قراءة في أزمة المثقف العربي المعاصر من وجهة نظر محمد أركون

Une lecture dans la crise de l’intellectuel arabe contemporain du point de vue de Muhammad Arkoun

A reading in the crisis of the contemporary Arab intellectual from the point of view of Muhammad Arkoun

عراب اسماعيل

Citer cet article

Référence électronique

عراب اسماعيل, « قراءة في أزمة المثقف العربي المعاصر من وجهة نظر محمد أركون », Aleph [En ligne], Vol 9 (4) | 2022, mis en ligne le 11 octobre 2022, consulté le 28 mars 2024. URL : https://aleph.edinum.org/6928

يلعب المثقف دورا كبيرا في تحديث المجتمع باعتباره الأداة الفاعلة في تحريكه نحو أهداف مثلى وغايات سامية، تمس جميع جوانب الحياة الدينية منها والأخلاقية والثقافية والسياسية والإجتماعية،فمشاركة المثقف فاعلة في الحياة الإجتماعية والوطنية نلتمس أثرها من الحركة الوطنية والإتجاه الإصلاحي العربي المتشبع بالقيم الإسلامية، فالمهام المنوطة بالمثقف هي إعادة بعث مجتمعه نحو التقدم والرقي، ومحمد أركون أحد المفكرين الفاعلين في الساحة الفكرية العربية الإسلامية، والدارس للتراث الإسلامي، و صاحب مشروع الإسلاميات التطبيقية، وحاول تطبيق المناهج الغربية المعاصرة المعمول بها في مجال العلوم الإنسانية وفي مقدمتها النقد التاريخي، ويؤكد على دور المثقف أنه لا يرمي إلى مجرد تحقيق المعرفة العلمية للتراث، بل إلى توظيف هذه المعرفة من أجل إخراج المجتمعات العربية الإسلامية من دائرة التخلف ودخول حقل الحداثة.

L’intellectuel joue un rôle majeur dans la modernisation de la société en tant qu’outil efficace pour l’amener vers des buts idéaux et des objectifs nobles, affectant tous les aspects de la vie religieuse, morale, culturelle, politique et sociale. L’intellectuel est le renouveau de sa société vers le progrès. et d’avancement, et Muhammad Arkoun est l’un des penseurs actifs de l’arène intellectuelle arabo-islamique, étudiant de l’héritage islamique et porteur du projet d’islamisme appliqué, qui ne vise pas seulement à une connaissance scientifique de l’héritage, mais plutôt à utiliser ces connaissances pour sortir les sociétés arabo-islamiques du cycle de l’arriération et entrer dans le champ de la modernité.

The intellectual plays a major role in the modernization of society as an effective tool to bring it towards ideal goals and noble objectives, affecting all aspects of religious, moral, cultural, political and social life. The intellectual is the renewal of his society towards progress. and advancement, and Muhammad Arkoun is one of the active thinkers of the Arab-Islamic intellectual arena, a student of the Islamic heritage and the bearer of the project of applied Islamism, which does not only aim at a scientific knowledge of the heritage, but rather to use this knowledge to get Arab-Islamic societies out of the cycle of backwardness and enter the field of modernity.

مقدمة

يُتداول في العالم العربي والإسلامي اليوم أزمة خانقة في السلطة والمشروعية السياسية، وما دل على ذلك الاضطرابات والحروب الأهلية التي تهدد وحدة بلدانه وتتسبب في خراب بنيته التحتية وفي هلاك مواطنيه بالمئات و تحويل الآلاف منهم إلى لاجئين مشردين خارج أوطانهم. ولأن هذه الأزمة هي أزمة الحكم في العالم العربي بأكمله، ويتداخل فيها العامل الديني بالسياسي، سواء من خلال العامل الطائفي وما نجم عنهم صراعات دموية، أو الجهادي متجسدا في ما يعرف بالإرهاب أو في حركات الإسلام السياسي التي أدى وصولها إلى الحكم في بعض البلدان مثل مصر.فالمتتبع لمنحى دور المثقف العربي والتأثير الحاصل أثناء الفترة الإستعمارية باعتبار المثقف هو الأداة الفاعلة في تحريك المجتمع نحو أهداف مثلى وغايات سامية، تمس جميع جوانب الحياة الدينية منها والأخلاقية والثقافية والسياسية والإجتماعية..، فساهم في تخليص الأمة من سيطرة الفكر التغريبي والهادم لأسس مقومات الأمة، فيعتبر المثقفون بمثابة العقل المفكر الذي يستوحي منه الشعب نقطة الإنطلاق نحو التقدم، فمشاركته فاعلة في الحياة الإجتماعية والوطنية نلتمس أثرها من الحركة الوطنية والإتجاه الإصلاحي العربي المتشبع بالقيم الإسلامية، فيحاول المثقف إعادة بعث مجتمعه نحو التقدم والرقي، إلا أن دور المثقف أصبح منحاه في انخفاض، وبدأ يفقد تدريجيا منزلته، أرجعه بعض الدارسين إلى سعي المثقفين نحو الشهرة وتحقيق أغارضهم الشخصية، ليصبح العالم العربي في أزمة ومما ترك الأسئلة تحوم حول هذا الشأن، مما أدى بالعديد من المفكرين على غرار محمد أركون إلى مقاربة هذه الأزمة، فماهي أسباب هذه الأزمة ؟ وما أهم دور يقدمه المثقف للخروج بالمجتمعات العربية الإسلامية نحو الحداثة؟

1. مفهوم المثقف ودوره عند محمد أركون 

قبل الخوض في ماهية المثقف عند محمد أركون يحسن أن نشير إلى هذا المصطلح عند بعض المفكرين الغربيين والعرب، حيث شهد مصطلح المثقف في الآونة الأخيرة انتشارا واسعا ضمن الإهتمام المتنامي للثقافة في العصر الحالي، ودورها المتصاعد في ظل صراع الحضارات وصدام الثقافات، ما يفسر الجهود العلمية المكثفة لدراسة مفهوم المثقف وتشخيص أزمته وتعيين الإشكالات التي يعاني منها ومرجعيته العقدية والفكرية التي شاعت في الأدبيات الإجتماعية والسياسية على مدى العقدين الماضيين لتؤكد خطورة دوره وتعدد مسؤولياته.

يرجع أصل كلمة المثقف في اللغة من «ثقف الرجل ثقفا وثقافة، أي صار حاذقا وفهما » قال ابن السكيت : رجل ثقف أي يجد ما يطلبه، ويقال : ثقف الشيء وهو سرعة التعلم مع الضبط، والمثقف الحذق في إدراك الشيء والظفر به، والتغلب عليه، ومنه قوله تعالى : «  فإما تثقفنهم في الحرب » سورة الأنفال الآية 57، وهو ثقف إذا كان سريع التعلم، والتثقيف التقويم«  (ابن منظور،ص 19) .

ويرتبط ظهور المثقف كمفهوم حديث يعبر عن فئة اجتماعية متميزة بنموذج المجتمع البرجوازي، في موروثنا العربي نجد أن جذر الكلمة (ث ق ف) يفيد الحذق والفطنة والتهذيب ولم يتوسع العرب المسلمون في استخدامها وإنما استعملوا كلمة عالم للمشتغلين بالعلوم على اختلافها من دينية ودنيوية، وتمييزا لهم عن الأدباء (هادي العلوي ص 50).

ويرى ماكس فيبر  

« أن المثقف يحمل صفات ثقافية وعقلانية مميزة تؤهله للنفاذ إلى المجتمع، والتأثير فيه بفضل المنجزات الغربية لأن هذا المثقف هو الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يشخص الواقع، ويبحث عن فرص الطمقرطة الحقيقية، ويجب على المثقف أن يحجم عن مساعدة السلطة السياسية إذا ما طلبت منه تبرير خطواتها القمعية ضد شعبها كما أنه مطالب بالانخراط في التنظيمات السياسية والأحزاب والنقابات من أجل تفعيل الديمقراطية الداخلية وتكريسها كآلية تفكير وفلسفة حياة» (عبد الله فؤاء 1997).

بينما يذهب هشام شرابي إلى الإعتقاد  «أن المثقف هو الشخص الملتزم والواعي اجتماعيا بحيث يكون بمقدوره رؤية المجتمع والوقوف على مشاكله وخصائصه وملامحه، وما يتبع ذلك من دور اجتماعي فاعل من المفروض أن يقوم به لتصحيح مسارات مجتمعية خاطئة» (هشام شرابي،1977).

كما يرى أيضا أن للمثقف صفتان رئيسيتان: «الأولى هي الوعي الاجتماعي الكلي بقضايا المجتمع، من منطلق بناء فكري محكم، والثانية هي الدور الاجتماعي الذي يلعبه بوعيه ونظرته» (محمد شكري سلم ، 1995). ونرى هنا أن هاتين الصفتين مؤشران هامان ودالان على المثقف، وهما متلازمتان إلى درجة كبيرة، حيث أن الوعي الإجتماعي يقود إلى القيام بدور اجتماعي وأن لا دور اجتماعي بدون وعي اجتماعي، ونقصد به ليس الدور الهامشي بل الدور الإيجابي والفعال بالقدر المستطاع والمؤثر.

وهذا ما يذهب إليه برهان غليون في قوله: «إن تدخل المفكر الناقد في عملية الصراع الاجتماعي والسياسي، وفي النهاية يكون تأثيرها واضحا، إما من خلال مشاركات قوية لصنع السياسة، والقرار السياسي، أو من خلال أعمال فكرية كبيرة تؤثر في الناس والمجتمع فكريا وثقافيا ومعنويا» (مصطفى محمود، 1998).

وتستخدم لفظة المثقف في سياقها العربي، للدلالة على دور شغله أهل الرأي والفقهاء ورجال الدين. وهو استخدام حديث العهد نسبيا، دخل إلى العربية ليحل محل ألفاظ عديدة نجدها في التراث العربي، مثل الفقيه، الإمام المتصوف، العالم، المتكلم، الفيلسوف. يقول محمد عابد الجابري بهذا الصدد في كتابه المثقفون في الحضارة العربية:

  «كان الأمراء هم العلماء، كان الصحابة أمراء وعلماء في الوقت نفسه، يحكمون بالشرع ويشرعون للحكم، ثم حصل خلاف حول الحكم، فاستأثر الأمراء بالسلطة وتمسك العلماء بالرأي، وحصل استبداد(بالأمر) أدى إلى استقلال الرأي، فانفصل العلم والثقافة عن السياسة وبدأت فئة المثقفين الأوائل في الإسلام بالظهور» (محمد عابد الجابري،1985).

إذن ظهور المثقف في الحضارة الإسلامية كان حسب الجابري، نتاج التمييز بين المثقف عن غيره من الفاعلين الإجتماعيين الآخرين بعد الإنفصال الذي حدث بين العلم والسياسة.

نجد كذلك علي أومليل في مؤلفه «السلطة الثقافية والسلطة السياسية» يتوقف عند الدلالة التاريخية لمفهوم المثقف، معتبرا أن هذا المفهوم هو من بين المفاهيم الحديثة النشأة التي يصعب الجزم بوجودها في فترات تاريخية سابقة، مما يجعل هذه الكلمة «تحيل إلى مفهوم حديث للكاتب صانع الأفكار ومروجها»، وتحدد المثقف «باعتباره صاحب موقف نقدي من قضايا المجتمع، وفاعل اجتمتعي قادر على التأثير في الواقع.» (علي أومليل، 2014).

بعد أن قرأ محمد أركون كل التعريفات الكلاسيكية عن المثقف والأدوار التي يمكن أن يضطلع بها، أخذ يأخذ بشرعية الإستثمار في مفهوم المثقف في ضوء منهجه التفكيكي، وبحسب أركون أن المثقف ظل حاضرا بقوة في المجال العربي الإسلامي، وذلك في مختلف المراحل والتحولات التاريخية التي عرفها هذا المجال. وللبرهنة على ذلك قام بالحفر في مختلف كتاباته في بنية الفكر العربي الإسلامي، بحثا عن هذا المفهوم الخاص للمثقف، وما دام أن مخزون ثقافتنا العربية لا يسعنا في ضبط مفهوم المثقف في هذا الإطار الخاص، وبهذه الصيغة التي يرد بها اليوم، فإنه رأى بأنه من المستحب بدءا، مقاربة هذا المفهوم في مختلف أبعاده ومرجعياته السياسية والإجتماعية، والبحث في الأصول والملابسات التاريخية لنشأة ظاهرة المثقف في الفكر العربي الإسلامي، باعتبار هذا الأمر شرطا أساسيا ومقدمة لضبط المفهوم في مختلف مستوياته وأبعاده.

يعتبر أركون أنه من غير الملائم بناء مرجعية محددة لمفهوم المثقف، في الثقافة العربية الإسلامية، من خلال استعادة روح تلك المجالات والنقاشات التي دارت رحاها في فرنسا حول مفهوم المثقف، كما أنه ليس من المفيد تماما اقتراض الخطاطات التي أنتجتها الثقافة الغربية، والسعي إلى نقلها واستنساخها بشكل آلي في واقع الثقافة العربية الإسلاميةمحمد أركون، 1993).

فإذا كان التعريف الذي يعطي للمثقف، باعتباره فاعلا اجتماعيا، يتمايز عن غيره من الفاعلين الإجتماعيين الآخرين، ويكونه يسهم من موقعه الفكري في «إنتاج المعنى «فإنه يمكن القول، حسب أركون» بأن العلماء من رجال الدين هم مثقفون بامتياز، لأنهم يركزون كل جهودهم لنفسير معنى الوحي، ولتحديد المعاني الدقيقة للنصوص المقدسة، ولاستنباط الأحكام انطلاقا من هذه المعاني» (محمد أركون،1993)

ومن ثم فقد وردت صفة مثقف بمعنى العالم الديني، وكانت هذه الصفة تطلق بالأساس على طائفة الفقهاء الذين يشتغلون بدراسة «الحقل الثقافي وإدارة شؤونه »، وهو ما كان يطلق عليهم القراء، أي حملة العلم الإسلامي الأول. وقد لعبت هذه الفئة دورا أساسيا بارزا في أحداث القرن الهجري الأول، ليصبح «العلم» مهمة متخصصة ومتشعبة في مختلف العلوم الإسلامية، مما جعل المهمة المنوطة هم أساسا هي «ضبط فوضى الرواية وتوحيد النص» (علي أومليل،2014)

غير مجال الممارسة الثقافية للمثقف العربي الإسلامي سيتسع ابتداءا من القرن الثاني الهجري/ الثامن ميلادي، بفعل التصدع الإجتناعي والإيديولوجي الذي شهده الحقل الثقافي الإسلامي. ومن ثم احتدم الصراع بين ممثلي اتجاهين رئيسيين : أصحاب المعارف الدينية النقلية أو الأصلية، وأصحاب المعارف العقلية التي اعتبرت دخيلة، وإن كانت الغلبة في هذا الصراع تميل دوما للفاعل التقليدي، الذي ظل يراقب ويتحكم في الحقل الثقافي برمته.

مع بداية القرن الرابع للهجري حسب أركون سيتبلور مفهوم المثقف هذا بشكل خاص ، باعتباره ذلك الرجل الذي يتحلى بروح مستقلة، محبة للإستكشاف والتحري، وذات نزعة نقدية حججية تشتغل باسم حقوق الروح والفكر فقط (محمد أركون، 1993).

وفي هذا الصدد يورد أركون بعض النماذج الكبرى من هؤلاء المثقفين، الذين مارسوا مثل هذا الموقف الجر المستقل، كالجاحظ والتوحيدي اللذين يعتبرهما الأكثر جرأة وحداثة من بين المثقفين. (محمد أركون،1993)

2.أزمة المثقف العربي الإسلامي 

يذهب محمد أركون في تصوره إلى أن المهام المنوطة بالمثقف العربي والمسلم خصوصا، حددها في أسباب كانت عائقا أمام أدائه الفعال لدوره الطبيعي الذي يسعى من أجله، فالمثقف مسؤول أمام مجتمعه ويجب عليه أن يندمج وينخرط في المشاكل التي تتربص به، ولذلك قع المثقف العربي أمام أزمة خانقة وجب عليه الخروج منها وتجاوزها بتظافر كل الأطراف من أدباء وباحثين وأساتذة وكتاب وشعراء وروائيين، وهم اليوم في تزايد مستمر، ولكن المشكلة في انعزالهم عن مجتمعهم، فنجد النخب السياسية والتي يشتبه بهم دائما من جهة أخرى الجمهور العام الذي لم يتم تحضيره بالشكل اللازم والكافي، من أجل استقبال النظريات الفكرية والعلمية الجديدة، ولذا فإنهم لا يستطيعون التحرر من خطاب الإتهامات المضادة، أو الدفاع عن الذات أو الخطاب الانفعالي والإرتجالي المتشبع منذ زمن طويل( أركون، 1998)، ومن هنا يتبين لنا ماهية الأزمة التي وقع فيها المثقف العربي حسب أركون

«  إذ نرى أنه أرجع أسبابها إلى عاملين رئيسيين : أولهما النخب السياسية، وما تمارسه على المثقف من اتهامات خطيرة خاصة حول المهمة التي يؤديها، بحيث كانت النخب السياسية تقابلها بالأزدراء وعدم الرضا والرفض لكل منتوج فكري أو ثقافي مخيب، أنا ثانيهما فهو الجمهور العام، الذي لم يبلغ بعد درجة من الوعي الكافي والفهم الجيد للنظريات والمشاريع التي يقدمها المثقف، فما كان منه إلا أن يتجاهل كل منهما، هذا ما يجعله يعيش نوعا من النخبوية، وسببها إما الخوف المعلن من النخب السياسية وما تمارسه من ضغوطات عليه، وإما بسبب جهله بتاريخ المعتقد الإسلامي وأصول المجتمع، نها غريبة عنها، فالأولى بالمثقف إذن أن يتعرف على تاريخ الإسلام والمجتمعات حتى يتمكن من تقديم حلول تتلاءم وطبيعة المجتمع وعاداته وتقاليده وثقافته »(أركون، 1998).

الأمر الذي جعل الهوة تتسع بين المثقف ومجتمعه، ما ساعد على صنع الأزمات وانعدام نظريات علمية تساهم في تطور العرب والمسلمين وتقدمهم، وهذا دلالة على تراجع دور المثقف العربي عامة والمسلم خاصة.

يركز أركون على وجود سبب يؤثر سلبا على بنية المثقف العربي والمسلم وهو أنحصار تفكير المثقف داخل سياج دوغمائي مغلق، حيث أن التفكير لم يكن بحرية، وأن المجال الذي يسبح فيه محدود وضيق، ويتمثل هذا السياج الدوغمائي في العقائد السائدة في المجتمعات العربية ولإسلامية، وبما أن المثقف العربي المسلم ينتمي إلى هذه العقائد فإنه حتما متشبع بها، وهذا ماانعكس على تفكيره، حيث أصبح تفكيره مكبلا بها لا يخرج عن نطاقها، فأصبحت بذلك الساحة الثقافية التي يتاح فيها للعقل البشري حرية البحث عن النظر هي دوغماطيقية مغلقة، من قبل النظرية الإسلامية للوحي(محمد أركوني، 1986)، أي أن السبب في قيام هذا السياج الدوغمائي المنغلق هو طبيعة النظرية الإسلامية، لأن المعرفة التي تصدر منها هي مجرد استنباط لغوي من النصوص أو الوحي، وليست نتاج عمل فكري حر واكتشاف للواقع، وبخضوع تفكير المثقف لهذه العقائد الإيمانية المبنية على النقل، سيبقى منغلقا على نفسه، ومثال ذلك الأصوليين الذين رسخوا علم الأصول بممارسته الثابتة والمقننة بحزم، وبالتالي كانت نتيجة ذلك زيادة في سماكة السياج الدوغماتي، وكانت النتيجة حصار تفكير المثقف العربي المسلم وانغلاقه على نفسه داخل هذا السياج، كذلك يرفض أركون أن ينحصر أو يقتصر تفكير المثقف وإبداعاته في مجال ضيق ومحدود خاصة في فهمه للنصوص الدينية، لأن ذلك يفسد عمل العقل، ويجعله راكدا خاصة تجاه الأحداث الحاضرة.

3. دور المثقف المعاصر في تحديث المجتمعات الإسلامية

إن ما يميز شخصية المفكر محمد أركون، أنه لم يكن مجرد منظر، بل كان يحفر عميقا في أخاديد التراث العربي الإسلامي، بحثا عن فهم ممكن لأسئلة حارقة تتولد أو تتجمد في عصرنا الحالي، وتجد إمتدادها في الماضي البعيد.

كان محمد أركون يدرك جيدا أن لا خلاص لأزماتنا الحالية، ولا دواء يرجى لأدوائنا، إلا بالكشف عن مكامن خلل الذات، وبتفكيك بنيتها تاريخيا،وتشريحها ابستمولوجيا، وهو ما جعله يتصدى للجسد الإسلامي المريض بالتشخيص والتحليل. ولهذا السبب يتخذ الكثير من الإحتياطات والتدابير لكيلا يصطدم المريض أو لكيلا يقتله تحت العملية الجراحية. إنه يعرف أن الوعي الإسلامي المعاصر، وهو يريد إنقاذه لا قتله كما يقول مترجم أعماله المفكر هاشم صالح (هاشم صالح، 2015)،

وضمن هذا البرنامج يحتل الدور المنوط بالمثقف قطب الرحى في اهتمامات أركون الفكرية. إذ لا يخفى على أركون أن أي حديث عن المثقف، لن يتأتى من دون البحث في وضع هذا المثقف باعتباره فاعلا أساسيا داخل الحقل الاجتماعي والسياسي. ومن هنا يتساءل: «هل ينبغي للمثقف العربي الإسلامي أن يظل في حدود اختصاصه المعرفي لا يحيد عنه، ولا يحضر أنفه في القضايا العامة، أم ينبغي على العكس من ذلك، أن يتدخل في شؤون المجتمع السياسية والحياة؟

لا يختلف بهذا الطرح مع محمد أركون موقف المثقف الفلسطيني إدوارد سعيد الذي يرى ضرورة انخراط المثقف في قضايا مجتمعه، ويجيب أركون قائلا:  

«إن المثقف ليس مجرد باحث متبحر في بعض ميادين العلم والمعرفة، ولكنه أيضا مسؤول ينبغي عليه أيضا أن ينخرط في أتون الهموم العامة لمجتمعه، وخصوصا إذا كان المجتمع يعاني من مشاكل حارقة كالمجتمع العربي والإسلامي، وإذا كان المثقف الغربي المعاصر له الحق وكل الحق في أن ينخرط أو لا ينخرط في الشأن العام ، وذلك لأن مجتمعه قد تجاوز مرحلة الانعطافات الحادة والأزمات الكبرىـ وأصبح ينتمي إلى مجتمع قوي مستقر نسبيا، فإن المثقف العربي، في نظر أركون، ليس له الحق مطلقا في أن يصم أذنيه أو يغض الطرف عما يعتمل داخل محيطه الإجتماعي، أو يكتفي بالتخندق داخل التخصص العلمي الضيق، أو التبحر الموسوعي البارد، في الوقت الذي تحدق بمجتمعه أخطار مهلكة » (محمد أركون، 1993) .

لعل إحدى المهام الفكرية الكبرى المنوطة بالمثقف العربي اليوم، في نظر أركون هو «نقد العقل اللاهوتي القروسطي المسيطر علينا منذ مئات السنين، إذ بدون القيام بهذا العمل فلا تحرير ولا خلاص محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني»، هاشم صالح، دط، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، دون سنة، ص 331، وذلك من أجل الخروج من السياج الدوغمائي المغلق، بمختلف تجلياته، السياسية، والإجتماعية، والمعرفية.

النقد بهذا المعنى لا يعني مغازلة النصوص الدينية من بعيد، أو استرجاعها حرفيا إلى الذاكرة, بل بشريحها وتفكيكها وإعادة قراءتها من جديد و إظهار تاريخيتها.

من هنا ينتقد أركون ما يسميه بالإسلاميات الكلاسيكية

«أي تلك الدراسات الإستشراقية التقليدية، التي تنتدب نفسها لدراسة الإسلام، من خلال استعادة مضمون نصوص كبار الفقهاء والمفكرين الإسلاميين الكلاسيكيين الراسخين أو المكرسين، واستنساخها بدعوى حرصها على الصرامة العلمية، وتحاشيها باسم موضوعية زائفة، إطلاق أي حكم اعتباطي تعسفي. وهو ما يجعل عالم الإسلاميات يتصرف في حضرة هذه النصوص، وكأنه دليل بارد في متحف، يدلك على اللوحات دون أن يتدخل في شيء، أي دون أن يفسرها أو يقيمها أو يساعدك على فهمها، والبرهان على ذلك هو أن العلاقة الفعلية المعاشة التي يتعطاها المسلمون المعاصرون مع هذه النصوص، أو انقطاعهم الفعلي عنها، لا تهم عالم الإسلاميات ولا تدخل ضمن دائرة اختصاصه بحسب زعمه» هاشم صالح، مدخل إلى فكر محمد أركون، نحو أركيولوجيا للفكر الإسلامي، ص 58 .

إن هذا النوع من المعرفة التقليدية بالتراث الديني، يجعل من التفكير لا يخرج عن كونه عبارة تذكر ويجعل العقل الإسلامي يتلقى تراثه وكأنه معطى هلامي متعال على معطيات الواقع والتاريخ، وضمن هذه الشروط، « فإن مهمة المثقف المسلم ووظيفته، تختزل إلى مجرد التعرف على الشيء، لا مجرد المعرفة الحقيقية به » (محمد أركون، 1993) والمعرفة الحقيقية به تقوم على دراسته على ضوء المناهج المعمول بها في مجال العلوم الإنسانية، في مقدمتها المنهجية القائمة على النقد التاريخي للتراث. والتأكيد على دور المثقف لا يرمي إلى مجرد تحقيق المعرفة العلمية بالتراث وبالمجتمعات الإسلامية التي يرى أركون أنها لم تحظ بالدراسة، بل إلى توظيف هذه المعرفة الجديدة من أجل إخراج هذه المجتمعات من التخلف وإدخالها عصر الحداثة، بما في ذلك على صعيد كيفية إشتغال الممارسة السياسية المتجسدة في إشكالية العلاقة بين السيادة العليا والسلطة، في هذه المجتمعات، فمن أجل تحقيق هذا الغرض أسس أركون ما يسميه بـ« الإسلاميات التطبيقية ».

إن محمد أركون يلح على ضرورة تجاوز المثقفين التقليديين للعلماء من رجال الدين، حيث يرى أن العقل الإسلامي بالمعنى القائم على الفهم التقليدي للتراث الديني، وهو عقل ميثي، أي غير تايخي، لا يستجيب لمتطلبات عصر الحداثة، فهو عقل تعرف على الموضوعات، أي تذكرها، لا عقل معرفة بها، ومن ثم، فنقده يستدعي بالضرورة، في نظر أركون تغيير الأطر الفكرية التقليدية التي تحد من حرية الفكر وتعيق المثقف، ورد الاعتبار بالمقابل، لما يصطلح عليه، بالعقل الاستطلاعي الاستكشافي، العقل الجيد الذي يطمح إلى التعرف على ما مُنع التفكير فيه أو أُبعد عن دائرة الاستطلاع والاستكشاف (محمد أركون1993) .

يوضح أركون أن المثقف العربي فقد آنيا الفاعلية ويروج لحالة التجزئة في المجتمع العربي الإسلامي، وأصبح يعيش على مشاريع طوباوية، فأصبحت حالة المثقف تميل إلى نوع من الإغتراب أو الإعتزال عن الناس، بحكم ابتعاده عن مشاغلهم الحقيقية وعدم قيامه بتجريد هذه المصطلحات من صفة القداسة والتعميم، والتعامل من خلالها بفوقية وتعالي، فيكفي أن يحفظ جملة من مفاهيم ويتشدق ببعض المصطلحات من مثل الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان... حتى ينصب نفسه حاميا لها ومغيرا للمجتمع وكأن به يمتلك الحلول السحرية لكل الإشكاليات، وهنا صار يعيش بين زمن واقعي لا يؤمن بهذه الإختزالات الإصطلاحية، وهو واقع ماثل ومتحقق، وزمن مثالي منغلق وهذا ما يجعله يطلق صفات واتهامات على المجتمع من كونه جاهل وغافل، وهنا المثقف العربي فقد دوره الريادي حينما خرج عن حدود التوصيف الذي قدمه جان بول سارتر حينما قال :

«إذا كان المثقف يعي إيديولوجيته أو محدوديتها ولا يستطيع أن يكتفي بها، إذا كان يعرف بأنه قد استبطن مبدأ الهيبة والسلطة كنوع من الرقابة الذاتية، إذا كان مظطرا لأن يضع على المحك تلك الأيديولوجيا التي كونته لكي يرفض قلقه وانبتاره (عن المجتمع)، إذا كان يرفض أن يكون عميلا تابعا للهيمنة والسيطرة وأداة لغايات يجهلها ويمنع من معارضتها، فإن عميل المعرفة العلمية هذا يصبح عندئذ وحشا، أي مثقفا يهتم بما يخصه. هذا في الوقت الذي يقول فيه الآخرون : إنه يحشر أنفه فيما لا يعنيه »(محمد أركون ، 1998).

إن تحقيق هذا النموذج في المثقف العربي اشترط أركون غايتها تحديث المجتمعات العربية الإسلامية، إذ لابد من توفر حقل ثقافي أو مساحة ثقافية منفتحة على كل ممكنات التفكير ومحررة ولو جزئيا من سيطرة وضغط كل السيادات والسلطات العقائدية دينية كانت أم سياسية في هذه الساحة الثقافية يكون امتلاك الأيديولوجيات ونقدها شيئا ممكنا من الناحية الإبستمولوجية.

يضيف أركون أن ضمان وتأمين حرية التفكير والمعاضرة والإحتجاج والتعبير ونشر كل المواقف المتعلقة بمشاكل المعنى والفهم (محمد أركون، 1993)، لكن وجود هذه الشروط لن يتحقق إلا بعد معارك تاريخية متواصلة، تخوضها المجتمعات لأكتساب الحريات ومن أجل ما يسميه هو الدفاع عن التعقل الإيجابي الذي يقصد به فهم الأمور فهما علميا.

الخاتمة 

إن تغيير الأطر الفكرية التي يستند إليها العقل الإسلامي، في لغة محمد أركون، يعني في المقام الأول، تحرير هذا العقل من الأغلال والقيود الدوغمائية الداخلية التي تنخره وتسيجه وتحد من قدرته على الفعل والحركة، والتي أصبحت تشكل عائقا معرفيا يعوق المسلمين في قراءتهم لتراثهم، وكتابتهم لتاريخيهم بشكل علمي موضوعي، وهذه في نظر أركون إحدى المهام الأساسية والملحة التي ينبغي للمثقف العربي الإسلامي اليوم. فمحمد أركون تمكن من تشخيص وتفكيك أزمة المثقف العربي محاولا بذلك تحديد المهام التي يجب على المثقف القيام بها، ففي نظره المثقفون الجادون وحدهم القادرون على تقديم الإيضاحات والتشخيصات المتعلقة بالآليات والأسباب المخفية التي تؤدي إلى إغراق المجتمع العربي المسلم في المشاكل، وكل هذا يتطلب منهم الإنخراط بشكل نزيه من أجل تشخيص الأزمة، وإيجاد حلول لها، بالإضافة إلى التحلي بالأخلاقيات الصارمة، قصد بلوغ الهدف المنشود وهو الدفع بالدول العربية نحو الرقي في جميع المجالات فكرية كانت أو ثقافية أو اجتماعية أو سياسية.

ابن منظور، لسان العرب ج 9، دار صادر، بيروت 1997

محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة هاشم صالح، ط1، دار الطليعة، بيروت، 1993

محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، تر: هاشم صالح، ط3، المركز الثافي العربي، بيروت، 1998،

محمد أركون، الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، تر هاشم صالح، دط، دار النشر لافوميك، بيروت، 1993،

هادي العلوي، خطوط الإستقلال المثقفية الإسلامية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1999

عبد الله فؤاء ثناء، آليات التغيير الديمقراطي في الفكر الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، د ط بيروت،

هشام شرابي: مقدمات لدراسة المجتمع العربي، ط1، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروتـ،1977،

(محمد شكري سلام، وظائف المثقف وأدواره بين الثابت والمتغير، مجلة المستقبل العربي، العدد 200، أكتوبر، 1995)،

مصطفى محمود، المثقف والسلطة، دراسة تحليلية لوصف المثقف العربي في الفترة (1970-1995) د ط، دار قباء، مصر، 1998،

محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، ص 1985،

علي أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، لموقع الإلكتروني : www.derg/univ-djelfa.dz منتدى طلبة الفلسفة، باتنة، 22 ديسمبر 2014

عراب اسماعيل

جامعة الجزائر-2 أبو القاسم سعد الله

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article