نظرية الفضاء العمومي وتجليات الديمقراطية الالكترونية في الوطن العربي

La théorie de l’espace public et de la démocratie électronique dans monde arabe

The Theory of Public Space and Electronic Democracy in the Arab World

مصطفى ثابت

Citer cet article

Référence électronique

مصطفى ثابت, « نظرية الفضاء العمومي وتجليات الديمقراطية الالكترونية في الوطن العربي », Aleph [En ligne], Vol 9 (4) | 2022, mis en ligne le 10 octobre 2022, consulté le 31 octobre 2024. URL : https://aleph.edinum.org/6906

تسعى هذه الورقة البحثية للوقوف على مفهوم الفضاء العمومي الذي يعرف اهتماما خاصا في أبحاث المفكر الألماني يورغن هابرماس إذ يعتبره أساس اكتمال مشروع المجتمع الحديث، ويعول هابرماس وأنصاره لتجاوز الاختلال في المجتمعات والأنظمة السياسية على المجال العمومي الديمقراطي القادر على خلق نقاش عام بين أفراد المجتمع، ومن ثمة صناعة رأي عام يخدم المصلحة العامة، كما وتهدف أيضا لدراسة علاقة هذا الفضاء بالإعلام ووسائله المختلفة وتشخيص واقعه في العالم العربي من خلال الحياة السياسية والممارسة الديمقراطية بشكل خاص.

وقد خلصت الدراسة إلى أن الديمقراطية التي تمثل أبرز أوجه تجليات الفضاء العمومي عرفت في ظل تكنولوجيا الاتصال الحديثة تطورا بارزا ساهم في ميلاد الديمقراطية الالكترونية، غير أن هذا الطرح يختلف في واقع الفضاء العمومي العربي الذي لازال يعرف صراعا وتضييقا ورقابة وتوجيها من قبل القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة في الأنظمة الحاكمة رغم نجاحه في حالات معدودة في طرح قضيا أمام الرأي العام ليضغط بها على توجهات الحكومات وقراراتها.

Cet article essaie de d’aborder la notion de l’espace public qui revêt un intérêt particulier dans les travaux de Jürgen Habermas. Ce dernier la considère comme une donnée prépondérante pour la réussite d’un projet de société moderne. Jürgen Habermas et ses partisans voient aussi que pour surmonter les disfonctionnements au sein des sociétés et des systèmes politiques, il faut qu’un dialogue général s’instaure entre les différents acteurs sociaux et par là créer une opinion publique à même de garantir l’intérêt général.
Il est aussi question, dans cette réflexion d’étudier la relation qui existe entre l’espace public et l’espace médiatique et ses différents outils en se servant d’un diagnostic de sa réalité dans le monde arabe par le biais de la vie politique et la pratique démocratique.
L’une des conclusions tirées dans cette étude, nous notons le fait que la démocratie qui est considérée comme une manifestation dans l’espace public n’était pas épargnée par l’influence des nouvelles technologies qui l’ont façonnée progressivement et positivement pour assister récemment à la naissance de la démocratie électronique.
Cette avancée enregistrée occulte, pourtant, une réalité propre à l’espace publique arabe qui connaît de nos jours des luttes, des restrictions, des contrôles et une orientation par les forces publiques et sociales appartenant au pouvoir public sur l’espace public qui enregistre des réussites dans certains cas se manifestant par sa capacité à discuter de quelques questions devant l’opinion publique à même de faire pression sur les orientations et les décisions des gouvernements

This research paper seeks to find out the concept of public space or the public sphere, which defines special interest in the research and theses of the German thinker Juergen Habermas, as he considers it the basis for the completion of the project of modern society, where Habermas and his supporters are counting on overcoming the imbalance in societies and political systems on the democratic public sphere capable of creating a public debate between the various members of society and from there creating a public opinion that serves the public social interest, it also aims to study the relationship of this space with the media and its dysfunctional means and diagnose its reality in the Arab world through political life and democratic practice in particular.
The study concluded that democracy, which is the most prominent aspects of public space, under modern communication
technology, a prominent development contributed to the birth of electronic democracy, however, this proposal varies in the reality of Arab public space, which is still known as a conflict, narrowing and tightening and educating by active political and social forces in ruling regimes, despite its success in justice a judgment on public opinion to pressure governments and decisions

مقدمة

إذا كانت الديمقراطية وظيفتها تنظيم وتدبير المجتمع بشكل عام فأهدافها لن تتحقق إلا باشتراك جميع مكوناته، وبتوفير شروط جوهرية لا غنى عنها هي المواطنة ودولة الحق والقانون وقدسية حرية الرأي والتعبير، باعتبار كل ذلك يمثل حياة جماعية قائمة على روابط تشريعية وسياسية وثقافية وإنسانية، وإطارا تبرز فيه الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية اللازمة لممارسة الحرية والمساواة والعدالة، فيما يلعب الإعلام بتكنولوجياته المختلفة دورا محوريا في الديمقراطية من خلال ضمان وتكريس حرية التعبير، وكونه فضاء لتعدد الآراء والمواقف، ومصدرا للمعلومات والمعطيات اللازمة للأفراد والفاعلين ليقوموا بواجبهم كمواطنين، وكذا يعد سلطة للرقابة والتحقيق، فوسائل الإعلام بالتالي هي تعبير عن الديمقراطية وشريك لها.

وقد ارتبط الإعلام والديمقراطية مع بعضهما منذ قرنين ليشكل كل منهما المجال الحيوي للآخر، لذا لا ينتعش الإعلام إلا في جو ديمقراطي مفعم بالحرية، إذ أن الديمقراطية توفر لوسائل الإعلام الظروف الملائمة لنشاطها في حين تخلق تلك الوسائل فرص التعبير وتشكيل الرأي العام مما يساهم في بناء وتنشيط الفضاء العمومي الذي هو الفضاء الفعلي لممارسة الديمقراطية.

ولا بد من الاعتراف في البداية بأن العالم العربي يشهد منذ أكثر من عقود تحولا إعلاميا خلق اهتماما متزايدا بالحقل الإعلامي ومهنيي الصحافة والاتصال من قبل المسؤولين والحكام، ولو أن هذا الاهتمام لم تترتب عليه تطورات تذكر على مستوى المضامين الإعلامية في مختلف الوسائط الإعلامية التي لازالت تحتفظ بطابعها الرسمي المؤسساتي.

وعليه فرهان بلوغ مستوى مجال ديمقراطي عربي يعتمد بشكل رئيسي على الإعلام وتكنولوجياته الحديثة في خلق إطار جديد يشجع وينشط الحوار والنقاش بين مختلف الفاعلين من المجتمع المدني يكون بالإلمام الصحيح بدور الإعلام، والفهم الدقيق لخطابه، والاستعمال الفعال لأدواته على اعتبار ذلك هو العنصر المحرك في بناء وتنشيط الفضاء العمومي، كما يعد أيضا أداة لدعم الممارسة الديمقراطية الحقة.

من هذا المنطلق تحاول هذه المداخلة العلمية معرفة آليات تبلور الفضاء العمومي ومجالات نشاطه، وكذا تحليل علاقة هذا الأخير بالإعلام وتكنولوجياته الحديثة، والأدوار التي يؤديها من خلال مراحل التطور التي مر بها، وكذا مدى مساهمته في تكريس مبادئ الفكر الديمقراطي وتأثيراته على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البيئة العربية أو ما يعرف بالديمقراطية الالكترونية، وهذا انطلاقا من تساؤل علمي مفاده:

- هل تساهم تكنولوجيا الاتصال الحديثة وشبكاتها الاجتماعية في بناء فضاء عمومي عربي تتجلى فيه معالم الديمقراطية الالكترونية التي تعالج اهتمامات العامة وقضايا الرأي العام؟

1. الجانب المنهجي

1.1. فرضيات الدراسة

  • تحض تكنولوجيا الاتصال ومختلف شبكات التواصل الاجتماعي باهتمام واستخدام جماهيري واسع في الوطن العربي نظير القيود والاحتكار المفروضين على قطاع الاتصال الجماهيري التقليدي من صحافة مكتوبة وإعلام سمعي وسمعي بصري.

  • بسبب هامش الحرية التي توفرها شبكات التواصل الاجتماعي في العالم العربي أصبحت تمثل فضاء عموميا افتراضيا مفتوحا تطرح فيه القضايا للحوار والنقاش أمام كل أفراد الجمهور.

  • يعتبر الفضاء العمومي الافتراضي في العالم العربي مجالا للممارسة الديمقراطية يساهم بشكل بارز في تشكيل رأي عام ينتقل إلى العالم الواقعي في شكل حركات احتجاجية تؤثر في اتخاذ القرارات والسياسات الموجهة للعامة بداية من موجة الربيع العربي.

2.1. أهداف الدراسة

تعد هذه الدراسة ميدانا للبحث في الخلفية الفكرية والتنظيرية للفضاء العمومي وفق الطرح الهابرماسي، وعلاقته بالممارسة الديمقراطية والبناء السياسي للمجتمع خاصة في ظل الديمقراطية الالكترونية الحديثة، وذلك بالبحث في تطورات الفضاء العمومي وفق مراحل التحولات الاجتماعية من المجتمع الإقطاعي إلى المجتمع الجماهيري الصناعي فالمجتمع الشبكي الرقمي أي بدراسة تطور الفضاء العمومي من الطرح البورجوازي إلى المجال الافتراضي مرورا بالاتصال الجماهيري، كما وتهدف الدراسة أيضا لبحث تجليات الفضاء العمومي ومكوناته في العالم العربي وواقع النشاط الإعلامي والديمقراطية في أوساطه، ومن ثمة الوقوف على أوجه التشابه والاختلاف بين تشكل الفضاء العمومي في المجتمعات الغربية والعربية ومعرفة خصوصية كل واحد منهما.

2. الجانب النظري

1.2. مفهوم الفضاء العمومي

يرى يورغن هابرماس أن الفعل التواصلي يتميز عن غيره من الأفعال الأخرى بأنه لا يسعى للبحث عن الوسائل التي تمكنه من التأثير في الغير، بل يبحث عن كيفية التوصل إلى تفاهم معه لذلك حاول في كل أعماله البحث عن السبل التي تمكن من تحقيق الاندماج الاجتماعي بدل الصراع والتطاحن، والحل هو بناء فضاء عمومي يطرح للنقاش كل القضايا التي تساعد على تحقيق التفاهمات والإجماع بدل الصراع والعنف.

وقد أسس مشروعه التواصلي في مؤلفه نظرية الفعل التواصلي، ليبقي هذا الطرح حاضرا في كل كتاباته الأخرى التي تنطلق لتحديد مفهوم الفعل التواصلي من البحث في المجال الذي يمارسه فيه هذا الفعل (رشيد.2014 : 05، 06)، ويعتبر الفضاء العمومي وفق تعبير هابرماس مجموعة من الأشخاص يجتمعون من أجل النقاش حول مواضيع تكتسي طابع المصلحة العامة ، هو فضاء عمومي وسياسي ديمقراطي مفتوح للجميع، بحيث يضمن مناقشة وحوارا بين مختلف الحساسيات والآراء والأفكار، ويرى هابرماس أن هناك علاقة وطيدة بين الديمقراطية والتواصل والمواطنة (محمد.2006 : 48)، فلا يمكن إنجاح العملية التواصلية إلا في فضاء الديمقراطية، وهو فضاء تتحقق فيه المساواة في حقوق المواطنة بين الجميع، إنه فضاء يسمح بتكوين رأي عام حول القضايا المطروحة في إطار ديمقراطية جماهيرية تسمح للمواطنين بالتعبير عن آرائهم بكل حرية.

ومن خلال تناول الفضاء العمومي والفعل التواصلي لهابرماس يمكن اعتبار أنه يتميز بسمتين أساسيتين هما : أنه فضاء تسود فيه الديمقراطية ومن حق كل مواطن التعبير عن أفكاره بحرية دون إكراه، كما أنه فضاء يتحقق فيه شرط الاستقلالية، حيث يدخله كل متحاور بمعزل عن انتماءاته حتى يستطيع التواصل مع الآخرين.

أما المقصود بالديمقراطية فهي الطريقة التي تمارس بها السلطة السياسية، والمبنية على عمودين أساسيين هما احترام حقوق الإنسان والمواطن كحق التعبير الحر وحق انتخاب الحاكمين ومراقبتهم.

ويعرف يورغن هابرماس الفضاء العمومي على أنه الحيز المعنوي الذي يتم فيه عقد النقاشات العامة، من أجل اتخاذ القرارات التي تسير الشأن العام. (Cottereau, Paul.1992 : 35)

ولويس كيري عرفه بأنه فضاء رمزي أين يسمح للأفراد بالتموقع والتموضع داخل المجتمع واتجاهه، فالمفهوم يحمل فكرتين الأولى أنه مجال عمومي للتعبير الحر تنظر إليه كفضاء للاتصال، والثانية أن الأفراد بداخله يبرزون آراءهم خلال النقاش العلني، بحيث يلجئون إلى استعمال دلالات عقلانية، في محاولة إيجاد حلول مناسبة للمسائل العامة. (Roger.1992 : 89)

أما مدرسة شيكاغو ممثلة بريشارد سنات فتعتبر الفضاء العمومي هو ذلك المكان أين نجد الرموز تحت تصرف الأفراد الذين يقومون بترجمتها وتأويلها من أجل بناء علاقات تبادلية بينهم.

فالفضاء العمومي يتشكل ويظهر في جملة من المؤسسات المختلفة التي تعمل من أجل الدفاع والمطالبة بحقوق ورغبات وحاجيات الفئات الاجتماعية المكونة للمجتمع باختلاف دياناتها وطبقاتها، ويحاول أن يحل مشاكلهم ويقدم خدمات للصالح العام، فبواسطته تسير الشؤون العامة للأفراد عن طريق تنوير طرق النظام السياسي في كيفية ومتى ولماذا ولصالح من تتخذ القرارت.

عموما ارتبط مفهوم الفضاء العمومي، ارتباطا وثيقا وحساسا بمفاهيم الديمقراطية، العدالة والسيادة، الحرية، الرأي العام، السلطة الشرعية وغيرها من المفاهيم ذات الأهمية في كيفية استعمالها وتطبيقها ومن يحتكرها، لهذا يقول هابرماس : إنه سلاح في يد الديمقراطية، بالتالي فالفضاء العمومي بمؤسساته وارتباطه بالمفاهيم السابقة يقوم بعمل المراقب والمنظم للعمل السياسي والاجتماعي للدولة في كيفية تسيير الشؤون العامة للأفراد، فيلاحظ، يحلل، ويناقش، يفهم، يقيم مدى قدرة الدولة وفعاليتها في تحقيق المصلحة عامة. (فلة.2008/2009: 46)

وعليه فإن الفضاء العمومي يتشكل من خلال البرلمان، الأحزاب، الجمعيات، النقابات، الهيئات العالمية، الاتحادات المختلفة، المظاهرات، الاحتجاجات، وسائل الإعلام الجماهيرية، المؤسسات الحكومية كالوزارات، المؤسسات الدينية كالمسجد والكنيسة، المؤسسات الاجتماعية العمومية، الساحات العامة، الأسواق، المقاهي، الحمامات وغيرها.

وكل هذا يغيب عن الفكر السياسي العربي إذ لا يكاد يعثر على أبواب خاصة بالديمقراطية أو العدل بالمعنى السياسي، لكن هذا الغياب في الثقافة السياسية العربية لا يعني استحالة تحقيقه اليوم، فالأصل أن عديد المؤشرات خاصة العقيدة الإسلامية تشجع على الشورى والعدل، وهو ما يشكل نقطة الانطلاق لفكر جديد يؤسس للديمقراطية في مواجهة أنظمة غير ديمقراطية قائمة في الواقع. (محمد عابد.2007: 71، 72)

2.2. تطور الفضاء العمومي عبر الوسائط الاتصالية

1.2.2. الصحافة المكتوبة كفضاء عمومي

ظهرت العناصر الأساسية للفضاء العمومي البرجوازي ما بين القرنين السابع والثامن عشر بالموازاة مع ميلاد دولة حديثة، بحيث أصبح المجتمع الأوروبي ولأول مرة قائما على مبدأ العمومية وعلى ثقافة الحوار والمداولات العمومية حول الشأن العام، أي مناقشة القضايا العامة في المقاهي وعلى صفحات الجرائد والمجلات والأماكن العمومية والمؤسسات البرلمانية. (عبد السلام.2013: 164)

وسميت هذه المرحلة بعصر الصناعة أو النهضة أو بالعصر البرجوازي كما سماه هابرماس حيث قضت أوروبا على الإقطاعية الأميرية واتجهت إلى الحرية في الملكية والعمل، واعتبر هابرماس الطبقة البرجوازية كفضاء عمومي أهم فضاء أدى إلى تحول وتطور المجتمع الأوروبي إلى مجتمع رأسمالي كونها الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج المادية والمعنوية، وبذلك المحددة لحركية ونظامية وفاعلية هذا المجتمع، فهي ومن خلال وسائل الإنتاج وبخاصة وسائل الإعلام تقوم ب:

  • نشر الوعي السياسي المتمثل في المطالبة بالحقوق السياسية كالمشاركة في الانتخابات، المساواة بين الرجل والمرأة في التمثيل البرلماني، مناقشة قرارات السلطة بطريقة حرة وعلنية.

  • تكوين رأي عام مدرك لأفعاله وسلوكاته تجاه القضايا المطروحة على الساحة السياسية، وهو رأي ذو سلطة ذات تأثير على سياسة وخطاب النظام الحاكم.

  • المطالبة بتحقيق المصلحة والمنفعة العامة بتوجيه جميع مؤسسات الفضاء العمومي العام إلى خدمة جميع الفئات الاجتماعية بدون استثناء، كونها فئات اجتماعية مشاركة في بناء الهيكل التنظيمي العام للمجتمع، وبهذا الخصوص يرى هابرماس أن الفضاء العمومي البرجوازي عبارة عن مجموعة من الأفراد الذين يجتمعون من أجل مناقشة مواضيع وأمور ذات الطابع العام أو المشترك.

  • مخاطبة الدولة بأن تكون المسؤولة أمام المجتمع بتوضيح وطرح نشاطاتها بطريقة علنية إلى جميع أفراد هذا المجتمع حتى يستطيعون التعرف على هذه النشاطات، مناقشتها، تحليلها ونقدها.

  • المناداة بحرية الرأي العلني في التحاور والاتصال مع السلطة السياسية، ومن ثم حرية مناقشة ونقد القرارات السياسية الموجهة للصالح العام ومنها حرية تكوين الأحزاب السياسية والجمعيات، حرية الإعلام، حرية الاجتماعات والتجمعات، حرية المعارضة، حرية الإضرابات والمسيرات وحرية التأهيل للانتخابات، آليات قامت بترسيخها مؤسسات الفضاء العمومي الذي ترعرع ونما ونشط في خضم كل هذه الآليات. (فلة.2008/2009 : 74، 76)

وحسب هابرماس ففي هذه المرحلة أصبح المجتمع الحداثي واعيا بكافة حقوقه كحق استعمال العقل وحرية الرأي والتعبير، وأهم نقطة يجب التركيز عليها هو أن الفرد في الدولة الحديثة أصبح فردا منخرطا في جماعة يعي ما عليه من حقوق وما له من واجبات، لهذا لابد من انخراط كل الأفراد في مداولات حول الشأن العام باعتبارهم مواطنين أحرارا وواعين، فيكون بذلك الفضاء العام الأرضية التي يفتك فيها الفرد مواطنته ويقاوم ليفرضها واقعيا. (عبد السلام.2000: 58)

2.2.2. الصحافة التجارية والفضاء عمومي

كانت دراسة الفضاء العمومي في القرن 19 وبخاصة في منتصفه نتيجة تطور مؤسسات المجتمع الغربي من حيث البناء والوظيفة، إذ انتقل المجتمع الأوروبي من المجتمع البرجوازي في القرن 18 إلى مجتمع سمي بالجماهيري في القرن 19متميزا بخصائص معينة طبعت شكل ومحتوى ودور ووظيفة الفضاء العمومي خاصة السياسي والاتصالي.

فبانتشار حركة الطباعة عرفت حركة نشيطة في مجال تبضيع الثقافة مما ساعد على حركة اقتناء الكتب والجرائد والمساهمة في انتشار المكتبات العمومية ونوادي القراء التي انتشرت بكثرة عام 1971 والتشجيع على القراءة في أوساط الفئات خاصة البرجوازية منها مما ساهم في ظهور حركات تنويرية بديلة للمجتمع القائم. (عبد السلام.2013: 167)

وقد برز المجتمع الجماهيري نتيجة زيادة تعقيدات المجتمع وتحوله من زراعي إلى صناعي منتجا ماديا وفكريا وثقافيا ذا استهلاك واسع، فأصبح المجتمع أكثر حركية اقتصاديا لأنه مصنع وموزع للسلع، واتصاليا لنمو حاجة الأفراد للتعرف على هذه المنتجات من جهة، والتعرف على ما يحدث من تغيرات من حولهم في جميع ميادين الحياة الاجتماعية والسياسية من جهة أخرى.

وحسب هابرماس فإن الفضاء العمومي الذي عرف ازدهارا بين الأوساط البرجوازية في أوروبا، خاصة في إنجلترا، فرنسا وألمانيا خلال القرن 18، عرف تراجعا جليا فيما بعد أين تحول الجمهور من جمهور يناقش الثقافة إلى جمهور يستهلك الثقافة التي تنشرها الصحافة المكتوبة في شكل إشهار، دعاية وتسلية هدفها الأساسي الربح عن طريق الرفع من مبيعاتها حتى أصبحت صحافة تطغى عليها سمة الرأسمالية، أي التجارية بعدما كانت تتميز بصفة صحافة الرأي، لذا عرفت هذه الصحافة التجارية ازدهارا بعد لجوء مالكو وسائل الإنتاج الرأسمالي إلى الاستثمار في مجال الإعلام بسبب تطور السلع وازدياد حاجيات أفراد المجتمع، كما يشير المنظور النقدي الهابرماسي وأفكار مدرسة فرانكفورت. (فلة.2008/2009: 84)

وأصبح الفضاء العمومي الاتصالي المميز للمجتمع الجماهيري فضاء منتجا ومروجا لثقافة مدمرة للقيم والمنفعة العامة لتواجده بين أيدي من يسعون لتحقيق المنفعة الخاصة، هؤلاء احتكروا وسيطروا على «الفضاء العمومي الاتصالي» بتقديم محتويات إعلامية تجارية بالدرجة الأولى، وهي بمثابة امتدادا للأبحاث التي كانت تنصب على فضح هيمنة البرجوازية على الإعلام ومحتوياته.

3.2.2. الإعلام السمعي البصري والفضاء العمومي في المجتمع الجماهيري

تمكنت وسائل الإعلام السمعية البصرية بفضل ميزاتها وخصائصها الجذابة من فرض مكانتها في أوساط الجماهير التي انبهرت بمحتوياتها المقدمة صوتا وصورة، فوقعت في تبعية تامة لها كون هذه الجماهير تبنت بدون نقاش كل ما تنتجه هذه الوسائل من صناعة خيالية مثل الأفلام والمسلسلات، فاستطاعت كما رأى مياج أن تقوم بدور فعال مؤثر في عملية زرع الثقافة خاصة من خلال الإشهار والدعاية في المجالات العمومية. Emard.1992 : 169))

وأثر بروز هذا النموذج الاتصالي الجديد في أمريكا وأوروبا الغربية كنموذج ذي قيمة معيارية تأثيرا بارزا على أسلوب العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد، كونه فضاء عموميا مستغلا من طرف وسائل الإعلام السمعية البصرية ذات الاستراتيجيات والأهداف المعينة والمسطرة لسيرورة النسق الاجتماعي لمجتمعاتها ويمكن تشخيص هذا الفضاء العمومي على الشكل التالي:

  • فضاء عمومي اتصالي نما بنمو وسائل الإعلام السمعية البصرية خصوصا التلفزيون.

  • فضاء عمومي اتصالي منتج وصانع للثقافة الجماهيرية الاستهلاكية من طرف جميع الشرائح الاجتماعية.

  • فضاء عمومي اتصالي حامل لانشغالات واحتياجات الجمهور في جميع ميادين الحياة الاجتماعية.

  • فضاء عمومي اتصالي ذو قيمة تأثيرية قوية على انطباعات وتصرفات وكذا علاقات الأفراد.

  • فضاء عمومي اتصالي أدى إلى بناء نموذج اتصالي اجتماعي للحياة الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي للمجتمع الغربي من خلال ما يقدمه ويقترحه من أحزمة ثقافية تنميطية.

  • فضاء عمومي اتصالي ذو أهمية ووظيفة اتصالية سوسيولوجية ابيستيمولوجية جلب اهتمام العديد من الباحثين والمفكرين السوسيولوجيين الذين عكفوا على تحليله من جميع الجوانب عن طريق دراسة الظواهر والوقائع والتأثيرات التي أنتجها ميدانيا. (فلة.2008/2009: 106)

4.2.2. الإعلام الجديد والفضاء العمومي الافتراضي

تتصل إشكالية الإعلام الجديد والفضاء العمومي خاصة في المجتمعات الغربية بقدرة الميديا الجديدة على إحياء النموذج الأصلي للفضاء العمومي وتجديده من خلال تسهيل نفاذ المشاركين إلى النقاش العام، وتعزيز طابع التنوع الفكري عبر استحداث فضاءات أخرى جديدة للنقاش وتجاوز التنميط الفكري، فالسياق العام للديمقراطية الغربية يتسم بتراجع دور الأحزاب، وبالجمود النسبي للمؤسسات السياسية وتراجع مشاركة المواطنين في الحياة السياسية واهتمامهم بالشأن العام، وفي هذا المجال فإن الانترنيت عبر تطبيقاتها المختلفة ( فايسبوك، تويتر، يوتوب...) توسع المجال العمومي لأنها تتيح فضاءات جديدة للنخب البديلة، كما تعزز المشاركة في الحياة السياسية عبر أدوات جديدة، لذا فهي تساهم في تأسيس الديمقراطية التداولية.

إن النظر إلى الإعلام الجديد باعتباره فضاءا وليس وسيلة يتيح مقاربة التمثيل الافتراضي للحياة الاجتماعية بمظاهرها وأحداثها وفاعليتها التي تشكل الفضاء العمومي الافتراضي، والذي يمكن حصر خصوصيته في المستويات التالية:

  • إعادة تشكيل الحدود بين الخاص والعام :ظهرت في هذا الفضاء العمومي الافتراضي أشكال جديدة من الظهور الإعلامي أتاحت بروز الأفراد المعزولين وعوالمهم الذاتية وفق أشكال مختلفة، فإذا كان التلفزيون قد وفر مضامين وفضاءات جديدة للتعبير مفتوحة أمام الأفراد كالمنتديات التلفزيونية المفتوحة فإن الانترنيت والإعلام الجديد عزز عملية الانفتاح هذه، بحيث فتح الأخير منصات تكنولوجية أفرزت فضاءات جديدة تشكلت فيها حالات تواصلية يتفاعل فيها المستخدمون عبر أنواع مستحدثة من الكتابة كالتدوين والدردشة، وبواسطة الصورة والصوت التي يستخدمها رواد الانترنيت، فمنصات التواصل الاجتماعي وشبكاتها أصبحت تمثل فضاءات لبناء الهوية الفردية واستعراض الذات في المجال العمومي، كما تحولت وسائط الإعلام الجديد إلى نافذة يطل عبرها الأفراد على عوالم الآخرين من خلال الصفحات الشخصية للمستخدمين أو عبر سرد وقائع ومجريات حياتهم، وهذا التداخل بين الذاتي الخاص والعام الخارجي أدى لطرح معايير ثقافية بديلة تحدد الخصوصية والذاتية، أي التي تضبط ثقافيا ما يمكن إشهاره في المجال العام وما يجب إخفاءه عنه. (الصادق.2011 : 21)

  • أشكال جديدة من الفعل الاجتماعي :أفزت مواقع التدوين ومواقع التواصل الاجتماعي والنشر الذاتي في السياق العالمي والعربي فضاءات بديلة تشاركية وتفاعلية تحتضن جماعات افتراضية تكونت حول مشاغل مشتركة اجتماعية وسياسية بشكل أساسي، واحتضنت هذه الفضاءات أشكالا من المداولة والنقاش ذات علاقة وطيدة بالشأن العام، وسمحت للنخب السياسية المهمشة بتجاوز آليات تغييبها من الفضاء العمومي التقليدي الذي تسيطر عليه الدولة، لكن هذه الفضاءات ليست بالضرورة فضاءات للتنوع الفكري والسياسي التي يتناقش فيها المشاركون للاتفاق على معايير مشتركة، فقد يحكمها الانسجام الفكري أين يعبر المشاركون عن أفكارهم وآرائهم، وقد تتسم بالتنافر الفكري والعدائية، وعموما هذه الجماعات الافتراضية اكتسبت قدرة على الفعل في الفضاء الافتراضي من خلال إنتاج مضامين سياسية وثقافية وتداولها بكل حرية بعيدا عن أشكال التضييق المعهودة من السلطة وأعوانها.

  • المستخدم المبتكر :يتسم الفضاء العمومي الافتراضي الجديد انه ليس مجالا تمثيليا يقتصر على نخبة معينة تتحدث باسم الجماهير الصامتة كما الشأن في الفضاء العمومي التقليدي النخبوي، إذ تحول الجمهور إلى مبتكر للمضامين ومنتج لها، وهذه المضامين يمكن أن تكون ذاتية وعامة تتعلق بالعوالم الذاتية للأفراد أو بالأحداث الاجتماعية والسياسية، كما يمكن أن تكون إبداعات أو إعادة تدوين مضامين وسائط الإعلام التقليدية التي يضيف إليها المستخدمون عناصر جديدة لتمثل في النهاية نوعا جديدا من الإنتاج الفني والثقافي. (الصادق.2011 : 22)

  • نخب جديدة :يمثل مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي والمدونون رمزها الأكثر دلالة، فقد تشكلت في الفضاءات الالكترونية نخب هجينة تتكون من المدونين وأصحاب الحسابات في الفايسبوك ومنتديات النقاش أو من فنانين ينشطون على الشبكة وجدوا فيها وسيلة لتوزيع إبداعاتهم، لكن المستخدمين المنتجين للمضامين الإعلامية ليسوا كلهم أفراد مغمورين ينشطون خارج النظام المؤسسي والإعلامي، فقد برز من بين المدونين على سبيل المثال من تحولوا إلى نجوم تحتفي بهم المؤسسات التقليدية السياسية والإعلامية وتعمل على استقطابهم، وفي نفس السياق فإن الفايسبوك ليس دائما فضاء المغامرين لأن النخب التقليدية بدورها تعمل على اكتساحه على غرار السياسيين الذين يستخدمونه لنشر أفكارهم وتوجهاتهم وحشد المؤيدين على غرار الشخصيات السياسية.

3.2. شبكات التواصل الاجتماعي الحديثة الديمقراطية والسياسية

1.3.2. تكنولوجيا الاتصال الحديثة والديمقراطية الالكترونية

لقد أفرزت التكنولوجيات في مجال الإعلام والاتصال خلال العقود الأخيرة ظهور الحكومة الإلكترونية المصممة خصيصا من أجل توصيل المعلومات وتقديم الخدمات إلى المواطنين، وإيجاد طرق إضافية لمشاركتهم مع الحكومة وهيئاتها في بناء الوطن وتسيير شؤونه، وقد أحدثت هذه التكنولوجيات ثورة هائلة ومكنت الإنسان من التفاعل من خلال أشكال جديدة للاتصال غير المتزامن والواسع النطاق وخارج حدود وسائل الإعلام التقليدية، فالأشكال الجديدة للاتصال على غرار قواعد بيانات البرمجيات والإنترنت وخدماتها كان لها دورا كبيرا في التأثير على أداء وصحة المؤسسات السياسية في علاقتها مع المواطنين وذلك من خلال تعزيز فرص المشاركة. (John Wood, Tony.2014 : 432)

وهناك افتراض شائع في العديد من النقاشات العلمية فيما يتعلق بالديمقراطية الإلكترونية، ويتلخص في قدرة تكنولوجيا الإعلام والاتصال الجديدة على ابتكار نظام سياسي جديد، وبطبيعة الحال يوجد الكثير من الأفكار والآراء المتباينة حول كيفية تشكّل الديمقراطية الإلكترونية، ولكن يسلم الكثير من الباحثين مثل باربر بتلك القدرة البنائية لتكنولوجيا الإعلام والاتصال الحديثة مهما كانت الظروف والبيئة التي تستخدم فيها. (Amoretti.2007 : 135)

يعرف جون وود وطوني والرس الديمقراطية الإلكترونية بأنها قدرة المواطنين على الوصول بطريقة إلكترونية إلى المعلومات والخدمات الحكومية، والتفاعل مع الجهات الحكومية والمشاركة معها في اتخاذ القرارات وإجراء الانتخابات.

ويرجع توماس زيتل مفهوم الديمقراطية الإلكترونية إلى أصول فكرية وأخرى تكنولوجية، بحيث ترتكز الأصول الفكرية على نظرية الديمقراطية المعيارية وعلى فكرة الديمقراطية التشاركية، أما الأصول التكنولوجية فتقوم على أساس التغييرات الدراماتيكية التي تشهدها تكنولوجيا الإعلام والاتصال الجديدة. (Thomas.2008 : 1430)

ويشير كوليمان إلى وجود معنيين مزدوجين لمفهوم الديمقراطية الإلكترونية، حيث يهتم الأول باستخدام التكنولوجيات الجديدة من قبل المؤسسات الرسمية، ويعتمد على مجموعة من المؤشرات التي تقوم على أساس تجديد استراتيجيات التواصل من قبل الأحزاب السياسية والبرلمانات والحكومات، أما المعنى الثاني فهو عكس الأول إذ يؤكد على دور وأهمية المواطنين، ويعتبر مشاركتهم العامة وشعورهم بالرضى تجاه الخدمات الإدارية التي تقدمها الدولة وغيرها من المؤشرات الأخرى، كدليل على وجود مرحلة متقدمة في سبيل تحقيق الديمقراطية الإلكترونية.

وتختلف الآراء حول مزايا الديمقراطية الإلكترونية، حيث يؤكد بعض المتفائلين مثل كليفت على أنه يمكن استخدام الإنترنت بغرض تعزيز الديمقراطية المباشرة وإضفاء مزيد من التفاعل المجتمعي مع السلطة، وفي الجهة المقابلة يرى بعض المتشائمين مثل جونسون أن تطبيق الديمقراطية الإلكترونية يتعارض مع فكرة الديمقراطية الليبرالية، وتماشيا مع حجة تراجع الترابط الاجتماعي من خلال التكنولوجيا، يرى بعض النقاد أن الحوار غير الشخصي الذي تشجعه الحكومة الإلكترونية يقوض من الطبيعة التشاركية للنظام السياسي الديمقراطي.(John, Tony.2014 : 433)

2.3.2. شبكات التواصل الاجتماعي والديمقراطية الإلكترونية

برغم التفاؤل المبكر حول قدرات مواقع التواصل الاجتماعي لإضفاء الطابع الديمقراطي على الوصول إلى المعلومات وإعطاء صوت للمهمشين والخاضعين للرقابة إلا أن هناك مجموعة من التهم الموجه إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي يمكنها أن تبدد ذلك التفاؤل وهي : تفاقم استقطاب المجتمع المدني عبر غرف الصدى وفقاعات الترشيح، والنشر السريع للمعلومات المضللة وتضخيم موجة الشعبوية واللاليبرالية في جميع أنحاء العالم، وخلق حقائق متنافسة تحركها برمجيات تربط الشرعية بمدى الانتشار، وتعرضها للاستغلال السياسي والتلاعب بالناخبين من خلال تمكين فاعلين سيئين لنشر معلومات خاطئة والتأثير الخفي على الرأي العام، والحصول على كميات ضخمة يمكن أن تستخدم في التلاعب يسلوك المستخدمين، وتسهيل ظهور خطاب الكراهية، وتهميش أصوات الأقليات والمحرومين Anamitra, Stacy,Tom.2017 : 05))، أما الخطاب التفاؤلي الذي يبشر بالدور الكبير للوسائط الاجتماعي فيرجع كما يرى أوريلي إلى أسباب تسويقية.

ورغم ذلك لا يخفي مجموعة من الباحثين والمنظرين البارزين مثل بانكلير وليد بياتر حماستهم البالغة تجاه هذا الجيل الأخير من تكنولوجيا الإعلام والاتصال الذي يحمل إمكانات ديمقراطية هائلة، ويتقاسم هؤلاء وجهة نظر مشتركة مفادها أن الوسائط الشبكية وعلى عكس وسائل الإعلام التقليدية تمتلك قدرة كبيرة على إعادة تشكيل العلاقات الاتصالية من خلال تسهيل التواصل الاجتماعي والابتكار الذي يركز على المستخدم، ويمكن لهذا المجال التواصلي الجديد كما تعتقد برايس أن يساهم في تعزيز مشاركة المواطنين في الديمقراطية، وذلك من خلال إتاحة إمكانية الوصول بشكل مباشر وفوري ومتساوي بين الجميع. (Price.2013 : 520)

ويرى فون هيبل بأن مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي باتوا قادرين على مواجهة السيطرة الاحتكارية التي تفرضها المؤسسات الإعلامية الحكومية والخاصة على المحتوى الإعلامي بفضل تحرر هذه المواقع من الالتزامات المهنية والقواعد والمعايير الصحفية، ومن التوجيه المركزي للمؤسسات الإعلامية، بالإضافة إلى ذلك فهي من الناحية المالية والتكنولوجية متاحة للجميع ولا يمكن للمواطنين المجهزين بهذه الوسائط أن يكونوا مجرّد مستهلكين سلبيين لدعاية الأحزاب السياسية، ولمراوغات السلطة أو للأخبار المضللة التي تبثها وسائل الإعلام التقليدية.

ويؤكد تشارلز ليدبيتر على أن انفتاح منصات التواصل الاجتماعي يسهل من إمكانات التعاون الجمعي بين الأفراد والجماعات الذين أصبحوا مصدر الابتكارات والأفكار الجديدة في الممارسات الديمقراطية، ويتوافق هذا الرأي مع عديد الدراسات التي أكدت منذ فترة طويلة على ضرورة الاعتراف بالدور المركزي الذي تلعبه «المجموعات الاجتماعية » في تشكيل وتصميم ونشر التكنولوجيات الجديدة.

ويعتقد كوليمان وبلوملر أن عدم نجاح الفضاءات العمومية الافتراضية يرجع للقصور في النموذج الهابرماسي الذي يتعارض مع الثقافة السياسية والاجتماعية المعاصرة في العديد من المجتمعات ولا يعود إلى التقنيات في حد ذاتها.

3.3.2. شبكات التواصل الاجتماعي والمشاركة السياسية

هناك اجماع بين الباحثين مثل باربر وبيتمان وفيربا وشلازمان وبرادي حول أن المشاركة المدنية والسياسية هي أحد الأركان الأساسية لعمل الديمقراطية بشكل جيد، وفي نفس الوقت تؤكد العديد من الدراسات على أن المشاركة المدنية والسياسية بشكلها التقليدي (البرلماني) آخذت بالانخفاض في المجتمعات الديمقراطية، بينما يؤكد آخرون على تغير طبيعة المشاركة المدنية والسياسية في حد ذاتها وبرزت أشكالا جديدة من المشاركة مثل تسييس الحياة المعيشة، الاستهلاك السياسي، والنضال عبر الإنترنت وغيرها من الأشكال الأخرى.

وتتمثل المشاركة العامة الرقمية كما يرى كاتز وزملاءه في مجموعة الأشخاص الذين يستخدمون الأجهزة الحاسوبية للإرسال والتلقي والتفاعل مع البيانات المرتبطة بالمسائل المجتمع والدولة، وتنطوي هذه الأجهزة على الحواسيب المكتبية والمحمولة، والأقراص المدمجة، والهواتف المحمولة، والأجهزة اللوحية وغيرها، أما البيانات فتشتمل على كل أشكال المعلومات والتي تكون في شكل نصوص، صور، مقاطع فيديو، صفحات ويب، والتي لها تأثيرات على معارف وعواطف وسلوكيات المستخدم، كما تتضمن المشاركة العامة الرقمية تفاعلات متعددة الاتجاهات، فهناك التفاعل الذي يكون في اتجاه واحد والتفاعل في اتجاهين متبادلين وتفاعل متعددة الاتجاهات والاستجابات، بالإضافة إلى ذلك تشير المشاركة إلى البناء المشترك للأفكار، وللمعلومات، والمواقف، والتنظيمات، والعلاقات الجديدة. (Katz, Barris, Jain.2013 : 06)

وقد أثبتت وسائل الإعلام التقليدية ضعف فعاليتها كأداة مساهمة في تعزيز الانتماء المدني والسياسي لدى فئة الشباب خاصة على عكس الإنترنت التي أظهرت تأثيرا واضحا فيما يخص المشاركة المدنية والسياسية لدى هذه الفئة، كما تظهر البحوث حماسا متزايدا بخصوص المشاركة المدنية والسياسية الموصولة بالإنترنت لدى الشباب الذين اتهموا ببعدهم عن المشاركة المدنية السياسية في أشكالها التقليدية، فهم يميلون إلى الاستجابة للمحتوى السياسي ذو التوجّه الشبابي والغني بالعناصر التفاعلية والبصرية. (Hao, Wen, George.2014 : 1224)

وتؤكد بيبا نوريس على أن الجمهور العام في الغرب يشعر بخيبة أمل كبيرة تجاه المؤسسات التقليدية التي تفرزها الحكومة المختلفة، وبخيبة أكبر من كل الأشكال القديمة للمشاركة المدنية والسياسية التي باتت تستبعد فئة واسعة من المواطنين، وعليه تميل الإنترنت إلى جذب الذين يعانون من نقص التمثيل عبر الأشكال القديمة للمشاركة.

وتشير دراسة قام بها هولت وزملائه إلى أن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي يزيد من الاهتمام والمشاركة السياسية، وقد وجدت دراسة أخرى مشابهة قام بها جيل دي زينيجا وآخرون بأن الاستخدام الإعلامي لمواقع التواصل الاجتماعي كان له ارتباط إيجابي بالمشاركة السياسية الموصولة بالإنترنت وكذلك المشاركة غير الموصولة بالإنترنت، وتؤكد هذه النتائج على تلك الإمكانات التي تمتلكها الوسائط الرقمية وخاصة التفاعلية منها في تعبئة الناس وفئة الشباب بشكل خاص بغرض المشاركة الفعّالة في الحياة المدنية والسياسية.

وترى توفكسي وويلسون أن مواقع التواصل الاجتماعي تقدم للناس قناة مدنية وتشاركية بهدف جمع وتقاسم المعلومات وبناء التحالفات وتوصيل الانشغالات وتنظيم أنفسهم عبر الإنترنت مما يمكنهم من إحداث التغير المنشود، وعليه أصبح من الممكن القيام بالعديد من الأنشطة المدنية الموصولة بالإنترنت انطلاقا من كون المشاركة المدنية تعتبر كوسيلة لإحداث التغيير في المجتمع عبر آليات سياسية وغير سياسية.

ويرى رينس وجولدي ووالكير أن المشاركة المدنية تعد أحد مجالات النشاط التي أدت إلى انتقال الناس إلى عالم الإنترنت مع تطوير أشكال عدة من المشاركة وتحقيق درجات متفاوتة من النجاح.

أما دينينج فيرى أن الأفراد يستخدمون الإنترنت لدعم أجندة معينة أو قضية يؤمنون بها، ويشتمل ذلك على أفعال موصولة بالإنترنت مثل إنشاء مواقع الويب، وتصفح الإنترنت للحصول على المعلومات، ونشر الأخبار على موقع إلكتروني ما، وإرسال المنشورات الإلكترونية والرسائل عبر البريد الإلكتروني، واستخدام الإنترنت لمناقشة القضايا، وتشكيل التحالفات، وتنسيق الأنشطة المختلفة، وهو يصنفها ضمن خمس فئات هي : جمع المعلومات، التحاور، تنسيق الأفعال، الضغط على صانعي القرار. (Warren, Jaafar, Sulaiman.2016 : 131, 132)

وقد درس جايمس سلوم الدور الذي لعبته مواقع التواصل الاجتماعي في تطوير الحركات الاحتجاجية في القارة الأوروبية، ويؤكد على مساهمة هذه المواقع في حشد المواطنين الشباب في مظاهرات احتجاجية كبيرة، مثلما فعلت حركة « Indignados » الإسبانية التي نظمت مظاهرات صاخبة للتعبير عن غضب الشباب من الفساد السياسي والبطالة.

كما يلاحظ بعض الباحثين بأن السمة البارزة لهذه التطورات هي الطريقة التي يستخدم بها الشباب تلك المواقع لنشر وتقاسم احتجاجاتهم عبر القارات والحدود الوطنية، ويوضح سلوم أن الفعل الشبكي - الاتصال عبر الشبكات الاجتماعية - قد مكن من تطوير المشاركة السياسية لدى الشباب الذين يبحثون عن مساحة للتعبير عن سخطهم وإيصال صوتهم للآخرين، لذا تعتبر جولي أولدام وآن فسترجارد بأن سبب انتشار استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لدى فاعلي المجتمع المدني يدخل في إطار مواجهة الفضاء العمومي المهيمن والذي يعتمد على وسائل الإعلام التقليدية. (Julie, Anne.2015 : 07)

3. العالم العربي والتواصل

1.3. الفضاء العمومي العربي

لعل ما يميز حقبة ما بعد الاستقلال في الوطن العربي سيادة الأنظمة غير الديمقراطية، أين باءت كل محاولات التحديث السياسي بالفشل، فهيمن رأي الزعيم السياسي على الجميع، وانتهكت حرية التعبير وغابت إرادة الشعوب مع استعمال الآليات الديمقراطية بشكل سطحي وبراغماتي يضمن استمرار الدكتاتورية في ظل هذا المناخ غير الديمقراطي، عمدت الدولة في السياق العربي إلى التضييق على كل محاولات الحوار بين المعارضين، باعتبار أن مصلحتها تكمن في الصراع بينها وليس التوافق والتفاهم، وإذا تم الأخذ بالمقاربة المزدوجة للمجال العمومي المنشغلة بدراسة أشكال إشهار الحياة الاجتماعية وتنظيم النقاش العام، أي بالمجال العمومي باعتباره الإطار الوسائطي الذي يتيح تمثيل الحياة الاجتماعية والسياسية وقضاياها وأحداثها وشخصياتها، والذي يحتضن أشكالا خاصة من النقاش والتداول في الشأن العام، يمكن افتراض أن المجال العمومي اشتغل في العالم العربي حسب النماذج التالية :

1.1.3. نموذج الحلبة

تكون هذا النموذج مع ظهور المطبعة والكتاب والصحافة المكتوبة التي تشكلت حولها نخب جديدة تتميز عن النخب التقليدية التي ارتبطت بمؤسسة المسجد باعتبارها مؤسسة متعددة الأدوار، وكانت الصحافة في تلك الفترة صحافة رأي حاملة لمشروع حضاري وفكري، كانت مع الكتاب فضاءا رمزيا جديدا للجدل الفكري والإيديولوجي، والصحافة ليست نمطا جديدا من التعبير فحسب بل ساهمت كذلك في ظهور لغة جديدة وأنماط جديدة من الجدل الفكري، ويمكن القول أن الصحافة كانت النواة الأولى للمجال العمومي العربي حيث مثلت مجالا جديدا لتداول الأفكار ونشر الآراء بين الأقطار العربية، وبالتالي كانت بمثابة حلبة للجدل الفكري كان المثقفون الفاعلين الأساسيين فيها أين تحول الفيلسوف إلى كاتب يتوجه إلى الجمهور العريض.

2.1.3. نموذج المجال السلطوي

تشكل هذا النموذج تدريجيا مع عملية بناء الدولة الحديثة مع بداية الثمانينات، وكونت وسائط الاتصال الجماهيري (الإذاعة والتلفزيون) هذا المجال الذي خضع لإدارة سلطوية، وتحول الإعلام من حلبة كانت تحتضن المواجهات الفكرية والسياسية إلى مشهد تستخدمه الدولة لإبراز سلطتها وقوتها، فاستحوذت الدولة والزعيم السياسي على التلفزيون، أي على آليات الظهور الإعلامي في المجال العمومي، وأصبح الصحفي موظفا تابعا للدولة بعد أن كان مثقفا حرا يتحدث باسم المجتمع، كما اشتغل الإعلام وفق نموذج عمودي وسلطوي يقوم على استعراض السلطة وإبراز نفوذها، وحجب تنوع المجتمع والأفكار والأحداث السياسية والاجتماعية. (الصادق.2011: 18)

3.1.3. نموذج المجال العمومي الوطني متعدد الفضاءات

وساد هذا النموذج منذ منتصف التسعينات إلى يومان هذا، وارتبط بالتحولات الناتجة عن تطور وانتشار تكنولوجيات الاتصال الحديثة، وخلط هذا النموذج بين مختلف الوسائط الإعلامية والاتصالية صحافة مكتوبة، راديو، تلفزيون، إنترنت، وأنتجت الصورة التلفزيونية تداخل الأقطار الوطنية المحلية، كما تعربت فضائيات أجنبية، وتمثل الفاعلون في مختلف الفئات من شباب، مثقفين، معارضين، حركات سياسية. (الصادق.2012: 254)

وعلى هذا النحو فإن المجال العمومي العربي عرف توسعا عموديا بظهور الفضاء العمومي الافتراضي الذي تجلت من خلاله شخصيات وقضايا من الحياة اليومية والاجتماعية والسياسية كانت مغيبة عن المجال العمومي التقليدي، وتوسعا أفقيا بانفتاحه على القنوات الفضائية، وارتبط هذا التوسع الأفقي والعمودي بتغيرات ترتبط بشكل وثيق بالتحولات التكنولوجية التي ساهمت في انحصار دور الدولة وتقليص قدرتها على التحكم في آلية بروز الأفراد والجماعات، فأصبح المجال العمومي الوطني يتكون من فضاءات تشكلها وسائط إعلامية تقليدية وجديدة.

وعموما فإن المجال العمومي العربي يختلف عن الفضاء العمومي الغربي في هذا الشأن بمستويين:

  1. التخلي عن التطبيق الآلي للمقاربة الهابرماسية التي تؤدي في السياق العربي إلى نتيجتين هما نفي إمكانية المجال العمومي أصلا بما أنه ظاهرة غربية خاصة بالحداثة، أو الإقرار بوجود مجال عمومي مشوه الملامح وضعيف وغير فعال كما توحي إلى ذلك مقاربة دافيد لينش عل سبيل المثال.

  2. استبدال المقاربة المنشغلة بدراسة المجال العمومي الجديد التي تكونه القنوات الفضائية والميديا الجديدة بمقاربة تؤكد على الطابع التاريخي للمجال العمومي من جهة أولى، وعلى أولوية الاستناد إلى المستوى الوطني لدراسة المجال العمومي من جهة ثانية مما يسمح بالقطع مع مقاربة عامة تهمل الخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية وتنوعها. (الصادق.2011: 19)

2.3. الفضاء العمومي الافتراضي

1.2.3. النشاط السياسي العربي في الفضاء العمومي الافتراضي

نتج عن النمط السلطوي المتبع في العديد من النظم السياسية العربية العديد من المظاهر السلبية مثل انسداد الأفق السياسي، وتعثر المسار الديمقراطي وازدياد الشعور بالإحباط واليأس وفقدان الثقة، مما دفع بكل المهتمين والمتتبعين للشأن العام إلى المشاركة في الحياة العامة من خلال قنوات بديلة، وفي مقدمتها الحركات الدينية والرقية، والجهوية التي تحولت إلى أهم فاعل سياسي في مواجهة ذلك.

وفي السنوات الأخيرة ظهرت أيضا العديد من الحركات الاحتجاجية ذات أرضية سياسية ومطلبيه نشأت خارج الأطر المؤسسية، ورفضت تلك الحركات أن تشارك في المنظومة السياسية التي فرضتها الدولة على معارضيها وتبنت خطابا يتجاوز مطالب الإصلاح التدريجي، وطالبت بالتغييرات من خلال تعبئة الشارع في مواجهة النخب الحاكمة كما لجأ الشباب في ذلك إلى استخدام الفضاء الإلكتروني والمواقع الاجتماعية لتأسيس حركات احتجاجية شبابية أصبحت محركا مهما للتغيير في العديد من الدول العربية.

ويشير تنامي ظاهرة المدونات في العالم العربي إلى حركة التملك الاجتماعي للتكنولوجيات المعلومات والاتصال، إذ تشير هذه الظاهرة لنوع جديد من الاستخدام الاجتماعي للشبكة لا يقتصر على الممارسات الاستهلاكية، ويحيل أيضا إلى تنامي ثقافة سياسية جديدة تتيحها المشاركة الواسعة التي تسمح بها الشبكة حيث تيسر ظهور الفرد في المجال العمومي. (الصادق.2012: 238)

كما يشير أيضا بعض الباحثين مثل توفيكسي وويلسون إلى دور موقع فيسبوك وتويتر في تمرد مواطني بعض الدول العربية التي شهدت موجة الربيع العربي، ويؤكدان على مساهمة الفيسبوك وتويتر كمصادر جديدة للمعلومات لم يتمكن النظام المصري من السيطرة عليه بشكل كامل، وقد كانت أدوات حاسمة في اتخاذ قرارات الاحتجاج لدى المواطنين، وفي المساعدة على تقديم الخدمات اللوجستية للاحتجاجات، وفي صناعة قرار المواطنين بالمشاركة والمساندة للمظاهرات التي شهدها ميدان التحرير في مصر. (Tufekci, Wilson.2012 : 11)

بالتالي يمكن القول أنه إذا كان الفضاء العمومي الواقعي في الوطن العربي يشكل بوابة للمشاركة في تفاعلات متباينة الانساق والقوة فإن المجال العام الافتراضي شكل فضاء جديدا يمنح الفرصة أمام تشكيل فضاء بديلا يعتمد على التبادل المجاني للأفكار والآراء بين المواطنين، ويلعب دورا في هدم الأنظمة المغلقة، وفي موضوع آخر يعرفه يونغ أنه فضاء عاما مكونا من اتصال اجتماعي يفتح المجال أمام قمع النظم الاجتماعية التقليدية، ويتصف أنه مجالا تفاعليا يعتمد على المشاركة، حيث تتحد المشاركة في إطاره بقوة المعرفة وليس بعلاقات القوة، ويصبح المصدر الرئيسي لشرعية المجال العام الافتراضي هو الإحساس بالجماعة ومصالحها المختلفة. (جمال. سهيلة.2014: 05)

أي أن الفضاء العمومي الافتراضي هنا ساعد في تشكيل المجال العام الذي يضم الأفراد الخارجين عن علاقات القوة والمهشمين، والمقصود بهؤلاء الأفراد الذين لم تمكنهم امتيازاتهم من المشاركة في المجال العام الواقعي، وهذا ما يتناسب أيضا مع ما طرحه هابرماس من أن المجال العام هو سعي مأسوي لرشد شبه مستحيل. (دنيا. مريم.2011 : 81)

2.2.3. الفضاء العمومي الافتراضي ومنظومة القيم الديمقراطية في الوطن العربي

إن المتأمل للمنظومة القيمية والثقافية التي تشكل مرجعية شباب مواقع الشبكات الاجتماعية الالكترونية لممارسة المعارضة السياسية سوف يجدها خليطا من مجموعة من العناصر أبرزها الطابع الراديكالي لهذه القيم، وهو ما يتسق في الغالب مع الطبيعة الشبابية التي تميل إلى الرفض والتمرد بسبب إدراك الشباب للقيود المفروضة على التعبير الأمر الذي يؤجج حرية التعبير على صفحات هذه المواقع، ورغم ذلك فيلاحظ بروز منظومة قيم يتم تداولها في الثقافة السياسية كالحديث عن تداول السلطة وضرورة التغيير في بنية النظام السياسي، إضافة لبعض العناصر القيمية التي تعبر عن مأزق الطبقة المتوسطة والتي تقف موقفا عدائيا من النخبة السياسية والاقتصادية، كما يمكن الإشارة إلى تشكل صحوة حول قيم الديمقراطية كضرورة احترام حقوق الإنسان والتأكيد على قيم الشفافية ومحاربة الفساد خاصة أن بعض النظم السياسية العربية تعيش في مأزق بالنسبة لهذه القضية.

وبشكل عام فإن الشبكات الاجتماعية تقدم اليوم مشهدا قويا عن الانتقال من مجال عمومي سلطوي كان يحكمه التهميش وعاجز عن العمل وفق المعايير الديمقراطية إلى مجال عمومي تحكمه الحرية والتعدد، وعلى نقيض من ذلك يرى العديد من الباحثين أن تكنولوجيا الإعلام والاتصال الحديثة يمكن أن تساهم في تشتت المجال العمومي وتحوله إلى مجموعة فضاءات منغلقة على نفسها، إضافة إلى مخاطر سلعة الشبكة واحتواء إمكاناتها في إرساء أنظمة بديلة، فالنفاذ لا يعزز بالضرورة المشاركة السياسية أو الخطاب التنويري لأن الانتقال من النقاش الواقعي إلى الافتراضي يستثني من لا يمتلكون القدرة على النفاذ إلى الانترنيت، كما أن المعلومات المتداولة على الانترنيت ليست دائما ذات طابع ديمقراطي.

وفي نفس السياق يرى دينيس ماكويل أن الإعلام الجديد قد يزيد الفجوة بين الفاعلين في الميدان السياسي وبقية أفراد المجتمع، فرغم قدرته على دعم الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير إلا أن استخدام أدواته المتنوعة لتفعيل دوره منها ما يتعلق بطابعه الشخصي القابل للنمو الجمعي المفعم بمخاطر الاستخدام السيئ من قبل الجميع، والتحول من نمط تشكيل الاتجاهات وفق الإعلام التقليدي الموجه من الدولة إلى إعلام بديل قد يوجه من قبل أطراف معينة لها أهدافها الخاصة. (Dennis.2010 : 152)

وفي الآونة الأخيرة برزت تحيزات لمن يقوم بتأسيس المواقع والشبكات الافتراضية من حيث انتقاء المعلومات التي تؤيد وجهة نظره فقط، الأمر الذي يقوم به أيضا من يقوم بإنشاء صفحات معارضة بما ينعكس في النهاية في الإضرار بالقضية محل الاهتمام وتضليل الرأي العام، وهو ما يكون له تأثير بالغ في المجتمع ويكون مناخا مناسبا للصراع الطائفي والعقائدي والنزاع الشخصي والجماعي.

بالتالي فعلى قدر ما ساهم المجال الافتراضي في حرية تداول المعلومات إلا أن الممارسة كشفت عن افتقاد المستخدم للوعي بأمنها، بل إن نشر تلك المعلومات قد يِؤدي إلى قيام من له مصلحة خاصة بإنشاء صفحات معارضة مستخدما معلومات مزيفة بما يعمل في مجمله على التشويش على الرأي العام وأولويات الجمهور. (جمال. سهيلة.2014: 06)

خاتمة

عموما يرى الباحثون أن الصحافة والإذاعة والتلفزيون والانترنيت تعد منابر لتبادل الأفكار والآراء بين أفراد المجتمع وتمثل القنوات الإستراتيجية للفضاء العام، وقد تبنى هابرماس وفق مقاربته النقدية لوسائل الاتصال الجماهير نظرة تشاؤمية بخصوص علاقة الفضاء العمومي بتكنولوجيات الإعلام والاتصال، حيث يرى أن مصير الفضاء العمومي هو التآكل وبالتالي تلاشي الموضوع الأساس ألا وهو الديمقراطية، مادامت الفضاءات العمومية في ضل آليات الإعلام الحديثة تحولت إلى مجرد مجال للتأثير السياسي وللتسويق وللبحث والهيمنة، فانتقل الاتصال من وسيلة للتفاهم والنقاش لبلوغ الحقيقة إلى اتصال قائم على مبدأ الهيمنة.

وهي الرؤية التي تنطبق بتفاصيلها على واقع الفضاء العمومي العربي الذي خضعت وسائله منذ البداية للتوجيه لخدمة القوى النافذة في السلطة والحكم، الأخيرة التي كيفت أدوارها مرة أخرى وبنفس الأساليب المعهودة من رقابة ومتابعة على نشاط الإعلام الجديد الذي برزت فيه معالم فعلية للفضاء العمومي الحقيقي المبني على حرية النقاش والتداول الحر لقضايا الشأن العام، بحيث يتعرض هو الآخر لشتى أنواع التضييق والمحاصرة سواء باعتماد الوسائل التقنية أو السياسية والتشريعية قصد الحد من نشاطه، ودائما تحت طائلة أهداف التنمية والحفاظ على المصالح الإستراتيجية خاصة الأمنية منها.

العربية

جمال بن زروق، سهيلة بضياف.2014، الإعلام الجديد والفضاء العمومي الافتراضي العربي بحث للقيم الديمقراطية أم هدم لها، تونس: الملتقى الدولي حول شبكات التواصل الاجتماعي وتغير البيئة الإعلامية في الوطن العربي 16-18 أكتوبر.

دنيا شحاتة، وحيد مريم.2011، تصاعد الحركات الاحتجاجية في المنطقة العربية، مجلة السياسة الدولية، العدد186، أكتوبر.

رشيد العلوي.2014، الفضاء العمومي من هابرماس إلى نانسي فريزر، مجلة دلتا نون، العدد الثاني، تشرين الثاني/ نوفمبر.

الصادق الحمامي.2011، الميديا الجديدة والمجال العمومي الإحياء والانبعاث، مجلة الإذاعات العربية، العدد03.

الصادق الحمامي.2012، الميديا الجديدة (الابستومولوجيا والإشكاليات والسياقات)، تونس، منوبة : المنشورات الجامعية.

عبد السلام الأشهب.2013، أخلاقيات المناقشة في فلسفة التواصل لدى هابرماس، الأردن : الأردنية للنشر والتوزيع.

عبد السلام حيدوري.2000، الفضاء العام ومطلب حقوق الإنسان هابرماس نموذجا، صفاقس: دار نهي.

فلة بن غربية.2008/2009، سيرورة المنظومة الاتصالية والفضاء العمومي دراسة مقاربتية لآليات التشكل في اﻟﻤﺠتمعين الغربي والعربي الإسلامي، جامعة الجزائر: أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه في الإعلام والاتصال.

محمد الأشهب.2006، الفلسفة السياسية عند هابرماس جدل الحداثة والمشروعية والتواصل في فضاء الديمقراطية، دفاتر فلسفية، الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة.

محمد عابد الجابري.2007، قضايا في الفكر المعاصر: العولمة، صراع الحضارات، العودة إلى الأخلاق، التسامح، الديمقراطية ونظام القيم، الفلسفة والمدينة، ط03، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

الأجنبية

Amoretti F.2007, Benchmarking Electronic Democracy In A. Ari-Veikko & M. Matti, United Kingdom : édition Encyclopedia of digital government,Vol.2, Idea Group Reference.

Anamitra D, Stacy D, Tom G.2017, Is Social Media a Threat to Democracy? Retrieved from, https://www.omidyargroup.com/wp content/uploads/2017/10/Social-Media-and-Democracy-October-5-pdf

Cottereau A, Paul Ladrière.1992, pouvoir et légitimité, Paris : édition de l’école des hautes études en sciences sociales.

Dennis McQuail.2010, McQail’s Mass Communication Theory, Los Angeles: 6th ed.

Ernard Miège,1995, l’espace public perpétué élargi et fragmenté, texte réuni par Isabelle Paillart : l’espace public et l’emprise de la communication, Grenoble : éd. Ellug.

Hao X, Wen N, George C.2014, News Consumption and Political and Civic Engagement Among Young People, Journal of Youth Studies.

John Wood, Tony Wohlers.2014, E-Democracy. In H. Kerric, édition encyclopedia of Social Media and Politics, Vol.1, California: USA: SAGE Publications.

Julie Uldam, Anne Vestergaard.2015, Civic Engagement and Social media: Political Participation Beyond Protest, New York: USA Palgrave MacMillan.

Katz J.E, Barris M, Jain A.2013, The Social Media President, Barack Obama and The Politics of Digital Engagement, New York: USA Palgrave Macmillan.

Price E.2013, Social media and democracy, Australian Journal of Political Science.

Roger Bautier.1992, Habermas et le champ de la communication, revue cinémactions, Paris, édition SFSIC Corlet, N° 36 mars.

Thomas Zittel.2008, E-Democracy In D.Wolfgang, Malden, USA: Eds The international encyclopedia of communication, Blackwell Publishing Ltd.

Tufekci Z, Wilson C.2012, Social Media and The Decision To Participate In Political Protest, Observations from Tahrir Square, Journal of Communication, 62(2).

Warren A.M, Jaafar N.I, Sulaiman A.2016, Youth Civic Engagement Behavior on Facebook, A Comparison of Findings from Malaysia and Indonesia, Journal of Global Information Technology Management, 19(2).

مصطفى ثابت

جامعة قاصدي مرباح ورقلة

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article