه ظهرت الذرائع الجديدة للشركات الدوائية للدول المتقدمة من أجل احتكار السوق العالمي للدواء والسيطرة عليه، غير مبالية بالوضع المتأزم للدول النامية والأقل نموا، خاصة بالنسبة لشعوب مناطق افريقيا التي تشهد سنويا حجما كبيرا من الوفيات نتيجة عدم الوصول إلى الدواء، على الرغم من تكريس هيئة الامم المتحدة للعديد للمشاريع الإنمائية في هاته المناطق، إلا أنها لم تحقق ما يكفل ذلك خاصة على المتعلق بالحق في الصحة والوصول إلى الدواء، حيث أنه وفي خضم التطور التي شهدته التكنولوجيا الدوائية، وبروز اتفاقية تريبس لخدمة مصالح الدول المتقدمة ظهرت العديد من الإشكاليات مطالبة بإبراء العديد من المركبات الكيميائية والمتمثلة أـساسا في :
-
المطالبة بإبراء وحماية صيغ تركيب العقاقير : لقد ظهرت العديد من التساؤلات حول هذا المركب الجديد « صيغ وتراكيب العقاقير »، وخاصة من الدول النامية عن مدى فعالية هذا الدواء في تقديم العلاج مما يوسع من نطاق المطالبة بإبرائه حيث تتضمن دراسة الصيغة الدوائية تحضير دواء يحتوي على خاصيتين وهما الثبات في الأوساط والظروف المختلفة، وضرورة المساهمة العلاجية في هذا المركب مما يستوجب التأكد من تناسب المواد المستخدمة فيه فيزيائيا وكيميائيا مع الدواء ولا تتعارض معه (Bridji, 2013).
-
المطالبة بإبراء الاختراعات للعمليات عن طريق القياس: أو ما يعرف « بالعمليات الماثلة »، حيث تسمح بعض الدول بتسجيل الاختراع للعمليات التي تتم عن طريق القياس كصورة من صور البراءة الدوائية متى كانت المادة الكيميائية التي تم الحصول عليها عن طريق القياس، إما بالمقارنة أو المقاربة جديدة، وتقدم خاصية جديدة، وتنطوي على نشاط اختراعي في العملية في حد ذاتها وترتبط بمفهوم الخاصية، وذلك بهدف التوضيح بالخصائص الجديدة المميزة للعملية والتي تهدف إلى ضمان فعالية علاجية للمنتج الكيميائي الجديد، الأمر الذي يستوجب معه التوضيح في ما تطرحه مشكلة المجال التكنولوجي، وهذا حسب ما نصت عليه المادة 27 في فقرتها الأولى من اتفاقية تريبس والتي تنص على إتاحة إمكانية الحصول على براءة الاختراع والتمتع بحقوق ملكيتها دون تمييز بمكان الاختراع أو المجال التكنولوجي، ومع ذلك فإن ابراء طرق القياس يتمثل في إبراء طرق غير جديدة في الأصل (وليد, 2019، 2020).
-
إبراء الأيزوميرات البصرية: والتي تشير إلى وجود اثنين أو أكثر من المواد التي لها نفس الصيغة الجزيئية ولكن هيكلها يختلف في كل من المركبات في هذه المواد، وقد تكون أو لا تكون لها خصائص متشابهة اعتمادا على المجموعات الوظيفية الموجودة في بينتها، واعتبرت مكاتب الدول للبراءات أنه لا يمكن إبراء هذه الجزئيات واعتبارها منتجات جديدة، غير أن وجود النشاط الاختراعي حولها يبقى محل نزاع لأنه من الواضح أنه بالنسبة لهذا النوع من الجزيء يمكن أن يوجد عدة أشكال بصرية نشطة، ومن هذا المعتاد التحقق إذا كان واحد أو أكثر من العناصر المتناهية الصفر التي اتخذت بمفردها أكثر شاطا من مزيج المخلوطين العرقيين، ومن المقبول عموما أن يكون أيزومر البصري أكثر نشاطا بشكل عام من الخليط العرقي، وفي ظل هذا الإشكال فإن العديد من الدول مازالت تعتد ببراءة الأيزومر البصري على الرغم من وجود النقص الحقيقي في معيار الجدة بدعوى منع الشركات المنافسة من استعمال هذه الجزئيات في ابتكار أدوية جديدة (Bridji, 2013).
-
إبراء الأيضات النشطة: وهي عبارة عن مركب مستقر مشتق من التحول الكيميائي الحيوي الجزيئي أولي من خلال الأيض، وقد أثيرت حوله إشكالية تراكم براءة الاختراع لنفس المركب النشط، ومن الصعوبة الحديث عن الأهمية البالغة للفعالية العلاجية للمركب النشط في ظل جوازية تراكم براءة الاختراع، الأمر الذي يترتب عنه تضييق أكثر لحقوق مستعملي الأدوية وبدون تقديم أي فوائد علاجية. (Bridji, 2013).
-
إبراء سلائف الأدوية : أو ما يعرف باستقلاب المركبات غير النشطة والتي يطلق عليها اسم سلائف الأدوية في الجسم، وهي التعديل الكيميائي الحيوي الذي يتم بواسطة نظم إنزيمية متخصصة وتحول هذه العملية غالبا المركبات الكيميائية إلى منتجات سريعة الإطراح لتحديد فترة وشدة التأثير الفارماكولوجي للأدوية، وإن معظم سلائف الأدوية هي منتجات ناتجة عن إزالة السمية، الأمر الذي يستوجب على الدول وفي ظل الإشكال المطروح حول إبراء سلائف الأدوية تطبيق معايير الإبراء على سلائف الأدوية للتأكد من اعتباره ضمن نطاق الابراء أم لا؟ (وليد، 2019، 2020)
2. مصالح الدول النامية في ظل نظام إبراء الأدوية
إن اتفاقية تريبس قد ترتب عنها الإضرار بمصالح الدول النامية في مجال الصناعات الدوائية، وذلك من خلال إدراج احكام تقيد عمليات التصنيع بها، كجعل مدة الحماية بـــ20 سنة، حيث أظهرت البلدان النامية والمؤسسات غير الحكومية استيائها من نظام الملكية الفكرية الحالي « غير العادل »، إذ يرى المعارضون أن إدراج الأدوية في نظام الإبراء بموجب اتفاقية تريبس هو زيادة في أرباح الشركات الدوائية وليس تشجيعا للابتكار والبحث، وأن الادعاء بأن حقوق الملكية الفكرية تشكل حافزا للابتكار من خلال البحث والتطوير غير دقيق، وذلك لكون أغلب تلك الأنشطة تشارك في عملية تمويلها الحكومات والمنظمات غير الربحية ثم تحتكرها شركات الأدوية عن طريق حمايتها ببراءة الاختراع، بالنتيجة يدفع الأفراد مرتين، دفع الضريبة ودفع مقابل براءة الاختراع ضمن سعر الدواء (بوجطو، 2021).
ومنه فإن اتفاقية تريبس وعلى الرغم مما تحمله من أثار إيجابية تتعلق بحماية الإبداع والابتكار وتشجيع البحث والاختراع ونقل التكنولوجيا، إلا أن لها أثار سلبية تهدد مصالح الدول النامية في مجال الصناعات الدوائية، والتي تظهر من خلال اقتناء المعرفة لإنتاج السلع والخدمات وقصر ملكيتها على الدولة المتقدمة (بوهنتالة، 2020).
وعليه فإن مصالح الدول النامية في ظل نظام إبراء الأدوية، والتي تبنته اتفاقية تريبس قد ترتب عنه جملة من الأثار السلبية، أدت إلى الأضرار بمصالح الدول النامية والتي سيتم إبرازها من خلال النقاط التالية
1.2 قصور اتفاقية تريبس في خدمة مصالح الدول الصناعية المتقدمة
والتي تظهر من خلال الأثار السلبية لاتفاقية تريبس على مصالح الدول النامية والمتمثلة أساسا في (بوهنتالة، 2020) :
-
منح براءة الاختراع لطريقة التصنيع والمنتج الدوائي: الأمر الذي ترتب عنه عدم القدرة على الحصول على الدواء، لأن هذا الإجراء من شأنه أن يؤدي إلى رفع سعر الدواء، فضلا على أن إصرار الدول المتقدمة على إدراج حقوق الملكية الفكرية ضمن الاتفاقيات متعددة الأطراف كان نتيجة ضغط مارستها شركات الأدوية التابعة لهذه الدول، الأمر الذي يفرض على الدول النامية الأعضاء في منظمة التجارة العالمية إحدى الخيارين، إما دفع تعويضات مستمرة للشركات صاحبة براءة الاختراع مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار الأدوية عند الاستهلاك، أو توقف الشركات الدوائية التابعة للدول المتقدمة عن إنتاج الدواء مما يترتب عنه التبعية شبه الكاملة من طرف الدول النامية للسوق الخارجية، وبالتالي فإن الشركات المصنعة لمنتج دوائي محمي ببراءة اختراع ستحاول أن تكسب أرباحا احتكارية، وفرض أسعار قد تكون مجحفة بحق الدول النامية والأكثر من ذلك أن الدول النامية يعتمد معظمها على الواردات، ووجود براءات اختراع في الدول النامية قد يسمح لصاحب البراءة بمنع تصدير منتجه إلى دولة أخرى، ولا سيما من خلال وضع رقابة على قنوات التوزيع، فعلى سبيل المثال : قيام الشركات الدوائية بتسجيل منتجاتها ببراءة اختراع في الدول النامية مثل جنوب إفريقيا حتى لا تتمكن هذه الأخيرة أن تكون موردا محتملا لجيرانها الفقراء في إفريقيا الجنوبية.
-
تحديد فترة الحماية لبراءة الاختراع ب20 عاما كحد أدنى :ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد بل امتد إلى محاولة الشركات الدوائية للدول المتقدمة تمديد فترة الحماية إلى أكثر من 20 عاما تمديدا لاحتكار التكنولوجيا وتعميقا لتبعية الدول النامية للدول المتقدمة، وهذه الفترة الزمنية من الحماية تعطي فرصة أكبر للشركات الدوائية لاحتكار منتجاتها، ومنع غير الحاصلين على حق امتياز تصنيع الأدوية الجنيسة لتلك الأدوية مما يؤدي إلى التأثير على القدرة في الحصول على الأدوية الأساسية، وخفض دورة حياة المنتوجات كما أن الضغط السياسي أو ما يعرف بديمومة الاخضرار خاصة في مجال الصناعات الدوائية يحاول مد فترة الحماية لمدة أطول، وذلك من خلال إعادة صياغة شكل الدواء أو إضافة شيء فيه لتحويله إلى صورة جديدة أو إدخال تعديلات على الدواء مثل إعادة تحضيره بدرجة نقاء أكبر.
-
كثرة براءات الاختراع لحماية نفس الدواء : أو ما يعرف بــــ (البراءات المتراكمة)، وذلك من خلال قيام الشركات العالمية للأدوية بتقديم عدد كبير من براءات الاختراع لحماية نفس المادة الفعالة، بهدف منع الدول النامية من تصنيعها أو الاستفادة منها، كما تقوم هذه الشركات بإصدار براءات اختراع أخرى تخص المواد الصيدلانية مثل الأقراص وغيرها، كما تقوم بإضافة بعض المواد الفعالة بهدف تمديد فترة الحماية واحتكار السوق.
2.2. عدم كفاية مواطن المرونة المقررة للدول النامية وفقا لاتفاقية تريبس
إن ما جاءت به اتفاقية تريبس من أحكام في مجال نقل التكنولوجيا الدوائية للدول النامية قد أثار جملة من الشكوك والمخاوف على مصالح تلك الدول، وذلك لعدم قدرتها على مجابهة المشاكل الصحية المرتبطة بتوفير الدواء، وكذلك إدراكها بأن خسائرها ستكون أكبر بكثير من مكاسبها، وعلى الرغم من توفير الاتفاقية لجملة من الفرص والمرونات معتبرة إياها مكاسب للدول النامية من أجل تعزيز نقل التكنولوجيا لديها، والتي لم تكن كافية لخدمة مصالح الدول النامية خاصة بعد تفاقم الأمراض ، وصعوبة حصول مواطنيها على الدواء (بوهنتالة، 2020).
-
الاستيراد الموازي :وهذا الإجراء أقرته المادة السادسة من اتفاقية تريبس، وبموجبه يمكن للدول النامية الحصول على الأدوية بالسعر المناسب، فالاستيراد الموازي يسمح للدول النامية الحصول على الأدوية بالأسعار المناسبة من خلال استغلال الاختلاف بين أسعار المنتجات الدوائية في مختلف الدول بالاستيراد الموازي بسعر أقل بدلا من الاستيراد المباشر من المنتج الأول بسعر أقل، وبالتالي فإنه من مصلحة الدول النامية تبني مبدأ الاستيراد الموازي لحقوق الملكية الفكرية في تشريعاتها الوطنية، لأن تطبيق هذا المبدأ سوف يؤدي إلى تضييق نطاق الحقوق الإستئثارية المقررة لأصحاب حقوق الملكية الفكرية في منع الغير من الاستيراد، ويسمح للدول النامية بالاستيراد الموازي وتوفير المنتجات في الأسواق المحلية بأقل الأسعار السائدة عالميا، إلا أن اتفاقية تريبس اتخذت موقفا سلبيا من مسألة الاستنفاذ الدولي لحقوق الملكية في المادة السادسة حيث نصت على أنه : « ...لأغراض تسوية المنازعات بموجب هذه الاتفاقية مع مراعاة أحكام المادتين 3و4 لا تتضمن هذه الاتفاقية ما يمكن استخدامه للتعامل مع مسألة استنفاذ حقوق الملكية الفكرية ».
وبالتالي يمكن الحصول على دواء بسعر مناسب يكون في متناول العامة، وتوفير فرص للتسوق والشراء بأفضل الأسعار للمنتجات الدوائية. -
التراخيص الإجبارية والأدوية الجنيسة :لقد أجازت المادة 31 من اتفاقية تريبس استخدام الاختراع موضوع البراءة دون الحصول على موافقة صاحب الحق، بما في ذلك الاستخدام من قبل الحكومة، أو من أطراف ثالثة مخولة من قبل الحكومة، وفي المجال الدوائي فإنه يجوز للشركات الدوائية التقدم بطلب ترخيص إجباري لاستغلال البراءة الدوائية إذا كان إنتاج شركة الدواء مالكة البراءة غير كاف، ويقتضي ذلك أن تكون الشركة طالبة الترخيص إثبات عدم كفاية الاستغلال لمواجهة احتياجات السوق، وعليه يسمح للدول الأعضاء منح تراخيص إجبارية إذا ما تعلق الأمر بحالة الطوارئ الصحية، وأمام المخاوف التي تعترض الدول النامية من العقوبات الاقتصادية التي قد تهدد من قبل الاتفاقيات الثنائية أو المتعددة الأطراف فإن نظام الترخيص الإجباري يتطلب بنية أساسية إدارية وقانونية غير موجودة في أغلب الدول النامية، مما يستوجب على الدول النامية عمل ترتيبات على النحو الذي يحقق النتائج المرجوة، ومما يجب الإشارة إليه أن أحكام المادة31 لم تأت بما هو في صالح الدول النامية، وذلك بسبب محدودية القدرة الإنتاجية للدول النامية من أجل وضع التراخيص موضع التنفيذ.
3. أزمة كورونا والتحديات الدولية وفق اتفاقية تريبس
إن الأزمة الصحية التي شهدها العالم خلال جائحة كورونا، ترتب عنها قيام السباق السياسي والاقتصادي بين الدول للتوصل إلى لقاح، وكذلك التنافس بين الشركات المنتجة، فقامت الدول الغنية بالتعاقد المسبق والمشروط مع الشركات قبل وخلال المراحل السريرية لإنتاج اللقاح، وحجز كميات من اللقاح تزيد عن حاجة هذه الدول بأضعاف كثيرة، وبالتالي أدى ذلك الى حدوث فجوة بين دول العالم، فجوة في الإنتاج وكذلك فجوة في التوزيع، وسبب هذه الفجوة هو زيادة القيود لحماية الملكية الفكرية للشركات المصنعة للأدوية، حيث تم تشديد هذه القيود في اتفاقية التربس، فحسب المركز العالمي للابتكار في المجال الصحي في جامعة ديوك الأمريكية، قامت الحكومة الأمريكية بحجز ما يقارب 1.1 مليار جرعة من 6 لقاحات تحت مراحل أبحاث مختلفة، وبالتالي تقوم الشركات بالإنتاج لتوفير هذه الكمية التي تم التعاقد عليها، ولكن الشراء المسبق وشراء كميات تفوق الحاجة، أدى إلى البطء في عملية الأبحاث والتصنيع واحتكارها للدول الغنية التي قامت بالتعاقد المبكر وبكميات فوق حاجتها، وبالتالي أدى ذلك إلى حدوث فجوة عالمية بين الدول الغنية والدول الفقيرة، مع العلم أن الدول ذات الدخل المتوسط والعالي تشكل ما يقارب 20 % من سكان العالم، حيث قامت هذه الدول بحجز ما يقارب 6 مليارات جرعة، بينما الدول الأخرى تشكل ما يقارب 80 % من سكان العالم، ومع هذا قامت بحجز ما يقارب 2.6 مليار جرعة، وسبب هذه الفجوة سواء في الأبحاث والتصنيع والإنتاج هو قيود الملكية الفكرية، واحتكارها لعدة شركات (خليل، 2021).
لذلك وخلال أزمة كورونا قامت بعض الدول مثل الهند وجنوب أفريقيا بتقديم طلبات لمنظمة التجارة العالمية، تطالب برفع قيود حماية الملكية الفكرية التي تم التوقيع عليها في اتفاقية التربس عام 1994، والسماح للدول بأن تباشر بعملية تصنيع لقاحات ليس لها حقوق ملكية فكرية، وتم دعم هذه الدعوات من قبل ما يزيد عن 100 دولة في العالم كانت موقعة على هذه الاتفاقية، وكذلك من قبل هيئات ومؤسسات صحية، ولكن تم رفض هذه الطلبات من قبل بعض الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية مثل أمريكا وبريطانيا ودول الاتحاد الأوربي، بالإضافة إلى رفض الشركات لتخفيف أو رفع قيود الملكية الفكرية، لأن ذلك سيؤدي إلى خسائر مادية لهذه الشركات، حيث مازالت القيمة المادية تسيطر على هذه الأزمة، سواء السيطرة على مراحل الأبحاث للتوصل إلى لقاحات أمنة وفعالة، أو في أزمة احتكار عملية التصنيع والإنتاج بسبب حماية حقوق الملكية الفكرية أو حتى عملية توزيع ما تم إنتاجه من لقاحات وإحداث فجوة عالمية بسبب الاحتكام إلى المنفعة المادية ووضع عملية التصنيع والتوزيع أسيرة تحت قيود الملكية الفكرية، وللأسف كل ذلك سيطيل في أزمة كورونا، وبالتالي فإنه وجب على كل دول العالم التعاون لمواجهة هذه الأزمة الإنسانية، ووجب على دول العالم اعتماد لقاح اّمن وفعال يستوفي المراحل العلمية في البحث العلمي، ويمكن أن يتم ذلك في حالة عدم اتخاذ المقياس المادي في الاحتكام إلى الطرق المتبعة في حل الأزمة وكذلك التخفيف من قيود الملكية الفكرية وفتح مجال التصنيع والإنتاج لكافة دول العالم وتحريرها من اتفاقية تريبس الموقعة عام 1994 (خليل، 2021).
ومما يجب التنويه عليه، أنه وفي ظل اقتصاد المعرفة وأن تتطور مكانة الملكية الفكرية بالقدر الذي يجعلها عاملا مؤثرا بوضوح في عمليات وعلاقات التجارة والسياسة والاقتصاد، فإنه ومن غير المنطقي ومراعاة للجوانب الأخلاقية بالنسبة للمصالح الإنسانية العامة، فإنه لا يجب أن تكون اتفاقية تريبس مصدرا دائما للثراء والاحتكار للدول الصناعية المتقدمة ممثلة في الشركات الدوائية متعددة الجنسيات، وفي ذات الوقت فإنها لا يجب أن تكون سببا لتكبير الفجوة التنموية بين الدول المتقدمة والدول النامية (مخلوفي، 2005).
خاتمة
وفي ختام هذه الورقة البحثية المتعلقة بتحديات البراءات الدوائية في ظل اتفاقية تريبس، والمتعلقة بالوقوف على الجدليات الاقتصادية حول مدى نجاعة إبراء الأدوية الذي جاءت به اتفاقية تريبس في تعزيز عمليات الابتكار والبحث في المجال الدوائي، والتوفيق بين المصالح التنموية للدول المتقدمة والدول النامية يمكن القول بأن نظام الإبراء الدوائي الذي جاءت به اتفاقية تريبس قد عمل بالأساس على خدمة مصالح الدول المتقدمة، حيث أنها منحت حصانة وحماية مستقبلية للشركات الدوائية المتقدمة الكبرى واحتكارا للتجارة، الأمر الذي من شأنه تفعيل حدة التحديات في ظل ما كرسته اتفاقية تريبس، وهذا ما يبدوا جليا أمام المساعي التي تبذلها الشركات الدوائية للدول المتقدمة قصد الاستحواذ على هذه الصناعة، من خلال تعزيز المطالبة بالتشدد في حماية حقوق الملكية الفكرية، وذلك من أجل فرض سيطرتها على الأسواق العالمية وتحقيق الأرباح للمطالبة دون النظر إلى أوضاع ومصالح الدول النامية، والتي لم تجد من خلالها إلا بتوفير الأدوية لمواطنيها بأسعار معقولة تتناسب مع إمكانياتها، وهذا ما يظهر من خلال الأثار التي ترتبت عن الأزمة الصحية العالمية –جائحة كورونا 19-، والتي أبانت عن عدم رغبة الدول المتقدمة في التنازل عن حقوق الملكية الفكرية، أو تعليق العمل بها من أجل توفير لقاحات كوفيد 19، الامر الذي يؤكد على مخططاتها لتكريس الاحتكار، وتغليب المصلحة التجارية الربحية، ودون مراعاة للاعتبارات الإنسانية التي بموجبها تسمو وترتقي النظم الاقتصادية و الاجتماعية.