المقدمة
احتل الاسم الروائي « ياسمينة خضرا »، الذي يوقّع به الكاتب الجزائري « محمد مولسهول » أعماله الأدبية، مكانة متميزة في المشهد السردي المعاصر، من خلال تصدّر نتاجاته مراتب متقدمة في المبيعات. كما حاز العديد من الجوائز وافتك اعترافًا على المستوى العالمي، متجاوزًا حدود اللغة والجغرافيا والمرجعيات الثقافية. وقد تناولت أعمال « مولسهول » مواضيع إنسانية متعددة، ترتبط في مجملها بواقع يومي يشغل الرأي العام، كما شكّلت محاور جدل دائم على منصات الإعلام وأسالَت حبرًا كثيرًا في النقاشات النقدية. ويتمثّل المحور المركزي في هذه الأعمال في مقاربة قضايا العنف السياسي، والأمن، والهويات المتصدعة، بأبعادها النفسية والاجتماعية والسياسية.
الكاتب، من خلال تجاربه الشخصية ومطالعاته في هذا المجال، استطاع تقديم شخصيات روائية تنبض بالواقعية وتُثير أسئلة معقدة حول الانتماء والانكسار والهشاشة الوجودية، بما يبعث على تحفيز القارئ للانخراط في عملية القراءة والتماهي مع العوالم الروائية على نحو عميق.
اختلفت الفضاءات التي اتخذها السارد مسرحًا لمسروداته الفنية، فكانت مستلهمة من البعد الواقعي، ومشبعة برؤية نقدية تستبطن الطابع التفكيكي للمكان والهوية، ومبنية على تلمّس دقائق البنى النفسية والعوامل الموجهة لآليات السرد، وسيرورات تكوُّن الشخصيات في تفاعلها مع مكونات الفضاء الذي تتأثر به وتؤثر فيه.
تغدو اللغة السردية—الفرنسية التي كتب بها « ياسمينة خضرا »—لغة قريبة جدًا من اللغة المتداولة يوميًا، خصوصًا في بيئة فرنسية يغلب عليها عنصر الشباب، وما يحبذونه من استعمالات أسلوبية موسومة بالحيوية اليومية والانزياحات اللغوية. ويُعتبر عامل اللغة، وقربها من المألوف اليومي، من أهم العناصر الموجّهة لاختيارات القرّاء، وبالتالي في تحقيق رواجٍ ملحوظ للعمل الروائي. إن هذا الاشتغال الواعي على اللغة يجعل من النصوص فضاءً للتموضع الاجتماعي والرمزي، ويمنحها بعدًا تداوليًا يتجاوز الشكل الفني إلى الأثر الثقافي.
لن يعجز القارئ، من خلال تصفح أعمال خضرا، عن استشفاف نسق أسلوبي لغوي يبرز سمات الخصوصية التأليفية والأسلوبية للمؤلف. ويُلمس هذا الطابع الأسلوبي في بعض العبارات التي تتوارد في توصيف الشخصيات، أو في بعض المسكوكات المتكررة التي تعكس « بصمة » المؤلف اللغوية. وهذا ليس اكتشافًا جديدًا، فقد قامت قرائن عديدة على تطابق الأسلوب اللغوي مع هوية المؤلف في تاريخ النقد النصي.
في هذا السياق، وقع اختيارنا على مدوّنة تتألف من عدد من أعمال الروائي « مولسهول »، تتقاطع حول موضوع الهجرة وخطاب الهويات المهاجرة، بغرض مقاربة آليات تشكل الشخصية الروائية ضمن سيرورة دينامية بين التفاعل المكاني والتوترات الهووية.
تُعدّ رواية « خليل » مرتكزًا أساسيًا لتقديم هذه المقاربة، كما تسعى هذه الدراسة، بغرض توسيع أفق الرؤية النقدية، إلى إجراء تحليل مقارن بين روايات متعددة للكاتب، تتقاطع في بنياتها السردية وتمثلاتها للفضاء المغترب، بهدف استخلاص نتائج تفسيرية قادرة على تأويل الخطاب السردي والهوياتي ضمن منظومة اجتماعية وسياسية معقدة.
1. المنهجية ومبررات اختيار المتن
1.1. الإطار المنهجي للمقاربة
تجمع الأعمال المختارة في هذه الدراسة ميزة مركزية، تتمثل في معالجتها لتيمة متقاربة، إن لم نقل متطابقة، تتعلق بإشكالية الهوية وتمثلاتها ضمن فضاءات سردية مضطربة، مشحونة بالتوترات النفسية والثقافية. فالشخصيات الروائية في هذه المتون تسعى، بدرجات متفاوتة، إلى إعادة بناء ذواتها داخل حركية اجتماعية وسياسية غير مستقرة، تُنتج قلقًا وجوديًا وهشاشة في الانتماء تتفاقم كلما تعمّقت الأزمة السردية. ويتجلى هذا القلق في مستويات متعددة : من التصدّع الأسري، إلى الاغتراب المكاني والثقافي، وصولاً إلى التشظي في النظام الرمزي الذي يحتضن الشخصية ويحد من تموضعها.
ومن بين هذه الأعمال، تحظى رواية خليل بمكانة مرجعية، لما تحتويه من كثافة دلالية وتراكب بين خطاب الهجرة وخطاب التنظيمات المتطرفة، ولما تمثله شخصيتها المحورية من نموذج سردي معقّد. فـ« خليل » يُقدَّم منذ البداية كذات مغفلة من أي خصائص مدنية واضحة، محاطة بأسماء عابرة، وأشخاص بلا ألقاب أو أنساب. ويتكرر هذا النمط السردي في روايات أخرى مثل الصدمة وسنونوات كابول، حيث تُمثل الشخصيات ملامح لذوات مهددة أو مرفوضة، تعاني من فقدان التماهي مع الفضاء الذي يُفترض أنه فضاؤها، لكنها تُقصى منه بفعل العنف أو القمع أو الارتياب السياسي.
انطلاقًا من هذا التشابك الموضوعاتي، تقتضي القراءة تبني مقاربة منهجية وصفية تحليلية ذات طابع مقارن، تهدف إلى تفكيك السيرورات التكوينية للشخصية الروائية من خلال تموضعها داخل فضاء سردي متحوّل. وقد تم التوسل بالمقاربة المقارنة بغرض تسليط الضوء على التحوّلات الجمالية والرمزية التي تطال العلاقة بين الفضاء وبنية الهوية، خاصة في سياقات تُجابه فيها الشخصيات تحدّيات الاندماج، والاغتراب، والتهميش.
كما تسعى هذه المقاربة إلى اختبار آليات التلقي والتفاعل القرائي، من خلال مساءلة البنى الفنية والجمالية للنصوص، واستكشاف كيفية اشتغال الرواية على إعادة تشكيل مفاهيم الفضاء والهويات ضمن أدب ما بعد الهجرة، في ضوء نظريات الهوية والتمثيل كما صاغها منظّرون أمثال ستيوارت هول (Hall, 1996) ممن شددوا على الطابع السيَّال والمتحوّل للهوية في المجتمعات ما بعد الحداثية.
ويستند الإطار النظري إلى ثلاثة مفاتيح مفهومية مركزية : يُفهم الفضاء بوصفه حيّزًا سرديًا متخيّلاً يضطلع بوظائف تأطيرية ودلالية في بناء الشخصيات وتحديد موقعها داخل النسيج الروائي. أما الهوية، فهي تُقارب كمقولة فلسفية واجتماعية تتبلور من خلال علاقة جدلية بين « الأنا » و« الآخر »، وتُجسّد موقع الذات داخل منظومة ثقافية وقيمية متشابكة (لالاند، 2001). وأخيرًا، يُستثمر مفهوم الباراديغم لفهم كيفية انتظام التصورات والمواقف داخل أنساق مرجعية تُؤطّر التمثيلات والخطابات السردية (Armengaud, 2021).
2.1. مبررات اختيار المتن
يعود اختيار أعمال « مولسهول » إلى حضورها المتكرر داخل الحقل الروائي المغاربي المعاصر، وإلى تميزها في معالجة إشكالات الهوية داخل فضاءات الهجرة والتهميش والارتياب الوجودي. تتقاسم الشخصيات الروائية في هذه الأعمال هواجس التشظي والاغتراب والقلق النفسي، في ظل بيئات اجتماعية وثقافية وسياسية متغيرة ومأزومة.
وتُعدّ رواية خليل بمثابة نص مرجعي، نظراً لتشابك عناصر السرد فيها وغناها الرمزي من حيث تمثيلات الهامش، كما أن شخصيتها الرئيسية تُقدَّم منذ البداية كذات ممحوّة، محاطة بهويات غير مكتملة وألقاب مستعارة، ما يُضاعف من سردية التيه والانفصال الرمزي.
أما رواية الصدمة، فتعرض نموذجًا أكثر مأساوية للاغتراب، من خلال شخصية الطبيب « أمين » الذي يحاول الاندماج في فضاء الآخر (الاحتلال)، لكنه يُواجه بالريبة والرفض، خصوصًا بعد التفجير الذي ينسف نظام التموقع السابق، ويقلب علاقة الذات بمحيطها، حتى داخل العائلة ذاتها.
وفي سنونوات كابول، يتخذ الاغتراب منحى مغايرًا، حيث لا ينتج عن الهجرة بل عن تحوّل الفضاء المحلي إلى حقل سلطوي مغلق، يُمارس العنف باسم العقيدة، فيفقد الأفراد الثقة في المكان والزمان واللغة. وتلخّص العبارة : « ما أبعده، ذلك الزمن... أهو حقيقة أم خرافة؟ » هذا الانفصال الرمزي عن زمن منشود لم يعد له أثر.
انطلاقًا من هذا، يُتيح اختيار هذا المتن الوقوف عند آليات اشتغال الهوية داخل فضاء روائي متحوّل، بما فيه من مفارقات استعارية، وتموضعات سردية هجينة، تجعل من المهجر، أو حتى من الوطن، فضاءً هشًا وغامضًا، تتقاطع فيه ثنائيات : الحميمية/التهديد، الانتماء/الرفض، والألفة/القطيعة.
2. الهجرة والآخر : من الثنائية الكلاسيكية إلى تشظي الهوية الحديثة
حفلت الرواية العربية منذ بداياتها بثنائية « الأنا / الآخر »، باعتبارها إحدى البُنى التأسيسية للوعي السردي العربي الحديث. ويكفي أن نعود إلى عناوين بواكير الروايات في القرن التاسع عشر، مثل « وي... إذن لست بإفرنجي »، التي تُعدّ، في بعض القراءات النقدية، باكورة السرد العربي، لرصد هذا التوتر البنيوي. ففي هذه الرواية تتجسّد معضلة الهوية داخل الشخصية « إميلي »، التي تتأرجح بين زوج عربي يمثّل « الأنا »، وآخر أوروبي يجسّد « الآخر » (إبراهيم، 2016، ص 265–261).
ترتدّ جذور هذه الثنائية إلى زمن أسبق، حيث رسّخت المدونات الجغرافية وأدب الرحلة في العصور الإسلامية الكلاسيكية مفاهيم مثل « دار الإسلام » و« دار الحرب »، في تصنيف ثقافي-جغرافي يُعيد ترتيب العالم وفق حدود دينية وقيمية (Miquel, 1975, p. 533). وقد مُنح الفضاء الإسلامي موقع المركز، فيما صُوّر الآخر بوصفه بربريًا، دموياً، ومهدّدًا لكيان الذات.
وفي مرحلة ما بعد الاستعمار، عادت هذه الثنائية لتظهر مجددًا في سرديات الرحلة نحو الغرب، كما في عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، والحي اللاتيني لسهيل إدريس، وبلغت ذروتها في موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح. في هذه المتون، ظل الفضاء الغربي يشكّل رمزًا للغواية والعدوان، في مقابل « الأنا » الشرقية المشبعة بالتراث والمقدّس.
غير أن التحوّلات العالمية المعاصرة، وفي مقدمتها العولمة والثورة الرقمية، أدّت إلى تفكك هذه البنية الثنائية الصلبة. فالهويات لم تعد أنساقًا مغلقة، بل تحوّلت إلى تكوينات هجينة، متعدّدة، وهشّة في آن. في هذا السياق، لم تعد الهجرة مجرد انتقال جغرافي، بل أضحت أداة لإعادة تشكيل الخرائط الإنسانية، وانتقلت معها التمثلات من خطاب المركز والهامش إلى أشكال جديدة من الانتماء المعلّق.
برزت مأزق الهوية بشكل خاص لدى الجيل الثاني من أبناء المهاجرين، الذين وُلدوا في الغرب لكنهم ظلوا عالقين بين ثقافتين : الأولى لم يعيشوها إلا في صور فلكلورية موروثة عن « البلاد »، والثانية تنفي عنهم الانتماء الكامل رغم ميلادهم داخلها. وتحوّلت رمزية الوطن الأصل إلى أسطورة أليمة، لا تُستعاد إلا في لحظات الحداد، حين يُعاد دفن الجثامين في مقابر الأجداد، كما لو أن الوطن بات مرادفًا للوداع الأخير.
هكذا، تلاشت الروابط الثقافية التراثية، ودفع الفراغ الرمزي أبناء الشتات إلى البحث عن بدائل هووياتية، تتجاوز الثنائيات، وتُقيم حوارًا مع العالم من موقع التمزق والشك. في هذا الأفق، نشأت سرديات جديدة، تحمل صوتًا مبحوحًا، مرفوضًا من اليمين السياسي، وملتبسًا في تمثيله لدى اليسار، وغائبًا تقريبًا عن المنصات الأكاديمية والإعلامية التقليدية.
تندرج روايات ياسمينة خضرا ضمن هذا السياق السردي المتحوّل، إذ تُقدّم شخصيات مأزومة، مغتربة، تبحث عن تموضع داخل فضاءات معادية أو متصدعة، وتُسائل بنية الهوية بوصفها بناءً سرديًا هشًّا، لا معطى جاهزًا. وتشكل هذه الروايات أرضية خصبة لاختبار مفاهيم الهجنة، الانتماء السائل، والتمثيل المضاد، كما تصوغها دراسات ما بعد الكولونيالية.
3. تشكلات الذات الروائية في رواية « خليل » : من التصدّع الوجداني إلى تفكيك البنية العقائدية
1.3. تشكلات الذات الروائية في رواية « خليل » : من التصدّع الوجداني إلى تفكيك البنية العقائدية
خليل وفقدان بوصلة التوجيه يُجسّد « مولسهول » في شخصية « خليل » أحد أكثر تجليات الانشطار الهوياتي حدة في السرد الروائي ما بعد الكولونيالي، عبر إبراز التصدّع الوجودي الذي يعانيه أبناء المهاجرين داخل الفضاء الغربي، رغم محاولاتهم المتكررة للاندماج. يفتتح السرد بلقطة مكثفة دلالياً، تُقحم القارئ مباشرة في حدث عنيف (عملية انتحارية مفترضة)، داخل سيارة تتوجه نحو هدفها أثناء فعاليات كأس العالم (Khadra, 2018, p. 9)، بما يربط الزمن الروائي بمشهدية إعلامية عالمية تسهم في بناء التوتر النفسي والسيميائي للحدث. تُوَجّه سيميائية المكان والزمان القراءة نحو علاقة متشابكة بين هويتين متنازعتين : الأولى تمثّل صورة نمطية مُؤدلجة تقرن الإسلام بالعنف (الإسلاموفوبيا)، والثانية تتمثل في الغرب الذي يختزل ذاته في شعارات « الحرب على الإرهاب ». وفي قلب هذا الصراع يتموقع خليل، بصفته سرداً بصيغة المتكلم (ضمير الأنا)، مما يعمّق تجربة الاغتراب ويعكس تمزق الذات بين حُلم الخلاص وخطاب الفداء المزيف. يتقاطع هذا التموقع مع ما تصفه Judith Butler بهشاشة الهوية بوصفها أداءً قسرياً تمليه بنى الخطاب لا اختياراً ذاتياً، في ظل حرمان « خليل » من الاعتراف الرمزي والاجتماعي داخل أسرته ومجتمعه. يسائل « خليل » ذاته عن أثر « استشهاده » المفترض على أسرته، متخيلاً لحظة يتلقون فيها نبأ « استشهاده »، فيتساءل : « هل سيفتقدونني؟ » (Khadra, 2018, p. 12). سيمر الحدث على الجميع كاللاحدث، يطويه النسيان دون أن يثير أحزان أحد من الأسرة، باستثناء توأمه « زهرة » الوحيدة التي تعد ملاذه في الأسرة وموطن ثقته وأفراحه وذكريات الطفولة المبهجة. سيتبرأ منه الأب الذي ما كان يوماً قريبا، ولم يكن يشعر تجاه الولد الوحيد للأسرة غير عبء يعد التخلص منه بعدم الاعتراف نحوه بأي شكل من أشكال الروابط الأسرية، بل ترتسم صورة الأب من خلال قوله لـ« خليل » يوم تخلى عن الدراسة : « الحمار يبقى حماراً ولو كان ببردعة مذهبة » (Khadra, 2018, p. 54). طبعت هذه الجملة العلاقة بين الوالد وابنه الذي قلما يلتقيان. تُقدَّم صورة الأم بوصفها منكسرة ومستسلمة، « لم تراوح نقطة البداية في حياتها البائسة » (Khadra, 2018, p. 12)، وبقيت خاضعة خانعة، مما جعل صورتها لدى ابنها امتداداً لصورة الأب، وخلق مسافة لم تقلصها روابط الأمومة التي تجلها الشرائع السماوية والقيم الإنسانية. في غياب دفء العائلة، يلجأ « خليل » إلى تعويض رمزي يتجلى في الانتماء إلى فضاء بديل هو الشارع. هناك، تتحول الهامشية الاجتماعية إلى مأوى دلالي، حيث يصبح الأصدقاء بديلاً عن العائلة، والمسجد فضاءً رمزياً جامعاً بين الروحي والسياسي، شبه عسكري في أحيان كثيرة. تتقاطع حياة الشاب المغترب مع شخصيات محورية تُجسد ثنائيات تأويلية وجودية متناقضة. فمن جهة، هناك « موكا »، الكهل الذي يلتف حوله الفتية للاستماع إلى قصصه الملفقة حول مغامراته وطيشه، وبطولاته الزائفة. هو النموذج الذي يتحول لاحقاً إلى موضوع ريبة من قبل خطيب المسجد وأعضاء الجمعيات الأخلاقية. ومن جهة أخرى، « إلياس »، صديق الطفولة من حي مولنبيك البلجيكي، الذي صار أميراً في جماعة دينية تعمل تحت غطاء العمل الخيري. تمثل هاتان الشخصيتان قطبي التناقض الذي يحكم بناء الذات السردية : « موكا » يمثل فضاء الانفلات والعبث والانحراف، بينما يمثل « إلياس » خطاب التديّن الصارم والمجند. في ضوء نظرية interpellation عند Althusser، يُستدعى « خليل » عبر خطاب « إلياس » ليتحول من ذات باحثة عن معنى إلى موضوع مستهدف بالتجنيد والدمج القسري. فالتوتر هنا ليس فقط بين الأخلاقي والديني، بل بين الذات كفاعل والذات كموضوع. تتأرجح شخصية « خليل » بين تأثير « إلياس » المنظم والسلطوي، و« موكا » العشوائي والهامشي. في لحظة فشل تنفيذ التفجير، يعود خليل إلى « موكا » لا كمجرد ملاذ فيزيقي، بل كمجال للتفكر في عبثية الموت الانتحاري. يمثل الحوار بينهما لحظة « تفكيك خطاب الجهاد » بلغة بسيطة، إنسانية، مباشرة، بل ومربكة. هنا، لا تُستدعى المرجعيات الشرعية، بل تُستعاد إنسانية الذات المفجوعة، ويبدأ التصدع في البنية العقائدية المؤسسة للخطاب الجهادي.
2.3. الصداقة بديلاً : إعادة تشكيل الانتماء عبر العلاقات غير الدموية
تُمثل الصداقة في رواية « خليل » بديلاً فعّالاً عن الانتماء الأسري المفكك، وتشكل بؤرة مركزية لإعادة تشييد الذات ضمن روابط غير قائمة على الدم أو النسب، بل على الاختيار الحر والانجذاب العاطفي والأخلاقي. في سياق تفكك الروابط العائلية التقليدية، تصبح علاقة خليل بكل من إدريس وريان نموذجًا لتحولات الهوية الحديثة، حيث تلعب « القرابة المُختارة » (kinship by choice)، كما توضحها الأنثروبولوجيا الثقافية، دوراً محورياً في صوغ الانتماء داخل شبكات غير تقليدية من التضامن الوجداني.
يشكل إدريس النموذج القيادي في هذه المعادلة الثلاثية؛ فهو من رافق « خليل » في مختلف مراحل حياته، من الإخفاق الدراسي والسعي للشغل، إلى الانخراط في عالم الجماعات، ثم إلى نهاية المطاف قبيل عمليات تفجير باريس. لقد كان رفيقًا إلى آخر رمق، وهذا ما يفسر الحسرة والفراغ الشعوري الذي رافق « خليل » بعد عودته إثر فشل مهمته الانتحارية، بسبب الخلل الذي وقع في برمجة عُدّة التفجير. شكّل غياب « إدريس » منعطفًا تكاثرت فيه الأسئلة والشكوك محاصِرة البطل لترسم معالم شخصيته بشكل تعاظمت فيه عوامل التيه مادياً ومعنوياً. فتمثل التيه المادي في غربته المكانية عن مدينة باريس ومخاوفه من ضياع إمكانيات العودة، أما معنوياً فقد تمثل في اكتشافه لوجه من وجوه المعاملة والمكانة التي تُقدّر بها قيمة الشخصية « الشهيد الانتحاري » لدى رؤسائه.
في هذا السياق، يتقاطع تصدع خليل مع أطروحة Giorgio Agamben حول « الحياة العارية » (bare life)، حيث يُنظر إلى الفرد بوصفه جسداً قابلاً للتخلص منه ضمن منطق سلطوي مغلق. فخليل، بوصفه ذاتًا قابلة للتضحية، يُحرم من agency، ويتحوّل من فاعل إلى مجرد أداة تفجير خاضعة للتحكم عن بُعد.
يظهر « ريان » الفتى الذي عاش مدللاً تحت رعاية والدته، من أصول « بربرية »، التي سعت لأن يتلقى تعلماً مميزًا وبتفوق، متحصلاً على كل ما يتطلبه النجاح من هدايا وجوائز، من حاسوب شخصي ووسائل ألعاب وتسلية (Khadra, 2018, p. 40). نشأ « ريان » نشأة غربية، فكان يمثل الفئة التي اندمجت في المجتمع الغربي، مازجًا بين حد أدنى من الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي والعيش وفق القالب الثقافي الغربي.
يستعين « خليل » بصديق طفولته، « ريان »، كمنقذ له لإخراجه من باريس، عقب حدوث الانفجارات، والذي يفلح في الأمر مبعدًا إياه عن المدينة والعودة به إلى بلجيكا سالمًا من كل شبهة، على الرغم من انتشار قوات الأمن (Khadra, 2018, pp. 25–28). يبقى « خليل » مترددًا على بيت « ريان » في فترة الاختباء إلى أن يسعفه هذا الأخير بمنصب يشتغل به لدى أحد معارفه في العمل. تتخلل اللقاءات بين الصديقين حوارات ونقاشات تتكشف من خلالها المواقف المتباينة بين تيارين وإيديولوجيتين تشكل معالم هويات متناقضة ومتباينة تبقي على حد أدنى من العلائق.
يكتشف « ريان » الجانب الذي أخفاه « خليل » عن ارتباطه بالأعمال التي هزت باريس، باكتشافه للحزام الذي عثرت عليه أخته الكبرى « يزا » في بيتها عندما أخفاه أخوها. تكاد العلاقة بين الصديقين أن تنقطع، بل قد انقطعت بالفعل، لكن رابطًا خفيًا يبقيهما على اتصال. تتجلى هنا هشاشة العلاقات المختارة حين تُختبر أخلاقيًا وتُوضع في مواجهة مباشرة مع العنف والخداع.
في لقاءاتهما داخل فضاء الاختباء، تظهر حوارات ثنائية مكثفة تتضمن نقاشات تتراوح بين الإيمان، الهوية، العنف، وموقع الإنسان من المنظومات الاجتماعية والسياسية. هذا الحوار، وإن لم يُحسم، يفتح فجوة في وعي خليل، تجعله يدرك أن الصداقة، رغم كونها ملاذًا، ليست دائمًا حائطًا صلبًا أمام الانهيار. بل تتحول إلى جهاز نقدي يمكّن الذات من مساءلة الأنساق المغلقة والانتماءات القسرية. في هذا المعنى، تصبح الصداقة نفسها شكلاً من أشكال المقاومة الرمزية، ومنصة لإعادة تشكيل الذات خارج سطوة التنظيم.
3.3. موت زهرة : انهيار الرابط العاطفي وتحوّل الإدراك الهوياتي
3.3. موت زهرة : انهيار الرابط العاطفي وتحوّل الإدراك الهوياتي يُعتبر قضاء « زهرة » على إثر إصابتها في إحدى عمليات التفجير التي مست مترو الأنفاق منعطفًا حاسمًا في تكوين شخصية « خليل ». فالبطل لم يعلم بالأمر إلا متأخراً بسبب انخراطه في التحضير لعملية تفجير أريد لها أن تكون على التراب المغربي، رداً على ترحيل أحد قادة التنظيم للمغرب من بلجيكا. ينهار إثر ذلك عندما يذهب للاطمئنان عنها فيجد العائلة تتلقى العزاء، تهاجمه « يزا » موبخةً إياه أن هذا من أعمال « إخوانه »، ويطرده أبوه في الوقت الذي تجاهلته الأم. سيكتشف أنه آخر من يعلم بموت أخته بعد أن يتلقى العزاء من « إلياس »، مبلغه إياه تعازي مشايخ التنظيم.
تغير الموقف يظهر في حزن عميق، لدرجة الانهيار، لفقد أقرب شخص في الأسرة. كما يظهر في دلالة ارتباطه بالذهاب للتنزه على الشاطئ متذكراً شواطئ المغرب بمدن النظور والسعيدية، وذكريات اللعب مع الشقيقة « زهرة ». ومن الدلالات التي فهمها لاحقًا أن إصابته بالوعكة الصحية كانت مؤشراً على أن أقرب المقربين إليه كان ينزف دماً. كل هذه الدلالات التي يحملها الموت كانت تمرّ عليه ببرودة حين كان الحديث عن ضحايا آخرين كـ« إدريس » أو ابنة خالته، لكنه الآن ينهار أمام الحزن الحميم.
في هذا التحول الدرامي، يمكن استدعاء مفهوم « الذاكرة المتجسدة » (embodied memory) كما تصفه Annette Kuhn وPierre Nora، إذ يصبح الجسد وسيطاً لنقل الإحساس بالفقد، حتى دون معرفة عقلية بالحادث. كما يتقاطع هذا المشهد مع أطروحة Marianne Hirsch حول « الذاكرة ما بعد الصدمة » (postmemory)، حين تفيض العاطفة من خلال التفاصيل الصغيرة المؤجلة.
يأتي الحزن على « زهرة »، التي كانت زهرة العائلة على الرغم من إخفاق زواجها، لأن آخر عهد « خليل » بها انتهى بمغادرتها حزينة على حال أخيها العاق الذي يرفض المصالحة مع الوالد الذي يعاني من أمراض عضال. كانت الأخت ترجو أن يتصالح الأخ مع الوالد، الذي ليست هناك من الشرائع السماوية التي تعطي الحق أو تتسامح مع الإهانة التي يتلقاها من ولده، الذي كثيراً ما ينعته بالخنزير. رحلت « زهرة » ودمعها على حال الأخ الشقيق لم يجفف، ولم ينطفئ حزنها على حال تفكك أواصر الصلة العائلية.
شكلت دموع « زهرة » ودمها المراق ما يشبه « اللعنة المؤجلة » التي كانت تخشاها شخصية « إلياس »، فبينما كان التنظيم يحاول إسكات تساؤلات الشك والريبة التي أثارها فشل مشروع التفجير في مترو (RER) الباريسي، عبر الادعاء بأن الحزام لم يكن موجهاً للتفجير بل كان عدة من عدة التدريب، كانت لعنة زهرة تحوم كإدانة صامتة لخطاب يمجد الفداء ويهمل الروابط الحية.
إن هذا التحول في موقف خليل لا يمثل مجرد ردة فعل عاطفية، بل بداية لتفكيك إدراكه للهُوية والانتماء. إذ تتحول الذكرى إلى قوة دافعة نحو إعادة تقييم موقع الذات داخل دائرة القربى، حيث تتقدم الرابطة الأخلاقية على الانتماء العقدي. وتتحول زهرة، بعد موتها، إلى رمز للضمير الغائب، ومرآة يرى فيها خليل تشظي خياراته وعواقبها الأخلاقية.
4.3. عالم من الأكاذيب : تفكك المعنى وانهيار المرجعيات
4.3. عالم من الأكاذيب : تفكك المعنى وانهيار المرجعيات تعج حياة الشخصية الرئيسية في رواية « ياسمينة خضرا » بالأكاذيب والمواقف المخاتلة التي تدعو القارئ للتساؤل حول هذه الكثافة المتراكمة. فـ« خليل » لم يكن منخرطاً في التنظيم إيماناً ولا التزاماً بالمبدأ، بل خوفاً من ملاحقات « إلياس » وإلحاحه. مثلما كان يجلس مستمعاً لمغامرات « موكا » وهو مقتنع بعدم مصداقية أقواله، لكنه كان يجد فيها شكلًا من أشكال العزاء السردي أو الحكاية المُسَكِّنة.
يمارس خليل الكذب على مختلف المستويات :
-
يكذب على « ريان » بادعائه أن وجوده في باريس هدفه منع إدريس من تنفيذ العملية.
-
ويخدع أخته « يزا » بمبررات زائفة عن مكان وجوده.
-
ويُخفي عن « زهرة » تفاصيل ارتباطه بالتنظيم مدعياً نيته الزواج والعمل في النجارة.
تتراكم هذه الأكاذيب حتى تغدو بنية سردية قائمة بذاتها. فالكذب هنا ليس فعلاً فرديًا فحسب، بل تعبير عن تمزق داخلي وشروخ هويوية تجعل الحقيقة عبئًا لا يمكن تحمله. وبهذا يتحقق ما يسميه Jean Baudrillard بعالم « المحاكاة » (Simulacre)، حيث يتم استبدال الحقيقة بنسخ مُتخيلة تبدو واقعية ولكنها خادعة.
لكن خليل ليس فقط فاعلاً في شبكة الأكاذيب، بل ضحية لها أيضاً. لم يكن يعلم أن الحزام الناسف الذي ارتداه كان معدًا للتدريب، وأنه كان قابلاً للتفجير عن بُعد دون علمه، مما يعني أنه لم يكن يمتلك agency (الفاعلية الذاتية)، بل كان مجرد أداة ضمن نظام مغلق يتلاعب بالأفراد تحت رايات الإيمان والانتماء.
ينتقل الكذب من المستوى الفردي إلى مستوى مؤسساتي :
-
التنظيم يُجهّز شهود زور.
-
العناصر « الملتزمون » يعيشون حياة مزدوجة : خطاب زهد وسلوك منحرف.
-
و« إلياس » يُخفي أهدافاً نفعية خلف خطاب تبشيري مُحكم.
في هذا السياق، يتعلّم خليل « فن النجاة عبر الكذب »، لا كخيار، بل كضرورة وجودية داخل بيئة مختلّة. يُقنع الأمير « إلياس » بصدق تصميمه على تنفيذ مهمة مراكش، رغم أنه داخليًا يُخطط للانسحاب. هذا الموقف يمثل قمة التحول السردي في شخصية خليل، حين يتجاوز مرحلة الانقياد إلى فعل الخداع الواعي، في عملية يقودها نحو الفشل عمداً.
النهاية المفتوحة تُعقّد تأويل شخصية خليل :
-
هل هو بطل أم ضحية؟
-
مقاوم أم خائن؟
-
ملتزم أم مراوغ؟
هذه الأسئلة تبقى بلا إجابة، لأنها تنتمي إلى صميم المأزق الوجودي للذات الحديثة المتشظية، في عالم تنهار فيه المرجعيات وتُكافأ فيه المراوغة على حساب الصدق. الرواية هنا تطرح رؤية قاتمة للمعنى، حيث ينجو الأكذب لا الأصدق، ويصير القناع وسيلة وحيدة للبقاء.
خاتمة
تفضي هذه المقاربة التحليلية، وإن كانت أولية، إلى عدد من النتائج التي تُبرز فرادة الرواية قيد الدراسة، لا فقط من حيث موضوعها، بل كذلك من حيث زوايا معالجتها السردية والبنيوية. تتجلى أهمية رواية خليل في قدرتها على مساءلة البنية التقليدية للهوية والانتماء، عبر أدوات سردية مكثفة، وشخصيات مركّبة تمثل شروخًا نفسية واجتماعية عميقة في الفضاء الغربي.
يستمد النص الروائي تفرده من خلفية مؤلفه « محمد مولسهول » الذي يحمل تجربة مهنية في الحقل الأمني، ما يمنح العمل عمقًا معرفيًا ودراية دقيقة بآليات العنف السياسي، وتقاطعاته مع قضايا التهميش والهجرة.
وفي ضوء التحليل السابق، يمكن صياغة النتائج التالية :
-
أولًا، تعالج الرواية ثيمة حساسة ونادرة التناول في الأدب العربي والعالمي على حد سواء، تتمثل في العنف المرتبط بالمنظومات الإيديولوجية والسياسية، وما ينتج عنها من تشظيات نفسية وتمزق اجتماعي، ضمن عالم يعيد باستمرار رسم خرائط الانتماء والرفض.
-
ثانيًا، تقدم الرواية تصورًا حداثيًا للعلاقة بين الشخصية والفضاء، عبر كسر النمط التقليدي لثنائية « الأنا / الآخر »، التي طالما استندت إلى تصنيفات دينية وثقافية جامدة، وأعيد إنتاجها لاحقًا في أدبيات ما بعد الكولونيالية. لكن « خليل » يعيد مساءلة هذه الثنائية لا من موقع المقاومة، بل من موقع التهجين والخذلان، مما يُحدث زلزلة في فهم الهوية ذاتها.
-
ثالثًا، تقدم الرواية شخصيات مكتملة الأبعاد النفسية والاجتماعية والمادية، بما يُحيل إلى نقد اجتماعي حاد للبنى التي تنتج الهويات القلقة وغير المستقرة، في ظل دينامية اجتماعية متسارعة داخل فضاءات التماس بين الثقافات.
-
رابعًا، يتخذ الخطاب الروائي بُعدًا حجاجيًا واضحًا، يُحمّل الفئات المثقفة مسؤولية بناء خطاب جامع، قادر على احتواء فئات الهامش التي لم تجد سبيلاً للتأقلم، لا مع مرجعياتها الثقافية الأصلية، ولا مع قيم المجتمعات المستقبلة. وهنا تسهم الرواية في فتح أفق حواري يؤسس لممكنات الاندماج السلمي.
-
خامسًا، جاءت اللغة الروائية كوسيط فني وثقافي، تُجسّد فيه إمكانيات التعدد والتعايش. فدرجة امتلاك اللغة ومهارات استعمالها داخل النص تصبح مؤشراً على الاندماج، ومقياسًا رمزيًا للهُوية الثقافية الهجينة.
في المجمل، تُعيد رواية خليل طرح سؤال الهوية، لا بوصفه معطى ثابتًا، بل باعتباره عملية مستمرة من التفاوض، والمساءلة، والانكسار. وهي بذلك تنخرط في مشروع سردي يُسائل الذات، والمجتمع، والخطاب، في آنٍ معًا.