جمالية التشكيل البصري وديناميته في القصيدة الحداثية (حرة - متناوبة - ممسرحة) عند الأخضر فلوس 

La formation visuelle et sa dynamique dans le poème moderniste (Gratuit - Alterné - Dramatisé) par Al-Akhdar Floss

Visual Formation and its Dynamics in the Modernist Poem (Free - Alternating - Dramatized) by Al-Akhdar Floss 

Abdelghani Nasriعبد الغاني ناصري

Citer cet article

Référence électronique

Abdelghani Nasriعبد الغاني ناصري, « جمالية التشكيل البصري وديناميته في القصيدة الحداثية (حرة - متناوبة - ممسرحة) عند الأخضر فلوس  », Aleph [En ligne], mis en ligne le 16 juin 2023, consulté le 28 avril 2024. URL : https://aleph.edinum.org/9148

تَكتَسِي عَناصِرُ الشكل –اللغةُ الصامتة- أهميّةً بالغة في العمليّةِ الإبداعِيّةِ لا يمكنُ غضّ البصرِ عليها أو إهمالها، فالتشكِيلُ الطباعيّ هو فسيفساء ناطقة بالجمال والفنيّة، تفصحُ عن أنساقٍ دلاليّة، وأبعاد رؤيوية يشاركُ القارئُ في ملئِها واسكتناهِ غُموضهَا.

 إنَّ حُضورَ الإيقاعَ البصريّ فِي التجربةِ الشعريّة الحداثيّة لدى الأخضر فلوس شكَّلَ ظاهرةً أسلوبيةً تحملُ أبعادًا دلاليّة وفنيّة، استمالت تفكيرنَا وحفّزت رغبتنا في البحثِ والحفرِ في مدَى العلاقة التي تَربطُ الأنماطَ والأنساقَ البصريّة المستثمرة كنقاطِ الحذفِ، والرسومات الهندسيّة الشجريّة، والمثلثة والمربعة، والمستطيلة، وشبه المنحرف، بالسياق الدلالي للنص، وموقف الشاعر النفسي والعاطفي.

Les éléments de forme - le langage silencieux - sont d’une grande importance dans le processus de création et ne peuvent être négligés ou négligés.

La présence du rythme visuel dans l’expérience poétique moderniste d’Al-Akhdar Fellous a formé un phénomène stylistique qui porte des dimensions sémantiques et artistiques : le contexte sémantique du texte et la position psychologique et émotionnelle du poète.

The elements of form - the silent language - are of great importance in the creative process and cannot be overlooked or neglected.

The presence of visual rhythm in the modernist poetic experience of Al-Akhdar Feloss formed a stylistic phenomenon that bears semantic and artistic dimensions. The semantic context of the text, and the poet’s psychological and emotional position.

تقديم 

يمارس الإيقاع البصري سلطته على القارئ/ المتلقي، من خلال استقطابه لمحاورة النص الشعري بصريا، لأنه أول شيء يصطدم به القارئ أثناء عملية القراءة، إذ تتحرك عيناه في كافة الاتجاهات، محاولا استكناه الأقباس الجمالية التشكيلية، وتصيد دلالاتها وإيحاءاتها، ذلك أنّ حركية القصيدة،

 « وخطيتَها، وطريقةَ كتابتها، وتقديمَها في الديوان، والرسومات الفنية المرافقة لها، وطولَ النص من قصره، وبناءَ الجمل، والتشكيلات الخطية والتشكيلية – المغربي، الأندلسي، النسخ، الرقعة، الثلث...-، وتناسقَ الخطوط المستعملة في العنوان وفي المتن، وطريقةَ إخراج الديوان، ومكانَ كتابة النص في الورقة، واستعمالَ الهامش، وتوظيفَ العتبات النصية- المداخل النثرية للقصائد، مقدمات الدواوين..-، والكتابةَ المرسومة » (خرفي، 2005-2006، ص224).

والتشكيلات الهندسية الممثلة في الشجري، والمربع، والمستطيل، وشبه المنحرف..، وغيرها، تعتبر من التقنيات البصرية الإيقاعية التي تتشكل عبر قناة السواد والبياض، وهي سمات بارزة في التجربة الشعرية لدى الأخضر فلوس، بحكم أنّ قيمة حاسة البصر

 «في منح النص معنى ودلالة، هو الذي جَعلَنا نعتبر الفضاء من الثوابت الشعرية الجوهرية (مقابل العروضية)، ومهما اختلف وعيُ الشعراء بهذا الأيقون، فإنّ محلل الخطاب الشعري مطالب باستكناه دلالته، وأبعاده، لأنه ليس تحصيل حاصل أو حشوا يمكن الاستغناء عنه، ولكنه أحد مكونات الخطاب الشعري، فبِنية القصيدة مرتبطة -ضرورة-بالأيقون، وبالمؤشر الكنائي مهما كان نوعهما ». (مفتاح، 1990، ص 58-59) .

وعليه، فالإبدالات التي شهدتها القصيدة الشعرية الحداثية نبعت من توجه مدار الاهتمام من السيميترية الموسيقية الخطية - التي تعتمد على الإلقاء والشفاهة والسماع نحو النص المقروء والكتابة، أين يتشارك البصر مع السمع والفكر، ويتداخل الخارج النصي مع الداخل النصي في عملية التلقي والاستقطاب، وهندسة الإيحاء والدلالة.

1. رؤية مفاهيمية 

استطاعت تجربة الشعر الحديث مع تطور التكنولوجيا وظهور وسائل الطباعة الحديثة-العصرية- وميل الذات ودهشتها لجمالية الفسيفساء والفن المعماري المهندس بأشكال راقية أن تنزاح عن الفضاء المكاني - نصي- الثابت للشعر العمودي التقليدي، القائم على نظام السطرين المتقابلين الذي فرضته القراءة الشفاهية، فالشاعر في رحلة البحث عن ملاذ جديد يأوي إليه، بعد تهديم الماضي الذي

 « ضاق عن المعنى الجديد الذي يروم الشاعر الحديث « التعبير عنه » أو«خلقه ». هو ذا المسكن القديم معرض للهدم، وقد بحث الشاعر عن القصيدة ككل وكبناء يجدد السكن في عصر مختلف عن العصر القديم الذي كان البيت بمعنييه: البدوي والحضري هو المكان الذي يهيّء للفضاءات إمكانية وجودها». (أدونيس، ص 167).

ذلك أن:

 » بنية المكان يشوبها قلق دائم، تحدُوهُ رغبة في تحطيم التقاليد البصرية التي اعتادها القارئ، فجعلت عينيه مركزتين على بِنيةٍ مكانيةٍ تمنحه الاطمئنان، وتدعم توازنه الداخلي الوهمي، أما الشاعر الحديث فإنه يمتد بهذا التركيب اللامتناهي إلى دواخل القارئ ليحدث خلخلة ويدفع بهذا الاطمئنان نحو الشك والدخول في متاهة القلق ».(بنيس، 1985، ص103).

من باب محاولة التحول على المستوى المعرفي والفكري - فلسفة الكتابة- والجمالي » من سكنى البيت إلى الإقامة في فضاء القصيدة/النص/ الكتابة » . (هلال، 2018، ص85).

ويحتِّم الاختلاف في آليات الكتابة التجريبية في الشعر البحث عن آليات قرائية جديدة تستوعب هذا الخطاب المتوتر العميق، الذي يولي اهتماما كبيرا بالتشكيل خصوصا البصري على فضاء الصفحة الذي يعد «جسدًا بكرًا، يفتق الشاعر أربطته، يشكل فوقها عالمه المزدحم، ويرتّب عليها أشياءَه، ويشعل بين كفيها نار توجُّسِه وقلقِه، وشكلِه، ويقينِه، وحلمِه، فيتركَ للكلمات أن تتبوَّأ مكانها، كما تثير تموجاته الشعورية والنفسية » (هلال، 2018، ص85)، فالشاعر المعاصر يمارس سلطته على الورقة فيخدشُ حياءها ويمارس فيها جُنونا جميلا عبر وسائط لغوية تحوي انفعالاته، ورؤيته داخل فضاء المكان، وبياض الصفحة الذي يعد جزءًا تكوينيًّا في قصيدته، »فالقلق الداخلي ينعكس على تحرير نصّهِ وعلى طريقةِ ترتيبِ كلماتِه، وطريقةِ قراءتِها بعد أن صارت القصيدة طباعيا وحيِّزا مكانيًّا يتفاعل مع التقنيات الجديدة، قدرَ تفاعله مع الأحاسيس والمشاعر » (التلاوي، 1998، ص94)، فالشاعر لا يستوعب النص الجديد بمعزل عن الصورة التشكيلية البصرية - طباعية-، إذ يعدُّ

 «التشكيل البصري بِنية أساسية من بِنى الخطاب الشعري الحديث، ودالًّا ثريًّا يوجِد فعل التلقي استنادا إلى أدوات مفهومية، تمكِّن من دراسة شكل العلاقات، ليس بوصفه صيغا متحولة تنتظم وتشتغل على نحو يُسهم في إنتاج الدلالة » (حميد، 1996، ص99).

إضافة لأهمية علامات الترقيم في تحقيق الجمالية البصرية، فهي من السمات الكتابية المرئية »التي وضعها علماء اللغة، لهندسة النصوص الكتابية، أي أنها سمات النصوص الكتابية » (الجويدي، 2012، ص153) التي تترك لدى القارئ انطباعات فنية بصرية دلالية، متجاوزةً بذلك وظيفة التعليم والتوجيه إلى أعلى درجة من الفاعلية والأداء في ربط أجزاء الكلام ومفاصله في بُعد فنيٍّ تأثيريٍّ دلاليٍّ.

2. تمثلات الفضاء الهندسي في النسق الشعري الحر ودلالاته 

اتخذت القصيدة الحرة عند الأخضر فلوس بناءً هندسيًّا حداثيًّا جديدا نابعًا من تجربة مغايرة الشكل التناظري للقصيدة العمودية التي تقوم على وحدة البيت الخطي، فيحل محلها السطر الشعري الذي يقوم على وحدة التفعيلة المتكررة على طوله بعدد غير منتظم، يستوعب الدفقة الشعورية باستثمار تقنية التدوير، فتتقلص الأسطر وتتمدد بحسب الموقف الشعوري والفكري مشكِّلةً بذلك بنًى هندسيّةً مختلفةً تتوزع على فضاء الصفحة، إضافة لقيمة علامات الترقيم غير اللغويّة في رسم المسار الهندسي، وسنقوم بإيراد الالتفاتاتِ البصريةِ الحاصلةِ في شعر الأخضر فلوس، لإبراز القيمةِ الإيقاعيةِ البصريةِ، والفنيةِ الدلالية المضافة، ونستهلُّ بقوله في قصيدة « الدوامة » :

Image 1000020100000280000001845F865DADDB804312.png

إنّ اهتمام الشاعر الأخضر فلوس ببِنية التشكيل البصري، ليس حِلية تضاف إلى محتواها من الخارج بقدر ما هو وسيلة رئيسيّة في تكوين الإيقاع وتَناميه، بحسب الشكل الهندسي وعلامات الترقيم وتوزيع البياض والسواد الذي يستوعب انفعالاته، وفضاءَ البوح لديه، فالشاعر استثمر فضاء الكلام -السواد- وتدفقَهُ عبر تقنية التدوير في البوح عمَّا لقِيه من صديقه القديم الذي يطعنه في ظهره، فيرمي عليه الكلام وينشر ضغائنَه عليه، ما ولَّد اضطرابًا وتوترًا لدى الشاعر، جعله إثر ذلك ينحو للقول بالصَّمت -بياض- من خلال توزيع النقاط المتتالية على طول السطر ليبوح من خلالها بما لم تستطع اللغة -السواد- البوح به، بل اعتمده الشاعر كقناع يفجِّر من خلاله المسكوت عنه، حين لم تحتوهِ وتسعفهُ الوسائط اللغوية للتعبير، والبوح عن انفعالاته، وألقِهِ، واضطراباته جراء ما تلقفه من صديقه القديم، ومنه فتحَ الشاعرُ الدلالة على مِصراعيها أمام القارئ الذي يشترك في تأويل الدلالات وإنتاجها، من خلال جملة الفراغات وعلامات الترقيم (الفاصلة، النقاط المتتالية..)، فيقومَ بملء البياض - الفراغ- وجَبر ما سكت عليه الشاعر، لينتقل في الأسطر الثلاثة الأخيرة ويؤسسَ لشعرية مختلفة في فضاءٍ يتَّسم بالتحول والتشظي، والتنوع في شكل تدريجي مائل من اليمين إلى اليسار ليتفاعل البياض والسواد في لمسة حزينة متدفقة بالألم والمفارقة، مع الحياة بطابع يتخللُهُ التهكم والسخرية، إذ يلجأ للَّعب باللغة على فضاء الصفحة باعتباره نصًّا تفاعليًّا مفتوحَ الدلالة على رؤية القارئ / المتلقي، فيمنَحه اختيارات نصية لا نهائية، تتراوح بين الجمالية والتأويلية، فالبياض له وظيفة إيحائية دلالية في الخطاب، فأحيانا يضيق السواد في استيعاب عالم الشاعر الداخلي

«وعند الوصول إلى هذا الحد من ضيق العبارة على أفق التعبير يأتي الغموض والغياب والبياض في القصيدة جناحا يحلِّق به الشاعر إلى ما وراء اللغة، إلى لغة اللغة، هكذا يُجابه الشاعرُ شيطانَ اللغة ويغالب سلطته وهيمنته بتعاويذ يكتسبها في بقع البياض، بحبر مفرغ من اللون، وتمائمَ تحملها كل العناصر الغائبة على النص ». (بنيس، 1988، ص 207-208).

أولى الشاعر الأخضر فلوس عناية بالإخراج النصي-فضاء طباعي- من خلال سعيه الدائم للمغايرة والحركية لنصه في الفضاء المكاني للصفحة، ليجسد صراع الذات وتوترها في هذا العصر محققا انتاجيّة مغايرة، تمزق السائد والرؤية الثابتة، التي تكبل إبراز خصوصيته وذاته في فضاء الإبداع، والخاصية الأسلوبية البارزة والطاغية على أكثر شعره، تتجلى في الشكل الهندسي الشجري، أو المتناوب النابع من تمدد السطر الشعري وتقلصه، واستثمار فضاء الكلام - سواد- على حساب البياض- الصمت- في صراع بين الحضور -التجلي- والغياب، إذ يقول في قصيدة « الإعتراف » :

Image 1000020100000280000001238A4EF3E1538214A4.png

يكشف القارئ إثر هذا التشكيل البصري تناغمًا بين البياض والسواد في الأسطر الشعرية المتدفقة التي تبوح باشتعال الشاعر في هذا الوطن، واغترابه وانشطاره فيه، فلجأ للكلام - سواد- ليبوح عن شجنه وألمه في وطنه الذي انغلق عليه وتناساه، فاضطرابُه جعلَه يلجأ لفضاء الصفحة فيلطخَ بياضها، ويُفرغ فيها توتًّره مشكِّلا تفريغًا شجريًّا أثناء ربط نهايات الأسطر ببعضها البعض، فيأتي دورُ الصمتِ - البياض - ليترجم من خلاله ما لم يستطع السواد تحقيقَه دلاليًّا، لأنَّ القول بالصمت

 « أشدُّ مضاعفة وكثافة لأنه في تحليقه في ما وراء اللغة يطمح إلى أن ينقل حركة الروح، وعندئذ نرى أن توزيع الكلمات على السطور في القصيدة ليست مجرد أداة للتوافق الإيقاعي في الأوزان بقدر ماهي طريقة في تشعير اللغة، إذ تكف عن نثريتها، وهي تسعى إلى اقتناص فائض دلالتها » (بنيس، 1988، ص 100)

ومن ثم يفتح مجالا للقارئ لاستيعاب تجربته ورسمه الفني بالكلمات على بياض الصفحة، إضافة لدور العلامات غير اللغوية (التعجب، ونقاط الحذف..) في تعميق الإيقاع البصري، ليحقق وظيفة جمالية يتلذَّذُ بها القارئ، ويستمتع بالتموج والتلوين الهندسي الذي ينوع الإيقاع ويُثريه ويعمق الدلالة.

وفي ملمح آخر للفضاء المكاني - الطباعي- يَبرز للمتلقي - بصريا - عن طريق التأمل المتأني للمادة اللغوية، أشكالٌ تكتسي طابعا أيقونيًّا فتتحول المعطيات اللغوية الممنوحة للقراءة إلى معطيات تشكيلية قابلة للمشاهدة، ومن بين الأشكال الحاضرة في شعر الأخضر فلوس، تتجلى في قصيدة « اشتعالات الليلة الأولى » :

Image 1000020100000280000000C83CCF7FD6B798C4A7.png

يتبدى أثناء معانقة هذه اللوحة الشعرية تشكيلٌ بصريٌ يتجسد في مثلثٍ قائمٍ مقلوبٍ قاعدته في الأعلى، تَشَكَّلَ جسمه من المادة اللغوية - انتشار السواد على حساب البياض-، إذ اكتسى دلالة أيقونية على فضاء الصفحة، بفضل تقلص السواد تدريجيا وجنوحه إلى التلاشي والنهاية، ما يستقطب عين المتلقي ويدخله في العملية التأويلية بغاية اقتناص الدلالة وتحصيلها، من باب ربط العلاقة التكاملية بين دلالات الكلام والصمت، فحينَ يضيق فضاء الكلام تدريجيا ويبدأ في الأفول والاندثار يتسع فضاء الصمت ليبوح بكثافة عن فيضان العواطف والمشاعر التي لم تقل بها الوسائط اللغوية.

وفي تشكيل هندسي آخر في شعر الأخضر فلوس، يتجلى الشبه المنحرف المقلوب الذي جَسَدُهُ المادة اللغوية المنتشرة في فضاء الصفحة، ومثاله قول الشاعر:

Image 10000201000002800000012D2454058C56B9BA59.png

(فلوس، 2015، ص 344(

يظهر شكل الشبه المنحرف القائم المقلوب الذي قدَّمَهُ النموذج الشعري، بحيث ينطلق النص ويتدفق من الأعلى في شكل عمود، في اتجاهه الشاقولي بنفس القافية والروي، أين توالت الأشطر تحت بعضها البعض، بطريقة مستمرة لغاية بلوغ عبارة « يا ليته شربا من كأسها » لتبدأ الوسائط اللغوية المحملة في العبارة المكررة في التلاشي على مساحة الأشطر المتلاحقة، لتحل محلها النقاط المتوالية التي تحمل بين ثناياها كثافة دلالية، فيتلاشى السواد ويندثر تدريجيا للنهاية، مُحدثًا توازيًا بين البياض والسواد، فالبياض أدخل القارئ بصريا في إعادة ترتيبه للدوال وإسهامِه في جبر الفراغات والبياضات وإتمام الدلالات، فحين عجز الشاعر عن الكلام والكتابة، انحرف نحو البياض بُغية استيعاب عواطفه الفياضة، وليشرَب من نبع الوطن ويرتوي من عطشه بماء المطر، ويؤكد « رامبو » على الجنوح للصمت والفراغ للتدليل على المحمولات التي لم تستطع اللغة أن تحتويها بقوله » أيا نفسي لا تصنعي القصيدة بهذه الحروف التي أغرسها كالمسامير، بل بما تبقَّى من البياض على الورق » (بنيس، 1988، ص 100).

3. تمثلات التشكيل البصري في النسق الشعري المتناوب

كما ينتهج الشاعر النسق المتناوب (حر /عمودي) ضمن القصيدة الواحدة في نظام بنائي سمتُه التنويع الإيقاعي البصري، فقد شكَّلت المواشجة والانتقال من نمط لآخر إلى بروز تشكيلات هندسية خاصة بتوزيع البياض والسواد على فضاء الصفحة، مؤديا إلى دينامية نصية بصرية أثناء محاورة القارئ للنص مرئيا، فالحاسة البصرية أحد ركائز التلقي الشعري، ذلك أن تركيز الانتشار الأفقي والعمودي مرده تحرك عين القارئ على فضاء الصفحة، الذي يمارس عليها الشاعر سلطته وانفعالاته ورؤيته وتجربته عبر اللغة-سواد-، فينتهج تشكيلات إيقاعية ليكسر الرتابة، ويبثَّ الحركية والتناغم والتدفق والاستمرار والحرية في البوح على فضاء السطر، ففي قصيدة « قصائد من البحر » يُلمح تشكُّلُها من مقاطع مفصولة بعنوان مرقم عدديا، ومساحةِ صمتٍ - بياض- عند نهاية المقطع، ففي المقطع الأول المعنون « حالات مسافر » انتهج الشاعر التفريع الشجري الناتج من تمدد السطر وتقلصه بطريقة متناوبة متوالية، واعتمد نفس التشكيل في المقطع الموالي المعنون « طفحت بحزن » وباستثمار تقنية التدوير في تدفق الأسطر واستيعاب انفعالاته وحاجته للكلام بالقول، إذ يقول :

Image 100002010000028000000167EC0B0F18932D6F4F.png

(فلوس، 2015، ص494).

الشاعر غارق في بحر الشوق والحنين، لجأ للتحرر كي يستوعب تدفق انفعالاته، وتمدد سطره وتقلصه، منتهجا قناة التدوير كرابط إحالي يخترق الأسطر ويستوعب دفقته الشعورية، لينتقل إلى النسق الشكلي العمودي ذو السيميترية الموسيقية القائمة على التعاقب الشطري، فالتغير في الشكل يتبعه تغيُّر في الإيقاع المكاني المتلون بعاطفة الأمل، بداخل عيون البائعة التونسية، إذ يقول:

رأيت في مقلتيها أمتي ...وطني.
………..والنخل منتصبا والسهل والجبلا
يا بنت تونس لو تسقي البحار بما
……….. سقيت قلبي لفاض الماء..واشتعلا !
(فلوس، 2015، ص497) .

تلونت عاطفة الشاعر هنا، بالأمل والبسمة لتنسمه رائحة الوطن المحملة في عيون البنت التونسية التي بعثته للتبحر في سهول الوطن وجباله وواحاته، إذ يبوح في المقطع المفصول طباعيا بالنجمات الثلاث بارتواء قلبه وامتلائه بنبع الوطن، إذ غلبت على الأبيات العمودية ذات الشكل الطباعيِّ الخطيِّ المتعاقبِ العاطفةُ الهادئةُ المتزنة، ليواصل الشاعر في المقاطع المعنونة؛ « محارة فينوس » و« رقص » و« البحر » اعتماده على التشكيل الشجري، أين يتقلص السطر ويتمدد بحسب حاجة الشاعر للكلام بالقول، فالقارئ يتلون بالأشكال الهندسية وبعلامات الترقيم والفواصل الطباعية (نقاط متوالية، نجمات، عناوين، أرقام..) التي شكلت خاصية أسلوبية بصرية لها دور فاعل في تشكيل الفضاء الطباعي وإنتاج الدلالة، حيث تعمل على توجيه القارئ لمضامينَ مضمرة قابعة تحتاج تمرسًا وعمقًا لفك مغاليقها والاستقرار على أبعادها الإيحائية الفنية الدلالية، فأسهمت في تحقيق الجمالية البصرية الإيقاعية المنسجمة مع الصور والمعاني لبنية القصيدة الكلية.

4. تمثلات الفضاء البصري في القصيدة المسرحية وأبعاده الفنية 

يتخذ الفضاء الطباعي تشكيلا جديدا في بنية تشكيلية جديدة تحت مسمى «القصيدة المسرحية»، إذ يتلون القارئ بهندسة خاصة تتقابل فيها المشاهد، فيكون إزاء لوحات مشهدية مسرحية، ترتكز على الحوار القائم بين الشخصيات، لتتنوع فضاءات الكتابة داخل الصفحة بين الاستغراق في السواد، وبين ترك الزمام للبياض ليبوح بالصمت عن البواطن والأحداث المكثفة.

وقد مثلت قصيدة «حديقة الموت الخصيب» هذا النسق الطباعي وحوت مشهدين، الأول كتب بخط غليظ يدور فيه الحوار بين الشخصيات (الشاعر، الصاحب)، فالصاحب يغلب عليه الإيحاء والاستفهام بمتوالية لغوية ضئيلة، في حين الشاعر يأخذ مجال واسع للرد عن الاستفهام بالسواد، كي يبوح عن موقفه للصاحب اتجاه الحديقة، فيلطخ بياض الورقة ويخدش حياءها، في فضاءات هندسية مستطيلة، ومثال ذلك قوله:

الصاحب: (في دهاء) أتحبها؟

الشاعر: عــطّــرت أيـــامــي ورد لقـائـهــا
قــد ـان عـــمـري ضــائــعــا
لــولا أغانيها التي كانت تقطر من دمـي
مــن شرفة الغيب البعيـــدة، كــالرحيــق

الصاحب: أتريد رؤيتها؟

الشاعر: أجـــل إني نــذرت دمي ومـا حمــلت
سفــائــن بحـــري اـــفـــيـــاض مــن درر الــبرق
يخطف الأبــصـار من قسماتهــا، ويضــمخ
الــرؤيــا بأـــفــاس الــشــروق

(فلوس، 2015، ص314-315) .

أما المشهد الثاني فتدخل في دائرة الأحداث أصواتٌ أخرى، تتجلى في الحارس والحديقة إضافة لأصوات ثلاثة أخرى، ليغيب فيها الصاحب، وعن الفضاء الطباعي الذي يرتكز على ثنائية التجلي والخفاء بين البياض والسواد، يواصل الشاعر في استغراقه للسواد والكلام بالقول بحكم أن الحارس وجَّه إليه استفهامات عن سبب رغبته وإصراره في الدخول والتودد للحديقة، فتستغرق الإجابة -من خلال المتوالية اللغوية- فضاءً واسعًا، خلافًا للشخصيات الأخرى التي تستغل فضاءً أقلَّ، من مثل قوله:

الحارس: من أنت؟
الشاعر: (ينتبه)

إني فـارس جــاب السمــــاوات العريـضة
واقتفــى أثر الكواكب والنجوم وجمعت
كفاه منها باقة ثم انثنى للبحر يجمع من
حــنـايـاه الــلآلـئ.. والــدرر

الحارس: ماذا تريد؟
الشاعر

: أرى الحـديقــة كي أتــوج رأسـهـا
أدري بعجزي عن بلوغ القمــــة العــذراء
لـكـني أحاول ربمـا ابــتــســم القـدر

(فلوس، 2015، ص 318-319)

يتبدى جليا التلوين الطباعي وشكلية السواد والبياض على فضاء الصفحة بين التمدد والتقلص أثناء تبادل الأدوار في الحديث، والانتقال بين الشخصيات، فيتقلص حين يأخذ الحارس والحديقة والأصوات الأخرى زمام الحكي، ويتمدد حين يجنح الشاعر للحديث، ليتجسد فضاء الحكي لديه في مجسم شبيه بالمستطيل سواء اقتصر الكلام لديه في طابعه السردي الحواري، أو باعتماد النظام العمودي وفق بحر البسيط في الشكل المتوالي المتدفق شاقوليا.

وبمعنى أكثر عمق؛ أراد الشاعر من وراء هذا النسج الدرامي للأحداث والصراع داخل فلك المسرحية ليبوح عن الصراع الذي يقبع فيه المثقف الشاعر في هذا الوطن المحاط بالسلطة الظالمة التي تشجِّع وجوهًا بعينها وتغيِّب أخرى، فالقتل والتصليب لكل من سوَّلت له نفسه وتجرأ الدخولَ في شؤون الوطن، فالصراع بين البياض والسواد ترجم الصراع والصمود الذي يتكبده الشاعر في الدخول بين أحضان الحديقة - الوطن-، فحينما قابلها بالحب والإخلاص، قابلته باللؤم والتهميش، لتتحقق الوظيفة الفنية البصرية التأثيرية لدى المتلقي، متوائمة بذلك مع إيقاع العواطف والدلالات.

الخاتمة

لكل رحلة بحثية طالت أم قصرت محطة وصول، ونحن إزاء هذا الجهد البحثي إنما توخينا قدر المستطاع التبحر في فضاءات دلالية جديرة بالكتابة الشعرية الحداثية التي صارت تكتب بصريا من جهة، وتقرأ طباعيا من جهة أخرى، وقد أسفرت هذه الرحلة عن النتائج الآتية:

- أولى الشاعر الأخضر فلوس عنايةً فائقةً في إخراج قصائده الحداثية الحرة والمتناوبة، والقصيدة الممسرحة في تشكيلات طباعية متنوعة، تصافح المتلقي بصريا، محدِثة إثر ذلك مفارقة لما كان سائدا ليبحِر إبداع الشاعر في زورق التجريب والمغايرة.

  • يلجأ الشاعر للَّعب باللغة على فضاء الصفحة باعتباره نصا تفاعليا مفتوح دلاليا على رؤية القارئ / المتلقي.

  • تتحول المعطيات اللغوية الممنوحة للقراءة إلى معطيات تشكيلية قابلة للمشاهدة عن طريق التلقي البصري، والتأمل في المادة اللغوية التي تكتسي طابعا أيقونيا.

  • يستقر القارئ لمدونة الدراسة على الأشكال الشجرية والمستطيلة والمربعة والمثلثة، حيث يشي كل شكل منها لدلالات تتساوق والسياق النفسي والعاطفي الذي يلبس رداء التمدد اللغوي عبر السواد أو تقلصه، محققا غايات ومآرب إيقاعية فنية.

  • تتجلى فاعلية علامات الترقيم، من نقاط الحذف، وعلامات التعجب، والاستفهام في البوح بما لم تستطع اللغة -السواد- البوح به؛ حيث تعتبر بمثابة قناع للشاعر يفجر من خلالها المسكوت عنه، حين لم تحتويه وتسعفه الوسائط اللغوية للتعبير والبوح عن انفعالاته وألقه واضطرابه.

الأخضر فلوس. (2015). «الأعمال غير الكاملة». الجزائر: المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية.

أدونيس. (د.ت). «زمن الشعر». بيروت: دار العودة.

رضا بن حميد. (1996). «الخطاب الشعري الحديث». فصول. صيف 1996. العدد 2. المجلد الخامس عشر.

عبد الناصر هلال. (2018). «الالتفات البصري من النص إلى الخطاب قراءة في شعرية الشكل ». مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

محمد الصالح خرفي. (2005-2006). «جماليات المكان في الشعر الجزائري المعاصر»، أطروحة دكتوراه علوم، إشراف: يحي الشيخ الصالح، جامعة منتوري قسنطينة. كلية الآداب واللغات، قسم اللغة العربية وآدابها.

محمد بنيس. (1988). ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب-مقاربة بنيوية تكوينية -. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.

محمد مفتاح. (1990). دينامية النص. لبنان المغرب: المركز الثقافي العربي.

محمد نجيب التلاوي. (1998). القصيدة الشكلية. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

مهدي صلاح الجويدي. (2012). التشكيل المرئي في النص الروائي الجديد. الأردن: عالم الكتاب الحديث.

Abdelghani Nasriعبد الغاني ناصري

جامعة محمد البشير الإبراهيمي – برج بوعريريج-

© Tous droits réservés à l'auteur de l'article