تمهيد
يعتبر الانسجام النصي من أهم المسائل التي تطرحها لسانيات النص التي أخذت على عاتقها تجاوز مستوى الجملة والانتقال إلى فضاء أوسع هو الفضاء النصي، فالباحث في علم اللغة الحديث يجد مدارسه المختلفة قد عجزت عن إيجاد نظرية تستطيع أن تبحث فيما فوق الجملة، حيث اكتفت بدراسة الجملة اللغوية دون النص، إلى أن ظهر في أواخر الستينات من القرن العشرين علم « لسانيات النص »، هذا العلم الذي استدرك هذا القصور وجعل من النص كله وحدة للتحليل، ويسعى هذا المقال للبحث عن موضوع الانسجام النصي وذلك بالعودة إلى التراث العربي ومقارنته بما جاء في الدرس الغربي الحديث.
1.منهج البحث
1.1. تساؤلات البحث
من هذا المنطلق يطرح البحث مجموعة من الأسئلة :
-
أين يظهر « الانسجام النصي » في المدونات التراثية العربية القديمة : البلاغية من خلال كتاب « دلائل الإعجاز في علم المعاني »، النقدية في كتاب « منهاج البلغاء وسراج الأدباء »، الدينية من خلال كتاب « البرهان في علوم القرآن » ؟.
-
كيف تناول الدرس الغربي الحديث قضية « الانسجام النصي » ؟.
-
ما العلاقة بين الانسجام النصي الذي احتل مركزا مهما في الدرس الغربي الحديث وبين ما وجد في تراثنا العربي؟.
2.1. وضع الفرضيات المناسبة
للوصول للهدف المنشود قمنا بالبحث في بعض المدونات العربية القديمة ومحاولة اكتشاف العلاقة بينها وبين ما جاء في الدرس الغربي الحديث، عن طريق تقديم بعض النماذج وتحليلها وقراءتها وتأويلها.
-
تحديد أهداف البحث
تتجلى أهمية البحث في السعي نحو موضوع « الانسجام النصي » في التراث العربي بتشعباته المختلفة (نقدي، بلاغي، قرآني) من خلال اختيار بعض النماذج التي كانت بمثابة اجتهادات كبيرة يمكن أن تكون دعما لما اصطلح عليه فيما بعد بلسانيات النص، ثم مقارنة تلك الاجتهادات بما جاء في الدرس الغربي الحديث بمختلف انجازاته.
-
تحديد منهجية البحث
تقتضي طبيعة البحث في موضوع الانسجام النصي أن نعتمد على مجموعة من الآليات المنتقاة حسب عناصر البحث وخطواته، ولهذا سنستعين بآليات المنهج اللساني النصي معتمدين على أهم كتب المحدثين في علم اللغة النصي، وعلى بعض المصادر العربية القديمة وعدد من المراجع باللغة الأجنبية.
3.1. خلفية نظرية
كانت الارهاصات الأولى لعلم لسانيات النص على يد الأمريكي « زيلينج هاريس » « Zelling Harris » الذي يعد أول عالم لساني سعى إلى الانتقال من مستوى تحليل الجملة إلى مستوى أكبر من ذلك في كتابه « تحليل الخطاب » سنة 1952، حيث كتب أن « اللغة لا تأتى على شكل كلمات أو جمل مفردة، بل في نص متماسك بدءا من القول ذي الكلمة الواحدة إلى العمل ذي المجلدات العشرة، أو بدءا من المونولوج وانتهاء بمناظرة جمالية مطولة1»، ثم تطورت الدراسات النصية وتبلورت مع « فان ديك » « Van Dijk »، واكتملت ونضجت مع « روبرت دي بوجراند » « Robert de Beaugrande » الذي اهتم بالقواعد التي تجعل من النص نصا أي ما يكسب النص نصيته، وقام تصنيفه على النحو الذي يأخذ في الحسبان جميع أطراف العملية التواصلية2 :
-
ما يتصل بالنص في ذاته : الاتساق والانسجام.
-
ما يتصل بمستعملي النص : المقصدية والمقبولية.
-
ما يتصل بالسياق المادي والثقافي المحيط بالنص : الإعلامية، المقامية، التناص.
وبهذا يكون الانسجام النصي إلى جانب الاتساق أحد أهم المعايير الديبوجراندية المحققة لتماسك النص.
2. مفهوم الانسجام النصي
1.2. لغة
جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة (س ج م) :
« سجمتِ العين الدمع والسحابة الماء تسْجمه وتسجٌمه سجْما وسُجوما وسَجْمانا : وهو قطران الدمع وسيلانه، قليلا كان أو كثيرا، وكذلك الساجِم من المطر، والعرب تقول : دمع ساجِم، ودمع مسجوم : سجمته العين سجما... وانسجم الماء والدمع فهو منسجم إذا انسجم أي انصب... سجم العين والدمع الماء يسجم سجوما وسجاما إذا سال وانسجم3 »،
فالمعنى اللغوي للانسجام يدل على القطران والسيلان والإنسباب، وهي ألفاظ توحي بالتتابع والتتالي وعدم الانقطاع.
2.2. اصطلاحا
يعد الانسجام شأنه شأن الاتساق مظهر من مظاهر النصية إذ « لا يمكن أن نجد نصا منسجما دون أن يكون متسقا4»، فالحدود بين الاتساق النصي الذي يتحقق بفضل أدوات لسانية، والانسجام النصي الذي يستخدم استدلالات غير لسانية مشكلة معقدة للغاية، ذلك أن كثيرا من الوقائع النصية التي نعدها جزءا من الانسجام نستطيع أن نفسرها بأدوات لغوية محضة، حتى أن هناك من الباحثين من جمع في مفهومه للانسجام بين الانسجام والاتساق، ومن هؤلاء « مانغونو » « Maingueneau » الذي أكد على وجود « تقابل مفهومي بين الانسجام (عام) والاتساق (موضعي)5»، وأنه من الصعب الفصل بين المستويين.
وقد اتفقت جل الدراسات على أن الانسجام هو حكم المتلقي (مستمعا كان أم قارئا)، إذ أن نظرية الانسجام تبرز « أهمية الدور الذي يقوم به المتلقي في عملية التأويل6» (تأويل النص)، من خلال التزود بما يلزم من العلاقات لاستخراج المعنى منه (النص)، وتتمثل هذه العلاقات في مجموعة العناصر المنطقية كالسببية والغائية والقياسية، كما تتضمن أيضا المعلومات عن تنظيم الأحداث والأعمال والموضوعات فيما يتصل بالتجربة الإنسانية وتفاعلها مع معطيات النص.
كما يتجاوز الانسجام الجانب الشكلي إلى الجانب الدلالي « الذي لا تكفي فيه الدلالة اللغوية وحدها للأقوال في فهم الخطاب وتأويله فالقارئ في حاجة إلى الوقوف على ملابسات القول من أحوال المتخاطبين وطبيعة العلاقة بينهم7»، ولهذا يشير « محمد خطابي » إلى رأي « هايمس » «Hyemes» حول عنصر السياق وعلاقته بالانسجام في قوله : « أنه بقدر ما يعرف المحلل أكثر ما يمكن من خصائص السياق بقدر ما يحتمل أن يكون قادرا على التنبؤ بما يحتمل أن يقال8» فالانسجام يدخل السياق بمعناه الواسع والعام.
وتتصل دراسة الانسجام برصد وسائل الاستمرار الدلالي الموجودة في النص، فهو عند « هاليداي » و« رقية حسن » : « علاقة معنوية بين عنصر وعنصر آخر يكون ضروريا لتفسير هذا النص، هذا العنصر الآخر يوجد في النص، غير أنه لا يمكن تحديد مكانه إلا عن طريق هذه العلاقة التماسكية9»، وبهذا يكون الاتساق مرتبطا باللفظ في حين أن الانسجام يرتبط بالمعنى دائما.
ورغم ما انجزه الدرس اللساني الغربي الحديث في موضوع الانسجام النصي كانجازات « هاليداي » و» رقية حسن » في كتابهما « الاتساق في اللغة الانجليزية » و« فان ديك » في كتابه « النص والسياق استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي » و« جوليان براون » و« جورج يول » في كتابهما « تحليل الخطاب »، إلا أن هذا ليس ببعيد عن ما وجد في المدونات التراثية العربية على اختلافها، فقد يتساءل الكثير من الباحثين عن جدوى التنقيب في التراث العربي القديم في سياق الحديث عن موضوع حديث النشأة كلسانيات النص، فكثير هم من درسوا التراث، وكثير هم من بحثوا فيه، لكن القليل منهم من استفاد وأفاد منه، فالتراث العربي عبارة عن منظومة واحدة تتكامل فيها جميع المعارف والتخصصات وتلتقي فيها عدة علوم، والحديث عن الانسجام النصي يتطلب منا العودة إلى هذا التراث والبحث والتنقيب فيه لتأسيس مرجعية تراثية نستند عليها أثناء حديثنا عن لسانيات النص، ولما كان البحث متشعبا في هذا الميدان فقد خصصنا بحثنا للحديث عن بعض جزئيات هذا التراث وبعض أعلامه فقط، وتفاديا لتشعب البحث واتساعه وقع اختيارنا، في التراث البلاغي، على كتاب كان له الفضل في تطوير هذا العلم وهو « دلائل الاعجاز في علم المعاني » لعبد القاهر الجرجاني، وفي التراث النقدي ركزنا على اسهامات « حازم القرطاجني » الذي كان أكثر نضجا ووعيا ممن سبقه وذلك من خلال كتابه « منهاج البلغاء وسراج الأدباء »، وأما في التراث الديني الذي برز فيه علماء كرسوا جهودهم لخدمة النص المقدس وحاولوا بيان وجوه اعجازه فقد وقع الاختيار على كتاب « البرهان في علوم القرآن » للزركشي، لنعود بعد ذلك إلى الدراسات الغربية الحديثة وما قدمته من إسهامات في هذا المجال.
.3. جهود العرب القدامى في الانسجام النصي
1.3. الانسجام النصي في « دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني »
تجعلنا العودة إلى الدرس البلاغي العربي القديم نكتشف أنه يشتمل على اجتهادات كثيرة ومتنوعة يمكن أن تكون لنا مرجعا أو دعما لما اصطلح على تسميته فيما بعد بلسانيات النص، فقد قدمت البلاغة مجموعة قواعد ونظريات ساهمت في تطور هذا العلم الجديد، حيث كانت
« معينا للآراء والاقتراحات التي طرحت فيما بعد وبخاصة من خلال النظريات الحديثة، فهي تضم الأفكار الجوهرية التي عنيت الدراسات النصية بالتوسع فيها ومن ثمة توجد جوانب اتفاق عدة بينها إلى حد يصعب معه إغفال الأثر حتى يكون درجة خفائه مرتفعة10»،
حتى أن هناك من الباحثين (من بينهم « هارفج » Harweg) من ذهب إلى عد البلاغة بمثابة أم أو إرهاص للسانيات النص، لكن الاختلاف بينهما واقع في المنهج والأدوات والأهداف، فهدف البلاغة التأثير في المتلقي، ولا يتوقف حدّها عند التأثير بل تتجاوزه إلى الإقناع، فالبلاغة « فن الخطاب الجيد (فن قول شيء جيد مصيب)11 » كما تعرف عادة، فلا بد من مناسبة الخطاب للموقف، وبالنسبة لفكرة التوجه إلى المستمع، نلاحظ أنها تؤثر على عملية إنتاج النص، فمنتج النص يراعي الطرف المستقبل، ومن ثمة كان الهدف الأساسي للبلاغة متمثلا في إعداد النماذج وتوفير القواعد التي يستطيع المتكلم بواسطتها إقناع سامعيه.
وقد عملت لسانيات النص على « ضم تلك القواعد والنماذج والاستراتيجيات المتاحة وتجاوزها إلى إمكانات أخرى (...) بل استعانت بما يدور فيما وراء اللغة في التحليل والتفسير، حين وضعت في الاعتبار مستويات القراء وأحوالهم النفسية والاجتماعية، وتعدد القراءة، وأشكال التواصل12» إلى غير ذلك من الإجراءات والأدوات التي لم يتح لعلم من قبل أن يفيد منها كما أتيح للسانيات النص.
ولعل اسهامات البلاغي « عبد القاهر الجرجاني » (ت 471ه) كبيرة جدا في دراسة موضوعات تتعلق بنحو النص وآليات انسجامه، فقد كان لنظرية النظم الجرجانية أهمية كبيرة في هذا المجال لما تمثله من قيمة في سياق الدراسات التي اهتمت بالنظم والتأليف
« فعبد القاهر الجرجاني على حد تعبير كمال أبو ديب هو آخر باحث عربي في القرن الخامس الهجري حاول أن يقيم نظرية متكاملة لتفسير الظاهرة الأدبية انطلاقا من بعدها النصي، ولقد كان من أبرز انجازات الجرجاني تركيزه على تطوير العملية التحليلية للوصول بها إلى أقصى درجات الدقة والصرامة والابتعاد عن التعميمات النظرية الكسل ذات المنابع التقليدية أو العقائدية الصرف13 »،
وكان هدفه من ذلك البحث عن سر إعجاز القرآن الكريم، والذي وجده في الأخير راجع إلى النظم وبلاغة كلامه وليس في ألفاظه وبلاغة وحداته اللغوية، ويعتبر الجرجاني أول من نظر إلى النص القرآني نظرة كلية شمولية ومتماسكة، يقول عنه : « تأملوه سورة سورة، وعُشرا عُشرا، وآية آية، فلم يجدوا في الجمع كلمة ينبُو بها مكانها، ولفظة ينكر شأنها، أو يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحْرى وأخْلق، بل وجدوا اتساقا بهر العقول، وأعجز الجمهور، ونظاما والتئاما، وإتقانا وإحكاما14.»
نلاحظ من خلال هذا القول الإشارة إلى بعض المصطلحات المتعلقة بالتحليل النصي كالاتساق والانسجام اللذين يعتبران من أهم المسائل التي تطرحها لسانيات النص، بل هما أساس قيام النظرية اللسانية النصية الحديثة، ويشير « الجرجاني » إلى هذين المصطلحين في تعريفه للنظم بقوله : « تعليق الكلم بعضها على بعض وجعل بعضها بسبب من بعض15 »، ويقول أيضا : « فليس الغرض بنظم الكلام أن توالت ألفاظها في النطق بل تناسقت دلالاتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل.. فما النظم إلا أن تقتفي في نظم الكلمات آثار المعاني، وترتيبها على حسب ترتيب المعاني في النفس16»، ويكون ذلك بترتيب الألفاظ والتراكيب وفق ترتيب معانيها، فتصاغ تلك المعاني في قالب لغوي محكم الصياغة والبناء بدءا بأصغر تركيب وهو الجملة البسيطة وصولا إلى النص»، فالنظم يعنى أول شيء بترتيب الكلمات في جمل، أي أنه يدرس الطرق التي تتألف بها الجمل من الكلمات17 »، وبهذا تتضام الألفاظ بعضها ببعض في تآلف دقيق مع المعاني.
ويتحقق الانسجام النصي عند « الجرجاني » بحسن النظم، الذي لا يكون حتى يأتي على القطعة كلها بدءا بالجزء وصولا إلى الكل، يقول :
« وأعلم من الكلام، ما أنت ترى المزية في نظمه والحسن، كالأجزاء من الصيغ تتلاحق، وينظم بعضها ببعض، حتى تكثر في العين، فأنت كذلك لا تكثر شأن صاحبه، ولا تفضي له بالحذق والأستاذية، وسعة الدرع، وشدة المنة، حتى تستوفي في القطعة وتأتي على عدة أبيات» 18،
معنى هذا أن الانسجام النصي يتحقق بترابط أجزاء الكلام بعضها ببعض، فكل كلمة لها علاقة بسابقتها وما سوف يلحقها عن طريق الترابط الشكلي وهو الاتساق، والترابط الدلالي وهو الانسجام، لتشكل لنا في النهاية نصا متكاملا.
كما شبه الجرجاني النظم كما جاء في الدلائل بـ « النسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير، وما أشبه ذلك، مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض19»، فهذه العناصر الستة توضح فكرة النظم القرآني الكريم المعجز بألفاظه ومعانيه، كما تبين مدى اكتمال النظم وتحقيقه للتماسك والترابط على مستوى البنية السطحية للنص وكذا على مستوى البنية العميقة له، وهذا ما يقترب من المفهوم اللساني الغربي الحديث للانسجام.
ففكرة الانسجام النصي كانت واضحة في ذهن « الجرجاني » وضوحا متميزا إذ نجده يعبر عنها بقوله « واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعا من الذهب أو الفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة20 » فبنية النص في نظر الجرجاني تصل إلى مرتبة الصهر وتتطلب :
-
-تلاحم الأجزاء.
-
-ضم الأجزاء بعضها إلى بعض.
-
-ترابط القطعة ككل.
ولم يتوقف الجرجاني عند هذا الحد بل ذهب إلى البحث في الوسائل التي يتم بها الانسجام كطريقة الفصل والوصل التي تعد نموذجا هاما وبارزا لما يجب أن يبحث في هذا العلم (علم لسانيات النص)، حتى أنه خصص لهذه القضية بابا أسماه « باب الفصل والوصل »، ويتمحور جهده في الفصل والوصل حول « ما ينبغي أن يُصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض، أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورة، تستأنف واحدة منها بعد أخرى21»، ثم يقول : « إن معرفة الفصل من الوصل مما لا يتأتى لتمام الصواب فيه إلا للأعراب الخلص وإلا قوم طبعوا على البلاغة، وأوتوا من المعرفة في ذوق الكلام هم بها أفراد22»، فالوصل هو :
« عطف بعض الجمل على بعض، والفصل تركه، فإذا أتت جملة بعد جملة، فالأولى إما أن يكون لها محل من الإعراب، أو لا، وعلى الأول، إن قصد تشريك الثانية لها في حكمه عطفت عليها كالمفرد، فشرط كونه مقبولا بالواو ونحوه أن يكون بينهما حجة جامعة، نحو : زيد يكتب ويشعر، أو يعطي ويمنع23»،
وبهذا يكون الوصل هو عطف جملة على أخرى، أما الفصل لا يعني انقطاع العلاقة بين الجمل بل هو ربط للوحدات اللغوية والتراكيب دون استعمال لحروف الربط (العطف).
لقد ساهم الجرجاني في إثراء الدرس اللغوي بأبحاث غنية وقيمة، تحولت مع مرور الزمن إلى ميدان خصب لمختلف الدراسات، فلم تكن آراء الجرجاني بعيدة عن الأفكار اللسانية الغربية الحديثة، بل كانت بمثابة التقاطع الحقيقي بينه وبين هذا العلم، فهو من أهم العلماء البلاغيين الذين قدموا انجازات علمية ناضجة جدا في مجال التنظير والتطبيق النصي خاصة فيما يتعلق بالاتساق والانسجام النصيين اللذين يعتبران من أهم الأسس التي تقوم عليها لسانيات النص الغربية.
2.3. الانسجام النصي في كتاب « منهاج البلغاء وسراج الأدباء لحازم القرطاجني »
عرف النقد العربي في عهد « حازم القرطاجني » (ت 684ه) تطورا وازدهارا كبيرا لم يسبق وأن عرفه قبلا، حيث كان أكثر نضجا ووعيا مما سبق، حتى أنه تجاوز حدود الجملة الواحدة إلى مستوى النص ككل، فإذا كان « عبد القاهر الجرجاني » أغنى النقد العربي بنظرية النظم، فإن « حازم القرطاجني » أثرى النقد العربي ولسانيات النص بفكرة التماسك النصي، وذلك بالتناسب بين الأغراض والأوزان، والإيقاع الشعري والحالة النفسية للشاعر، ويعتبر كتابه « منهاج البلغاء وسراج الأدباء » مؤلفا هاما لمن أراد البحث عن لسانيات النص في التراث النقدي العربي.
وركز « القرطاجني » في تقسيم كتابه على أربعة أقسام هي :
كما تجاوز « القرطاجني » التناول الجزئي للقصيدة عند النقاد القدامى إلى تناول أعم مكنه من تقديم نظرة كاملة وشاملة عن الكيفية التي يجب أن تتبع في بناء القصيدة فصلا وفصولا، مهتما في ذلك بالعلاقات الترابطية لأجزاء القصيدة الواحدة، فسمى كل جزء منها فصلا، والفصل عنده عبارة عن «بيتان، في غالب الأحيان، إلى حدود أربعة أبيات تتضافر لأجل إيصال معنى معين24»، كما صنف تماسك القصيدة إلى : تماسك الفصل، وتماسك الفصول، والعلاقات بين الفصول، ويرى أن النص لا تتحقق نصيته أو تماسكه إلا بشروط معينة، فعلى مستوى تماسك الفصل يجب25 :
-
أن تكون مواد الفصل مناسبة للغرض الذي يريد الشاعر التعبير عنه.
-
أن تكون حسنة الاطراد.
-
أن تكون متباينة النسيج.
-
أما على مستوى تماسك الفصول فيجب :
-
استمرار غرض الفصل السابق في اللاحق.
-
أن تكون الفصول متصلة العبارة أو متصلة الغرض دون العبارة أو متصلة العبارة دون الغرض.
-
أما على مستوى العلاقات بين الفصول فيجب : مناسبة الغرض للإيقاع الشعري. مناسبة الألفاظ للمعاني.
-
دلالة رأس الفصل على بقيته أو أن يكون آخره استدلالا على ما تقدم منه، وهذا ما عبر عنه بلفظي التسويم والتحجيل.
فالنص في نظر « القرطاجني » متواليات من الجمل مرتبة ترتيبا منطقيا من الجزء إلى الكل عن طريق آلية التناسب والاقتران، وهذا ما يقترب من مصطلح التماسك النصي (الاتساق والانسجام) حتى وإن لم يستعمل هذا المصطلح، وحاول « القرطاجني » البحث في الترابط القائم بين أجزاء النص (القصيدة) من خلال حديثه عن قوانين الابتداء والتخلص والانتهاء بقوله : « وإذا لم يكن البيت الثاني مناسبا للأول في حسنه، غض ذلك من بهاء المبدأ وحسن الطليعة، وخصوصا إذا كان فيه قبح من جهة لفظ أو معنى أو نظم أو أسلوب» 26، فالمناسبة في هذا السياق تعني الربط الشكلي(الضمائر، أسماء الإشارة، أدوات المقارنة...) والربط المعنوي (مناسبة الإيقاع لغرض الشاعر، مناسبة اللفظ للمعنى...)، وأشار « القرطاجني » إلى الأمر نفسه عندما عرض شروطا في الانتهاء أو الخاتمة على النحو التالي :
« - تحرى أن يكون ما وقع فيها من الكلام كأحسن ما اندرج في حشو القصيدة.
- أن يتحرز فيها من قطع الكلام على لفظ كريه أو معنى منفر للنفس عما قصدت إمالتها إليه، أو مميل لها إلى ما قصدت تنفرها عنه.
- أن يتحفظ في أول البيت الواقع مقطعا للقصيدة من كل ما يكره ولو ظاهره وما توهمه دلالة العبارة أولا، وإن رفعت الإيهام آخر ودلت على معنى حسن27 »،
فالشرطان الأول والثالث مرتبطان باللفظ، أما الشرط الثاني فهو لفظي معنوي مرتبط بما قصد إليه المتكلم في النص.
وإلى جانب هذا نجد « القرطاجني » يهتم أيضا بالانسجام الصوتي، وربطه بمستوى النص ككل، إذ لم يتوقف عند الكلمة الواحدة بل تعدى ذلك إلى دراسة التلاؤم بين الجمل المكونة للنص، يقول :
« ومن ذلك حسن التأليف وتلاؤمه، والتلاؤم يقع في الكلام على أنحاء : منها أن تكون حروف الكلام بالنظر إلى ائتلاف بعض حروف الكلمة مع بعضها وائتلاف جملة كلمة مع جملة تلاصقها منتظمة في حروف مختارة متباعدة المخارج مترتبة الترتيب الذي يقع فيه خفة وتشاكل ما، ومنها ألا تتفاوت الكلم المؤتلفة في مقدار الاستعمال فتكون الواحدة في نهاية الابتذال والأخرى في نهاية الحوشية وقلة الاستعمال، ومنها أن تتناسب بعض صفاتها مثل أن تكون إحداهما مشتقة من الأخرى مع تغاير المعنيين من جهة أو جهات أو تتماثل أوزان الكلم أو تتوازن مقاطعها، ومنها أن تكون كل كلمة قوية الطلب لما يليها من الكلم أليق بها من كل ما يمكن أن يوضع موضعها» 28،
فهذا الائتلاف بين حروف الكلمة الواحدة، وبين كلمات الجملة الواحدة، وكذا الجمل بعضها ببعض، هو ما يشكل لنا وحدة منسجمة، فالمستوى الصوتي له أهمية في الربط بين المعاني.
من خلال القضايا التي طرحها « حازم القرطاجني » في كتابه « منهاج البلغاء وسراج الأدباء » يبدو وكأنه كان على وعي بالمفاهيم التي توصلت إليها لسانيات النص حديثا وبمختلف المصطلحات التابعة لهذا العلم، حيث كان السباق إلى الاهتمام بتماسك النص الشعري وانسجامه وتلاحم أجزائه، كما وقف على جملة من المبادئ للممارسة اللغوية في شكلها النصي خاصة من حيث خاصية الانسجام.
3.3. الانسجام النصي عند الزركشي من خلال كتاب « البرهان في علوم القرآن »
اهتم العرب منذ القديم بالقرآن الكريم، فبرز علماء كرسوا جهودهم لخدمة النص المقدس، وحاولوا بيان وجوه إعجازه ولا تزال مؤلفاتهم شاهدة على ما قدموه في سبيل ذلك، ومن بين الوجوه الإعجازية التماسك الوثيق الذي يربط آيات وسور القرآن التي نزلت منجمة على مدار ثلاث وعشرين سنة، فالدراسات الإعجازية القديمة لم تكتف بالجملة أو الآية إطارا نهائيا للتحليل بل تجاوزت ذلك إلى البحث في آليات تماسك وانسجام النص ككل.
ورصدت الدراسات الإعجازية بعض العلاقات التماسكية بين سور وآيات القرآن، حيث وجدنا بعض المؤلفات تقدم علاقات تماسكية للنص ترقى إلى ما قدمته اللسانيات النصية المعاصرة، مثل « البرهان في علوم القرآن » للزركشي (ت 764 ه)، و« الإتقان في علوم القرآن » :
« تناسب الدرر في تناسب السور » للسيوطي (ت 911 ه)، فقد كان عمل «هؤلاء يقوم أساسا على النظرة إلى النص القرآني كاملا، إلى درجة أنهم رأوا القرآن الكريم كالكلمة الواحدة... فأكدوا تماسكه الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي والدلالي... وأيضا أكدوا على المناسبة بين حروف الكلمة الواحدة وكلمات الجملة الواحدة وبين جمل النص الواحد ونصوص القرآن كله كذلك»29،
وسنتناول فيما يلي إسهامات « الزركشي » في هذا السياق.
رسم « الزركشي » رؤيا شاملة متكاملة حول تحليل النص القرآني، حيث استطاع أن يتجاوز ذلك الإطار الضيق الذي لم يتعدّ تحليل الآية الواحدة إلى البحث عن العلاقات الرابطة بين الآيات المختلفة للسورة الواحدة أو مجموع السور المشكلة للقرآن الكريم، حتى أنه خصص بابا مستقلا في كتابه « البرهان في علوم القرآن » تحدّث فيه عن التماسك والانسجام بين الآيات والسور والآليات التي تحكم ذلك التماسك والانسجام، كما نلاحظ في مختلف أبواب الكتاب إشارات إلى التماسك في القرآن.
وقد قسم « الزركشي » الانسجام إلى انسجام بين الآيات في السورة الواحدة وآخر بين السور المختلفة، سنتطرق إليه فيما يلي :
-
الانسجام بين الآيات في السورة الواحدة :
يتحدث « الزركشي » عن الآيات التي لا يوجد فيها عطف، حيث تظهر بأنها غير مترابطة، بينما هي تترابط بطريقة أخرى عن طريق بعض العلاقات، كعلاقة التنظير حيث يرى أن إلحاق النظير بالنظير علاقة منطقية، ويدرج ضمن هذا مثال لقوله تعالى : « أُولَئِكَ هُم المُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُم دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِم ومَغْفِرَةٌ ورِزقُ كَرِيمٌ كَــمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالحَقِّ وإنَّ فَرِيقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُـونَ»30، ويعلل « الزركشي » الانسجام الموجود بين « أولئك هم المؤمنون حقا » وبين « كما أخرجك ربك من بيتك » بعلاقة التنظير، حيث يقول : « فإن الله سبحانه أمر رسوله أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه كما مضا لأمره في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون»31.
كما أن هناك علاقة أخرى تربط بين الآيات وهي علاقة التضاد، وقد مثل الزركشي لذلك بأوائل سورة البقرة التي فيها حديث عن القرآن الكريم وأنه هدى للمتقين، وأن من صفات المؤمنين الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة، يقول تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»32، ويعلق عن ذلك بقوله : « فإن أول السورة كان حديثا عن القرآن الكريم، وأن من شأنه كيت وكيت، وأنه لا يهدي القوم الذين من صفاتهم كيت وكيت. فرجع إلى الحديث عن المؤمنين، فلما أكمله عقب بما هو حديث عن الكفار، فبينهما جامع وهمي بالتضاد من هذا الوج33»، فالانتقال من الحديث عن المؤمنين إلى الحديث عن الكفار قد جعل بين الآيتين مناسبة هي التضاد.
أما نوع العلاقة الثالثة فهي الاستطراد، ومن الآيات التي تنسجم بواسطة هذه العلاقة قوله تعالى : « يَا بَني آدَمَ قَد أَنزَلْنَا عَلَيكُم لِبَاساً يُوارِي سَوْآتِكُم وَرِيشاً وَلِبَاسَ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِن آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ34»، ويعلق الزركشي عن هذه الآية بقوله : « هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب بدء السوءات وخصف الورق عليها إظهارا للمنة فيما خلق الله من اللباس، ولِمَا في العُري وكشف العورة من المهانة وإشعارا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقوى35».
وعن العلاقة الأخيرة في هذا الموضع وهي الانتقال من حديث لآخر تنشيطا للسامع، يستشهد الزركشي بقوله تعالى في سورة (ص) : »هَذا ذِكْرٌ وإنَّ للمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَـآبٍ36»، فـ « لما انتهى ذكر الأنبياء، وهو نوع من التنزيل، أراد أن يذكر نوعا آخر، وهو ذكر الجنة وأهلها، فقال (هذا ذكر)، فأكد تلك الإخبارات باسم الإشارة، تقول أشير عليك بكذا، ثم تقول بعده، ثم تقول : هذا الذي عندي والأمر إليك، وقال « وإن للمتقين لحسن مآبٍ »37، فاسم الإشارة هو الذي ربط اللاحق بالسابق رغم الانتقال من كلام لآخر.
-
الانسجام بين السور :
-
علاقة انسجام بين فواتح السور وخواتمها :
إن مناسبة خاتمة السورة لفاتحتها فيه نوع من رد العجز على الصدر، « ومن ثمة تغدو هذه الوسيلة سمة مشتركة بين الخطاب الشعري والخطاب القرآني38»، يقول الزركشي : « وقد جعل الله فاتحة سورة المؤمنين (قد أفلح المؤمنون)، وأورد في خاتمتها (إنه لا يفلح الكافرون) فشتان بين الفاتحة والخاتمة39»، فقد وصف المؤمنون بالفلاح في بداية هذه السورة، بينما وصف الكافرون في خاتمتها بضد ذلك أي عدم الفلاح.
-
علاقة انسجام بين فاتحة السورة والخاتمة التي قبلها :
إن مناسبة فاتحة السورة للخاتمة التي قبلها أسلوب معتمد كثيرا في القرآن، ومن ذلك مناسبة فاتحة سورة قريش لإيلاف قريش لخاتمة السورة التي قبلها وهي سورة الفيل فجعلكم كعصف مأكول40، وأيضا « لما ختم سورة النساء أمرا بالتوحيد والعدل بين العباد، أكد ذلك بقوله في أول سورة المائدة : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود»41، ويدرج الزركشي صمن هذه العلاقة الكثير من الأمثلة.
-
الانسجام بين السورة واسمها :
إن تسمية السورة باسم معين ليس إلا تقليدا لدى العرب، فنجدهم مثلا يسمون الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة بما هو أشهر فيها، وعلى ذلك جرت تسمية سور القرآن « كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لقرينة ذكر قصة البقرة المذكورة فيها وعجيب الحكمة فيها، وسميت سورة النساء بهذا الاسم، لما تردد فيها من كثير من أحكام النساء، وتسمية سورة الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها»42.
-
علاقة انسجام صوتي :
يوجد في بعض سور الكتاب العزيز انسجام صوتي يعتمد على تناسق الفاصلة الأخيرة في تحقيق ذلك الانسجام، من ذلك ما جاء في سورة المسد مع فواصل سورة الإخلاص، ففواصل سورة المسد تخالف فاصلتها الأخيرة، فهي على حرف الدال، وفواصل السورة التي بعدها سورة الإخلاص كلها على حرف الدال.
-
علاقة انسجام بالتقابل :
وهو تقابل بين موضوعات بعض السور، كتقابل سورة الكوثر مع سورة الماعون،يقول الزركشي مبينا تلك العلاقة : «ومن لطائف سورة الكوثر أنها كالمقابلة للتي قبلها؛ لأن السابقة قد وصف الله فيها المنافق بأمور أربعة : البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة، فذكر هناـ سورة الكوثر ـ في مقابلة البخل؛ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ؛ أي الكثير، وفي مقابلة ترك الصلاة؛ فَصَلّ) أي دُمْ عليها، وفي مقابلة الرياء؛ لِـرَبِّكَ ؛ أي لرضاه لا للناس، وفي مقابلة منع الماعون؛ وَانْحَرْ ؛ وأراد به التصدق بلحم الأضاحي؛ فاعتبر هذه المناسبة العجيبة»43.
-
علاقة انسجام بين مواضيع السور :
وذلك كتشابه مضمون سورة الضحى، ومضمون سورة الانشراح؛ فكلاهما في مضمونه العام يتناول فضل ونعمة الله تعالى نبيه محمد(صلى الله عليه و سلم).
كما أشار الزركشي في كتابه إلى أهمية السياق ودوره في التفسير بقوله : « ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له، وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز، ولهذا نرى صاحب « الكشاف » يجعل الذي سيق له الكلام معتمدا، حتى كأنه غيره مطروح44»، فالزركشي يشترط على المفسر مراعاة السياق اللغوي لتحديد المعنى المقصود.
إن ما انتهى اليه هؤلاء من تصورات ومبادئ عن الانسجام دليل على أن للنظرية اللغوية في تحليل النص عند العرب امتدادات بعيدة في مصادر التراث البلاغي والنقدي والديني، وأن ذلك التراث لازالت به امكانيات مختلفة للتزويد بأصول لتطوير علم لغة نصي عربي.
4. الانسجام النصي في الدرس الغربي الحديث
يحتل الانسجام النصي موقعا مهما في الأبحاث والدراسات الغربية الحديثة التي توجهت إلى النص باعتباره أكبر وحدة للتحليل، وسنعرض فيما يلي اجتهادات الباحث الهولندي « فان ديك » من خلال كتابه « النص والسياق » الهادف إلى وضع لسانيات للنص كتجاوز للقصور الذي تعانيه لسانيات الجملة، كما سنعرض أيضا اقتراحات « ج. براون » و« ج. يول » في كتابهما « تحليل الخطاب » وذلك لما يحتويه هذا الكتاب من اقتراحات مهمة حول الانسجام.
1.4. نموذج فان ديك
حاول « فان ديك » بمنهج يختلف عن منهج سابقيه من اللغويين الغربيين أن يجد القواعد التي تسمح للمتلقي بالحكم على نص ما بالنصية، ويرى أن النص هو « مجموعة من الجمل تحكمها علاقات وروابط معينة45»، وهذا ما يقترب مع ما جاء به « الجرجاني » الذي يشترط أن يتحقق داخل النص الانسجام والتماسك .
وكان هدف « فان ديك » من وضع قواعد معينة للسانيات النص عنصريين أساسين هما :
-
النظر إلى النص من الداخل أي النظر إلى بنيته.
-
النظر إلى النص في علاقته مع المتلقي.
وفيما يلي سنحاول أن نناقش أهم مظاهر الانسجام النصي كما حددها « فان ديك » من خلال كتابه « النص والسياق » :
1.1.4. الترابط
لا يعني الترابط وجود الروابط، أو أن عدم وجود الروابط يعني عدم الترابط، فقد « تكون الجمل مرتبطة أو مستغنية عن الربط خارج الوجود الصريح لأدوات الربط»46، فمصطلح الترابط إذا يشير إلى علاقة خاصة بين الجمل، وهي علاقة دلالية أي علاقة بين قضايا جمل معينة، ويحدد « فان ديك » الشروط التي تحكم الترابط بما يلي47 :
-
العلاقة بين معاني الكلمات الواردة في الجمل.
-
التطابق الإحالي.
-
تعالق الوقائع التي تشير إليها القضايا، والتي بدورها تشير إلى بعض الشروط مثل : الترتيب الزمني، علاقة السبب والنتيجة، تعالق العوالم الممكنة.
وكنا قد أشرنا سابقا إلى وجهة نظر « القرطاجني » في الكيفية التي يجب أن تتبع في بناء القصيدة فصلا وفصولا، مهتما في ذلك بالعلاقات الترابطية لأجزاء القصيدة، وهذا ما يقترب من مفهوم الترابط لدى « فان ديك ».
2.1.4. -تحليل الانسجام التأويل النسبي
يرى « فان ديك » أن تحليل الانسجام يحتاج إلى تحديد نوع الدلالة التي في الحقيقة تكون نسبية من جملة لأخرى، فلا نؤول الجملة بمعزل عن الجمل السابقة عليها، بل « تأويل كل جملة مفردة مرتبط بتأويل الجملة التي قبلها وبعدها»48، وهذا ما تحدث عنه الجرجاني في « حسن النظم » الذي يتحقق بترابط أجزاء الكلام بعضها ببعض، فكل كلمة لها علاقة بسابقتها وما سوف يلحقها عن طريق الترابط الشكلي وهو الاتساق، والترابط الدلالي وهو الانسجام، لتشكل لنا في النهاية نصا متكاملا.
كما حدد « فان ديك » وسائل معينة لانسجام الخطاب/النص وهي :
-
تطابق الذوات،
-
علاقات : التضمن، الجزء - الكل، الملكية،
-
مبدأ الحالة العادية المفترضة للعوالم،
-
مفهوم الأطر،
-
التطابق الإحالي،
-
تعالق المحمولات،
-
العلاقات الرابطة بين مواضيع جديدة : علاقة التذكر، الرؤية، الاسترجاع49.
3.1.4. ترتيب الخطاب
يدعوه « فان ديك » الترتيب العادي للوقائع في الخطاب/ النص، ذلك أن ورود الوقائع في متتالية معينة يخضع لترتيب عادي تحكمه مبادئ مختلفة، والتي يمكن تلخيصها فيما يلي :
«عام – خاص
كل – جزء/ مركب
مجموعة – فئة – عنصر
المتضمِن – المتضمَن
كبير – صغير
خارج – داخل
المالك – المملوك»50.
وبهذا فالجمل « إذا كانت تدل على الأحداث فإن انتظام سلاسل من الجمل ينبغي أن يدل على مجموع منظم من الأحداث51»، وهذا المجموع المنظم من الأحداث تحكمه المبادئ السابقة الذكر.
وقد أشار الجرجاني في تحديده لخصائص النظم عن ترتيب الكلم، إذ يقول : « واعلم أنّ لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يعلّق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض52»، فالألفاظ لا توضع متجاورة دون تعلق وارتباط بعضها ببعض، وهذا ما يقترب من عنصر ترتيب الخطاب عند « فان ديك ».
4.1.4. البنية الكبرى
يقصد بها « بنية سيميائية دلالية»53، لذلك لا تختلف البنية الكبرى من الناحية الشكلية عن البنية الصغرى، فهي تتكون أساسا من قضايا ومن ثمة فإن « مفهوم البنية الكبرى يبدو نسبيا، فهو يميز بنية ذات طبيعة عامة، نسبيا بالنظر إلى أبنية خاصة على مستوى أدنى آخر»54، فالبنية الكبرى في نص ما قد لا تكون نفسها في نص آخر، ولكي يصل القارئ إلى البنية الكبرى يجب عليه أن يقوم بعمليات مختلفة هي : الحذف، البناء، التعميم، هذه العمليات تظهر أننا نقوم فعلا باختزال المعلومات الواردة في النص، أي أن تلك المعلومات تحدد ما هو هام في المقطع.
ويصل « فان ديك » في الأخير إلى أن النص « ما هو إلا بنية كلية، ذات موضوع، بمعنى أن النص يدور في بؤرة محددة، هي موضوعه. وأن كل الجمل الأخرى، ما هي إلا شرح، وتفسير وإعادة صياغة، لتلك البؤرة55» لأن المتلقي « بعد سماعه للخطاب، أو قراءته للنص، يسأل : ماذا قال؟ هذا موضوع غير مترابط، ما العلاقة بين هذه وتلك، وهو يؤكد أن المقصود هو إيجاد بنية كلية ذات موضوع56»، وعلى هذا فإن دور البنية الكلية في النص يكمن في تحقيق الانسجام الكلي على المستوى الدلالي السيمانطيقي، ويظهر ذلك رد فعل القارئ وعدم قبوله لنص يفتقر إلى بنية كبرى تجمع وتوحد شتاته.
وهذا الأمر يبدو واضحا عند المفسرين من بينهم « الزركشي » عندما اعتبر القرآن الكريم بنية واحدة متماسكة موضوعها الرئيس هو التوحيد والعبادة، خاصة أثناء حديثه عن الانسجام الموجود بين موضوعات السور على اختلافها.
2.4. نموذج براون ويول
انطلق جوليان بروان « Gillian Brown » وجورج يول « George Yule » باتجاه آخر يختلف عن اتجاه « فان ديك » إذ اعتبر أن كل وحدة لغوية أكبر من الجملة تعد موضوعا لتحليل الخطاب، وطرحا من خلال كتابهما « تحليل الخطاب » جملة من العناصر على محلل الخطاب أن لا يغفلها، حيث تسهم هذه العناصر في انسجام النص، وهي كما يلي :
1.2.4. السياق
يقصد به « مجموعة العناصر الخارجية التي تساعد في نقل المعلومات أو تنشط التفاعل بين المرسل والمتلقي، فكل جملة مهما كانت تحتاج دائما إلى سياق يسند للجمل التي نجدها في كتب النحو والمؤلفات اللسانية سياقات تأويلية مبنية على القوالب اللغوية التي تساهم في البناء التأويلي له57» .
ويمكن القول أن السياق يطلق على :
«ـــ السياق اللغوي أو سياق النص.
ـــ السياق الخارجي أو سياق الحال والموقف أو سياق التلفظ.
ـــ سياق المعارف العامة المشتركة»58.
ويذهب « جوليان بروان » و« جورج يول » إلى أن الخطاب يجب أن يأخذ بعين الاعتبار السياق الذي يتكون من المرسل والمتلقي والزمان والمكان لأنه يؤدي دورا هاما في تأويل الخطاب، حتى أن ظهور قول واحد في سياقين مختلفين يؤدي إلى تأويلين مختلفين، وفي رأي « هايمس » « Hymes » أن خصائص السياق قابلة للتصنيف كما يلي59 :
-
-
المرسل : وهو المتكلم أو الكاتب الذي يحدث القول.
-
المتلقي : هو السامع أو القارئ الذي يتلقى القول.
-
المستمعون : هم مستمعون آخرون يساهم وجودهم في تحديد معنى الحدث الكلامي.
-
الموضوع : وهو محور الحدث الكلامي.
-
الظرف : أي السياق الزماني والمكاني للحدث.
-
القناة : كيف يتم التواصل بين المشاركين في الحدث الكلامي : الكلامن الإشارة، الكتابة…
-
الضفرة : اللغة أو اللهجة او الأسلوب المستعمل.
-
صيغة الرسالة : ما هي الصيغة المقصودة؟ خطبة ــ حكاية شعبية ــ رسالة...
-
المفتاح : ويتضمن تقييم الكلام، مثلا : هل كانت تلك الخطبة جيدة أم مجرد تفسير تافه...
-
الغرض : أي ماذا كانت تنوي الأطراف المشاركة التوصل إليه كنتيجة للحدث التواصلي؟.
-
ويرى هايمس أن هذه العناصر ليست بالضرورة متوفرة في جميع النصوص، بل أن محلل النص هو وحده الذي يحدد عناصر تحليله.
إن السياق الذي تحدث عنه « براون » و« يول » وخصصا له في كتابهما جزءا مهما، هو السياق الذي تحدث عنه « الزركشي » في كتابه « البرهان في علوم القرآن » حيث اشترط على المفسر مراعاة السياق اللغوي لتحديد المعنى المقصود.
2.2.4. مبدأ التأويل المحلي
تتمثل وظيفته الأساسية في تقييد « الطاقة التأويلية لدى المتلقي أو المحلل باعتماده على خصائص السياق، وذلك قصد تمكين المحلل من تحديد تأويل ملائم ومعقول60»، وعملية التأويل تملينا ـــ غالبا ـــ معرفتنا وتجربتنا في مواجهة الأحداث والمواقف السابقة التي تشبه من قريب أو من بعيد النص أو الموقف الذي نواجهه حاليا. فالتأويل المحلي في مواجهته للنص يعتمد تجاربنا السابقة، كما يعتمد على المعلومات الواردة في النص والمعلومات المحيطة به، وبفعل هذه الآلية « نستبعد التأويل غير المنسجم مع المعلومات الواردة في الخطاب»61، أي الالتزام بدوائر النص المعطاة دون التعسف في التأويل إذ يجب الابتعاد عن المعنى البعيد خاصة عند وجود معنى أقرب يمكن التدليل عليه مباشرة من النص، والتأويل في لغة العرب بمعنى التفسير، فـ » التأويل تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ولا يصح إلا ببيان غير لفظه62»، فعلى المفسر أن يراجع كلامه عند الشرح ولا يبتعد عن المعنى الأصلي، وهذا ما قام به « الزركشي » في تفسيره للقرآن الكريم من خلال كتابه « البرهان في علوم القرآن ».
3.2.4. مبدأ القياس
يعتمد محلل النص على تجاربه السابقة حيث يراكم عادات تحليلية وفهمية، وهذا عمل فيه « محاولة لربط شيء معطى مع شيء آخر غيره، وتتجلى أهمية التجربة السابقة في المساهمة في إدراك المتلقي للاطرادات عن طريق التعميم ولن يأتي له ذلك إلا بعد ممارسة طويلة نسبيا63»، فمبدأ القياس (المشابهة) هو اعتماد مقارنة نصوص حالية بنصوص سابقة، والقياس على معطيات السابق في اللاحق، والتشابه من الوسائل التي تساعد في تأويل النص وليس هو الوسيلة الوحيدة فقط، ذلك أن التشابه يرد بنسب مختلفة، فالتقارير والمضامين يلحقها بالضرورة اختلافا في النصوص، ولكن على الرغم من ذلك تبقى الخصائص النوعية للجنس التي نادرا ما يلحقها التغيير.
4.2.4. الموضوع
ينتظم الخطاب في شكل متتاليات من الجمل، متدرجة من البداية حتى النهاية أي أن الخطية من السمات البارزة في النص، فالعناصر اللاحقة تتعلق بالعناصر السابقة، إذ الجملة الأولى في أي نص لها الحظ الأوفر في التأثير على الجمل التالية، ذلك أن كل جملة تفهم بناء على معطيات الجملة التي قبلها، هذا ما جعل بعض الدارسين يعدون العنوان هو مفتاح العلاقات في النص لأنه يكون في البداية، فهو تلك « العلامة اللغوية التي تتقدم النص وتعلوه، ويجد القارئ فيها ما يدعوه للقراءة والتأمل64» إذ يثير لديه توقعات قوية حول ما يمكن أن يكونه كموضوع الخطاب، فعن طريقه تتجلى جوانب أساسية أو مجموعة من الدلالات للنص كما نرى ذلك في النصوص الصحفية مثلا.
كما نجد هذا واضحا عند « الزركشي » أثناء حديثه عن علاقات السور من خلال علاقة الانسجام بين فواتح السور وخواتمها.
خاتمة
وبهذا يمكن القول أنه بإعادة القراءة للمعطيات الموجودة في التراث العربي القديم (البلاغي – النقدي – الديني)، تطوير هذا التراث وبعثه من جديد عن طريق صياغة نظريات جديدة لها خصائصها المميزة وتلتقي مع النظريات الغربية المعاصرة، وما الجهود التي عرضناها إلا دليل على صدق هذا الأمر.