المقدمة
يتخذ العنف ضد المرأة مظاهر شتّى كالعنف المادي والثقافي والنفسي واللغوي والايديولوجي والديني والجنسي، وكذا العنف الرمزي الذي يتستر خلف منظومة ثقافية واجتماعية وعلمية وإن بدت طبيعية، مما يشكل خطورة حقيقية على هوية المرأة العربية وبناء ذاتها. ويعتبر الخطاب الروائي النسوي مسرحا أدبيا يعكس واقع الحياة، ويجسد مظاهر العنف الموجه ضد المرأة باعتبارها من الفئات المهمشة والمقهورة مقارنة بالطرف الآخر الذي يساهم في تشكيل نسق ثقافي يرسخ هيمنة الذكر وسيطرته. وتركز دراستنا على الرواية العربية المعاصرة من خلال تقديم مجموعة من النماذج التي تشكل بيئات اجتماعية وجغرافية عربية متنوعة، بغية تقديم صور لمعاناة المرأة العربية وإن كانت في الحقيقة مجرد لمحة تقريبية وتوضيحية. ولهذا فقط وقع اختيارنا من المغرب العربي على ثلاثية الكاتبة « فضيلة الفاروق » (تاء الخجل، مزاج مراهقة، اكتشاف الشهوة) ورواية (إني وضعتها أنثى) للكاتبة « سعيدة تاقي ». أما فيما يخص المشرق العربي، فقد اخترنا كلا من رواية : (كبرت ونسيت أن أنسى/بثينة العيسى) و(لم نعد جواري لكم/سحر خليفة) و(نساء. ولكن !/نور عبد المجيد) و(سلطان وبغايا/هدى عيد).
وتثير ظاهرة العنف الموجه ضد المرأة، جملة من الإشكاليات والتساؤلات التي يمكن حصرها في ماهية هذا العنف وطبيعته وأنواعه، وهل هو نتيجة ضغوطات نفسية واجتماعية ومرضية أم هو طبيعة ذكورية لصيقة بالرجل؟ ثم ما مصدر هذا العنف، هل هو عنف أسري من الأب والأخ والزوج؟ أم هو ذو تأثير مجتمعي كالشارع ومكان العمل والمؤسسات؟ وهل العنف المسلط على المرأة في المشرق العربي هو نفسه في المجتمعات المغاربية؟ أم تلعب الفوارق الاجتماعية والحياتية والثقافية دورا في تفاوت حدة العنف أو تماهيه؟ كيف تجلت لغة الكاتبة العربية في رصدها لظاهرة العنف ضد المرأة؟
تهدف دراستنا إلى الإجابة عن الإشكاليات السابقة، إضافة إلى إماطة اللثام عن ظاهرة العنف انطلاقا من المدونة المختارة، ووصولا إلى مساحات أدبية واجتماعية يكملها القارئ المتلقي، على أمل إحداث نقلة نوعية على حياة المرأة، وكسر زمن من الهيمنة والاضطهاد.
1. العنف المادي والجسدي
1.1.المرأة بين ثلاثية الضرب والاغتصاب والقتل
تناولت الكاتبة العربية عبر نصوصها الروائية قضايا المجتمع وهواجسه، فتحدثت عن الوطن المُستعمَر والرجل المستبد والمرأة المغتصبة... إلخ. وقد حظيت قضية المرأة باهتمام كبير، عندما أعلنت الكاتبة ثورتها على الهيمنة الذكورية والممارسات العنيفة والمخيبة للآمال، كما يتمثل في النصوص المختارة، والتي تعج بالممارسات العنيفة، كالعنف الجسدي واختراق حرمة جسد المرأة بالتحرش والاغتصاب، حتى تصل في بعض الأحيان إلى القتل وإزهاق روح المرأة. وإذا كان « قتل الأنثى هو اللمسة الختاميّة لثقافة أبويّة- ذكوريّة راسخة تغلغلت في ثنايا الفكر، بما فيه الفلسفيّ، فمن المألوف أن نخمّن عمق الكراهية في التقاليد والممارسات الشعبية ضد النساء »1. وقد انعكست هذه المشاعر السلبية في جملة من السلوكيات التي أحدثت خللا في نظام العلاقات بين المرأة والرجل.
عمدت الكاتبة « فضيلة الفاروق » في رواية (تاء الخجل) إلى تعرية الرجل، وكشف جرائمه في حق المرأة والمجتمع، لتظهر صورته أكثر وحشية ودموية في التاريخ، حيث صورت الرجل في صورة الإرهابي، هذه الفئة التي شكلت هاجسا كبيرا عانت منه الجزائر، إلاّ أن معاناة المرأة معه كانت من صنف آخر، حيث تنوعت أساليب العنف والاستبداد الذي مورس ضدها، من اختطاف وتعذيب وقتل. تروي لنا « يمينة » تفاصيل اختطافها ومعاناة الأم حيال ذلك فتقول : « ليلة جاء الإرهابيون عندنا، توسَّلتُهم، قبَّلت أرجلهم أن يتركوني، ولكن أحدهم ضربها ببندقية على رأسها فسقطت مغميا عليها.. »2. إضافة إلى العنف الخارجي الذي تلقته « يمينة » ووالدتها بسبب التحاق شقيقها بصفوف الجيش، هناك عنف داخلي أكثر قسوة وجفاء، فالوالد يرفض عودة ابنته إلى أحضانه بعد ما تمّ تحريرها، ونقلها إلى المستشفى جراء النزيف الذي تعرضت له. تقول « يمينة » : « أخبرني الضابط أن أهلي رفضوا استقبالي من جديد.. أنكر في البداية أنه له بنتاً »3. يختفي وراء نكران الأب لوجود ابنته ثقافة ذكورية تحط من قيمة الأنثى وتلغي وجودها ككل، فمجرد تفكير الأب في حادثة اختطافها واغتصابها ومستقبلها المظلم يضعها في خانة النسيان. تولي الكاتبة هنا الأهمية البالغة لموضوع عذرية الفتاة الذي يعتبر في نظر الرجل والمجتمع علامة على شرف المرأة وحسن أخلاقها، فلا يهم كيف فقدت عذريتها؟ ولا كيف مورس عليها العنف؟ فالقاعدة الرئيسية : امرأة بلا عذرية، امرأة بلا حياة.
تعددت صور العنف التي خلّفها الإرهاب في ذاكرة ضحاياه : « آثار تعذيب، خدوش، وبقايا جروح»4 ودم ينزف حتى الموت. هكذا كانت نهاية « رزيقة » بعد اختطافها واغتصابها، وبقيت صورتها عالقة في أذهان من كانوا حولها : « كانت أجملنا، لهذا أخذها الأمير لنفسه، لكنها قاومته مثل وحشة.. القذر استعان برجلين واغتصبها أمامهما »5. يشير هذا النص إلى أهمية جسد المرأة من منظور ذكوري، فهو وعاء لتفريغ شهواتهم ونزواتهم وإرضاء ذواتهم المريضة، دون مراعاة لمشاعر الأنثى وأنينها ورغباتها. كما يصور وحشية الذكورة وعنفها اللاإنساني. بلعبة الكلمات واختزال الجمل والعبارات، توصل الكاتبة صوت هذه الفئة الهشة، وتبوح بجراحاتها عبر معجم دلالي مثقل بالدلالات العنف والحزن : (اغتصاب، جروح، موت، قتل، رفض، نكران ...).
تزداد صورة الرجل عنفا وقساوة في بعض النصوص، إذ تنقلنا رواية (سلطان وبغايا) إلى عالم آخر يبرز فيه عنف الرجل، وفساد الحكم، وانعدام الأخلاق لتغدو صورة الرجل مزيجا من الانحرافات السابقة. تُبرز قصة « حسيبة » الجانب المظلم من المجتمع اللبناني والأثر الذي يخلفه كل ما سبق على حياة المرأة. إنّ العلاقة التي ربطت هذه الفتاة بالرجال الذين صادفتهم في حياتها البائسة، كانت علاقة اضطهاد وعدوانية، بدءا بالوالد الذي تخلى عنها مثلما تخلى عن والدتها سابقا، لخدمة سيده العميد وهي دون الخامسة عشر، لتكون المرحلة التي قضتها في خدمة هذه العائلة مرحلة قاسية ودامية، مليئة بالتحرشات الجنسية والاغتصابات التي كانت تطالها من العميد وابنه وسكان الحي. يقول أحد جيرانها : « تتعرض حسيبة المسكينة كل يوم للضرب حتى أصبح الجيران يُحرمون النوم بسبب صراخها وعويلها.. كلما انفرد بها أحدهم ينهال عليها ضرباً وركلاً »6. تشير معظم الألفاظ الموجودة في هذا الخطاب إلى الألم والعذاب ومسبباته، وتنطوي تحت الحقل الدلالي للعنف، والذي يكشف عمق المأساة التي تلقتها الطفلة، وقد عمدت الكاتبة على تكرار لفظة العنف والاغتصاب والضرب.. إلخ، في محاولة منها لتأكيد على معاناة المرأة والحيف الذي يطالها، ومنددة به ومستنكرة له، وهي بذلك تعري الواقع المزري للنساء من جهة وتجيّش الملتقي للدفاع عن أطروحاتها، وهي خاصية تميز بها قلم الكاتبات العربيات لتأكيد رؤيتهن ونظرتهن في قضية الهيمنة الذكورية وامتهان كرامة المرأة. الكاتبة لا تضع حداً لأوجاع الطفلة ومعاناتها، بل تستمر في ملئ مساراتها بالمكائد حتى تنتهي إلى عالم الدعارة والفسق. نسجل هنا عنفا جسديا وماديا متوارثا ينتقل من الأب إلى سيد العمل وعائلته والمجتمع بأكمله، فالمسار المكاني والزماني للعنف ضد الأنثى انطلق أساسا من داخل الأسرة في وقت مبكر من حياة الطفلة.
كما رصدت الكاتبة « هدى عيد » صورا أخرى لتعنيف المرأة واستغلالها الجسدي والمادي، بحيث تطرقت إلى قضية الدعارة في لبنان، وكيف يتم خطف الطالبات، ثم تخديرهن، فاغتصابهن والمتاجرة بأجسادهن بعد جعلهن يدمن المخدرات. تقول إحدى الضحايا : « كنت أنا من نصيب سلطان بالدرجة الأولى، فريسته التي اصطادها، يفعل بها ما يشاء، كل ما يشاء حتى يؤجرها لسواه وقتا دون أن يكون لدي القدرة على الاعتراض، أجبرني مرتين على الإجهاض.. »7. تمّ تشييئ الأنثى وتحويلها إلى جماد غير قادر على الدفاع عن نفسه، إنها سلعة تباع وتشترى وتؤجر بدافع المتعة وإطفاء شهوة الجنس، وقد استعملت الكاتبة أسلوبا ساخرا بتوظيفها للفظة (التأجير) لتشير إلى اتساع الهوة بين جسد الأنثى وذاتها، كما وظفت لفظة الاصطياد لتوصيف المرأة كإنسان ناقص ومواطن من درجة أقل فالكلمة تستعمل للحيوان وبذلك تسم المرأة بالدونية…
أما رواية (لم نعد جواري لكم) للكاتبة « سحر خليفة »، فقد صورت لنا قسوة الرجل على المرأة، حتى تسيطر صورة الأب العنيف مع الأم على مخيلة الطفلة « سهى »، وتصاحبها تلك الصورة مدى الحياة، حالة الحزن والغضب أصبحت ملازمة لها ومرادفا لشخصيتها : « كنت أظن أن حزني سيتوقف حين يتوقف والدي عن ضرب أمي وعن السكر، وتوقف والدي عن ضرب أمي لا لأنه تاب، بل لأن الله أخذه إليه.. وظللت أنا حزينة »8. تتعمد الكاتبة تكرار لفظتا (الحزن، الضرب) في هذا المقطع وتربط بين الشق النفسي والجسدي للألم لتكشف صدمة العنف التي علقت بذهن الفتاة، والتي كانت ردعا لها ومرجعا يمنعها عن اقامة أي علاقة رسمية مع الرجال، فهي ترفض مؤسسة الزواج وتضع صورة والدها نصب عينيها كندبة مر بجوارها الزمن، شامتا غير آبه بالتشوه الذي أحدثه في ذاتها كامرأة تبحث عن الأمن والأمان ولن تجده.
كما تتكرر قسوة الأب الذي يلجأ إلى العنف الجسدي في رواية (نساء ..ولكن !)، حيث تتفنن « نور عبد المجيد » في رسم صورة الرجل المصري وهي مزيج من الفقر والعنف والجهل واللاوعي. شخصية « الأسطى حسين » عينة يتوجب الوقوف عندها، إذ تتعرض « عزيزة » إلى الضرب المبرح، لأن والدتها تحرضه عليها في كل مرة ترفض لها طلبا : « لم يسمعها أبدا وهي تقسم وتحكي وتبكي.. كان يجلدها ودمعة صغيرة تترنح بين عينيه، تعب من حمل فرشاة الدهان ومن تسلط الأسياد وقهر الزمان.. كان يضربها في قسوة ودون وعي »9. وعلى هذا المنوال، أصبحت « عزيزة » ضعيفة ويائسة، ترضخ لسلطة الأب المغلوب على أمره، وسلطة العجوز المستبد؛ سيدها في العمل، ووراء كل هذه الأحداث المترابطة، نجد الروائية تؤكد أن سلطة الفقر هي السلطة العليا التي تحرك معظم أحداث الرواية، وتتحكم في مصير شخصياتها، والعنف الجسدي الذي عانت منه « عزيزة » كان أحد أوجه الفقر والجهل والبطالة، فإذا كانت هذه الفئات الهشة والمهمشة عرضة لكل أنواع الإقصاء والتهميش والتعنيف فإن المرأة أشد تعرضا للعنف. كما تشير إلى غياب لغة الحوار بين الأب والبنت. وبطريقة غير مباشرة، تقدم الكاتبة مبررات للعنف الأسري عبر إشارتها إلى حالة الأب النفسية والمادية والمرضية، وقد جعلت الأب يبكي من شدة الضغوط الذي يعيشها، وهنا يبرز السؤال الملح : هل العنف ذو منشأ اجتماعي كرسته الحالة الاجتماعية التي يعيشها الأب أم أنها متأصلة فيه وبرزت بمجرد تعرضه للضغوط؟
إن الحديث عن العنف المتعمد والمألوف من الأب والأخ، يكاد يلامس بؤرة التوتر في تاريخ العلاقات بين كل من الرجل والمرأة. ففي رواية (اكتشاف الشهوة) تعيش البطلة « باني » في أسرة مليئة بالقسوة والعنف الجسدي الذي يلاحقها منذ نعومة أظافرها، إلى غاية زواجها واستقرارها بباريس، كظل وقدر محتوم لا مفر منه. تروي « باني » بداية قصتها مع الأرق منذ سن الرابعة عشر، عندما رآها شقيقها « إلياس » تقف مع أبناء الرحبة، تقول البطلة : « عاد إلى البيت هائجا كثور مجنون، وأضرم النار في سريري... وقد وقف والدي أمام فعلته مديد القامة فخورا وقال له أمام الجميع : في المرة القادمة عليك أن تحرق السرير حين تكون نائمة عليه »10. يرسخ توظيف الكاتبة للجنون والهيجان أن العنف سلوك غير سوي وليس من الطبيعة البشرية في شيء، لذلك استعملت في تشبيهها للأخ بالثور، فكلاهما هائج في سلوكه وتصرفه مع الطرف الثاني. كما أن تشجيع الوالد لهذا الفعل ومباركته، يكشف لنا عمق الاضطهاد الذي يمارس على الأنثى، وتمكن السلوكات العنفية من البنية الاجتماعية المتوارثة بشكل متواتر ومتفق عليه. ف « إلياس » و« باني » كانا شاهدين على عنف الأب المسلط على الأم، وبهذا يصبح العنف الجسدي وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي بين أفراد الأسرة، وأداة للتعبير، ولتمرير الأفكار، فلغة الجلاد أصبحت مفهومة ومقبولة عند الأنثى التي اعتادت عليها.
لقد عملت الكاتبة العربية على إبراز نماذج متعددة للعنف الجسدي، مع اختلاف الأطراف الموجهة لهذا العنف؛ فنجد الرجل يمارس عنفه الجسدي على الأم والأخت والزوجة وأخت الزوجة والنساء الغريبات عنه. وهي ظاهرة استفحلت بكثرة في الوسط الذكوري، وتَعدّت الروابط العائلية إلى الروابط الاجتماعية؛ كما أنها لامست جميع طبقات المجتمع ومستوياته؛ فالغني والفقير والمثقف والجاهل لا فرق بينهم في ممارسة العنف الجسدي، مما يؤكد أن الكاتبة العربية قد لامست بؤرة التوتر المجتمعي، بإثارتها لهذه الظاهرة العدوانية التي تُسبب خللا في التواصل والحوار، وزيادة الهوة بين الرجل والمرأة.
2.1. تقييد المرأة وسجنها
تميزت النصوص محل الدراسة بثورتها العنيفة لا على الأعراف الأدبية السائدة فحسب، إنما على كل المؤسسات الذكورية، وهذا ما نكتشفه بين ثنايا النصوص التي تعج بالأمثلة حول سلطة الرجل، هذه السلطة التي قيدت المرأة وحجبتها عن كل الممارسات التي تساعد في بناء هوية أنثوية متحررة، فكان يصر دائما على ابقائها حبيسة لرغباته ورؤاه. نجد الشخصيات الأنثوية في متوننا الروائية كثيرا ما تثير مثل هذه القضايا، بل يمكن التأكيد أن معظم الهواجس التي تعاني منها الأنثى لا تخرج عن فعلين اثنين هما : (منع وارغام).
يسيطر صوت الأنثى على سرد الأحداث وتقديم الشخصيات والتعبير عن عمق مأساة المرأة وهي تعيش على الهامش، بحيث تستعمل حواسها فقط لتنفيذ طلبات الرجل بشكل آلي ومستمر، أصبحت مبرمجة داخل قالب لا يمكنها تجاوز حدوده. إنّ هذا القالب هو « ثمرةُ ثقافة ذكورية لا ترى إلى المرأة بوصفها كياناً إنسانياً مستقلاً ذا حرمة، بل هي موضوع تسخير خاضع لسلطان الرجل المادي والمعنوي ! »11 ، كما جاء في رواية (إني وضعتها أنثى) على لسان الساردة وهي تغوص في أعماق البطلة فتقول : « كانت تحس ذاتها مثل تلك النباتات الطفيلية التي كانت تقتلعها أمها بقسوة لتخلو لمشاتلها الحياة.. موجودة على هامش الأصص الكثيرة دون مغزى ودون حافز.. وتترقب أن تعيش على حواشي حياتهم لتتأمل ما يفعلون »12. وبذلك يتعمق إحساس الأنثى بالضعف والاحتقار مما يولد لديها عقد نقص تجاه الرجل، وقد وظفت الكاتبة ألفاظا تعبر من خلالها عن هذه الحالة مثل : الطفيلية/هامش/ حواشي.. وهي انتقائية قصدية للمفردات تحيل إلى معجم دلالي واحد، فالبطلة تشبه نفسها بالنباتات الطفيلية التي لا قيمة ولا نفع لها، فيكون مصيرها الزوال والموت. كما ركزت الكاتبة على توظيف الصور البلاغية والمجازية في التعبير عن حياة « مهدية » ومراحل فقدانها لحريتها بشكل تدريجي وصولا إلى سجنها السرمدي. بهذا الشكل رسمت صورة الرجل التي نراها دائما منعكسة على الأنثى؛ ويأتي هذا الانعكاس في سلطته المشبعة بالأوامر والنواهي، والقيود والحدود. تُمنع بطلة هذه الرواية من إكمال دراستها وهي البنت الوحيدة بين الذكور، لأن والدها وإخوتها والمجتمع يرون أن الدراسة والعلوم هي من نصيب الذكور، ويكفيها المستوى الابتدائي الذي يؤهلها لإدارة شؤون حياتها : « تستطيع أن تتلو القرآن وأن تحفظ آياته بمفردها.. يمكنها أن تزاول أعباء البيت وتتعلمها استعدادا لمسؤولية الزواج.. »13. إن هذا الظلم والحيف الذي فرض على « مهدية » ليس غريبا عن الأنثى بصفة عامة؛ فهو له أبعاده الزمانية والمكانية والرمزية والمستقبلية أيضا، كما له علائقه المختلفة وطقوسه التي أصبحت تستقبل بنوع من التقبل والخضوع، مثلما حدث مع والدة البطلة « مهدية » التي استكانت لرغبات الزوج وقيوده حتى صارت ترى بأن حرية المرأة جريمة. فالمجتمع البطرياريكي الخاضع لسلطة الأب يلغي وجود المرأة من خلال الوأد الرمزي لها وترسيخ قيم الدونية في ذاتها محاولا فرضها بالقوة للحفاظ على وضع قائم منذ قرون.
كما يمكن أن يكون جسد المرأة هو معيار لتقييدها والحد من حريتها، فكلما ظهرت معالم أنوثتها اشتد الحصار عليها، مثلما حصل مع « مهدية »، عندما تكاثفت النظرات الغامضة لها، ما اضطرها إلى اخفاء معالم أنوثتها بشريط قطني وهي في بدايات التكون، خوفا من الخطوط الحمراء التي سترسم حولها وتزيد من الخناق عليها، يقول السارد : « ودّت في اللحظات الأولى لإدراكها حجم اللعنة التي أصابت جسدها لما أعلن هويته، ولو أمكنها أن تراجع أحدهم ليتيح لها جسدا يشبه أجساد إخوتها »14. يتحول جسد المرأة بفعل العقلية الذكورية إلى مصدر خوف وعنف مرتقب، يجعل الأنثى في صراع دائم مع ذاتها محاولة طمس هويتها وشكلها الخارجي في سبيل أن تحظى بالقليل من الحرية والطمأنينة قبل أن ينتهي بها المصير؛ كما يرى « نصر حامد أبو زيد » إلى « الوأد داخل اللباس الأسود المغلق تماما إلا من فتحتين للعينين »15. ومن هنا أصبح الجسد في عرف الكاتبة العربية « موضوعا للسرد، وموضوعا للوصف وموضوعا للاستذكار، والاستباق والاستفهام، وموضوع للغة أيضا »16. لأن كتابة الجسد منفذا تحاكم من خلاله الروائية المجتمع، وتحقق ذاتها من خلال تبنى الرؤيا النسوية للعالم، وتتحول من مجرد موضع إلى ذات فاعلة مؤثرة ولو سلبا من خلال مواقف يشجبها المجتمع الذكوري لكنه يخضع لسحرها وتأثيرها.
تتكرر الممارسات العنيفة على الأنثى في كل المواضع السردية؛ حتى لا يكاد يخلو مقطع سردي من التعنيف والتقييد. في رواية (كبرت ونسيت أن أنسى) تُلغى رغبات البطلة وتسحق هويتها، فولي الأمر لا يتردد في تذكير أخته اليتيمة بأنها عورة وعبء، ولا ضرورة لها في إكمال تعليمها الجامعي لأن طلب العلم والوظيفة في مفاهيمه لها علاقة بالمال فقط، وليس لها جوانب أخرى تتعلق بتثقيف المرأة وتطوير معارفها وبناء ذاتها الأنثوية حيث يخاطبها باللهجة المحلية قائلا : « .. إنتي بنت وبيجيك إللي بيصرف عليك.. »17. أما عندما تتمرد « فاطمة » على أوامره وتواصل الدراسة وكتابة الشعر، فيزج بها في سجن لعشر سنوات كاملة. تصف البطلة المكان الذي أصبح مأواها بعد وفاة والديها قائلة : « يده تحاصر عنقي.. ينتصب خلفي مثل جدار مستحيل، ينزل بي إلى السرداب.. كان قلبي ينتفض هلعا مع كل درجة تأخذني إلى الأسفل.. إلى المكان الذي شرع فاه لابتلاعي »18. يتحول البيت في نظر « فاطمة » من مكان يرتبط بمعاني الحماية والاستقرار إلى بؤرة للخطر تهدد بقاءها وتُحول حياتها إلى جراح أكثر توهجا، وما السجن إلا المجتمع الذي أحكم إغلاق أبواب الحرية في وجهها، وأصبح غولا يهدد كيانها، وما المكان إلا انعكاس لشعورها الداخلي الذي أجبرت على عيشه، ومن هذا المنطلق فالأنثى تعيش سجنها الدائم كما يصوره المثل الشعبي : من بطن أمها إلى بيت زوجها إلى المقبرة، سجن يفتح على سجن وكلما تاقت إلى الحرية كبلها قيد الأعراف والتقاليد التي تراها عورة وفضيحة مرتقبة.
لكننا نجد البطلة تبالغ في ذم حاضرها ومستقبلها بكثير من السخط، حيث تقول : « أمامي زنازين كثيرة. كل يوم زنزانة. كل زنزانة تفضي إلى أخرى.. أعرف بأن المستقبل مجرد حذاء يدوس على وجهك إلى الأبد »19. وليس هذا الحذاء الثقيل إلا الأعراف التي تكبّلها، تريد الكاتبة أن تكشف على لسان بطلتها بأن السرداب الذي فرضه « صقر » على أنثاه هو بداية لمجموعة من السراديب التي لا تنتهي في عالم المرأة، وهي إشارة للمجتمع بكل مؤسساته التي تخضع للسلطة المطلقة في كبحه للذات الأنثوية، التي لا تجد طريقا أفضل من العنف الجسدي واللفظي والنفسي، بصورته البدائية20.
لقد صورت الكاتبة العربية تمادي الرجل في سحق هوية المرأة، حتى ليحول دون تواصلها مع بيئتها ومحيطها الاجتماعي، فتغدو حالها أسوأ من حال السجين، وتتحول الأشياء والجماد والعالم وكل ما حولها إلى رموز؛ المرأة فقط من تتقن حل شفراته. في رواية (إني وضعتها أنثى) تضع الأم رقابة مشددة على ابنتها بوصية من والدها وإخوتها الكبار، لتتحول يوميات « مهدية » إلى أحلام يقظة تبني فضاءها خارج أسوار المنزل، ويصبح الباب الخشبي الكبير هو الحاجز الذي يفصلها عن الحرية، ويصبح متنفسها الوحيد هو مساعدة والدتها في غسل الملابس، لكي تحظى بفرصة للصعود إلى سطح المنزل والتمتع بزرقة السماء. حيث تقول : « كان نشر الغسيل وحباله، حبلا يربطني بالحياة التي تجري خارج البيت في غفلة من ركوده »21. وما اختيار رمزية الغسيل إلا دعوة للعودة للنقطة البدء ونبذ كل ما علق بالإنسانية من أدران القوانين المجحفة التي وضعها الرجل تمييزا لجنسه، وبذلك تكون السماء انتصارا للطبيعة التي لم تنتصر للرجل ضد الأنثى بل ساوت بينهما حين جعلت الحياة مصيرا مشتركا بينهما، لذا تدعو الكاتبة بطلتها إلى التمسك بالأمل والحياة.
3.1. الأنثى الفضيحة. الزواج الخلاص
يعتبر موضوع « إجبار الأنثى على الزواج » من أكبر المواضيع التي تعرضت لها الكاتبة العربية في هذه النصوص السردية، ويمكن أن نعتبرها كمرحلة حتمية مرت بها البطلة في حياتها، لأن معظم الشخصيات الأنثوية قد تعرضت إلى هذا النوع من الضغوط، وهذا انعكاس لرؤية الكاتبة/الأنثى، وترى الناقدة « سوزان جوبار » بأن شعور المرأة بأنها هي النص يعني أن المسافة قريبة جدا بين حياتها وفنها» 22، فاللغة تعكس آلام الذات وجراحها وآمالها وأمانيها، وتتسرب عبر ثقوب ذاكرتها ذكريات الماضي وأحلام المستقبل، فنراها ترصد مراحل حياتها، وكيف تنتقل المرأة –بصفة عامة- من سلطة الأب والإخوة إلى سلطة أكثر منها بطشا، وعلى هذا الأساس َتغيب ذات المرأة وتفقد هويتها وهي تنتقل من وصاية إلى أخرى، ففي رواية (إني وضعتها أنثى) يقوم إخوة «مهدية» بإرغامها على الزواج من رجل سلفي بعد وفاة والدها، دون مراعاة مشاعرها ولا الأخذ برأيها. فتخضع لقرارهم بعد فترة طويلة من المقاومة والعناد تاركة كل طموحاتها وأحلامها التي كانت تسعى إليها. تقول البطلة وقد منحها السارد حق التعبير عن ذاتها : «أسرعوا حينها في عقد اجتماعاتهم وتكبيل خطواتي بكل القيود المحتملة، إلى أن اهتدوا إلى انتقاء زوج لي على معاييرهم.. قاومت طويلا، هددت بالانتحار...فاستقووا بكثرتهم.. ونقلوني من ملكيتهم إلى ملكية صهرهم، فكنت امرأته، دون أن يكون زوجي» 23. من أقسى أنواع العنف النفسي تشييئ الأنثى وتحويلها إلى سلعة يتم تداولها بين ذكور المجتمع، وتستنجد الكاتبة بجملة من المفردات للتعبير عن العنف الذي يلحق الأنثى، ويطغى الحقل الدلالي المعبر عن الألم والعذاب والعنف : (تكبيل/القيود/الملكية/التهديد /الانتحار...). كما يشير هذا الخطاب إلى عدة نقاط أساسية، وفي اجتماع هذه النقاط مع بعضها البعض يكون وأدُ المرأة وسحق هويتها، لما تنتقل من ملكية العائلة كجسم أو كأي شيء آخر، إلى ملكية رجل آخر يشعرها بأن جسدها ملكه وحده. تُعلق البطلة «مهدية» على وضعها الجديد قائلة : «كان يتركني بمفردي في عزلتي.. يقفل الباب بالمفتاح الوحيد الذي يملكه، كي يملكني معه ويمضي مزهوا ...ليفتح باب مخدعي وهو يستخدم المفتاح الذي يملكني به في جيبه» 24. وما المفتاح إلاّ القوانين التي سنها الذكر للحكم خناقه على عنقها ويستغل جسدها، فيشبع رغابته دون رضاها مادام يملكها كأي شيء في البيت. تؤكد الكاتبة عبر قصة «مهدية» على سلطة المجتمع الأبوي، الذي يعتقد بضرورة تقييد المرأة، والتحكم في حياتها بصفتها شخصا غير قابل للتفكير، واختيار القرارات الصحيحة التي تؤمن لها حياتها، وبهذا فهي تظل عبئا على الأب والإخوة حتى يأتي من يستر عورتها، وينقلها إلى ملكيته لتصبح تابعة له وراضخة لقوانينه.
نجد تعنيف المرأة في الخليج العربي لا يختلف عن غيره، لأن الرجل يمارس قراراته التعسفية بشكل متوارث. فإرغام المرأة على الزواج أصبح عرفا في قاموسه، حيث صورت لنا الروائية« بثينة العيسى» نموذجا عن الرجل الكويتي الذي يُخضع المرأة لقراراته كما هو سائد في المجتمع. يحاول «صقر» في المرة الأولى تزويج فاطمة من رجل أربعيني؛ وقع عليه اختياره بشكل عشوائي، وفي محاولة لجمعهما مع بعض يقول له : «أختي تربية أيدي وتبي الستر» 25. يحتوي هذا الاستشهاد على أكثر من خطاب، حيث تشير الكلمة الأولى (أختي) إلى خطاب اجتماعي مفروض، أي أن المنظومة الاجتماعية تجبر الرجل على عدم التلفظ باسم الأنثى سواء كانت أخته أو والدته أو إلى غير ذلك من نساء عائلته، أما المستوى الثاني (تربية أيدي) فهو خطاب ديني اجتماعي يؤكد على أن هذه الأنثى مستكينة لهيمنة الرجل وراضخة له، والمستوى الثالث هو خطاب متعدد الأوجه وموغل في الأيديولوجية الذكورية، والذي يؤكد على أن الأنثى/عورة في نظر المجتمع بعدما اكتملت أنوثتها، وبذلك وجب تزويجها وعرضها على مختلف الرجال أيا كانت وضعياتهم.
أما في رواية (تاء الخجل) فيتحول الزواج إلى صفقة تسكت بها أفواه المجتمع. هذا ما حدث مع البطلة «خليدة» التي انتقلت إلى المرحلة الجامعية في ولاية قسنطينة، فأصبحت تلاحقها الأعين وتحاك ضدها المكائد، ما جعل رجل السلطة في عائلتها الكبيرة، يقرر تزوجيها بواحد من أبناء عمومتها؛ ويتوقف الأمر طبعا على الشاب الذي يقبل الارتباط بها. وقد وضع هذا الزواج شرطا لعودتها إلى مقاعد الجامعة، وفي هذا الصدد تقول : «...لكنني لم أعبأ به، حملت حقيبتي وعدتُ إلى قسنطينة، بقيت هناك...» 26. تختار البطلة «خليدة» طريق التمرد وعدم الانصياع وراء قرارات رجل العائلة فهي (لم تعبأ به)، تستصغر الكاتبة الرجل عبر لغتها المتمردة وتقطع عنه خيوط الحكي، تظهره متى شاءت وتعلن تمردها عليه وعلى المجتمع إذا حاول تقييدها. هكذا «استلمت المرأة مهمة السرد والحكي واسترجعت ضمير الأنا لتخلق لها أدوار جديدة ضمن المتن السردي، وحلت الأنا الأنثوية محل الـ« الهو » الذكوري» 27.
كما تطالعنا رواية (سلطان وبغايا) بقصة «حسيبة» التي أجبرها والدها على الزواج برجل في سنه، وهي «فتاة لازالت تتبول في فراشها» 28، ولكن تدخل خالها حال دون تحقيق ذلك، ومع هذا، استمر الأب في سحق هويتها وتدمير مستقبلها، لأنه يكره الإناث ولطالما حلم بأن يرزق بولد يخلصه من العار الذي لحق به. وما ذلك إلا إقرار بتراتبية المرأة ومعاملتها كإنسان ناقص ليس له حق التصرف في نفسه ولا حتى التفكير في مستقبله الموكل لغيره. أي أنّها تتموقع دائما في مرتبة التابع والملحق للرجل، فمهما بلغت من علم أو حازت من رتب لا بد لها من رجل يأخذ بيدها ويبين لها المسالك التي ينبغي السير فيها، ويضع لها الحدود والخطوط الحمراء التي لا يجوز أن تتجاوزها، لأن (نقصها الفطري) لا يؤهلها لسيادة نفسها.
4.1. الأنثى عورة.. ارغام على الحجاب
تستمر السلطة الذكورية في محاصرة كل ما هو جميل واستثنائي في المرأة، فهي تعمل على تشكيل الذات الأنثوية وفقا لهوى ذكوري يحدد لها سلفا الثياب التي يسمح لها أن ترتديها، حيث يرغمها في معظم النصوص السردية على ارتداء الحجاب. تصور رواية (مزاج مراهقة) حجم الكارثة التي لحقت بالبطلة عندما أرغمها والدها على ارتداء الحجاب مقابل دخول الجامعة، وجعله شرطا أساسيا لا مجال للنقاش فيه، حيث تقول : «لم أعد أفهم من تكون تلك التي تقف أمامي، قد تكون الفتاة الأكثر قبولا لدى الآخرين. لا يليق بها ذاك الطموح الفاجر الذي أخفيه بين الضلوع، كأن جنوني في الحقيقة ينام تحت ذلك المنديل.. » 29. تربط الكاتبة موضوع الحجاب بالسجن أو القيد، لأنه فُرض على «لويزة» من قِبل سلطة العائلة لكي يمنعها في اعتقادهم من التحرك في الاتجاه الآخر، وليس قناعة نابعة من ذات البطلة، وعلى هذا الأساس، تصبح إلزامية الحجاب في هذا النص له دلالات رمزية مرتبطة بالسلطة الرجل، وهو «ضبط حركة الجسد وفق منطق معين، تتسم من وجهة نظر المجتمع بالاتزان والوقار» 30، ولكن جسد البطلة لا يحتمل الضوابط والأشكال ويريد التحرر عليها، فشخصيتها الطموحة والمتمردة والمنطلقة ترغب في الانفلات من هذا الشكل المفروض والذي يرمز إلى منظومة ثقافية ودينية واجتماعية متكاملة.
أما في رواية (كبرت ونسيت أن أنسى) يُذكّر «صقر» أخته التي انتقلت إلى الجامعة بإلزامية التستر بالنقاب، بعدما تلا جملة من الشروط والضوابط قائلا : «وعلى فكرة، أنا ما عندي بنات يداومون في الجامعة بدون « عباة ». عاجبك زين، مو عاجبك قعدي بالبيت» 31. يختفي وراء تمرد البطلة «فاطمة» على العادات والتقاليد والحجاب تمرد كاتبتها «بثينة العيسى» ، هذه الأخيرة التي تخلت عن حجابها بعد كتابتها لهذه الروية، التي كانت تعبر عن كل ما يجتاح قلبها وإحساسها خاصة ما تعلق بقضية فرض الحجاب وإلزاميته، ويرى الناقد «نور الدين أفاية» أن «المرأة حين تكتب فإنها تستدعي المكبوت المتراكم عبر الزمن لتُعلنه أو -تلعنه- في حوارها أو صراعها» 32. ويأتي رفض الحجاب من منطلق إلزامية المجتمع به لا كرمز ديني، فالمجتمع يحرص على تغطية جسدها دون إلزامها بالفروض الدينية الأخرى شان الرجل الذي يبيح لنفسه تخطي كل المحظورات الدينية.
2. العنف الرمزي والمعنوي
يعتبر العنف الرمزي الأكثر خطورة على المجتمعات والأفراد على حد سواء، لأنه يتستر خلف أنساق ثقافية وعلاقات وقيم وأفكار، ويأخذ أشكالا ورموزا متعددة، كاللغة والقوانين والطقوس والمعتقدات وغيرها. فالهيمنة الذكورية مثلا، قد اكتسبت وجودها القانوني من خلال جملة من الممارسات الرمزية القائمة على مبدأ العنف والمحايدة، حتى أصبحت حقيقة يتوجب القبول بوجودها. يرى العَالِم الاجتماعي الفرنسي «بيار بورديو» بأن الهيمنة الذكورية متجذرة في لاشعورنا إلى درجة أننا لا نتمكن من إدراكها ومعرفتها، كما أنها متوافقة مع توقعاتنا إلى درجة يصعب علينا إعادة النظر فيها33.
ويتجسد العنف الرمزي والمعنوي في الرواية النسوية عبر مجموعة من الأشكال والتمثيلات مثل التهميش والتحقير والإهانة والازدراء والسخرية، وكل ما يتعلق بالحط من قيمة المرأة والإساءة إليها. وقد قدّمت النصوص شتّى أصناف هذا العنف حتى بات من الصعب العثور على مقطع سردي لا يشير ولو من طرف خفي لما يلحق المرأة من عنف بمختلف أنواعه.
وقد تداخلت أشكال هذا الصنف مع بعضها، وامتزجت في معظم الشخصيات الرجالية، حيث نجد الأنثى تتعرض لجميع أشكال العنف دفعة واحدة من فرد واحد وأكثر في بعض الأحيان.
يتميز الرجل في الأدب النسوي بصفات معينة قد عهدنا وجودها في أعمالهن، ومن هذه المميزات اتصافه بالسلطة، القسوة، الاضطهاد، الفحولة ونحو ذلك، وهو في لجوئه إلى هذه الأساليب في تعامله مع المرأة لا يعبر إلا عن ضعفه وعجزه في تسوية الخلافات بطريقة إيجابية، ولهذا نجد الرجل يلجأ إلى تهديد المرأة بالطلاق، أو تنفيذه، لإسكات صوتها ورفض حقها في الكلام والتعبير. في رواية (سلطان وبغايا) تسرد الشخصية حسيبة« قصتها مع والدها القاسي، والذي كان سببا فيما آلت إليه وهي تقبع في بيوت الدعارة؛ بعدما طلق والدتها وشتت شمل العائلة حيث تقول : «عند عودة أبي من الجيش تزوج للمرة الثالثة نكاية بأمها التي أنجبت له ابنة، يعني هي،.. ماتت أمها قهرا» 34. وفي رواية (إني وضعتها أنثى) تظهر شخصية «أبو زكريا» السلفي، الذي يعامل زوجته «مهدية» معاملة سيئة طيلة مدة زواجهما التي دامت سنتين، ثم يتركها للمجهول حيث تقول : «...نعتني بالأرض البور التي لم تنعم عليه بالخلف الذي ينشده ... ورمى في وجهي آخر حقوقه جملة لم يكررها، ثم سافر ليتركني أغادر حياته بمفردي» 35. فحياة المرأة وكرماتها رهينة بالذكر ومتعلقة به، وتستمد قوتها من وجوده إلى جانبها أبا وأخا ثم زوجا وولدا ومتى لم يحالفها الحظ لإنجاب الولد هُجرت وامتهنت كرامتها ونُبذت.
تزخر النصوص السردية بالنظرة السلبية للمرأة، يسعى الرجل من خلالها إلى تهشيم صورة المرأة، وتهميش مكانتها ليبرز تفوقه ورفعته عليها، فهي في المنظور الذكوري مجرد كائن ناقص عقل ودين لا غير، وهذا حسب ما ورد على لسان شخصية «فاروق» في رواية (لم نعد جواري لكم) وهو يقول : «إني لأعجب كيف تستطيع امرأة مهما بلغت من الذكاء والجمال والدهاء، أن تسيطر على رجل وهي ليست أكثر من امرأة؟» 36. وفي إجابته عن سؤال إحدى المثقفات حول اعتبار المرأة مخلوقا ناقصا يجيبها من خلفية دينية؛ وهو الرجل المثقف ثقافة غربية محضة فيقول : «للرجل مثل حظ الأنثيين» 37، وفي هذا الموقف الذي بدر من المثقف العربي، سحق تام لكيان المرأة، ما يجعلنا نتساءل عن موقف الرجل الجاهل من المرأة ونظرته لها. إنه عنف نفسي متوارث يردده الذكور لترسخه في المنظومة الاجتماعية العربية التي تنتقص من قيمة المرأة وتجعل منها مواطنا من الدرجة الثانية.
تكتسح النظرة السلبية للمرأة كل الروايات، متستّرة وراء الكثير من التفاسير الدينية. ففي رواية (كبرت ونسيت أن أنسى) تقوم شخصية «صقر» بإرغام البطلة على الزواج، وعندما تبدي رفضها ومحاولتها الانتحار، يصفها بالنقص العقلي، حيث تقول البطلة : «قالها وهو يتكئ على ملافظه، لفظاً لفظاً، يخرج الأحرف بعناية، يتلفظ بها : ناقصة عقل، وكان من شيمه أيضا أن يؤكد : ودين» 38. ويؤكد هذا الموقف، المرجعية الدينية الخاطئة وتفاسير الديانات السماوية المؤولة حسب البيئة الاجتماعية والثقافية التي احتضنت تلك الديانات، والتي يستند إليها الفكر الذكوري في فرض سلطته على المرأة، وتجريدها من العقل لتصبح جسدا مقتصرا على المتعة والحراثة لا غير.
تجرد المرأة من سلاح العقل الذي يؤهلها لتَّفوق، وإذا حدث وأن حققت نجاحا كبيرا، يكون مَرده حسب وجهة نظر الرجل هو الجسد. نجد شخصية « سيد» في رواية (نساء ...ولكن !) يتهم البطلة الإعلامية بمنح جسدها للوزراء ورجال الأعمال مقابل تحقيق طموحاتها، حيث يقول السارد : «يثق أنها باعت وربما تبيع جسدها الرائع لألف رجل في القناة أو ألف وزير ممن تحضرهم.. النساء لا تنجح إلا بأجسادها...حتى أمه قروشها القليلة تكسبها من بيع جسدها في المسح والكنس، لكل جسد طريقة ولكل طريقة ثمن» 39. كان هذا الموقف ناتج عن الرجل الجاهل، والسوقي، والفاشل، الذي لا يؤمن بأن إمكانيات المرأة تفوق بكثير ما يمكن أن تصل إليه أحلام مثيلته من الرجال. فالتهمة الجاهزة بالغواية والإغراء وليدة عصور سحيقة ربطت الفتنة بالمرأة وهي الملامة والرجل ضحية في نظر مجتمع يخطّئ المرأة ويتهمها وإن كانت ضحية.
تتهم المرأة في شرفها وعرضها حينما تستجيب لمشاعرها، وتتجرأ على خوض غمار الحب والجنس، بينما يقف الرجل موقف الشرف والبراءة. في رواية (لم نعد جواري لكم) تعكس شخصية «فاروق» هذا النمط من الرجال بصورة واضحة تماما، ففي الموضع الأول يقدم لزوجة صديقة الجميلة كتبا غربية عن التحرر والجنس، ويحشو أفكارها بالقصص الغرامية التي تلبي احتياجاتها الرومانسية وهو يقول بنبرة جادة : «إيفيت، يجب أن أساعدك، يجب أن أفعل شيء من أجلك.. المرأة إنسان له الحق كل الحق في الحياة كالرجل تماما» 40. أما في حديثه مع نفسه فيقول عكس ما يبدي : «لا يضير المرأة قليل من العبث ! وهي لن تفقد شيئا على كل حال، فهي امرأة» 41. وفي الموضع الثاني من السرد؛ في جلسة جمعته بشلته المثقفة نجده يرفض فكرة تحرر المرأة، ويستغرب من صديقه الذي يرغب بالزواج من عشيقته فيقول : «بصراحة، لو كنت مكان بشار، للفظتها لفظ النواة، فكيف يتزوج بفتاة شبع منها !» 42. يتغبر حديث «فاروق» من موضع إلى آخر، ففي الخطاب الأول هناك تشييع وتحفيز للأنثى في الدفاع عن حقوقها، وهو خطاب نابع عن خلفية ثقافية غربية، أما الخطاب الثاني فيبقي المرأة في موضع الهامش والتابع، ويؤكد على الثقافة الأبوية المتجذرة في الوعي الذكوري ولهذا فهو يشببها بالنواة، وينفي عنها صفة الإنسانية وبالتالي العقل، مما يجعلها متاعا وعرضا زائلا يلفظه إذا ما شبع منه. هذا الموقف يتطابق ما قالته الكاتبة «زهور ونسيي» : (الرجل يفكر بعصره، وعندما يريد الزواج يفكر بفكر أبيه).
يعتبر تعنيف المرأة بالصمت ظاهرة منتشرة في مجتمعنا، وهو ما اصطلح على تسميتها (ثقافة الصمت) إذ «فرض الصمت على المرأة عبر التاريخ وتم التعتيم القصدي على كل ما يتصل بها وبحياتها حيث سميت حياة النساء وما يتصل بها (ثقافة الصمت)» 43. وفي رواية «إني وضعتها أنثى» نجد والدة البطلة لا تملك القدرة على الكلام بحضور أبنائها وزوجها، مثلما لا تملك حق الرد والاعتراض، هذا ما جعل ابنتها ترى ذاتها في أمها حين يأخذها العمر نحو الأمام، تقول البطلة : «لم يكن ممكنا أن ترفع صوتها ولو قليلا، بكل ما تفكر فيه بصمت» 44. كما تؤكد «بثينة العيسى» على ثقافة الصمت المفروضة على المرأة العربية، من خلال الحياة التي فرضها «صقر» على «أخته» ، فكان ممنوعا عليها أن تصرخ حتى في مدينة الملاهي، حيث تقول : «الآن فهمت بأنه كان يجدر بي أن أفعل كل شيء في صمت، تحت أستار وأستار من اللاشعور» 45. تبرز لنا الكاتبة اختلاف المفاهيم التي تتعلق بلغة الصراخ، ففي مخيلة الفتاة الصغيرة يكون الصراخ تعبيرا عن الرعب واللذة، أما في عرف «صقر» فمفهومه يأخذ أبعادا دينية واجتماعية وأخلاقية، فصوت المرأة عورة وصراخها دليل على التهتك وقلة الحياء.
يعتبر العنف الرمزي والنفسي الموجه ضد المرأة من أكثر المظاهر شيوعا في النصوص الروائية. وقد تجسد أساسا في الفكر الأبوي ومجموعة المبادئ التي يرتكز عليها، ويستعملها بطريقة مدركة أو غير مدركة في السيطرة على المرأة عبر سلسلة من الأفكار والدلالات والمعاني والتوصيفات التي تلغي كينونتها ووجودها الإنساني، وتزيد من شعورها بالنقص والضعف والقهر مقابل تسلط الآخر وعدوانيته.
خاتمة
لقد تعرضت الأنثى العربية لشتى صنوف الإيذاء والتعنيف النفسي والجسدي، فالقوة التي تمتلكها السلطة الذكورية تدفعها إلى ممارسة العنف على المرأة، وذلك لأسباب كثيرة وعوامل متعددة، في مقدمتها الجهل بقيمة المرأة وأهميتها في بناء المجتمعات، إضافة إلى عامل آخر أكثر خطورة وهو إيمان الرجل بأحقيته في الهيمنة. وهو بذلك ضحية للعنف الرمزي الذي يدفع بالذكر إلى تحقيق رجولته على المرأة باستعمال شتى الأساليب والطرق. ووفق هذه الرؤية، ترسم الكاتبة العربية مشاهد وصورا تكشف على إثرهما الصراع الأزلي بين الرجل والمرأة، هذا الصراع الذي يتلون بكل أصناف العنف، وبطبيعة الحال، عنف موجه ضد المرأة وذلك لاختلال موازين القوة بين الطرفين.
إن العنف الموجه ضد المرأة هو عنف واحد في جميع الأقطار العربية مع بعض التفاوت. فالمرأة مثلا في دول الخليج العربي أكثر تقييدا ورضوخا من بقية المجتمعات. لقد أصبح العنف ضد النساء حقيقة لا غبار عليها، وأن الإطار الأكثر تجليا للعنف في نصوصنا الروائية هو الإطار الداخلي النابع من الأسرة، لأنه يتميز بكونه صعب الرصد والمراقبة، ثم يليه العنف الخارجي الذي يأخذ في أغلبه إطارا رمزيا.
شاركت المرأة العربية في تمثيل النظام الأبوي وتقويته في بعض النصوص السردية، وقد مثلت هذا الموقف المرأة النمطية التي فشلت في تحقيق هويتها الأنثوية، ورضخت لهيمنة الذكر عليها، بحيث أصبحت مع مرور الزمن تحارب حرية المرأة وترى في ذلك خرقا للخطوط الحمراء. أما الفئة الشابة من النساء، والتي ركزت الكاتبة العربية على إبرازها، فقد عملت على تحطيم القيود التي تكبلها سعيا إلى تحقيق حياة كريمة تحفظ لها حقوقها الإنسانية، وهي في الحقيقة فتيل الأمل الذي تبعث به المبدعة العربية إلى المتلقي.