المقدمة
لا مناص لكلّ خطاب لساني يروم النجاعة التبليغية ويسعى إلى حيازتها من ضبط مجاله المفاهيمي الذي عليه مداره لأنّ المصطلح بوصفه وحدة لغوية ورداء المفهوم اللفظيّ يُسهم من حيثيات الدقة والوضوح والنظامية (معياريته) والاستساغة (يُسر التداول) في تنظيم التواصل المعرفي وتحصيل عمق المطالب النظرية والإجرائية على حدٍ سواء التي تنعقد من أجلها البحوث العلمية في أصلها. فالعِلم في المُحصلة لغةٌ مُتقنة الصنع بعبارة الفيلسوف كوندياك (Condillac).فلا تستقيم لغة البحث العلمي إلا إذا قامت على ضبط المُصطلح وتمييز المفهوم ووضوح المنهج لحفظ المُتلقي من اضطراب المعاني في الذهن حال تبليغه مضامين المعرفة العلمية ونقل المفهومية (conceptualité) إليه.
فهل يسوغ على ما تقدم، أن نعزو سيل التدفق المُصطلحي الجارف الذي أصاب كتابات اللسانين العرب إلى الجري وراء موضة ابتداع المصطلحات وإدعاء السبق فيها إلى حَدّ الهوس؟ وما حدود تأثير اضطراب المُصطلح وضعاً وتداولاً في نقل مضامين المعرفة اللسانية؟ وهل توحيد المُصطلح هو المدخل الوحيد الضامن لنقل المفهومية والحمولة المعرفية للسانيات وفروعها؟
1.واقع المصطلح اللّساني العربي
لا يغيب على الناظر إلى واقع الخطاب اللّساني العربي الحديث والمعاصر نزوع المُصطلح فيه ـــ على حد تعبير عبد السلام المسدي ـــ إلى الاستعصاء والتخالف، أكثر من نزوعه إلى التسوية والتماثل1، مما حمل بعض اللسانين العرب المحدثين من أمثال عبد الصبور شاهين إلى حصر مُعضلة اللسانيات العربية الحديثة في المُعضلة المُصطلحية2، ولئن كان شاهين مُصيبًا لأحد وجوه الحقيقة فيما ذهب إليه من جانب الإقرار بها إلا أن التشتت لازم من غياب تمثل نظري عميق للمعرفة اللسانية ومنها القضية المُصطلحية.
إنّ هذا التعدد المُصطلحي الذي بلغ حدّ التُخمة قد أضحى محل تنازع وهمي توسل فيه أصحابه بكلّ الوسائط والحُجج التعليلية دفاعًا عن حُجيّة أوعيتهم القولية لحمل المفاهيم المُستحدثة في هذا العلم، ولعل من أسباب عبثية وضع المُصطلح رسوخ الاعتقاد عند معشر اللسانيين العرب المُحدثين حين مباشرتهم الكتابة اللسانية بأنّهم يحرثون أرضًا خلاء، إذ أفضى هذا التعدد إلى إخلالٍ بعملية اكتساب المفاهيم وتبليغها والإسهام بها في بناء المعرفة اللسانية الإنسانية وترسيخ تقاليدها العقلانية في النَّظر.
وكان من نتائج هذا التخالف والتشتت في صناعة المصطلحات اللسانية العربية الحديثة أن بلغ عدد المُصطلحات التي وضعت مُقابلاً للمصطلح الأجنبي الفرنسي (linguistique) أو الإنجليزي (linguistics) ما يربو عن العشرين مُصطلحًا، بداية من ظهور مصطلح الألسنية3 أول مرة سنة 1937 ثم أعقبه في الظهور مصطلح علم اللغة سنة 19414.حيث لم يشفع اشتراك الانتماء إلى البلد الواحد5 أو الجامعة الواحدة أو اشتراك موراد الترجمة أو المؤسسات المجمعية في وضع حدّ للتوسيع المفرط في المُصطلح.
لقد أفضى هذا التوسيع المفرط في المُصطلح إلى انقلاب العلم اللّساني عندنا من علم يُبدع المفاهيم الإجرائية المُفسرة لظاهرة اللّسان البشري ويبنيها في نظام إلى مُولد للفظية حين انغمست سجالاته في اللفظية التي لا تستوفي المفهوم حقَه، وركبت السِجَال السطحي الذي مداره على التسميات، فأظهر الخطاب اللساني العربي الحديث في أعقاب ذلك تضخمًا من جهة التسمية وتكراراً مفهومياً من جهة المفهمة (Conceptualisation)
1.1.حدّ الخطاب العلمي ومفهومه
إنّ الخطاب العلمي نمط من القول له عَقدُ (code)6 كلام خاص به يتميز بإستراتجيته الاستدلالية (يتوسل بجملة من الأدلة) المُصاحبة لمقتضيات الادعاء العلمي فالنصّ العلمي في جوهره نص وظيفي ينهض بتقديم المعرفة للمتلقى سواء أكان هذا المتلقى من جمهور المُتخصصين في مجاله أو إلى الطالب المزاول لهذا التخصص في الجامعة.حيث يسعى الخطاب العلمي إلى تبليغ المفاهيم المختلفة شرحاً وتحليلاً قاصداً تحصيل الفهم والإفهام.
إنّ مُقتضى صفة اللغة العلمية في الخطاب لا يُحمل على الإنتاج والصناعة والخلق، إنما محمولها على أنه شيء مُفَكرٌ فيه عقليا ًيتمتع بخاصيتي التعالي وإحداث النظام7، لأنّ فقدان خاصية النظامية (systématicité) مؤذن، لا محالة، بحدوث الفوضى ووقوع اللّساني تحت رحمة الظواهر وتشعبها المفرط.
كما ينهض النصّ العلمي كذلك بإثراء الرصيد المُعجمي للطالب المُزاول لهذا التخصص وإغنائه من جهتي اللغة المتخصصة التي قوامها المُصطلح وطرق التعبير القولية المُصاحبة للعبارات التعريفية؛ أي لغة الكتابة العلمية ذات الخصائص الأسلوبية النمطية8 (عقد خاص) كما تروم اللغة العلمية كذلك جعلَ المُصطلحات رموزاً رياضية على المفاهيم في سعيها الحثيث إلى الترميز والتفسير.
2.1. حدّ النصّ والمصطلح اللّساني
النصُّ اللّساني هو نصّ مُتخصص يتميز باستعمال مُصطلحات خاصة لا تشاركه فيها النصوص التي تنتمي إلى مجالات معرفية أخرى إذ تُهيمن فيه وظيفة الوصف اللّساني(métalinguistique) حيث يحيل الدليل فيه على نفسه ((autonymique.
دَرَجت الأدبيات المُشتغلة بلغة العلم اللساني على تعريف المُصطلح اللّساني بأنّه كلّ اسم بسيط أو مركب يُعيّن مفهومًا مُختصاً بالمجال اللساني سواء كُتب له الشيوع والتداول أم لم يكتب له9، فالمُصطلح على هذا رمزٌ لغويٌ وصورةٌ لفظيةٌ ومادةٌ لغويةٌ يُطلق للدلالة على مفهوم فهو وثيق الصلة بالاستعمال المُتخصص ومن شروطه التي تميّزه عن اللفظ اللغوي العام ذاتية الدلالة وأحاديتها وخصوصيتها والانتماء إلى مجال مفهومي قابل للضبط والتحديد.
يُراد بمعيار الدلالة الأحادية (monosémie) من زاوية المنظور المنطقي الذي هيمن على المُصطلحية الكلاسيكية عدم تخصيص المفهوم العلمي بأكثر من مُصطلح واحد فالدلالة الأحادية هي العلاقة بين تسمية (dénomination) ومفهوم(notion) لا تعكس فيها التسمية إلا مفهومًا واحداً10، إلا أنّ مطلب اللغة العلمية الشفافة أحادية الدلالة قد أضحى في السياق الراهن مطلبًا عسير المنال، فلقد فتح المدخل التداولي الذي يُعدّ من مداخل النظر الجديدة في الخطاب العلمي باب النّظر في الظواهر الخَطابية والبلاغية بمعناها الجديد من مجاز واستعارة (مفهومية واستكشافية)، وحوارية11، وحجاج، وتمثيل12، وتشبيه13.
كما أنّ معيار أحادية الدلالة من معايير التوحيد المعياري للمصطلحات بسبب نزوعه إلى تخصيص مصطلح واحد للمفهوم العلمي الواحد، وذلك بالتخلص من الترادف والاشتراك اللفظي وكلّ ما يؤدّي إلى الغموض أو الالتباس في اللغة العلمية أو التقنية14.
يقوم المُصطلح على تعريفه الذي لا ينفك عنه حيث يهدف إلى تحديد مجموع الخصائص الداخلة في ما يَصدُق عليه مفهوم ما إذ يسمح التعريف بتمييز مصطلح ما عن المُصطلحات الأخرى التي توجد معه داخل شبكة مُصطلحية مُعينة15، وقد وضعت له بعض الشروط منها الوضوح؛ أي تجنب تعريف المُصطلح بما هو أخفي منه لأنّ الدليل يجب أن يكون أعرف من المدلول(المُعرّف) واجتناب تعريف الشيء بمثله وتفادي السقوط في الدائرية.
3.1.حدّ المفهوم وخصائصه
المفهوم هو وحدة معرفية مُعبر عنها بكلمة أو تعبير تحتوي على مجموعة من الأشياء أو الأحداث أو العلائق وهذه المجموعة تملك عناصر أو خصائص مشتركة16 فالمفهوم وحدة معرفية تنتمي لرؤى نظرية أو لتصوّرات عقلية أو لنماذج فكرية وعلى هذا عُدّ المفهوم مدخلاً أساسياً لتأسيس الخطاب المعرفي.
تتميز المفاهيم في اللّسانيات بالصعوبة من جهة تجريدها وغموضها الإحالي إذ ليست كُلّ المفاهيم فيها تقابل أشياء في الواقع اللغوي الموصوف؛ أي تملك مرجعية إحالية من قبيل المفاهيم الإجرائية التي لا تُحيل على الأحداث (الوقائع) اللغوية، يضاف إلى ذلك افتقار المفاهيم فيها إلى الثبات المطلق والكُلية والشمول.
لئن كان المُصطلح دليلاً لغويًا فهل يترتب على ذلك خضوعه لمسالك (طرائق) تعليم اللغة العادية نفسها؟ إنّ المُصطلح لازم من عرف خاص، كما تقدم، إذ ليس كُلّ ما يجري على اللغة العادية جاريًا عليه، لأنّ اللغة العادية تسمح بتعدد الألفاظ دون أن يكون ذلك مدعاة لتعدد الدلالات كما هو الحال في الترادف، وتسمح بنقيض ذلك كما هو الحال في المشترك اللفظي في مقابل ذلك ينعدم الاشتراك والترادف داخل الإطار النظري الواحد وغيرها من ظواهر الكلام العادي كما يُحترز فيه كذلك من اختلاط الواصف بالموصوف.
2.مسالك تبليغ المُصطلحات بين تعدد التسمية والمطابقة المفهومية
يُعدّ تدريس اللسانيات العامة وفروعها في الجامعات العربية تمكيناً لسجل مُصطلحات نظرية من النظريات من التداول والشيوع بوصفه انتقالاً مدرسيًا للعلم من خلال نقله من المستوى التنظيري(الكتابة الأكاديمية المنشورة) إلى المُمارسة التعليمية الفعلية، بل إنّه يوشك أن يكون المجال التداولي الوحيد ومنفذ المصطلح الوحيد إلى دائرة الاستعمال، إذ لا نكاد نعثر على تداول للمعرفة اللسانية خارج أسوار الجامعة، وعليه كان من الممكن أن تكون المُمارسة التعليمية مدخلاً رئيسًا لركُون المفاهيم إلى الثبات وعاملاً من عوامل تقييس المصطلحات وتنميطها، غير أن ضعف المُعجمية العربية في مجال وضع المُصطلح اللساني التي تفتقر إلى صفة المُعجم شكلاً ومضمونًا ـــ كما انتهى إلى ذلك خليفة الميساوي17 ــ قد ترك أثره في الدَّرس الجامعي حيث ظهر أثر ضعف الصناعة المعجمية المُتخصصة على التبليغ، وانتقل تشتت الوضع واضطرابه إلى تشتت الاستعمال حال التبليغ البيداغوجي، حيث لم يسلم من ضعف الصناعة تلك المعاجم الصادرة عن المؤسسات والهيئات التي كان التعويل عليها لتوحيد المُصطلح اللساني من قبيل المُعجم الموحد للمصطلحات اللسانية الصادر عن مكتب تنسيق التعريب.
إنّ تبليغ المُصطلح وتوحيده مُتعذر إلا إذا سُخرت له أساليب قولية وطرائق تبليغية لأنّ نقل مضامين المعرفة اللسانية يقتضى من المُبلِغ إدراج تلك المُصطلحات في نصوص أقلها العبارة التعريفية المُصاحبة للمصطلح، ذلك أنّ نقل الوحدات المُصطلحية على هيئة مسارد (فهارس، جداول، سجلاتGlossaires) قد يحرمها من عامل التأثير وتحصيل الإقناع وخلق الميل مما قد يولد نفورا عند الطالب إذ اجتمع مع الطابع التجريدي للخطاب اللساني. فهل الإشكال مفهومي بالدرجة الأولى، كون تحليل لغة العلم تقتضى تحليل موضوع الوصف والجهاز المفهومي الواصف؟ أم أنّ تعدد المداخل المعجمية للمصطلح الواحد قد أفضى إلى انخفاض المفهومية والتشويش عليها؟ وهل تحصيل الانسجام العباري للمصطلحات أيسر من تحصيل انسجامها المفهومي؟ وما المسالك التعليمية الكفيلة بتبليغ عمق المرامي النظرية والإجرائية للسانيات وفروعها؟
1.2.مسلك تكييف المعرفة اللّسانية ومُعالجتها تعليميا
يقوم هذا المسلك على مُعالجة المضمون المعرفي بما يوافق المستوى المعرفي للطالب ومداركه المعرفية إذ من مقتضياته التبسيط والوضوح18والاختصارّ، غير أنّ تدقيق النَّظر في المسألة يظهر لنا انتفاء المفهوم السهل البسيط في اللسانيات بوصفها علمًا مُبدعًا للمفاهيم وساعيا إلى التداول بها، فقد تُفضي المُعالجة التعليمية للمصطلح التي يقتضيها المقام التعليمي(الدّرس الجامعي) إلى الخروج عن مدار الكتابة اللسانية المُوغِلة في التجريد الضروري حتى تُفقده طرافته، وتُفرغه من شحنته المعرفية، وحمولته التصوّرية والمفهومية لاسِيَّمَا المفاهيم ذات الحمولة الابيستولوجية فقد يُشرح معيار من معايير علمية اللّسانيات الحديثة في الكُتب التمهيدية (vulgarisation) المُوجهة إلى الطالب الجامعي من قبيل معيار الاقتصاد (économie) شرحًا مُبسطاً مُخلاً بمضمونه المعرفي، حيث وقع أصحابه في الخلط بين تفادي الحشو والإطناب19 وبين الاقتصاد في المبادئ والأصول؛ أي لم يقع الاحتراز فيه من الخلط بين الاقتصاد في التعبير والاقتصاد في التفكير.
كما أنّ المُعالجة التعليمية قد تؤدي إلى تفاوت لغة النصّ التعليمي في قدرته على التبليغ والإقناع وتحصيل الإفهام بسبب اختلاف خصائصها التمثيلية والتعبيرية من أستاذ إلى آخر، لأنّ النصّ العلمي يكون قد صيغ مُصطلحيا ومفهوميا من قبل العالم مُبدع المعرفة، ثم يُطلب من الأستاذ تحوير المعرفة بما يتناسب ومدَارك الطالب ومراتب فهمه.
2.2.المسالك التداولية
من الشروط الضامنة إحراز التبليغ الفعّال للمعرفة اللسانية استيفاء المصطلحات الحاملة لها أو لغتها (النصّ العلمي) على وجه العموم ضوابط التداول؛ أي أن تكون المُصطلحات حين وضعها وصوغها لغويا وفنياً وحين التأليف بين وحداتها موافقة لأساليب العرب في التعبير وجارية على عاداتهم في التبليغ20 بغية تحصيل المقاصد المعرفية.
ولمّا كان النصّ العلمي نصّا وظيفيا ـــ كما تقدم بيان ذلك في حدّه ووظيفته ـــ فإنّ الوضع لا ينبغي له أن ينفك عن التبليغ إذ لابُدَّ أن يُراعى في الوضع تحصيل التبليغ وإلا كان ضربًا من التجريد المفصول عن الغايات والمقاصد (الإفهامية)، حيث لم تخل النظريات اللسانية الحديثة من المعالجة المُصطلحية21 كما يعضده تاريخ بناء المفاهيم ومكوناتها التصوّرية وانتقاء المُصطلح الحامل لها إذ لا يوضع المُصطلح في وضعه الأول بطريقة عفوية ساذجة، بل إنّ واضعه يعمد إلى معالجته وإعادة صوغه وتحوريه بما يراه ناجعًا في تبليغ مقاصده المعرفية من دقة ودفع للتعارض والاشتراك ودفعًا لكلّ مداخل اللَبس(désambiguïsation) التي قد يقع فيها المُتلقي، فقد أظهرت الدراسات الفيلولوجية للنصوص السوسيرية، على سبيل المثال، عنايته الدائبة بالمجال التداولي حين صياغته لمصطلحاته من قبيل احترازه من إطلاق مُصطلح التجريد(abstraction )22 في منظومته المُصطلحية بسبب المعاني القدحية التي حفت به طيلة قرن كامل من التفكير الفلسفي ومن تلك المعاني القدحية الحافة دلالته على؛ شيء هامشي، غير واقعي.
كما يُعدّ تقريب المفهوم اللّساني إلى الطالب باللغة التي تعودها من لوازم المسلك التداولي لأنّ اللغة الواصفة (المُتخصصة ) لا تتشكلّ في مجملها من مصطلحات مستغنية بأنفسها، بل إنّ جُزءًا منها تابع للغة العادية.
3.2.المسلك المنطقي
يقوم المسلك المنطقي على دعوى تَسويغ النظام المفهومي المُتأتي من سعي اللغة العلمية إلى إحداث النظام (systémaciticité)ـ كما تقدم في بيان حدّها ـ لأنّه كُلما تعلق الأمر بأكثر من مفهوم واحدٍ إلا وتحركت مقتضيات العقل طالبة التماسك والالتئام (cohérence) والوحدة(unification) التي هي من شروط معقولية الخطاب(rationalité)، إذ لا يتعلق الأمر هنا بقيود لغوية محضة، بل بالطرق البنيوية التي تترابط بها المفاهيم.
يترتب على ذلك تقديم المفاهيم في مقام تبليغها تقديماً نظامياً والتأليف بينها وفق ترتيب وتدرج مخصوصين بدلاً من تقطيع أوصالها، ويكون ذلك ببيان الروابط الدلالية الدقيقة بين المُصطلحات، فالمفهوم العلمي لا يكون كذلك إلا حالما يندرج داخل شبكة من المفاهيم العلمية ويلزم من هذا عرض المادة المعرفية على الطالب عرضاً نسقيًا قائمًا على التفكيك والتقسيم مع ضبط العلاقات بين مكوناتها.
ومن المسالك التبليغية ذات المنزع المنطقي مسلك المقابلة التي هي من طرق التعريف والتحديد حيث يُحدد المفهوم بموجبها عن طريق مقابلته بمفهوم آخر كون المقابلة آلية استدلالية تستدعيها مقتضيات التبليغ مثال التقابل التميزي بين مُصطلحات الدعوى، والقضية، وبين مصطلح الحُجّة، ومصطلح الدليل، هذا المسلك الأخير هو الذي يجعل من التعريفات تمييزية.
4.2.المسلك النصّي
يُعدّ هذا المسلك من أنجع المسالك في تعليم الطالب أصول الكتابة العلمية الحاملة للمصطلحات إذ يُلجأ إليه في حصص التطبيقات حيث يُعمد فيها، في الغالب الأعم، إلى اقتباس نصوص من مؤلفات اللسانية التمهيدية أو من المؤلفات اللسانية المُترجمة.
يستمد هذا المسلك أهميته من بيان قصور منهجية التعريف المُباشر للمصطلح على طريقة تعريف المدخل المعجمي وعدم كفايتها، وعليه كان لزاماً عدم الاقتصار على تعليم المسارد المُصطلحية، بل لابُدَّ من تعليم مُصطلحات مُندرجة في نصوصها، ذلك أن تعليمية المُصطلح المندرج في نصه وثيقة الصلة بالقدرة على التداول به وبالكفاءة النصّية للطالب وكفاءته الخَطابية كذلك، وقد يكون الوقوف على خصائص الخطاب اللساني النمطية (typologique) كفيل بأنّ يمدّنا بطرائق إجرائية في تدريسه ونقله، ولا يكون ذلك في تصوّرنا، إلا إذ خرجنا من دائرة الاهتمام بالمُصطلح بوصفه وحدة مفردة إلى دراسة مسالك الاستدلال23 وطرائق الحِجاج ومقاصده في الخطاب العلمي النّظري الذي يقوم على المُسوّغ العِرفاني المُتمثل في وحدة القوانين العقليّة المُولدة للمفاهيم العلمية ووحدة الاستدلالات في العلوم جميعها.
ومن محامد الطريقة النصّية كذلك رجوعها إلى النصّ المُؤسس مباشرة حين تروم التعريف بنظرية من النظريات اللسانية ومصطلحاتها بغية وضع اليد على مقاصدها، لأنّ نقل المُصطلح دون الالتفات إلى السياقات النصّية الأصلية التي ورد فيها في لغة المصدر واستقرائها كلها يفضى إلى مثالب جمة منها اضطراب التصوّر من قبيل مُصطلح (arbitraire) الذي يرد مُقترناً في بعض النصوص التعليمية العربية بـمصطلح " اتفاقي "، إلا أن المُصطلح الذي ينسب إلى سوسير لم يقترن مُطلقا وفي كُلّ السياقات النصّية الأصلية بمصطلح اعتباطي.
الخاتمة
من النتائج التي نخلص إليها في ختام هذه المقال عدم نهوض المُمارسة التعليمية بدورها في رُكون المفاهيم وثَبَاتها التي يلزم منها ثبات المُصطلحات، بل إنّ قضايا الوضع قد انتقلت إلى الاستعمال كون النصوص التعليمية مُستمدّة منها.
على الرغم من كون تعدد المُصطلح اللّساني، الذي لا سبيل إلى إنكاره، عائقًا إلا أنّه ليس الوحيد الذي يعوق سبيل نقل المعرفة اللسانية إلى الطالب فتأثيره الذي هو محور الإشكالية التي انعقد هذا المقال للإجابة عنه يسير ـ كما نعتقد ـ إذا ما قورنا بضعف نقل المفهومية.
كما أنّ النصّ التعليمي قد أصابه الاختلال من جهة الشكل والمضمون على حدّ سواء يضاف إلى وجوه الاختلال كذلك عدم الالتفات إلى السياق الابيستمولوجي للمصطلحات حين نقلها من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف مما يضمن ترجمة مُصطلحية سليمة من قبيل مصطلح "التصنيف" الذي تُرجم ترجمة لغوية حرفية محضة حتى استغلق على الفهم فأضحت عبارة اللغة "مبدأ تصنيفي" لا معنى لها مما أفضى إلى انغماس السِجال اللّساني العربي الحديث في اللفظية التي لا تستوفي المفهوم حقه، فسواء ترجمنا المُصطلح الأجنبي (classification) بمصطلح "التصنيف" أو بمصطلح "التبويب" فإنّ كليهما لا يستوفيان شرط المُطابقة المفهومية لأنّ مقصود سوسير بالمصطلح هو قابلية الفهم (comprehension).
لقد توّلد عن التوسيع المفرط في المصطلحات التضخم والتكرار والتضارب والعشوائية حتى استغلق النصّ التعليمي على الطالب فأضحى المُقابل الأجنبي المُصاحب له مفتاح الفهم الوحيد فأصبح من السمات النمطية للكتابة اللسانية العربية الحديثة من جهة الشكل إذ يجد الأستاذ نفسه بوصفه وسيطًا في نقل المعرفة في خضم هذا التوسيع المُصطلحي المفرط حائراً في انتقاء المُصطلح العربي الأنسب؛ حُر، اعتباطي عشوائي، تحكمي، تعسفي، جزافي مقابلاً لــلمصطلح الفرنسي: (arbitraire).
لعل تسخير آليات المحاجَّة العلمية التي ينبغي عليها أن تستند إلى أصول وضع أسماء المفاهيم وتقويم ما سبق وضعه بميزان التداول هي السبيل إلى تحصيل الإجماع المُصطلحي والمطابقة المفهومية، فلا سبيل إلى توحيد المُصطلح إلا بقيام مُصطلحية عربية كاملة الأركان تأخذ على عاتقها الضبط الدلالي والتعريف المفاهيمي الدقيق والتقييس المُصطلحي المضبوط.