مقدمة
قُرئ الخطاب السياسي بعدّة مقاربات نقدية، وتناوله الدارسون من زوايا عديدة، وظلّ موضوعاً مثيراً للنظر والبحث والقراءة، ولاسيما بما وفرته لنا المعارف الحديثة من مناهج نقدية أبانت عن مرونة ونجاعة كبيرة في استنطاق مختلف الخطابات والأجناس الأدبيّة، وسنحاول في هذا المقال النظر إلى الخطاب السياسي من زاوية مغايرة تُعنى بالحجاج والمحاجّة متخذين من خطاب دونالد ترامب الذي أعلن فيه القدس عاصمة إسرائيل متناً تمثيلياً للدراسة والمقاربة، وعليه سنبحث في هذا المقال مجموع التقنيات الحجاجيّة، والسياسيات الخطابيّة التي اعتمدها دونالد ترامب في الدفاع والدب عن قراره السياسي الذي أعلن فيه القدس عاصمة للاحتلال إسرائيل مع نقل السفارة الأمريكية لإسرائيل، مستبصرين في ذلك بنظرية الحجاج المنطقي البلاغي التي أرسى قواعدها كل من الباحثين شاييم بيرلمان، وألبرخت تيتكاه، وعليه سنحاول في هذه الورقة البحثية مناقشة الإشكاليات التاليّة :
-
ما هو مفهوم الخطاب السياسي المعاصر.؟
-
ما هو مفهوم الحجاج في الدراسات البلاغة والمنطقية واللغويّة المعاصرة
-
ما هي المقومات الحجاجيّة والتقنيات الخطابيّة التي اعتمدها دونالد ترامب في دفاعه عن موقفه السياسي الذي أعلن من خلاله القدس عاصمة لإسرائيل.؟
وهذا ما سنحال الإجابة عنه في خاتمة البحث.
1. الإطار العام للدراسة
1.1 مفهوم الخطاب السياسي
يتحدّد مفهوم الخطاب السياسي في أدبيات العلوم السياسية بأنه كل خطاب مرّكز موجّه لأجل إقناع متلقي ما، أو للتعديل من سلوكاته ومواقفه التي لها علاقة بالدولة وتوجهاتها الداخلية والخارجية، ويستمد الخطاب السياسي زخمه وأهميته من شخصية مرسله والمقام الذي يتم فيه، فضلاً عن بنيته اللغوية وما تتضمنه من دلالات وأفكار وأساليب بلاغية هدفها إقناع المتلقي واستمالته، (محمد الوالي: 2004م، ص124.) أما وظيفته فتكمن في حمل رسالة، أو نشر إيديولوجيا سياسية، أو تحريك الشعوب وتحفيزها لأجل القيام بأفعال وأعمال محدّدة تُكسبُ السياسي شرعية شعبية يستمد من خلالها سلطته وقوته، وبهذا يصبح الخطاب السياسي أحد أشكال التعبير المُرَّكَز والمُسيّج باستراتيجيات مدروسة ومقصودة، بعيداً عن الارتجال والاعتباطية.
وينبني الخطاب السياسي على فعل الحجاج باعتباره خطاباً يروم الإقناع والتأثير والدفع نحو الإنجاز، ويتحقق المعطى الحجاجي في الخطاب السياسي من خلال عدّة معطيات، منها ما هو لغوي لساني، مثل معجم الخطاب وتراكيبه وكيفية تمركزها داخل الخطاب، ومنها ما هو بلاغي تقني مثل، الآليات الحجاجية بأبعادها المنطقية والبلاغية المسخرة داخل الخطاب.
وعليه يمكن القول أن الخطاب السياسي يستمدّ مشروعيته الحجاجية لأنه ردٌ قبليٌّ أو بعديٌّ على الاعتراضات التي يمكن أن يواجهها السياسي، ( رويض محمد : 2013م، ص34.) لذلك يمكن القول بأنه الخطاب السياسي هو خطاب حجاجي بامتياز يسعى إلى تمكين الحقائق والقرارات وترسيخها في كيانات المتلقين.
2.1. مفهوم الحجاج في الدراسات البلاغية واللغوية المعاصرة
عرَّف بيرلمان وتيتكاه الحجاج argumentation بعدّة مفاهيم منطلقين فيها من موضوع الحجاج الذي هو « درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات، أو تزيد في درجة ذلك التسليم »، (عبد الله صولة : 2007، ص25)، مفهوم ارتبط بمختلف أنواع الحجج المودعة في الخطاب، والتي تعمل على إقناع persuasion المتلقي بما يعرض عليه من أفكار وآراء، أو تدعيم تسليمه بأفكار مسبقة كانت لديه محلّ شكٍ، وقد ركز بيرلمان في هذا المفهوم على ضرورة البعد العقلاني للحجاج وعدم اعتباطيته وتلاعبه بعواطف المخَاطب، لأن الحجاج في نظره معقولية وحرية يستطيع المتلقي من خلاله الاعتراض على ما يُعرض عليه من أفكار وتوجهات عكس الاستدلال المنطقي الصارم الذي يجعل المخاطب في حالة ذهول وخضوع واستلاب. (عبد الله صولة : 2011، ص11)
ويعرفه في موضع آخر انطلاقا من بُعده التداولي فيقول : « غاية كل حجاج أن يجعل العقول تذعن لما يطرح عليها أو يزيد في درجة ذلك الإذعان، فأنجع حجاج ما وُفّق في جعل حدّة الإذعان تُقوِى درجتها لدى السّامعين بشكل يبعثهم على العمل المطلوب – إنجازه أو الإمساك عنه- أو ما وُفِق على الأقل في جعل السامعين مهيئين إلى ذلك العمل في اللحظة المناسبة »، (عبد الله صولة : 2011، ص11) تعريف ركزّ فيه بيرلمان على الغائية لا الماهية، إذْ نلمحه يقرن الحجاج بالإقناع الذي يُعد جوهر العملية الحجاجية وغايتها المنشودة والذي يُقدِمُ من خلاله المتلقي على فعل إنجازي أو يُمسك عنه، أو يتهيأ للقيام بعمل ما، لذلك يُعرف الحجاج بوصفه فعلاً يتّسم بالبراغماتية انتقل به بيرلمان من دائرة الخطاب والتلفظ إلى دائرة ما ينتج عن الخطاب بدفع المخَاطب إلى الفعل والعمل والانجاز، فالحجاج هو علاقة تخاطبية تفاعلية بين المخاطِب والمخاطَب مبنيٌة على أسس عقلية طابعها العقلانية وحرية الاختيار، وهذا ما يؤكد عليه بيرلمان بقوله : « ليس الحجاج في النهاية سوى دراسة لطبيعة العقول، ثمّ اختيار أحسن السبل لمحاورتها، والإصغاء إليها، ثمّ محاولة حيازة انسجامها الايجابي l’adhésion positive والتحامها مع الطرح » (محمد سالم ولد محمد الأمين، 2013، ص68) وهنا ركّز بيرلمان على ذهنية المتلقي التي لا يستطيع المحاجج استمالتها بدون معرفة طبيعة تفكيرها ومواطن قوتها وضعفها.
وإن كانت رؤية بريلمان للحجاج رؤية بلاغية شبه منطقيّة، فقد تناوله أزفالد ديكرو من وُجهة لغوية رأى من خلالها بأن اللغة تحمل في جوهرها وظائف حجاجية تأتي من بنية الأقوال اللغوية لا من مضمونها الإخباري، (رشيد الراضي، 2005، ص255) فهي بذلك تعالج ما يتضمنه القول من قوة حجاجية تُمَثِل مكونا أساسيا لا ينفصل عن معناه فتجعل المتكلم في اللحظة التي يتكلم فيها يُوجه قوله وُجهة حجاجية ما، (شكري المبخوت، 2007م، ص352) فاللغة تكتسي قوتها الحجاجية من خلال العلائق التي تنشئها والتسلسل المنطقي الذي تخضع له بفعل العقل الذي تستند إليه في بنيتها التركيبية.
ويتوفر الخطاب الحجاجي عند ديكرو على بعض العلامات التي تحدّد وُجهتهُ الحجاجية، وهذه العلامات هي عبارة عن آليات تشتغل داخل الخطاب بصور مختلفة، فتكون تارة عبارة عن عوامل حجاجية، أو روابط حجاجية، أو بعض الظواهر كالقسم أو الاستفهام أو التضمين أو الاقتضاء.... إلخ (رشيد الراضي، 2005، ص225) فالاهتمام في هذه المقاربة يكون مرّكزاً بدرجة كبيرة على الوسائل اللغوية، وإمكانات اللغة الطبيعية التي يُسخرها المتكلم في توجيه خطابه نحو وجهة حجاجيّة محدّدة ومرسومة المسالك.
2. التحليل الحجاجي لخطاب دونالد ترامب (القدس عاصمة إسرائيل )
نروم في هذا المقام إبراز أهم المقومات الحجاجية التي ساهمت في تكوين البلاغة الحجاجية لخطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أثناء إعلانه القدس عاصمة لإسرائيل، وقد رأينا أن نتخذ من هذا الخطاب السياسي متناً تمثيلياً حتى يُتيح لنا الكشف عن طبيعة البلاغة الحجاجية التي يُفرزها الخطاب السياسي والذي عادةً ما يتخلّق في سياقات تواصلية تتسم بالوظيفيَّة والإقناعية والقصدية التداولية، وكل هذه المعطيات دفعتنا إلى فحص وتحليل هذا الخطاب وفق مقاربة بلاغية تتيح لنا الكشف عن آلياته الحجاجية وسياسته الخطابية التي استعان بها دونالد ترامب في سبيل تمرير أفكاره السياسة وتوجهاته الإيديولوجية التي يسعى إلى تمكينها في كيانات متلقيه، ودفعهم إلى تقبلها والعمل بمقتضياتها.
1.2. السياق العام لخطاب دونالد ترامب
إنّ إعادة بناء السياق في النظرية الحجاجية المعاصر ضرورةٌ لا تنفصل عن دراسة تشكلات النص وتقنياته الخطابية والإقناعية, لذلك رأينا أنه من الضروري إعادة بناء السياق العام لخطاب دونالد ترامب، بناء يتوافق مع الرؤية البلاغية المعاصرة التي تنادي بضرورة صياغة جديدة لسياقات مختلف الخطابات لاكتساب « معرفة جديدة بالمتكلم والمخاطب وطبيعة العلاقة بينهما والسياق المكاني لتداول الخطاب »، (عماد عبد اللطيف، 2013، ص26) وعليه، سنعمل في هذا على بناء السياق العام المصاحب لخطاب دونالد ترامب الذي أعلن من خلاله القدس عاصمة لإسرائيل.
أما صاحب الخطاب فهو دونالد ترامب الرئيس الأمريكي المنتخب سنة 2016 م عن الحزب الجمهوري، وقدّ تم الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يوم 6 ديسمبر 2017م، الموافقة للذكرى الخمسين لـ”تحرير” القدس من عدوان حزيران (يونيو) من العام 1967، وجائزة تقديرية لها بمُناسبة مرور حوالي سبعين عامًا على زرع الكيان الصهيوني من قبل الاستعمار في فلسطين.
وقد تضافرت جملة من المؤشرات جعلت دونالد ترامب يتخذ هذا القرار التاريخي الذي عجز عنه باقي رؤساء أمريكا، من بينها الوعود الانتخابية التي كان من ضمنها التزامه التام بالاعتراف أنّ القدس عاصمة إسرائيل، وهناك عوامل أخرى دفعته إلى اتخاذ هذا القرار أهمها : التمزق والتفتت الذي تعيشه مختلف الدول العربية نتيجة الربيع العربي، بالإضافة إلى الحروب الواقعة في مختلف المناطق الإسلامية من ليبيا إلى العراق إلى سوريا إلى اليمن وصولا إلى باكستان وأفغانستان، كما كان لتفكك المشروع السياسي الوطني داخل دولة فلسطين دور بارز في اتخاذ هذا القرار، كل هذه العوامل دفعت بدونالد ترامب إلى اتخاذ هذه الموقف التاريخي.
وعلية نستنج أن السياق المؤطر لخطاب دونالد ترامب (الزمان، المكان، العوامل، المؤشرات) مشحون بطاقات حجاجية وإقناعية دفعت به إلى اتخاذ هذا القرار التاريخي، وتضافر هذه العوامل هو الذي سيرفع من القيمة الحجاجية لمضمون خطابه السياسي.
1.1.2. خطاب دونالد ترامب
يقول دونالد ترامب : « عندما تسلمت السلطة (في 20 يناير / كانون الثاني الماضي) كنت وعدت بأن أنظر للتحديات التي يواجهها العالم بعيون مفتوحة، وبتفكير مرن، نحن لا نستطيع حل مشاكلنا بتقديم نفس الفرضيات الفاشلة، وتكرار نفس الاستراتيجيات القديمة. جميع التحديات تتطلب اتباع نهج جديد، قراري اليوم يمثل بداية لنهج جديد تجاه الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين.
عام 1995، تبنى الكونغرس قانونا يحث الحكومة الفيدرالية على نقل السفارة الأمريكية (من تل أبيب) إلى القدس، والاعتراف بأن تلك المدينة ذات الأهمية الكبيرة، هي عاصمة إسرائيل.
وقد مرر الكونغرس هذا القانون بأغلبية ساحقة من الحزبين (الجمهوري والديمقراطي)، وأعيد تأكيده بالإجماع من قبل مجلس الشيوخ (إحدى غرفتي الكونغرس) قبل 6 أشهر فقط، لكن، ومنذ أكثر من 20 عاما، جميع الرؤساء الأمريكيين السابقين أخّروا ذلك القانون، ورفضوا نقل السفارة الأمريكية إلى القدس أو الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وسيكون من الحماقة أن نعتقد أن تكرار النهج نفسه تماما سيخلص بنا إلى نتيجة أفضل أو نتيجة مختلفة، لذا، قررت أنه حان الوقت للاعتراف رسميا بالقدس عاصمة لإسرائيل.
اليوم أنا أفي بوعودي، أنا رأيت أن اتخاذ هذا القرار يصب في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، وفي مصلحة السعي إلى تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
قبل 70 عاما، اعترفت الولايات المتحدة تحت قيادة الرئيس (هاري) ترومان بدولة إسرائيل، ومنذ ذلك الحين، جعلت إسرائيل عاصمتها في مدينة القدس. عاصمة الشعب اليهودي، التي أنشئت في العصور القديمة.
اليوم، القدس هي مقر الحكومة الإسرائيلية الحديثة. هي مقر البرلمان الإسرائيلي، كذلك المحكمة الإسرائيلية العليا، والكنيست (البرلمان)، هي (القدس) موقع الإقامة الرسمي لرئيس الوزراء والرئيس، وهي مقر للعديد من وزراء الحكومة.
على مدى عقود، اجتمع رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، ووزراء الدولة، والقادة العسكريون مع نظرائهم الإسرائيليين في القدس، كما فعلت أنا في رحلتي إلى إسرائيل في وقت سابق من هذا العام، القدس هي ليست فقط قلب الأديان الثلاثة العظيمة (المسيحية واليهودية والإسلام)، لكنها الآن أيضا هي قلب أحد أنجح الديمقراطيات في العالم.
في الحقيقة نحن رفضنا الاعتراف بأي عاصمة إسرائيلية على الإطلاق، لكن اليوم أخيرا نعترف بما هو واضح، وهو أن القدس عاصمة إسرائيل، لهذا السبب، وتماشيا مع قانون سفارة القدس، أوجه الخارجية الأمريكية للمباشرة بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
في الوقت نفسه، أدعو جميع الأطراف إلى الإبقاء على الوضع الراهن في المواقع المقدسة في القدس، بما في ذلك جبل الهيكل، والمعروف أيضا باسم الحرم الشريف، وفوق كل شيء، أملنا الأكبر هو السلام الذي تتوق إليه كل نفس بشرية.
وبقراري اليوم، أؤكد من جديد التزام حكومتي الطويل الأمد بمستقبل يسوده السلام والأمن في المنطقة، سيكون هناك بالطبع خلاف واعتراض بشأن هذا القرار، ولكننا واثقون بأننا في نهاية المطاف، وبمعالجة جميع الخلافات، سنتوصل إلى سلام ومساحة أكبر بكثير من التفاهم والتعاون.
لذا ندعو اليوم إلى الهدوء والاعتدال وإعلاء أصوات التسامح على أصوات الكراهية، ينبغي أن يرث أطفالنا الحب، لا النزاعات، سيتوجه نائب الرئيس (مايك) بنس إلى المنطقة في الأيام المقبلة، للتأكيد مجددا على التزامنا بالعمل مع الشركاء في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لهزيمة التطرف الذي يهدد آمال وأحلام أجيال المستقبل.
لقد حان الوقت لأولئك الذين يرغبون في السلام أن يطردوا المتطرفين من وسطهم. لقد آن الأوان لكي تستجيب جميع الأمم المتحضرة والشعوب للآراء المغايرة بالنقاشات المنطقية، وليس بالعنف.
وحان الوقت أيضا لأن يطلب الشباب لأنفسهم في جميع أنحاء الشرق الأوسط مستقبلا مشرقا جميلا، لذلك دعونا اليوم نُعِد تكريس أنفسنا إلى طريق التفاهم والاحترام المتبادلين. دعونا نعد النظر في الافتراضات القديمة، ونفتح قلوبنا وعقولنا إلى الإمكانات والاحتمالات.
وأخيرا، أطلب من قادة المنطقة، سياسيين ورجال دين، إسرائيليين وفلسطينيين، مسيحيين ويهود، ومسلمين، أن ينضموا إلينا في السعي النبيل من أجل تحقيق السلام الدائم.
شكرا لكم، بارك الله فيكم، بارك الله بإسرائيل، وبارك الله بالفلسطينيين، وبارك الله بالولايات المتحدة. » (وكالة الأناضول التركية, تر , عبد الجبار أبو راس، 07 ديسمبر، 2017م.
2.1.2. جحج الإيتوس المدرجة في خطاب دونالد ترامب
تستمد بعض الخطب قوتها الحجاجية من الصورة الحسنة التي يرسمها الخطيب لنفسه، « ذلك أنّ الصورة التي يُكونها المتلقي عن القائل تساهم في تعضيد القول وترفع من فعاليته الإقناعية والحجاجية » (مصطفى الغرافي : 2013، ص50) لتصبح الصورة التي يرسمها الخطيب لنفسه من أهم ادوات الإقناع التي تساعد على تمكين مقتضيات القول في كيانات المتلقين ودفعه إلى تبني مواقف مساندة له، ويُطلق على هذا الضرب من الحجج بحجج الإيتوس، أي كل ما يستم به الخطيب من مؤهلات تمكنه من جذب المتلقي إليه، مثل : الفضائل التي يتمتع بها، أو القوة، أو السلطة.
وقد قادنا النظر في خطاب دونالد ترامب الذي أعلن فيه القدس عاصمة لإسرائيل، إلى أنّ هذا الأخير يرسم لنفسه صورة حسنة ساعدته على تحقيق المقاصد الإقناعية والتداولية لخطابه، وأكسبت قراراته السياسية شرعية ومصداقية وجعلت من خطابه نافدا ومقنعاً، ويتضح هذا المنحى الحجاجي التداولي من خلال بعض المقاطع التي رسم فيها دونالد ترامب صورةً لامعةً لنفسه، من بينها قوله :
«لمّا تسلت السلطة وعدت بأن أنظر للتحديات التي يواجهها العالم بعيون مفتوحة، وبتفكير مرنٍ. »
« اليوم أن أفي بوعودي، هذا القرار يصب في مصلحة السعي إلى لتحقيق. »
« أملنا الأكبر هو السلام الذي تتوق إليه كل نفس بشرية. »
« وأخيرا، أطلب من قادة المنطقة، إلينا في السعي النبيل من أجل تحقيق السلام الدائم.»
يحاول دونالد ترامب في هذه الملفوظات أن يرسم لنفسه صورة الرجل الذي وَفى بوعوده التي قطعها في حملته الانتخابية، كما سعى إلى تمكين وترسيخ صورة القائد الشجاع الذي يتخذ القرارات الحاسمة مهما كانت مآلاتها، ثمّ يُبررّ بعدها هذه القرار التاريخي الذي يسعى من وراءه -في زعمه- إلى تحقيق السلام والتعايش بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فالأهداف التي يروم دونالد ترامب إصابتها هي أهداف نبيلة لم يستطع الرؤساء السابقون تحقيقها.
وبهذا يُصبح الإيتوس في خطاب ترامب معطى مهم من شأنه تحقيق مقاصد الخطاب الحجاجية، ومراميه التداولية، خاصة وأنّ هذا الأخير رسم لنفسه صورة الرجل المنقذ الذي يسعى إلى تحقيق السلام والتعايش بين الفلسطينيين واليهود، وحلّ الأزمة التي لم يستطيع سابقوه الفصل فيها، وعليه يكون ترامب قد نجح في جعل مقدمات خطابه ناجحةً ونافذةً في كيانات متلقيه بموجب السلطة التي يتمتع بها.
2.2. البناء الحجاجي لخطاب دونالد ترامب
اهتمت البلاغة في ثوبها المعاصر بمجمل الآليات الخطابية والتقنيات الحجاجية التي من شأنها تمكين مضامين الخطاب في كيانات المتلقين له، وقد انصب اهتمامها بشكل كبير على المناحي البلاغية والمنطقية واللغوية والتداولية المكونة لأجزاء للخطاب، وعلى ضوء هذه المقاربات سنحاول استجلاء الإمكانيات الحجاجية والطاقات الإقناعية المسُخرة في خطاب دونالد ترامب، آمِلين الكشف عن التقنيات التي سخرها في سبيل تحقيق عمليتي الإقناع والتداول.
1.2.2. الوقائع الحجاجية المدرجة في خطاب ترامب
تُمثل الوقائع كل ما هو مشترك بين عدّة أشخاص أو بين جميع الناس بحيث لا تكون عرضة للدّحض أو الشك, (عبد الله صولة، 2007، ص24)، فهي حجج متفق عليها بين طرفي الخطاب سلفاً، لأنها عادة ما تكون خارج الخطاب، ويدمجها المحاجج بداخله، وقدْ استعان دونالد ترامب بجملة من الوقع التي جعلها كنقطة ارتكاز لخطابه، من بينها نذكر ما يلي :
-
عام 1995، تبنى الكونغرس قانونا يحث الحكومة الفيدرالية على نقل السفارة الأمريكية (من تل أبيب) إلى (القدس).
-
قبل 70 عاما، اعترفت الولايات المتحدة تحت قيادة الرئيس (هاري) ترومان بدولة إسرائيل.
-
اليوم، القدس هي مقر الحكومة الإسرائيلية الحديثة. ومقر البرلمان الإسرائيلي، والمحكمة الإسرائيلية العليا، والكنيست (البرلمان)، وموقع الإقامة الرسمي لرئيس الوزراء والرئيس، وهي مقر للعديد من وزراء الحكومة.
-
على مدى عقود، اجتمع رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، ووزراء الدولة، والقادة العسكريون مع نظرائهم الإسرائيليين في القدس.
تندرج الوقائع المعتمدة من طرف الرئيس الأمريكي ضمن المقدمات الحجاجية الجاهزة التي لا يمكن دحضها أو التشكيك في مصداقيتها، فدونالد ترامب يُمهد لخاطبه بجملة من الوقائع التاريخية التي تبناها الكونغرس الأمريكي سنة 1955م، بالإضافة إلى وقائع ملموسة تتمثل في اتخاذ الدولة الإسرائيلية من القدس مقراً لكل منشآتها الحساسة، وهذه الوقائع مجتمعة ومتضافرة من شأنها تهيئة المتلقي للقرارات السياسية التاريخية التي سوف يتخذها دونالد ترامب.
2.2.2. القيم الحجاجية المدرجة لتبرير موقفه السياسي
إنّ مدار الحجاج على القيم، فهي غداء أساسي يُعوّل عليه في جعل السامع يذعن لما يُطرح عليه من آراء ويُبسط له من حقائق، (عبد الله صولة: 2007، ص26) لذلك نجد بعض الخطب تميل إلى تحقيق الإقناع استنادًا إلى منظومةٍ من القيّم السائدة في المجتمع باعتبارها أفكار مشتركة تحظى بالإجماع، وقد أدار دونالد ترامب حجاجه على جملة من القيّم التي يسعى إلى تحقيقها من وراء قراره السياسي التاريخي، نذكر منها على سبيل المثال :
-
يقول دونالد ترامب: « أملنا الأكبر هو السلام الذي تتوق إليه كل نفس بشرية. »
-
يقول دونالد ترامب: «ينبغي أن يرث أطفالنا الحب، لا النزاعات...وهزيمة التطرف الذي يهدد آمال وأحلام أجيال المستقبل».
-
يقول دونالد ترامب: «وحان الوقت أيضا لأن يطلب الشباب لأنفسهم في جميع أنحاء الشرق الأوسط مستقبلا مشرقا جميلا.»
يُسخر دونالد ترامب هي هذه الملفوظات جملةً من القيّم التي يسعى إلى تحقيقها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفي الشرق الأوسط عموما، ومن بين القيم المنذورة من قبله : تحقيق السلام، الحب، التعايش، محاربة التطرف، الإبتعاد عن النزاعات، مستقبل مشرق وجميل"، فالاستعانة بمثل هذه القيم الكونية من شأنه إصابة الإقناع وتحصيل الاعتقاد في القرار السياسي الذي اتخذه، فالقيم التي استعان بها ونذرها في خطابه هي قيم كونية تسعى إليها البشرية جمعاء، فهذه الاستراتيجية الخطابية التي تعتمد نظام القيم من شأنها تمكين ما يعرضه ترامب من سياسات وقرارات وإقناع متلقيه بها، ودفعهم إلى تبنيها.
3.2.2. المواضع الحجاجية المدرجة لتبرير موقفه السياسي
تعدّ المواضع من أهم الحجج الفاعلة في الخطاب الحجاجي المعاصر، فهي عبارة عن حجج جاهز تمثل سلطة توافقية بين أفراد المجتمع الواحد، وتُعرف في الدراسات التداولية المعاصرة بأنها تلك المخازن والمستودعات التي تمنح للمحاجج اختيار الحجج التي تناسب خطابه، (عبد الله صولة: 2007، ص106) وقد أفضى النظر في خطاب دونالد ترامب وجود جملة من المواضع السياسية التوافقية التي تشكل سلطة تعزز من نفوذ خطابه وتمكنه في كيانات متلقيه، ويتضح ذلك في قوله:
-
يقول دونالد ترامب: «عام 1995، تبنى الكونغرس قانونا يحث على نقل السفارة الأمريكية (من تل أبيب) إلى القدس.»
-
يقول دونالد ترامب: «وقد مرر الكونغرس هذا القانون بأغلبية ساحقة من الحزبين (الجمهوري والديمقراطي»
يبرر دونالد ترامب قراره السياسي بجملة من المواضع الحجاجية السياسية التي صادق عليها الكونغرس الأمريكي، ووافق عليها الحزب الجمهوري والديمقراطي بالأغليبة، وكأن ترامب يقول لمتلقيه بأنه لم يأت بجديد، بل كرّس قرارات سابقيه من الرؤساء والساسة الأمريكان، وعليه يمكن القول إن المواضع الحجاجية التي استعان بها ترامب، هي مواضع سياسية موجودة سلفاً، عدل إليها في سبيل إضفاء الشرعية على قراره بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
وقد يقول أحدّ انّ نظرية الموضع قد تلتقي مع نظرية التناص عند جوليا كريستفا، إلاّ أنّنا نفرق في هذا المقام بين نظرية المواضع التداولية ونظرية التناص، فالمواضع هي عبارة عن خطابات ذات سلطة مرجعية نافدة غير متنازع عليها بين المتلقين، أمّا التناص فلا يشترط تلك السلطة الموجودة في المواضع.
4.2.2. تقسيم الكلّ إلى أجزائه المدرجة لشرعنة موقفه السياسي
تستمد هذه النوعية من الحجج قوتها التداولية من مشابهتها للطرائق الرياضية في الصياغة والشكل، ويُطلق عليها أيضا حجة التفريع، أو التقسيم، وغالباً ما يعمد فيها المحاجج إلى تقسم الكل إلى أجزاءه المكونة له،(عبد الله صولة : 2007، ص48) ويعدل دونالد ترامب في خطابه إلى هذه التقنيّة الخطابية أثناء حديثه عن واقع مدينة القدس، وما تمثله بالنسية للإسرائيليين، فالقدس واقعيّاً وعمليّاً هي مدينة إسرائيلية لأنّ كل أجهز الدولة الحساسة موجودة في القدس، ويمكن لنا أن نمثل لهذا المنحى الحجاجي بالمخطط التالي :
يعمد دونالد ترامب إلى هذه التقنية الحجاجية من أجل ملأ خطابه والتكثيف من طاقته الإقناعية وفاعليته التداولية، فقد مكنت هذه التقنية الخطابية من رسم صورة جديدة عن واقع القدس، صورة قد يجهلها المتلقي، وهي أنّ القدس واقعيًّا وعمليًّا تحت السيطرة التامة لدولة إسرائيل من جميع النواحي، وبهذا تقصى الدولة الفلسطينية والفلسطينيين من المعادلة، ليصبح بذلك القرار الذي اتخذه ترامب مجرد قرار معنوي تكميلي، لأن القدس واقعياً تحت سيطرة إسرائيل ولا يملك الفلسطينيون فيها شيئاً، فالتقسيم والتفريع الذي أقامه دونالد ترامب من شأنه أن ينهض بوظائف حجاجية تضمن وإقناع المتلقي بأن القدس تنتمي إلى الإسرائيليين.
5.2.2. حجج السلطة المدرجة لتدعيم قراره السياسي
تندرج حجّة السلطة ضمن الحجج التي تتغذى على هيبة الشخص والمكانة التي يحظى بها بين الناس، (عبد الله صولة : 2007، ص54) فالسلطة هي حجاج تأييدي يدعم المسار الحجاجي لنتيجة ما، وغالباً ما تتمثل السلطة في كونها دليلا صادراً عن مرسل حجّة يُعوّل عليه، أو يلوذ به، (كريستيان بلانتان، 2010، ص153)، فهي حجة ذات أبعاد رمزية تُحدث أثراً وتغييراً عندما يستند إليها الخطيب، وقد أفضى النظر في خطاب دونالد ترامب إلى أنّ هذا الأخير استند إلى جملة من الشخصيات والتنظيمات السياسية التي تحمل أبعاداً رمزية لدى الأمركيين، تذكر منها :
-
مجلس الشيوخ، الرئيس هاري، الحزب الجمهوري، الحزب الديمقراطي، الكونغرس، الحكومة الفيدرالية.
يحاول دونالد ترامب من خلال استحضار هذه السلطات الرمزية السياسية دعم موقفه السياسي من جهة، وتَبْرِأت نفسه في حال فشل مرور القرار من جهة أخرى، فقانون نقل السفارة إلى القدس ليس بالشيء الجديد، بل هو قرار اُتخذ منذ أعوام من طرف أعلى الهيئات في الولايات المتحدة الأمريكية ولم يتم تنفيذه بعد، وبهذا نستنتج أنّ حجج السلطة التي استعان بها دونالد ترامب تكتسي طاقات إقناعية وأبعاد رمزية من شأنها تمكين القرارات التي اتخذها في كيانات متلقيه، ودفعهم نحو الإذعان لها والرضوخ لمضامينها.
3.2. التحليل التداولي والحجاجي للأفعال الكلامية وقوة الحجج في خطاب دونالد ترامب
1.3.2. حجّة النموذج وعكس النموذج المدرجة للدفاع عن قراره السياسي
ترتبط حجّة النموذج وعكسه بشخص نموذج يَصلُح لأن يكون على مستوى السلوك قدوة معترف بها نظرا للفضائل والأخلاق التي يتمتع بها، أمّا عكس النموذج فهو مرتبط أكثر بشخص يُحذر من الاقتداء به، ويُوصي المحاجج بالانفصال عنه، (عبد الله صولة : 2007، ص52) وقد أدار ترامب خطابه على نموذجين متعاكسين، يتمثل الأول في شخصيته التي يجب الاقتداء بها نظراً للقرارات الصائبة التي يتخذها لمصلحة أمريكا وأصدقائها، أما عكس النموذج فهم الرؤساء السابقون الذين اعتبرهم ترامب جبناء ويجب عدم الاقتداء بهم، ويمكن لنا أن نمثل لذلك بالمخطط التالي :
النموذج (دونالد ترامب) |
عكس النموذج (الرؤساء الذين سابقوه) |
(مواجهة العالم بعيون مفتوحة، وبمرونة) (الوفاء بالوعود) (البحث عن السلام، حل النزاعات) (محاربة التطرف، تحقيق التعايش) |
(فرضيات فاشلة، استراتيجيات قديمة،) (التأخير، الحماقة) |
إنّ حجة النموذج وعكسه في هذا الجدول جسدت الأشخاص بصورتين متباينتين متعارضتين، فالتقابلات التي يقيمها دونالد ترامب داخل خطابه يرمي من ورائها إلى غاية تداولية تروم إقصاء نموذج وتثبيت آخر بسلطان ما يقدمه من حقائق ووقائع حول النموذجين، وبهذا يمكن القول أنّ ترامب نجح في تصدير صورة حسنةً لنفسه تعدّ نموذجًا يجب احترام قرارته والانصياع لها، أمّا النموذج العكس فقد نجح في رسم صورة قاتمة له، وحمّله كل المشاكل الحاصلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهذا التقابل الذي أدار عليه ترامب خطابه من شأنه أن يحقق الأهداف المرسومة، والمساعي المأمولة وهي دفع متلقيه إلى نبذ هذه الشخصيات التي قامت بأفعالٍ لا تغتفر، وتبني نهجه الجديد تُجاه هذه القضية.
2.3.2. حجاجية الفعل الكلامي في خطاب دونالد ترامب
يتحدد الفعل الكلامي في الدراسات التداولية المعاصرة باعتباره قوة إنجازية لها تأثيراتها المباشرة على المتلقي، ويرى جون أوستين وجون سيرل أنّ الفعل الكلامي مرتبط بالاستعمال، بمعنى أنّ اللغة لا تستعمل فقط لتمثيل العالم، ووصفه ولكن تستعمل بالمقابل في إنجاز الأفعال، فالمتكلم وهو يستعمل اللغة لا ينتج كلمات دالة على معاني فقط، بل يقوم بفعل ويمارس تأثيراً على متلقيه، (نواري سعودي أبوزيد : 2010، ص26)، وقد أفضى النظر في خطاب دونالد ترامب الذي نحن بصدد مقاربته إلى وجود جملة من الأفعال الكلامية التي لها أبعاداً إنجازية في الواقع، ومن أمثلة ذلك قول :
أفي بوعودي....
قرّرت اليوم.....
أمرت الحكومة إلى.....
أدعو الجميع إلى....
تحتوي هذه التراكيب على جملةٍ من الأفعال الكلامية ذات طاقات تأثيرية إنجازية لها ما يعادلها في الواقع، فالفعل الكلامي الأول (أفي) جاء كفعل إنجازي للوعود التي قطعها ترامب في حملته الانتخابية، أما الثاني (قررت) فهو فعل كلامي إنجازي يعكس القرار السياسي الذي اتخذه الرئيس، أما الفعل (أمرت) تتجلى أبعاده التداولية في نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، وبهذا يمكن القول أنّ الأفعال الكلامية التي استعان بها ترامب لها أبعاد عملية وإنجازية تضع المتلقي أمام حتمية الرضوخ للقرار السياسي.
3.3.2. تداولية السلّم الحجاجي (قراءة تقيّيميّة لقوة الحجج داخل خطاب ترامب)
يذهب ديكرو وأنسكومبر إلى أنّ كل حقل حجاجي ينطوي على علاقة ترتيبيّة لحجج نسميها سلمًا حجاجيًا (عادل عبد اللطيف : 2013، ص102) فالحجج بطبيعتها تكون متفاوتة في قوّتها التداولية والإقناعية داخل الخطاب، لذلك تخضع لهرميّة معيّنة في التصنيف، وتنتظم الحجج داخل سلّمٍ حجاجيٍّ واحد إذا كانت تنتمي إلى نفس الفئة الحجاجية ومتساندة فيما بينها تخدم نتيجة واحدة لا تَعارُض فيها، وقد تجلت هذه السلميّة الحجاجيّة في خطاب دونالد ترامب أثناء دعمه وتبريره وتعضيده لمواقفه السياسية، ويمكن لنا أن نمثل لهذا المنحى الحجاجي بالسلم التالي :
في قراءة أوليّة وصفيّة لهذا السلّم الحجاجي، نستنتج أن السلّم يتكون من ثلاثة حججٍ متساندةٍ فيما بينها، ومتفاوتةٍ في درجة القوة، فالحجّة(3) الواقعة أعلى السّلم الحجاجي تُمثل أقوى بالنسبة للنتيجة (ن) لأنّ مجلس الشيوخ بمثل أعلى هيئة تشريعية في أمريكا، لذلك تعدّ القرارات السياسية التي يتخذها قرارات نافذة، أمّا الحجّة (2) و(1) فهي حجج تقوي وتدعم الحجة(3) وتدعم النتيجة (ن) التي يريد ترامب الوصول إليها وتمكينها في كيانات متلقيه، وعليه يمكن القول أنّ الحجج في هذا السلم انتظمت وفق نسق تداوليٍّ متساوق ومتساند، أفضى إلى نتيجة واحدة داعمة للقرار الذي اتخذه ترامب.
خاتمة
لقد أبانت المقاربة البلاغية بشقيها المنطقي واللساني عن مرونة كبيرة في قراءة الخطاب السياسي والتفاعل مع البنى المكونة له، وترجع هذه المرونة إلى الإمكانات الإجرائية التي أتاحتها المقاربة الحجاجية، فقد ساعدتنا بشكل كبير على استنطاق والتفاعل مع خطاب دونالد ترامب الذي أعلن من خلاله اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة إسرائيل، مع نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ومن بين النتائج التي توصلنا إليها في هذه القراءة التطبيقية المقتضبة ما يلي :
-
نجاعة المقاربة الحجاجيّة في استنطاق الخطاب السياسي في مختلف مستوياته المنطقية والبلاغية واللسانية.
-
ثراء البنيّة الحجاجيّة في خطاب دونالد ترامب، واحتوائه على طاقات إقناعيّة ساهمت في ترشيح دعواه في دفاعه عن قراراه السياسي.
-
نجاح دونالد ترامب في ترشيح وتمكين تصوراته السياسية، وذلك بحشد جملة من الحجج ذات فعالية تداولية عالية من شأنها استمالة المتلقي إلى صفه ودفعه إلى تبني مواقف سياسية مشابهة لمواقف ترامب.
-
اعتماد دونالد ترامب على سياسية خطابية مدروسة لغوياً وبلاغيّاً وحجاجيّاً، ممّا جعل خطابه مركزا ونافذاً على كل المستوايات.
-
اعتماد دونالد ترامب على ما يسمى بالسفسطة الحجاجية التي تعتمد على فعليْ الإيهام والمغالطة، وهذه بدورها تحتاج إلى دراسة مستقلة.